معاينة lebanon money

ماذا يخبرنا ميزان المدفوعات اللبناني؟

تحت وطأة ضغوطات مارستها المؤسسات المالية الدولية، ولا سيما صندوق النقد الدولي، أصدر مصرف لبنان، للمرّة الأولى منذ عقود، «تقرير ميزان المدفوعات ووضعية الاستثمارات الخارجية» للفترة الممتدّة بين عامي 2019 و2024. يقول الاقتصادي شربل نحاس أنه «على الرغم من التحايل الإحصائي والثغرات الحسابية التي يتضمّنها التقرير نتيجة الأرقام التقريبية المقدّمة والمشكّك فيها، نظراً لغياب حجم الأموال التي تتدفّق إلى لبنان نقداً لصالح حزب الله (مثلاً) أو تلك التي تخرج منه إلى فاعلين اقتصاديين في سوريا (مثلاً)، إلا أنه يقدّم قراءات مهمّة عن طبيعة الاقتصاد اللبناني وكيفية تطوّره في خلال السنوات الخمس التي تبعت الانهيار في العام 2019، كما يظهر آثار الإدارة النقدية التي انتهجها المصرف المركزي قبل الانهيار وفي خلاله».

تُعرّف Investopedia ميزان المدفوعات بأنه «الطريقة التي تستخدمها الدول لمراقبة جميع المعاملات النقدية والمالية الدولية في خلال فترة زمنية معينة، وتُدرج فيه جميع العمليات التي يقوم بها القطاعين العام والخاص مع باقي العالم، من أجل تحديد مقدار الأموال التي تدخل إلى الدولة وتخرج منها. وتدرج هذه التبادلات ضمن 3 حسابات هي الحساب الجاري والحساب الرأسمالي والحساب المالي». وتضيف الموسوعة المالية «نظرياً، يجب أن يكون ميزان المدفوعات متوازناً، أي أن الأصول (الائتمانات) يجب أن تساوي الخصوم (الخصومات)، لكن في الواقع نادراً ما يحدث ذلك. لذا، يمكن لميزان المدفوعات أن يكشف ما إذا كانت الدولة تعاني من عجز أو تحقّق فائضاً، ومن أي جزء من الاقتصاد تنبع الفروقات». فماذا يخبرنا ميزان المدفوعات اللبناني؟ 

نزيف الدولارات المتمادي

74.6 مليار دولار للاستيراد في خمس سنوات 

في السنوات الخمس الممتدّة بين عامي 2020 و2019، استورد لبنان سلعاً بقيمة 74.6 مليار دولار، فيما صدّر سلعاً بقيمة 20.7 مليار دولار. ليسجّل ميزان السلع عجزاً بقيمة 53.9 مليار دولار، بمتوسط 10.8 مليار دولار سنوياً بين عامي 2020 و2024 بالمقارنة مع 13.4 مليار دولار في العام 2019. وقد جرت تغطية 59.6% من العجز التجاري للسلع بفائض بقيمة 4.4 مليار دولار حقّقه ميزان الخدمات ونحو 27.7 مليار دولار من التحويلات الجارية.  

يعبّر عجز الحساب التجاري عن سمة بنيوية للاقتصاد اللبناني الذي يستورد سلعاً أكثر من ما يصدّر، ويعوّض النزيف بالعملات الأجنبية في هذا البند بتصدير شبابه إلى الخارج في مقابل الحصول على تحويلاتهم إلى أسرهم، فضلاً عن تصدير الخدمات التي تنتج محلياً عبر المقيمين فيه.

شهد عاما 2020 و2021 انخفاضاً في العجز التجاري للسلع بسبب تراجع التجارة العالمية في فترة تفشي جائحة كوفيد-19 وتراجع الاستهلاك كأحد تبعات الانهيار النقدي في لبنان، لكن في السنوات اللاحقة عاود الاستيراد الارتفاع إلى مستويات ما قبل الأزمة، مدفوعاً بزيادة الطلب على المنتجات الكيميائية مثل الأدوية والمواد الصناعية وكذلك المنتجات الغذائية بحسب تقرير مصرف لبنان. وبالتالي، لا يعبّر هذا الانخفاض عن زيادة صحّية في الصادرات، بل بالعكس، لم يستفد لبنان من الانهيار النقدي لتحسين تنافسية منتجاته المحلية وصادراته، بل فوّت الفرصة التي أوجدتها الأزمة، إذ تراجعت قيمة الصادرات في العام 2024 بنحو 21.8% عمّا كانت عليه قبل الأزمة، كتعبير عن المأساة التي يعاد تدويرها. عدا أن هذا النمط من الواردات يبرز استمرار اعتماد لبنان على الواردات الأساسية في مقابل تراجع واردات السلع الرأسمالية مثل الآلات ومعدات النقل.

لكن لا تكفي هذه القراءة العامة لحساب تجارة السلع لتقديم فكرة وافية عن بنية الصادرات والواردات اللبنانية. وبحسب الاقتصادي شربل نحاس، يبيّن التمعن فيها أن 29% من صادراتنا هي عبارة عن لآلئ وأحجار كريمة ومجوهرات (6 مليارات دولار من أصل 20.7 مليار دولار). ولكن لبنان ليس منتجاً للمواد الخام المستعملة في صناعتها، والتي تمثّل القسم الأكبر من القيمة التبادلية لهذا النوع من السلع. فهذه الصادرات هي في غالبيتها مستوردة، ويعاد تصديرها غالباً، إمّا بحالتها المستوردة وإمّا بعد أعمال صناعية بسيطة عليها، حرفية أو فنية أو تصميم، تتسم بقيمة مضافة منخفضة. وبالتالي، يؤدّي حسم قيمتها إلى تخفيض معدّل تغطية الصادرات للواردات من 27.7% إلى 22.7% فقط. 

31.8 مليار دولار لقاء تصدير اللبنانيين

شكّلت تحويلات المغتربين اللبنانيين الرافد الأساسي للتحويلات الجارية الوافدة إلى لبنان. فقد تدفّق نحو 31.8 مليار دولار بين عامي 2020 و2024 من المهاجرين اللبنانيين، فيما خرج منه في خلال الفترة نفسها نحو 9.3 مليار دولار سدّدها العاملون الأجانب فيه إلى أسرهم في الخارج، ليصل صافي تحويلات المغتربين إلى 22.5 مليار دولار. 

لطالما شكّلت تحويلات المغتربين مصدراً أساسياً للعملات الأجنبية التي تتدفّق إلى لبنان وقد زاد الاعتماد عليها بعد الأزمة نتيجة انخفاض حجم الاقتصاد وتصدير موجة جديدة من اللبنانيين. والواقع يحلّ لبنان في المرتبة الرابعة عالمياً، بعد تونغا وطاجيكستان ونيكاراغوا، لناحية نسبة التحويلات من مجمل الناتج المحلي الإجمالي (26.6%) بحسب البنك الدولي. وقد ساهمت هذه التحويلات في دعم استهلاك الأسر اللبنانية وسدّ 55.4% من العجز في فاتورة الاستيراد في السنوات الخمس الماضية. 

إلى ذلك، ترافق نمو التحويلات مع فشل القطاع المصرفي، وبالتالي الاعتماد المتزايد على نقل الأموال باليد أو عبر خدمات تحويل الأموال. والواقع يقدّر مصرف لبنان أن التدفّقات النقدية باليد ارتفعت بنسبة 5%، بينما ارتفعت التحويلات عبر شركات تحويل الأموال بنسبة 11%. في المقابل، بقيت التحويلات المصرفية هامشية، إذ لا يزال الكثير من المرسلين يتفادون الرسوم والتأخيرات الزمنية المرتبطة بالقنوات المصرفية. 

استثمار المباشر أم زيادة في رساميل المصارف؟ 

بين عامي 2020 و2024، حقّقت استثمارات اللبنانيين في الخارج فائضاً بنحو 764 مليون دولار، بينما وصلت استثمارات غير المقيمين في لبنان إلى 5.7 مليار دولار، ليصل صافي الاستثمار المباشر إلى 6.4 مليار دولار. وبحسب مصرف لبنان هذه العمليات بمعظمها هي عبارة عن شراء أسهم في القطاع المالي أو شراء أدوات دين أو شراء عقارات، ولا تشمل القطاع غير المالي.

يبيّن التقرير أن معظم الاستثمارات الأجنبية في لبنان تركزت في عمليات شراء أسهم في المصارف وقد أتت 63% منها من أربع دول وهي فرنسا ولوكسمبورغ بنسبة 22% لكل منهما، والإمارات العربية المتحدة (11%) وقبرص (8%). يقول الاقتصادي شربل نحاس إن «المهم في هذه العمليات هو النمط الذي تتبعه هذه التدققات وليس قيمتها، التي قد تكون غير دقيقة خصوصاً أنها مبنية على مسح أجراه المصرف المركزي مع المصارف اللبنانية». ويشير إلى أن «هذه العمليات هي عبارة عن أموال استقطبها القطاع المالي من الخارج، ومنطقياً لن يقوم أي مستثمر بوضع أمواله في قطاع مفلس إلا إذا كان مجبراً على ذلك، ما يعني أنها قد تكون زيادة في الرساميل ضخّها مساهمو المصارف بناء على تعاميم المصرف المركزي». 

أما فيما يتعلق بالاستثمارات المقيمين في لبنان في الخارج فقد كانت بمعظمها أيضاً عبارة عن شراء أسهم في القطاعات غير المالية الأجنبية فيما ظل الاستثمار في أدوات الدين محدوداً للغاية. وكانت البنوك التجارية اللبنانية المستثمر الأبرز إذ استحوذت على 81% من مجمل الأصول، تلتها شركات التأمين بنسبة 17%، ومن ثمّ المصارف الائتمانية المتوسطة والطويلة الأجل بنسبة 2%. إلى ذلك، استحوذت فرنسا على 33% من مجمل هذه الاستثمارات فيما جاءت الإمارات في المرتبة الثانية بنسبة 11%، تليها أستراليا (8%)، وقبرص (6%) وبريطانيا (5%) ومن ثم سلطنة عمان (4.5%). 

تتبع الهندسات المالية ومسار الإفلاس

بلغت الاستثمارات في المحافظ المالية التي يقوم بها فاعلون اقتصاديون في الخارج نحو 475 مليون دولار، في حين بلغت استثمارات الفاعلين غير المقيمين في لبنان 6.1 مليار دولار ليصل صافي الاستثمارات في الأسهم وسندات الدين إلى 5.6 مليار دولار. 

يشير مصرف لبنان إلى أن البيانات جمعت من المصارف اللبنانية وشركات التأمين لتبيان الاستثمارات المحفظية التي أجريت لحسابهم، ومن يوكلهم بالقيام بالاستثمارات لحسابه. لكن بحسب نحاس «معظم هذه الاستثمارات قامت بها المصارف اللبنانية نفسها وشركات التأمين». ويتابع «تظهر البيانات المعروضة، بمعزل عن التدقيق بمدى صحتها، ما هو أخطر مما يزعمه التقرير، إذ تظهر الآثار المترتبة عن السياسات النقدية والهندسات المالية التي قام بها مصرف لبنان والمصارف في لبنان. فحتى عامي 2001 و2002، كانت المصارف اللبنانية لا تملك الكثير من الأسهم في الخارج ولا تملك في محافظها سندات دين خارجية، لكن بدأت المعادلة تنعكس مع إدراك هذه المصارف أن الإفلاس محتم، فأخذت تشتري أسهماً (مصارف) في الخارج وسندات دين طويلة الأجل، واستمر الوضع حتى العام 2015 تاريخ بدء الهندسات المالية، حين يظهر من البيانات أنهم بدأوا ببيع سنداتهم التي يملكونها في الخارج من أجل تحويل قيمها إلى لبنان مقابل الفوائد العالية التي منحهم إياها المصرف المركزي، وعند نضوب هذه السندات اضطروا لبيع أسهمهم أيضاً، وبحلول العام 2023 عادت قيمة أسهمهم في الخارج ومحافظ السندات الأجنبية إلى ما كانت عليه في العام 2001 و2002». 

«اقتصاد الكاش» = 13.9 مليار دولار

أما فيما يتعلق بالأموال التي تدخل إلى نقداً من دون المرور بالقطاع المصرفي أو شركات تحويل الأموال، سواء عبر اللبنانيين أو لصالح حزب الله أو بعض الجمعيات، فهي عادة لا تحتسب في ميزان المدفوعات ولم تذكر بالأساس في تقرير مصرف لبنان، ولكن بما أنّ ميزان المدفوعات يجب أن يكون متوازناً، أي أن تساوي الأصول (الائتمانات) قيمة الخصوم (الخصومات)، وهو نادراً ما يحدث، يتم استحداث حساب الخطأ والسهو، وغالباً تكون قيمته صغيرة، لكن في لبنان وصلت إلى نحو 13.9 مليار بين عامي 2020 و2024، والتي يمكن من خلالها تقدير صافي قيمة الأموال التي دخلت إلى لبنان وخرجت منه بـ«المحافظ»، من خارج القنوات الرسمية المرصودة.