معاينة lebanon current account

انخفاض عجز الحساب الجاري للبنان: تقشّف وفقر لا تصحيح لخلل مُزمن

تراجع عجز الحساب الجاري في لبنان من 5.6 مليار دولار في العام 2023 إلى نحو 3.5 مليار دولار في العام 2024، وشكّل ما نسبته 10.8% من الناتج المحلّي الإجمالي بحسب معهد التمويل الدولي. وتعتبر هذه النسبة هي الأدنى منذ العام 2008، باستثناء العام 2020 حينما بلغ العجز نحو 2.8 مليار دولار نتيجة تراجع الاستيراد في خلال فترة الجائحة.

يأتي انخفاض العجز في الحساب الجاري مدفوعاً بتراجع الاستيراد، ولا سيما في الفصل الأخير من العام الماضي الذي شهد تصعيداً في العدوان الإسرائيلي على لبنان. ومع ذلك، يبقى الاستيراد العنصر الأساسي في نزيف الدولارات، والمكوّن الأكبر في عجز الحساب الجاري.

يعتبر الحساب الجاري جزءاً من ميزان المدفوعات الذي يختصر صافي المعاملات والتحويلات المالية بين لبنان والعالم. وهو يتألّف من صافي صادرات وواردات السلع والخدمات أو ما يعرف بالميزان التجاري، بالإضافة إلى صافي الدخل الأولى أي الدخل المُحقّق في لبنان لصالح غير مقيمين ناقص منه الدخل المُحقّق خارج لبنان لصالح مقيمين، فضلاً عن صافي الدخل الثانوي أي الفارق بين تحويلات المغتربين اللبنانيين محسوماً منها تحويلات الأجانب العاملين في لبنان. وفي الحصيلة، إذا كانت الأموال المدفوعة إلى الخارج أكبر من الأموال الوافدة إليه، يسجّل الحساب الجاري عجزاً، وإذا كانت الأموال المدفوعة إلى الخارج أقل من الأموال الوافدة إليه، يسجّل الحساب الجاري فائضاً.

بعبارات أبسط بعيدة من التعريفات التقنية، يعبّر العجز في الحساب الجاري عن قيمة التمويل المطلوب لتصفير حسابات التجارة والدخل مع غير المقيمين. ولكي يتمّ تسديد هذه القيمة بالعملات الأجنبية إلى الخارج يحتاج الاقتصاد اللبناني لتأمين التمويل، إما عبر زيادة المديونية الخارجية (وهو أمر غير متاح في الوقت الراهن)، أو الاستنزاف من احتياطاته الأجنبية، أو استخدام التدفقات الوافدة إلى الاقتصاد الذي بات يعتمد على «الكاش» من دون وساطة القطاع المالي.

بحسب تقديرات معهد التمويل الدولي، أنفق لبنان نحو 13.2 مليار دولار لاستيراد سلع في العام 2024 في حين لم تتجاوز قيمة صادراته 3.7 مليار دولار، ما يعني أن ميزان تجارة السلع حقّق عجزاً بقيمة 9.5 مليار دولار.

في المقابل، ساهمت صادرات الخدمات، ولا سيما إيرادات السياحة، في إطفاء العجز في ميزان تجارة الخدمات. ففي العام 2024، بلغت صادرات الخدمات اللبنانية نحو 6.1 مليار دولار من ضمنها 3.9 مليار أتت من إيرادات السياحة فيه، فيما استورد نحو 5.5 مليار دولار من الخدمات. ليحقّق ميزان تجارة الخدمات فائضاً طفيفاً بقيمة 0.6 مليار دولار.

إلى ذلك، سجّل صافي الدخل عجزاً بقيمة 0.6 مليار دولار. ففي حين حقّق المقيمون في لبنان دخلاً من الخارج بقيمة 0.3 مليار دولار، حقّق غير المقيمين في لبنان دخلاً من لبنان بقيمة 0.9 مليار دولار.

والواقع أنه جرى تعويض العجز الكبير المُسجّل في ميزان تجارة السلع من مصدر رئيس لتدفّق العملات الأجنبية إلى البلاد وهو تحويلات المغتربين اللبنانيين في الخارج، وقد بلغ صافي التحويلات في العام الماضي نحو 5.7 مليار دولار.

3.5 مليار دولار: عجز الحساب الجاري اللبناني في 2024

لا شك أن تخفيض العجز في الحساب الجاري هو مسعى أساسي للحكومات المأزومة التي تعاني نقصاً في العملات الأجنبية، إلا أن «التصحيح» الحاصل في لبنان لم يأتِ نتيجة سياسات عامّة أو إجراءات حكومية واضحة بل حصل عشوائياً. والواقع أن العجز في الحساب الجاري انخفض أو «صحّح نفسه بنفسه» على حساب المجتمع، إمّا عبر تخلّي الكثير من الأسر عن استهلاكها والتضحية بمستواها المعيشي وانحدارها إلى الفقر، أو عبر الهجرة وخسارة الموارد البشرية الموهوبة والمتعلّمة. بحسب البنك الدولي، 44% من سكان لبنان اليوم يعيشون تحت خط الفقر بالمقارنة مع 12% قبل عقد من الزمان، وإذا احتسب الفقر وفق المقياس المتعدّد الأبعاد ترتفع النسبة إلى 79%. أيضاً ارتفعت البطالة إلى 27% في العام 2024 بحسب الإسكوا، وهاجر من لبنان ما لا يقل عن 250 ألف شخص، أو 7% من السكان منذ العام 2019 بحسب معهد التمويل الدولي.

صحيح أن فاتورة الاستيراد لا تزال ضخمة، ولكنها بترافقها مع تنامي الفقر والبطالة وتراجع الاستهلاك وتدهور الخدمات العامة، تصبح تعبيراً صريحاً عن زيادة هوّة اللامساواة بين الطبقات الاجتماعية في البلد، ونتيجة مباشرة لعدم تدخّل الدولة في الأزمات.

تاريخياً، وقبل الأزمة الحالية، شكّل الحساب الجاري مصدر عجز بنيوي دائم بسبب الفارق الكبير بين حجم الاستيراد والتصدير، ويعود ذلك إلى طبيعة الاقتصاد اللبناني الذي لم ينجح في تطوير القطاعات الإنتاجية الكفيلة بتأمين التوازن في هذا الحساب. حافظ النموذج الاقتصادي على قدرته على تأمين العملات الأجنبية وتعزيز الاحتياطيات حتى العام 2011، من خلال استقطاب الودائع إلى القطاع المصرفي عبر الفوائد المرتفعة ومن خلال تحويلات المغتربين. كان هناك «إيمان» راسخ بأن هذه الطريقة لتمويل الاستهلاك صالحة إلى ما لا نهاية إلى أن نضبت التدفقات.

أتى انهيار العام 2019 كفرصة لتصحيح الخلل التاريخي، إذ كان من المُمكن تحفيز الإنتاج المحلي في السنوات الأولى من الانهيار بسبب انخفاض كلفة الإنتاج، إلا أن الفرصة ضاعت بسبب العجز عن اتخاذ قرارات حاسمة ومعالجة أسباب الأزمة. لم تسوَّ أوضاع القطاع المصرفي أو يحدّد دوره في الاقتصاد، ولم توظّف السياسات المالية لتحفيز الإنتاج.

وفي الحصيلة، عاد الاقتصاد إلى وضعية شبيهة بالنموذج الذي أوصل إلى الأزمة، أي استخدام التدفقات المالية الآتية من الخارج لتغطية العجز في الميزان التجاري، مع فارق واحد وهو عدم تأدية المصارف أي دور في توزيع الأموال على شكل قروض استهلاكية، إذ باتت الأموال تأتي بشكل مباشر إلى المُستهلكين، الذين لديهم سبيل إليها، فتصرف في السوق وتحوّل إلى الخارج من أجل الاستيراد.