مصرف لبنان: تحليل جنائي
أنقر/ي هنا لقراءة الملخّص التنفيذي
أنقر/ي هنا لتنزيل الوقة كنسخة PDF
«ثمّة شيء نتن في دولة الدنمارك»
شكسبير
مقدّمة
بتكليف من الحكومة اللبنانية، أصدرت شركة «ألفاريز آند مارسال» للخدمات المالية (Alvarez & Marsal)، مؤخرًا، تقرير التدقيق الأولي (يشار إليه لاحقًا بالتقرير) في حسابات مصرف لبنان المركزي.1 وهو التقرير الرسمي الوحيد الصادر عن جهة تدقيق خارجية في حسابات مصرف لبنان والمُتاح للعموم منذ تأسيس مصرف لبنان وبدء عملياته في العام 1964.
التدقيق هو عرض للحقائق المالية وفقًا لمبادئ المحاسبة المُعتمدة، أمّا التدقيق الجنائي فيقوم بأكثر من ذلك، إذ «يعاين السجلات المالية للعثور على أي نشاط مالي غير قانوني يمكن استخدامه كدليل في المحكمة»، وهذا ما يفعله التقرير، وإن بشكل غير كامل، نظرًا لحجب البيانات والمعلومات من قِبل مصرف لبنان.2
جاء رفض مصرف لبنان تقديم المعلومات المطلوبة تحت ذريعة «السرّية المصرفية»، على الرغم من تكليف «ألفاريز آند مارسال» رسميًا بالتدقيق، وتعليق البرلمان قانون السرّية المصرفية من قِبل البرلمان إلى حين إكمال الشركة التدقيق الجنائي. عدا عن أن قانون السرّية المصرفية في لبنان يغطّي عادة المعلومات المتعلّقة بالمودعين في المصارف، وليس المعلومات المصرفية الأخرى مثل النفقات أو القروض.
ومن المعلومات التي رفض مصرف لبنان تقديمها لشركة «ألفاريز آند مارسال» نذكر على سبيل المثال: توصيف عمليات منفّذة والغرض منها؛ المستفيدون من التحويلات المصرفية عبر نظام سويفت، وهويات منشئي العمليات وطبيعة كل منها؛ إجابات عن أسئلة مكتوبة؛ كما أنّه لم يُسمح بإجراء مقابلات شخصية مع موظّفيه وقيادته.
تنقسم هذه الدراسة على النحو الآتي: يراجع القسم الأول منها تقييم التقرير نظام إدارة مصرف لبنان، بما في ذلك ممارساته المحاسبية. يعرض القسم الثاني نماذج مختارة عن معاملات شاذّة أجراها مصرف لبنان، والنتائج الرئيسة التي توصّل إليها التقرير في ما يتعلّق بوضعه المالي. يشرح القسم الثالث نشأة الأزمة المالية ويحدّد أسبابها الرئيسة. وأخيرًا يعرض القسم الرابع تحليلًا مُحدثًا للتدفّقات النقدية لمصادر العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان ووجهات استخدامها. وتختم الدراسة بتوصيات لاتخاذ إجراءات عاجلة مُحدّدة للتعافي المالي.
1. مصرف لبنان: الصلاحيّات والممارسات
أ. الصلاحيّات: مستقل وقوي
يحكم قانون النقد والتسليف الصادر في العام 1963 والإضافات والتعديلات اللاحقة عليه، أهداف مصرف لبنان ووظائفه وسياساته. وينصّ على هدفين أساسيين: المحافظة على سلامة النقد اللبناني، والمحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي وتطوير بنيته الأساسية، وهما هدفان أساسيان للاستقرار المالي والاقتصادي.
فشل مصرف لبنان، وتحديدًا مجلسه المركزي المعني بحوكمته ووضع السياسات وبرئاسة الحاكم، بشكل واضحٍ وتامٍ في هاتين المهمّتين الأساسيتين.3 ويتفاقم هذا الفشل لكون مصرف لبنان، مقارنة بالمصارف المركزية الأخرى، مستقلًا عن الحكومة ويتمتّع بصلاحيات من بين الأوسع في مجالي المال والمصارف. وبالفعل، يشير التقرير إلى أن مصرف لبنان، بموجب القانون، «مستقل مؤسسيًا ووظيفيًا وشخصيًا وماليًا» (ص. 222).4
يتضمّن قانون النقد والتسليف أيضًا آليّات إشرافية تمارسها مؤسّسات أو أشخاص محدّدون يمكنهم مساءلة مصرف لبنان في سياساته، وهم: المجلس المركزي لمصرف لبنان الذي يحدّد السياسة النقدية؛ ووزير المالية؛ والبرلمان؛ ومفوّض الحكومة.
بالإضافة إلى ذلك، تعاين لجنة الرقابة على المصارف الوضع المالي لكل مصرف على حدة، وتبلّغ الحاكم بالنتائج التي تتوصّل إليها. وهي هيئة مستقلّة «يمكنها فرض إجراءات تصحيحية وعلاجية على كلّ مصرف فرديًّا» (ص. 296).
ب. الممارسات: إدارة أحادية
على الرغم من كل هذه الجدران الحمائية القانونية والإشرافية، يذكر تقرير «ألفاريز آند مارسال» في هذا الصدد: «لم نحدّد أي حالة طعن بقرارات مصرف لبنان»، من قبل أي من الأشخاص أو المؤسّسات المذكورة أعلاه (ص. 226). وأشار التقرير بشكل خاص إلى أن «المجلس المركزي كان غير فعّال إلى حد كبير كهيئة حاكمة، ولم يتحدَّ سلطة الحاكم باتخاذ القرارات» (ص. 27)، على الرغم من استقلالية نوّاب الحاكم وأعضاء المجلس المركزي الآخرين.5 وأضاف التقرير أن الحاكم نفسه «مارس سلطة غير خاضعة لأية رقابة على نطاق واسع» (ص. 225)، ما جعل مصرف لبنان مدارًا بطريقة أحادية عمليًًّا.
- المحاسبة: مُضلّلة
يغطّي التدقيق الذي أجرته «ألفاريز آند مارسال» في حسابات مصرف لبنان، الفترة المُمتدّة بين العامين 2015 و2020، ويستند إلى البيانات المالية المُدقّقة لمصرف لبنان بين العامين 2015 و2018، من قِبل شركتيْ «ديلويت أند توش» (Deloitte & Touche) و«إرنست أند يونغ» (Ernst & Young)، والبيانات المالية لشركة «كاي.بي.أم.جي.» (KPMG) التي أجرت تدقيقًا «لأغراض خاصة» في الميزانية العامة لعام 2019، بالإضافة إلى بيانات مصرف لبنان لعام 2020. لم تُنشَر الحسابات المُدقّقة لمصرف لبنان قط.
أتت استنتاجات التقرير في هذا الصدد واضحة ومباشرة: «... اعتمد مصرف لبنان سياسات محاسبية غير تقليدية...»، و«باختصار، لا تقدّم البيانات المالية المنشورة صورة دقيقة عن الوضع المالي لمصرف لبنان» (الصفحتان 111 و133). هذا موجز عن تقييم التقرير للمنهجية المحاسبية لمصرف لبنان، وهي لا تتعارض مع المنهجية الدولية فحسب، بل أيضًا اعتباطية وغير متسقة، إذ طبّق مصرف لبنان إجراءات تدقيق تستند إلى أحكام شخصية، لا سيما فيما يتعلّق بالهندسات المالية (ص. 15).
لم يُظهر مصرف لبنان أي خسائر مالية في ميزانيته العمومية، في حين أن الخسائر بدأت تظهر منذ العام 2002 على الأرجح، عندما توقّف للمرّة الأولى عن نشر بيانات الربح والخسارة السنوية (ص. 134). ولإخفاء خسائره التي تراكمت ووصلت إلى نحو 50 مليار دولار بحلول نهاية العام 2019 (أنظر الجدول 1 أدناه)، استحدث مصرف لبنان بنودًا لإيرادات مُفترضة، كتلك الناجمة عن طبع العملة، وتأجيل دفع الفوائد المستحقّة، وذلك بدلًا من الاعتراف بالخسائر لحظة وقوعها مع غيرها من تكاليف التمويل (ص. 133). تتعارض جميع هذه الممارسات مع إجراءات المعايير المحاسبية.
هدفت الإجراءات المحاسبية الخاصة التي اتبعها مصرف لبنان إلى خلق قيمة من خلال طبع العملة وغيرها، واستخدامها لتعويض الفوائد المؤجّلة والنفقات الأخرى. والربح الناجم عن طبع العملة - وهو الشكل الأكثر شيوعًا - هو الفرق بين القيمة الاسمية لجميع العملات اللبنانية والكلفة الفعلية لطبعها. كما أضاف مصرف لبنان بنودًا أخرى وهي أرباح «سندات الخزينة اللبنانية» وأرباح «الاستقرار المالي»، ليصل مجمل الدخل الناجم عن طبع العملة إلى نحو 48 مليار دولار بحلول نهاية العام 2020. وكل ذلك بموافقة المجلس المركزي لمصرف لبنان (الصفحات 44، 112-113).
لقد ألغت «ألفاريز آند مارسال» كل هذه الإيرادات المزعومة من البيانات المُدققة المُعدّلة. وفي ضوء انهيار القطاع المصرفي والانخفاض الكبير في قيمة الليرة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019، كانت وقاحة المصرف المركزي واضحة باستمراره في تسجيل إيرادات بأكثر من 36 مليار دولار حتى نهاية العام 2020 ناجمة عن طبع العملة والاستقرار المالي!
- الشفافية: غائبة
لم يُكشَف علنًا عن أي معلومات مهمّة فيما يتعلّق بالوضع المالي لمصرف لبنان، ولا سيّما خسائره. الأخطر من ذلك، أن مصرف لبنان كان يعلن في الجريدة الرسمية، حيث يلزمه القانون بنشر ملخّص عن ميزانيته العمومية السنوية، أن «النتائج-الأرباح» السنوية تساوي «صفرًا» في كل عام من تلك الأعوام العشرين المُمتدة بين 2002 و2021. 6 بعبارة أخرى، من اللافت أن مصرف لبنان كان يصرّح عن تحقيقه «أرباحًا كبيرة»، فيما يعلن في الوقت نفسه في الجريدة الرسمية عن عدم تحقيقه أية أرباح، وفي حين، في الوقت نفسه أيضًا، كان في الواقع يتكبّد خسائر كبيرة!
تعمّد مصرف لبنان تقديم بيانات كاذبة عن حقائق مادية. ويصحّ القول إن مصرف لبنان كان ينشر الأرقام والمعلومات والبيانات بهدف التضليل وليس الإعلام.
يشدّد التقرير أيضًا على غياب «ترتيبات إدارة المخاطر... الخاصة بالتدقيق الداخلي... والمراقبة من قِبل أصحاب المصلحة الخارجيين واللجان» (الصفحتان 225 و226). وبالإضافة إلى ذلك، يشير التقرير إلى أن «ألفاريز آند مارسال» «لم تُزوَّد بمعلومات أو وثائق كافية تبيّن أن مصرف لبنان يتمتّع بالشفافية الكاملة في الكشف عن ترتيبات الحوكمة... وسياساته وإجراءاته المعمول بها... وعملياته... ونتائج سياساته» (الصفحات 319-332).
على سبيل المثال، يبرز افتقار مصرف لبنان للشفافية من خلال غياب الوثائق المتعلّقة بالأساس المنطقي أو التحليلات أو التقارير التي استند إليها لتنفيذ «الهندسات المالية» المدمّرة التي كان لها دور أساسي في الانهيار المصرفي (ص. 18).
2. مصرف لبنان: عمليات شاذّة، والوضع المالي
أ. عمليات شاذّة
يتضمّن تقرير «ألفاريز آند مارسال» بعضًا من عمليّات مصرف لبنان، التي يمكن وصفها بالشاذّة لعدم تطابقها مع المعايير المصرفية والمعيارية المُعتمدة. وتاليًا بعض النماذج من هذه العمليّات.
- توجد تحويلات من «حساب الاستشارات» تتجاوز قيمتها 111 مليون دولار بين العامين 2015 و2020. رفض مصرف لبنان طلب شركة «ألفاريز آند مارسال» تحديد المستفيدين النهائيين من هذه التحويلات أو طبيعة المعاملات، مُتحجّجًا بقانون «السرّية المصرفية» (الصفحات 95-97).7 لكن ذكر التقرير أسماء عدد من المستفيدين من «حساب الاستشارات» من بينهم إعلاميين ومؤسّسات إعلامية.
تعلّق «ألفاريز آند مارسال»: «يوجد دليل على دفع عمولات غير مشروعة في خلال الفترة بقيمة 111 مليون دولار… المبالغ ووجهة التحويلات حدّدها حاكم المصرف المركزي». (الصفحتان 22 و24).
- في العام 2010، حصل أحد المصارف على قرض بالليرة اللبنانية مضمون بسندات خزينة بالليرة اللبنانية، قيمته 200 مليون دولار بفائدة صفر في المئة لمدّة عامين، ثم رُفِعَت بعد ذلك إلى 2%. وبين العامين 2014 و2016، حصل مصرفان ومؤسّسة مالية على قروض مضمونة مماثلة، بما يعادل أكثر من 350 مليون دولار، وبمعدّل فائدة متوسط بنسبة 2%، في حين كان متوسّط الفائدة على سندات الخزينة لأجل 12 شهرًا تبلغ 5.3% (و6.7% لأجل 60 شهرًا) في خلال الفترة الخاضعة للتدقيق (ص. 137).
- دخل مصرف لبنان في «الهندسات المالية عبر شركة «أوبتيموم إنفست» (Optimum Invest SAL)، وهي شركة مالية لبنانية أُنشئت بغرض دفع عمولات لأطراف ثالثة» (ص. 99).
في هذا الصدد، أجرى مصرف لبنان بين العامين 2015 و2016 عمليتين على الأقل، قضتا ببيع سندات خزينة بالليرة اللبنانية إلى شركة «أوبتيموم إنفست»، وفي اللحظة نفسها أعاد مصرف لبنان شراء السندات نفسها بعلاوة إجمالية قدرها 36 مليون دولار» (الصفحات 99-102).
- أظهرت مراجعة «ألفاريز آند مارسال» لنفقات مصرف لبنان خلال الأعوام الممتدّة بين العامين 2015 و2020 «مبالغ كبيرة مدفوعة مقابل عمليات قد لا تكون مناسبة... واستخدم اسم «مورد متنوّع» لتسجيل معاملات تبلغ قيمتها نحو 331 تريليون ليرة لبنانية»، أي ما يعادل أكثر من 150 مليون دولار في أسعار الصرف في السوق (ص. 187).
- بالنسبة للعديد من عمليات الاستحواذ العقاري التي نفّذها مصرف لبنان بمبلغ يعادل 48.5 مليون دولار، «لم تتضمّن أي من المستندات المقدّمة عنها سبب عقد هكذا صفقات»، بما فيها صفقة بيع أرض مع نقابة مهنية بمبلغ 10.5 مليون دولار مرفقة بطلب عدم إصدار فاتورة بالمبلغ، ومن المحتمل أن يكون الدفع تمّ «نقدًا» (الصفحتان 194 و195).
- أبرم مصرف لبنان عقدًا مع شركة «فوري» (Forry Associates Ltd)، وهي شركة وساطة يملكها رجا سلامة، شقيق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومُسجّلة في جزر العذراء البريطانية. بين العامين 2002 و2015، تلقّت «فوري» من مصرف لبنان في حسابها في مصرف HSBC (سويسرا) مبلغ 333 مليون دولار في شكل عمولات، بزعم أنه لقاء «تسويق منتجات مصرف لبنان». وفي هذا الصدد، أشار قاضي تحقيق فرنسي إلى أن «رياض سلامة أدخل مصرف لبنان بعلاقة مع شركة بموجب عقد غير موجود قانونًا» (الصفحات 92-94).
- بين العامين 2015 و2020، دخل إلى حسابات الحاكم في مصرف لبنان، ودائع بموجب شيكات بقيمة 99 مليون دولار، في حين بلغت إيصالات رواتبه في خلال الفترة نفسها نحو 1.5 مليون دولار فقط. وتم تحويل ما مجموعه 103 ملايين دولار من حسابات الحاكم، من ضمنها 75 مليون دولار جرى تتبعها في 23 مصرفًا في سويسرا وألمانيا ولوكسمبورغ والمملكة المتّحدة والولايات المتّحدة الأميركية وفرنسا ولبنان. ولا توجد تفاصيل بشأن «مصدر الشيكات المودَعة... والمستفيدين النهائيين من التحويلات الخارجية» (ص. 110).
ب. الوضع المالي لمصرف لبنان
عادة يكون غياب الشفافية غاية لإخفاء أدلة مُقلقة، إنْ لم تكن تجريمية. «عدّلت» عمليات التدقيق التي أجرتها «ألفاريز آند مارسال» بعض أرقام الميزانية العمومية لمصرف لبنان للفترة الممتدّة بين العامين 2015 و2020 وفقًا لمبادئ التدقيق المعتمدة. وأسفرت بالنتيجة عن توصيف أدق للوضع المالي لمصرف لبنان، من ذلك الذي تقدّمه حساباته الخاصة، مع اختلاف كبير في بعض مؤشراته الرئيسة.
إن حجم خسائر مصرف لبنان وتدهور وضعه المالي، على الأقل منذ العام 2015، تتضح من خلال مؤشّراته الأساسية في الجدول 1 أعلاه، مثل الأموال الخاصة وصافي احتياطيات العملات الأجنبية. إن التناقض بين الأرقام الفعلية والمعلنة صارخ. أيضًا يكشف الوضع المالي الفعلي لمصرف لبنان عن سوء الإدارة الفاضحة ومسؤوليته عن انهيار القطاع المصرفي. ووسيلته المعتمدة كانت «هندساته المالية».
3. الانهيار المصرفي: كيف؟ ومن المسؤول؟
يسود اعتقادٌ، وليس تفسيرًا، بين السياسيين بشأن الانهيار المالي في لبنان، ويتكرّر في وسائل الإعلام من دون أي إشارة إلى أدلّة رسمية منشورة. السردية في جوهرها تبرئ المصارف ومصرف لبنان، وهي مُصاغة كالتالي: لقد وضع الناس أموالهم في المصارف، والمصارف وضعت الأموال في مصرف لبنان، ثم أقرض مصرف لبنان الأموال للحكومة التي أهدرتها بالفساد، وهذا ما أدّى إلى الانهيار. لذلك، فإن الديون الحكومية والفساد هما سبب الانهيار. هذه القصة خيالية ولم تُشرَح بالتفصيل ولا دُعِمَت بحقائق ووقائع.
السبب الرئيس للانهيار المصرفي هو السياسة النقدية؛ والسبب الرئيس لانهيار الليرة اللبنانية هو السياسة المالية.
الانهياران مختلفان من حيث طبيعتهما وأسبابهما وتداعياتهما. إن السياسة النقدية لمصرف لبنان أقلّه منذ العام 2015، والمعروفة بـ «الهندسة المالية»، هي السياسة الرئيسة التي أدّت إلى الانهيار الكلّي للقطاع المصرفي في لبنان، كما هو مفصّل أدناه. أما انهيار الليرة فظاهرة مختلفة. والواقع أنه حصل انهيار مماثل لليرة في منتصف الثمانينيات، لكنّ القطاع المصرفي ظل آنذاك قويًّا، وهذا ما يؤكد الفارق بين الانهيارين.
انهيار الليرة في الأساس هو نتيجة لسوء الإدارة المالية للحكومة، بتركيزها على الإنفاق الجاري بدلًا من الاستثمار العام. وتقع هذه المسؤولية، بشكل خاص، على عاتق القطاع العام المتضخّم بعشرات الآلاف من الموظّفين المعيّنين سياسيًّا، ونفقات منفوخة ومثقلة بالفساد.8
أ. «الهندسات المالية» المدمّرة من قِبل مصرف لبنان
هدفت سياسة مصرف لبنان إلى جلب احتياطيات إضافية من العملات الأجنبية. وأصبح ذلك ضروريًّا لدعم سياسة تثبيت سعر الصرف، خصوصًا مع تسجيل ميزان المدفوعات عجوزات مستمرة منذ العام 2011. 9 جرت عمليات هذه السياسة مع المصارف التجارية اللبنانية، وأدّت إلى تحويل جزء كبير من ودائع المصارف بالعملات الأجنبية لدى المصارف المراسلة إلى مصرف لبنان، وبلغت قيمتها نحو 90 مليار دولار في نهاية العام 2019 (الصفحتان 65 و142).
تعّد استجابة المصارف الطوعية لعروض مصرف لبنان السخيّة سببًا مدعّمًا لسياسة مصرف لبنان المتسبّبة بانهيار المصارف. كانت خاتمة تحويل معظم ودائع المصارف بالعملات الأجنبية من المصارف الرئيسة في الخارج إلى مصرف لبنان، أن أُقرِضَت تلك المليارات التسعين، أو نحو 75% من جميع ودائع عملائها بالعملات الأجنبية، إلى مصرف لبنان بحلول نهاية العام 2019. تمثّلت النتيجة بتحوّل المصارف من وضعية سابقة كانت فيها السيولة بالدولار الأميركي مرتفعة إلى وضعية نقيضة تفتقر فيها للسيولة بالدولار، وقد بلغت في نهاية أيلول/سبتمبر 2019 نحو 7% وهو مستوى منخفض للغاية. (سيولة المصارف بالدولار هي نسبة ودائعها بالدولار لدى المصارف المراسلة إلى مجمل ودائع عملائها بالدولار الأميركي).
أعلن مصرف لبنان عن سياسة «الهندسات المالية» في أوائل العام 2015. وقامت هذه السياسة بشكل أساسي على اقتراض المزيد من الودائع بالدولار من المصارف بأسعار فائدة أعلى وسخيّة، ولكن من دون النجاح في عكس اتجاه الخسائر المتزايدة وصافي الاحتياطيات السلبية (أنظر الجدول 1 أعلاه). بدأت الفوائد المدفوعة من مصرف لبنان على ودائع المصارف بالدولار بمتوسط 5.5% لتصل إلى 13% في صيف 2019، مقارنة بمتوسّط 1.6% فقط لمعدّل ليبور المرجعي لمدة 6 أشهر في خلال تلك الفترة.
والأهم أنه بالإضافة إلى أسعار الفائدة المرتفعة هذه، حسم مصرف لبنان سندات خزينة بالليرة اللبنانية تمتلكها المصارف في محافظها «بعلاوة تعادل قيمة السندات الكاملة في تاريخ استحقاقها» (ص. 72). وأكثر من ذلك، منذ العام 2017، حصلت المصارف التي تودع أموالًا بالدولار لدى مصرف لبنان على مكافأة صافية بالليرة اللبنانية لا تقل نسبتها عن 9% على القروض الاسمية بالليرة اللبنانية. كانت كلفة سياسة «الهندسات المالية» التي اتبعها مصرف لبنان هائلة. وكما يرد في الجدول 1 أعلاه، فقد تراكمت هذه الكلفة وتجاوزت 60 مليار دولار في خلال الفترة الممتدّة بين العامين 2015 و2020 (الصفحتان 87 و88).
وكما يشير التقرير، يبدو أن «قرارات الهندسات المالية التي اتخذها المجلس المركزي لمصرف لبنان لم تكن مُعلّلة بناءً على مبررات اقتصادية واضحة... وسمحت للحاكم بالتمتّع بسلطة تقديرية غير مُقيّدة» (ص. 18).
لقد أنتجت «الهندسات المالية» لمصرف لبنان إفلاس القطاع المصرفي. ولو لم تصمّم «الهندسات المالية» لمصرف لبنان وتنفّذ، لما انهار القطاع المصرفي.
ب. سوء الإدارة في المصارف
كانت أرباح المصارف من تلك السياسة وحدها كبيرة. وقدّر صندوق النقد الدولي، في تقريره السنوي عن الاقتصاد اللبناني لعام 2016، أن «الهندسات المالية» بين مصرف لبنان والمصارف في النصف الثاني من العام 2016، حقّقت أرباحًا للمصارف بأكثر من 5 مليارات دولار، وهو ما يعادل «ضخّ رساميل مالية (من دون أي حصة مقابلة في رأسمال المصارف)».10
بالإضافة إلى ذلك، قدّرت «ألفاريز آند مارسال»، أرباح المصارف بين العامين 2017 و2020، بنحو 5.1 مليار دولار، وذلك على القروض بالليرة اللبنانية فقط، والتي منحها مصرف لبنان إلى المصارف بصافي فائدة بنسبة 9% (ص. 156، وانظر أعلاه للتفاصيل). بمعنى آخر، بين العامين 2016 و2020، حقّقت المصارف أرباحًا صافية بأكثر من 10 مليارات دولار من «الهندسات المالية» وحدها. وشكّلت هذه الأرباح المنفصلة أكثر من 85% من إجمالي الأموال الخاصة (حقوق المساهمين) للمصارف في نهاية العام 2020.
أسفر انخراط المصارف بـ«الهندسات المالية» وتنفيذها بحماس شديد، مدفوعة بالأرباح غير العادية التي ولّدتها تلك السياسة، عن إيداع المصارف أكثر من 90 مليار دولار لدى مصرف لبنان في نهاية أيلول/سبتمبر 2019، أي قبل الانهيار مباشرة، وهو ما يزيد بنحو 70 مليار دولار على متطلّبات الاحتياطي الإلزامي القانوني البالغة 15% والمفروضة من مصرف لبنان على الودائع بالدولار لدى المصارف. آنذاك، مثّلت ودائع المصارف لدى مصرف لبنان، والبالغة 90 مليار دولار، نحو ثلاثة أرباع ودائع الزبائن بالدولار.11
إن الطريقة الأكثر منهجية، أو المبنية على القواعد، لتقييم إدارة المصارف هي تقييمها وفقًا للأنظمة الاحترازية للمصارف، والتي عادة ما تحدّد سقف 25%، وغالبًا 15%، من رأس مال المصرف أو أمواله الخاصة، كحدّ أقصى للانكشاف أو تحمّل مخاطر الائتمان تجاه مقترض واحد. لكن بدلًا من ذلك، في نهاية أيلول/سبتمبر 2019، وصل انكشاف الميزانية العمومية المجمّعة للمصارف التجارية، بالدولار وحده، تجاه مصرف لبنان إلى نحو 440% من إجمالي الأموال الخاصة، مع العلم أنّ الأموال الخاصة للمصارف هي بالليرة والدولار. وإذا نظرنا إلى إجمالي انكشاف المصارف بالدولار على القطاع العام اللبناني، أي الحكومة ومصرف لبنان، يرتفع مستوى المخاطرة إلى أكثر من 5 أضعاف، أو 500%، من إجمالي الأموال الخاصة للمصارف.
كان من الواجب أن تنتبه لجنة الرقابة على المصارف لهذا السلوك الخطير للمصارف، لا سيّما أن سوء الإدارة ساهم بانخفاض نسبة السيولة بالدولار في المصارف على نحو مستمر من 23% في نهاية العام 2010 إلى 7% فقط في نهاية أيلول/سبتمبر 2019. بينما كان متوسّط نسبة سيولة المصارف بالدولار في خلال سنوات الحرب (1975-1990) أكثر من 99%!
أنتجت «الهندسات المالية» خسائر كبيرة لمصرف لبنان وصافي احتياطيات سلبية كبيرة من العملات الأجنبية. كما أدّت، بالتوازي مع سوء الإدارة في المصارف، إلى انخفاض شديد في سيولة الدولار لدى المصارف. بالنتيجة، أصبح انهيار القطاع المصرفي أمرًا حتميًا.
4. أين ذهبت مليارات دولارات مصرف لبنان؟
في حين أن مصادر ومبالغ الأموال بالدولار التي ذهبت إلى مصرف لبنان واضحة بشكل عام، إلا أن استخداماتها ليست كذلك. إن تحديد وجهات الأموال مهمٌّ لإنهاء الجدل القائم بشأن سلوك مصرف لبنان والمصارف.
في خلال خمس سنوات، بين نهاية العام 2014 ونهاية العام 2019، تلقّى مصرف لبنان تدفّقات إجمالية بقيمة 72.5 مليار دولار، والجزء الأكبر منها، أي أكثر من 45 مليار دولار، مقترضة من المصارف. أين ذهبت هذه الدولارات؟ الإجابة في الجدول 2 أدناه.
أ. تقدير لوجهة الدولارات المتبقية
تركّز التفسيرات الشائعة عن الاستخدامات المختلفة لاحتياطيات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بين العامين 2015 و2019 على وجهتين وهما: تمويل العجز المالي للحكومة بشكل أساسي، ومن ضمنه التحويلات إلى مؤسّسة كهرباء لبنان، وتمويل عجز ميزان المدفوعات.
إن تمويل العجز المالي للحكومة بالدولار من مصرف لبنان بشكل رئيس ليس دقيقًا،كما هو مفصّل في القسم التالي (ب) أدناه. أمّا التحويلات إلى مؤسّسة كهرباء لبنان، فهي مدرجة بالفعل في بند «قروض الدولار الممنوحة إلى الحكومة»، كما أن المبلغ صغير نسبيًا، ولا يبلغ سوى 6.7 مليار دولار في خلال تلك الفترة، كما يرد في الجدول أعلاه. لكن الصورة اختلفت بعد العام 2019؛ استمرّ دعم استيراد الوقود وسلع أخرى مثل القمح والأدوية بتحويلات متزايدة من مصرف لبنان، ومن ضمنها تمويل تهريب السلع الأساسية إلى سوريا.
أما بالنسبة لعجز ميزان المدفوعات، فعادة ما يموّل القطاع الخاص جزءًا منه عبر الاستيراد مباشرة. وإذا افترضنا أن مصرف لبنان موّل عجز ميزان المدفوعات بالكامل، لكانت قيمة الدولارات المتبقية، بوصفها تدفّقات غير محسوبة خارجة من مصرف لبنان، تنخفض من 37.5 مليار دولار إلى 24.6 مليار دولار.12 ومن المرجّح أن المصارف اشترت بالليرة جزءًا من هذا المبلغ في السوق وحوّلته، مع مبالغ بالدولار لها، إلى مساهميها لا إلى حسابات المصارف المؤسّساتية، التي تظهر انخفاضًا، لا ارتفاعًا، في ودائعها بالدولار لدى المصارف المراسلة.13
تتضمّن مصادر هذه التحويلات المصرفية الأرباح الكبيرة بالدولار والليرة التي تحقّقت من خلال الفوائد والعمولات السخيّة الناجمة عن «الهندسات المالية» لمصرف لبنان. ومن ثمّ، جرى تصريف أرباح المصارف والأصول السائلة الأخرى بالليرة اللبنانية في السوق المفتوحة لمصرف لبنان.14 ويمكن القول إن الصورة المقابلة لأرباح المصارف هي إلى حد كبير خسائر مصرف لبنان أو انخفاض أمواله الخاصة بما لا يقل عن 30 مليار دولار في خلال هذه الفترة (أنظر الجدول 1 أعلاه).
ب. قروض مصرف لبنان بالدولار إلى الحكومة
مع استمرار التركيز على الأموال بالدولار وحدها، لا بد من توضيح ماهية قروض الدولار التي منحها مصرف لبنان إلى الحكومة اللبنانية/وزارة المالية. بحلول نهاية العام 2019، بلغ صافي قروض الدولار المستحقّة لمصرف لبنان من وزارة المالية نحو 5 مليارات دولار فقط. ولكن دُفِعَت جميع هذه التسليفات بما يعادلها بالليرة اللبنانية من حسابات وزارة المالية في مصرف لبنان. بمعنى أدق، القروض التي قدّمها مصرف لبنان إلى الحكومة من خارج محفظة مصرف لبنان من سندات الخزينة بالليرة اللبنانية أو اليوروبوند تساوي صفرًا.
فيما يتعلّق بسندات اليوروبوند، أطلق مصرف لبنان في الماضي، وبشكل متكرّر، عمليات تبادل مع وزارة المالية، إذ طُلب من وزارة المالية إصدار سندات يوروبوند جديدة، من دون أن تكون الحكومة بحاجة إلى هذه الأموال بالدولار. كانت عمليّات التبادل تتم لمصلحة مصرف لبنان فقط وبناءً على طلبه، في مقابل سندات خزينة بالليرة اللبنانية يحملها مصرف لبنان في محفظته. كان هدف مصرف لبنان بيع سندات اليوروبوند تلك في السوق لزيادة احتياطياته من العملات الأجنبية.
في خلال الفترة المُمتدّة بين العامين 2009 و2019، بلغت قيمة عمليات التبادل نحو 17.5 مليار دولار من سندات اليوروبوند الصادرة لصالح مصرف لبنان، في مقابل ما يعادلها من سندات خزينة بالليرة يحملها مصرف لبنان في محفظته. وفي خلال الفترة نفسها، حوّل مصرف لبنان بشكل منفصل مبلغ 13 مليار دولار (مموّلة بالليرة اللبنانية) إلى الحكومة لتنفيذ عمليات مختلفة.15 في المحصلة، بلغ صافي جميع هذه العمليات بالدولار نحو 4.5 مليار دولار منحتها الحكومة إلى مصرف لبنان. بمعنى آخر، كانت الحكومة اللبنانية هي المورّد الصافي بالدولار لمصرف لبنان وليس العكس!
والجدير ذكره، لو أن مصرف لبنان لم يُخضِع وزارة المالية لعمليات تبادل سندات خزينة بالليرة بسندات يوروبوند بقيمة 17.5 مليار دولار، لكان مقدار دين الحكومة بالدولار سيبلغ، بعد احتساب الفوائد، نحو 5 إلى 6 مليارات دولار فقط بدلًا من 31 مليار دولار قبل الانهيار في أيلول/سبتمبر 2019. ولكان لبنان قد تمكّن حينها من تجنّب التخلّف عن الدفع، أو الإفلاس، في الأسواق الدولية.
5. لبنان، السنة صفر
فجأة، بحلول نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2019، لم يعد يُسمح للمودعين بالوصول إلى ودائعهم المصرفية. وبلغ إجمالي الودائع الخاصة في حينها نحو 169 مليار دولار (73% منها بالعملات الأجنبية، ومعظمها بالدولار)، وهو يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبنان البالغ 55 مليار دولار في العام الذي سبقه (2018). شكّل ذلك بداية سنة صفر مالية للبنان.
يمنح القانون اللبناني مصرف لبنان صلاحيات مستقلّة واستثنائية، لا تعيقها أية تأثيرات سياسية أو غيرها، من أجل تأمين الاستقرارين النقدي والمصرفي. فشل مصرف لبنان في تحقيق أي من هذين الهدفين الأساسيين. والفشل هو ذو أبعاد تاريخية، مع إفلاس شبه كامل للقطاع المصرفي وانخفاض قيمة الليرة اللبنانية بنسبة تصل إلى 98%.
وبمرور أكثر من أربع سنوات من اندلاع الأزمة، يواصل المودعون، وهم يمثّلون معظم سكّان لبنان ومؤسّساته التجارية، بشكل يومي دفع ثمن الأخطاء المشتركة، إن لم تكن الجرائم، لمصرف لبنان والمصرفيين اللبنانيين والسلطات اللبنانية.
الجريمة مستمرة. لم تقدّم السلطات حتى الآن أي تفسير رسمي لذلك الانهيار المالي والاقتصادي التاريخي، ولم تتخذ أي إجراء لمعالجته. لا شيء. والأسوأ أن المساءلة والمحاسبة لم يطالا أي مسؤول مصرفي أو سياسي. لا أحد. بل على العكس، لا يزال المسؤولون الماليون وغيرهم في مناصبهم منذ ما قبل الانهيار. وبموافقة السلطات، تستمر المصارف المفلسة في تأدية وظائفها «بشكل طبيعي»، وغالبيتها بالنقد، ولكنها بالفعل مصارف زومبي.16
في هذه الأثناء، انشغل المسؤولون السياسيون والمصرفيون، بدعم من معظم وسائل الإعلام، بتدمير الوقائع واستبدالها بقصة بسيطة وإنّما خيالية لما حدث.
أ. المسؤولية عن الانهيار المصرفي
هذا انهيار مالي واقتصادي غير مسبوق من صنع الإنسان، هندسه أشخاص لهم وجوه وأسماء وعناوين.
ثمة سياسة مُحدّدة مارسها أشخاص مُحدّدون وأدّت إلى انهيار مُحدّد. إن سياسة «الهندسات المالية» التي انتهجها مصرف لبنان، ووافق عليها مجلسه المركزي، ونفّذتها معظم المصارف التجارية عن طيب خاطر، هي التي أدّت إلى إفلاس تاريخي للقطاع المصرفي، بما فيه مصرف لبنان. ويؤكّد تقرير «ألفاريز آند مارسال» هذا التقييم.
من الناحية العملية، يتحمّل المودعون الكلفة الكاملة للانهيار المصرفي، ويعانون من قيود صارمة على سحب الودائع ويخضعون لحسم، أو «هيركات»، كبير (يصل إلى 80%) عند تحويل ودائعهم بالدولار إلى الليرة. ومن المفهوم أن مسألة استرداد الودائع المصرفية قضية حيّة بشكل محتدم على المستوى الشعبي في لبنان. ولكن قبل اقتراح أي حل عملي، لا بدّ منطقيًا بالبدء بتوزيع المسؤوليات عن الانهيار المصرفي. وتتحمّل ثلاثة أطراف هذه المسؤوليات: الحكومة والمصارف والمودعون.
يعود انخفاض سعر صرف الليرة إلى عدم المسؤولية المالية للحكومة، كما ذكرت أعلاه. أما انهيار القطاع المصرفي فهو أمر مختلف ومنفصل كليًّا.
في ما يتعلّق بالانهيار المصرفي، تأتي مسؤولية الحكومة من فشلها المنهجي كسلطة رقابية، مع الإشارة إلى أن أي خسارة يتكبّدها مصرف لبنان يجب أن تغطيها الخزينة بموجب القانون. أمّا مسؤولية المصارف فهي النتيجة المباشرة لسوء إدارتها سيولتها بالدولار وانكشافها العالي على مخاطر الإقراض بالدولار لكيان واحد وهو المصرف المركزي، وذلك خلافًا لكل معايير العمل المصرفي والمعايير الاحترازية. وتأتي مسؤولية المودعين من قصورهم في تقييم المخاطر العالية التي تتحمّلها المصارف حيث يودعون أموالهم.
بناء على التحليل أعلاه، نقترح توزيع المسؤولية عن الخسائر المصرفية، بشكل تقريبي، وفق المعدّلات التالية: 40% على الحكومة و40% على المصارف، و20% على المودعين.
ب. إجراءات عاجلة
من غير الواقعي أن نطلب من السلطات الحالية تنفيذ أي إصلاح جوهري، على الرغم من الدعوات المماثلة المُتكررّة من العديد من الحكومات الأجنبية والمؤسّسات الدولية، والناس بشكل عام. وحتى الآن، لم يُنفَّذ أي إصلاح جوهري، ولم يُحاسَب أي مسؤول عام أو مصرفي. تشعر السلطات السياسية، السابقة والحالية، بقلق من أن تؤدّي الإصلاحات الفعّالة إلى كشف الحقائق بشأن ممارساتها الفاسدة ومسؤوليتها عن الانهيار. في الوقت نفسه، يجري التمنّع عن تقديم أي مساعدات مالية رسمية مباشرة إلى المؤسّسات الرسمية، وهو خوف مُبرّر من أن تصبّ هذه الأموال في خدمة الأجندات السياسية والشخصية للمسؤولين الفاسدين.
تتمثّل الأهداف الرئيسة بإعادة إنشاء قطاع مصرفي يعمل بشكل طبيعي، وهو أمر ضروري لاقتصاد يعمل بشكل طبيعي، واسترداد بعض أموال المودعين. ما يلي هي الإجراءات الضرورية التي كان ينبغي تنفيذها في غضون أسابيع بعد الانهيار، وليس بعد سنوات. وتمثل هذه الإجراءات الحدّ الأدنى المطلوب وتتوافق مع القوانين اللبنانية والممارسات الدولية المعتمدة في ظروف مماثلة. ولا بد من تنفيذها على الفور.
- الحجز على الأصول المحلّية والخارجية لأعضاء مجالس إدارة المصارف المفلسة فعليًّا، وأموالها الخاصة سالبة، وترفض إعادة الرسملة.
- تحديد المستفيدين والمبالغ بالدولار المحوّلة من المصارف إلى الخارج منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، حين لم يعد مسموحًا للمودعين العاديين إجراء أي تحويلات.
- دعوة المصارف الأجنبية لفتح فروع لها في لبنان، وتحفيزها بالاستفادة من إعفاء ضريبي لمدة 10 سنوات. وتنطبق الشروط نفسها على المصارف اللبنانية الجديدة.
- تنفيذ الإصلاحات الواردة في الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي على مستوى الموظفين المُبرمة في نيسان/أبريل 2022.
- التدقيق الخارجي، كما يقتضي القانون، في حسابات مصرف لبنان ومؤسّسة كهرباء لبنان، وأيضًا بحسابات شركة طيران الشرق الأوسط، وهي شركة خاصّة يملكها مصرف لبنان بنسبة 99%. ونشر تقارير التدقيق.
لا يوجد وضع مالي يستحيل تصحيحه. المفتاح في لبنان، هو قبل كل شيء وجود سياسيين «شرفاء» على رأس السلطة لبدء تنفيذ العلاجات المعروفة. وعندئذ سوف يتبعها التعافي بشكل طبيعي.
خاتمة
قبل وقتٍ ليس ببعيد، بينما كان سعر الخبز يرتفع بسرعة، صادفت رجلًا مُسنًّا غاضبًا عند مدخل سوبرماركت. كان يشدّ ربطة خبز إلى صدره، ويصرخ عاليًا: كيف يمكن للمرء أن يعيش و ثمن ربطة الخبز ]كذا[ ليرة!
كتبتُ هذه الورقة وأنا أفكّر في تلك الصرخة المتمرّدة التي أطلقها ذلك الرجل في الهواء.
صدرت هذه الدراسة باللغة الإنكليزية عن معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية (IFI) في الجامعة الأميركية في بيروت، وتولّى موقع صفر ترجمة الدراسة إلى اللغة العربية.
المراجع
Alvarez & Marsal Middle East Limited (A&M) (2023). Preliminary Forensic Audit Report, Banque du Liban, 07 August.
Banque du Liban (BDL) (2017). Report by Banque du Liban in Reply to Mistakes Stated in a Recently Published Document, https://bdl.gov.lb/downloads/index/9/149/Guides-and-Booklets.html.
Financial data and reports, https://bdl.gov.lb.
Central Administration of Statistics (CAS), Lebanon Presidency of the Council of Ministers, http://www.cas.gov.lb.
Gaspard, Toufic (2022). To Bank Depositors in Lebanon (Confronting Banks, Banque du Liban, and Government), Beirut: Konrad Adenauer Stiftung.
(2020). Lebanon’s Financial Collapse: A Post-mortem, Beirut: La Maison du Futur and Konrad Adenauer Stiftung.
(2017). Financial Crisis in Lebanon, Beirut: La Maison du Futur and Konrad Adenauer Stiftung.
(2004). a Political Economy of Lebanon, 1948-2002, Boston and Leiden: Brill Academic Publishers.
International Monetary Fund (IMF) (2017). Lebanon 2016 Article IV Consultation Staff Report, IMF Country Report No. 17/19.
Lebanon Ministry of Finance (MOF). Financial data and reports, http://www.finance.gov.lb.
Lebanon Official Gazette, in Arabic, various issues.
LL/$ market exchange rates, https://lirarate.org and https://lebaneselira.org.
Republic of Lebanon (1963 and subsequent additions/amendments). The Code of Money and Credit, and the Founding of the Central Bank (CMC). In Arabic.