معاينة bahrain uprising

هل تصل الفاشية الرأسمالية الغربية إلى الحكومات العربية؟

  • تاريخياً، كلّما واجهت الرأسمالية أزمات خانقة، لجأت إلى أدوات قمعية لضمان استمرارها، بدءاً من الفاشية في ثلاثينيات القرن الماضي وصولاً إلى اليوم.

  • تتجسد الفاشية الرأسمالية الحديثة في التوسع العسكري والهيمنة الاقتصادية، حيث تتحول الدول الضعيفة إلى ساحات مفتوحة لاستغلال الموارد والأسواق.

التطور التاريخي للرأسمالية

مرّت الرأسمالية بمراحل تاريخية معروفة. بدأت بالرأسمالية التنافسية مع هيمنة الطبقة البرجوازية بعد الثورة الصناعية التي انطلقت من بريطانيا بين القرنين 17 و18. وهذه الرأسمالية هي التي عاصرها ماركس وحلّلها بعمق في كتابه «رأس المال»، واعتبرها - بعد المشاعية والإقطاعية - المرحلة الثالثة من مراحل تطوّر المجتمع الغربي تأتي بعدها المرحلة الاشتراكية.

لم يتحقّق توقعه هذا، إذ واصلت الرأسمالية صعودها من التنافسية إلى المرحلة الإمبريالية، وهي مزيج من الاستغلال الاقتصادي والهيمنة السياسية التي تمارسها الدول الرأسمالية الكبرى على الدول النامية. وفي هذا النظام، يتم استغلال الموارد البشرية والطبيعية في الدول المستعمرة الضعيفة لصالح الشركات الرأسمالية الكبرى، ويُستخدم النفوذ السياسي والعسكري لضمان استمرار هذا الاستغلال. هذه المرحلة من الرأسمالية عاصرها لينين، زعيم الثورة البلشفية في روسيا، وحلّلها في كتابه «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية». ولكن تمكّنت الرأسمالية من تجديد نفسها وتخفيف أزماتها ولم تصبح الإمبريالية آخر مراحلها كما توقع لينين. فجاءت المرحلة الثالثة متداخلة مع الإمبريالية، وهي الرأسمالية الاحتكارية، بسيطرتها على الأسواق والأذواق عالمياً، وسمحت للفاشية والنازية أن تنمو وتزدهر بعد الثورات الاشتراكية في أوروبا. وأشعلت هذه الرأسمالية الحربين العالميتين بهدف إعادة توزيع ثروات وأراضي وبحار دول العالم لصالح الدول الرأسمالية الإمبريالية الكبرى - بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة - مع اضطرارها تقديم دول شمال أوروبا كدول الأطراف الهامشية للقوة الاشتراكية المتمثلة بدول الاتحاد السوفياتي وبقية دول معسكره الاشتراكي، بسبب مشاركتهم مع الحلفاء الرأسماليين في الحرب ضد ألمانيا النازية ودول المحور، أي إيطاليا واليابان وبقايا تركيا العثمانية.

خوفاً من عودة «الشبح» الاشتراكي واليساري من جديد، قرّرت الرأسمالية أن تكشف عن جوهرها الحقيقي المتمثل بالفاشية العسكرية والسياسية، فانتقلت من الرأسمالية الإمبريالية الاحتكارية إلى الرأسمالية الفاشية

أنسنت الرأسمالية نفسها بعد الحرب العالمية الثانية، بالاسترشاد بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية الناجحة التي نفّذت في المعسكر الاشتراكي، كالرعاية والحماية الاجتماعية للطبقات العاملة والفلاحين والفقراء. لذا انبثقت من الرأسمالية الليبرالية، فرع الرأسمالية الاجتماعية، حيث تظل «الأسواق حرّة» ولكن مع تدخلات حكومية لضمان المساواة والعدالة الاجتماعية. يقوم النظام على توفير «شبكة أمان اجتماعي» تشمل الرعاية الصحية والتعليم المجاني مع ضمان الحقوق العمالية. وفي هذه المرحلة كانت المدرسة الاقتصادية الكينزية هي المسيطرة على الاقتصاد الرأسمالي.

في نهايات الستينات من القرن العشرين، حاولت الرأسمالية أن تخلّص نفسها من أزماتها المالية والنقدية، فصعدت النيوليبرالية لتقود هذه الرأسمالية لغاية نهاية العقد الثاني من القرن الحالي. ومن أهم سمات النيوليبرالية خصخصة الشركات الحكومية، بما في ذلك القطاعات الأساسية مثل المواصلات والطاقة والصحة والتعليم لصالح الشركات الخاصة، وتقليص دور الدولة في الاقتصاد، حيث أصبحت السوق الحرّة هي المحرك الرئيسي للتنمية. ورافقت هذه المرحلة بروز «العولمة» كظاهرة اقتصادية، فتوسّعت الشركات عبر الحدود وأصبحت الأسواق الدولية مترابطة بشكل أكبر. أيضاً زادت التجارة الدولية، والاستثمار الأجنبي المباشر، والتركيز على رأس المال المالي وأصبح القطاع المالي أكثر قوة وتأثيراً من القطاعات الإنتاجية.

ومن أهم نتائج النيوليبرالية زيادة اللامساواة. اتسعت الفوارق الاقتصادية بين الدول وبين الطبقات الاجتماعية داخل الدول. وفي العقود الأخيرة ارتأى بعض الاقتصاديين أن الرأسمالية دخلت مرحلة جديدة من تطوّرها، وسُميت بـ«الرأسمالية الرقمية» و«الاقتصاد المعرفي»، وأصبحت «التكنولوجيا الرقمية» والإنترنت من المحرّكات الأساسية للاقتصاد العالمي. وأصبحت أهمية الشركات التي تعتمد على التكنولوجيا الرقمية مثل غوغل وأمازون وفايسبوك تتزايد، وأضحت تتحكم في البيانات والتجارة الإلكترونية. وأصبحت الشركات التي تمتلك التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وبالتالي تحتكر «المعرفة والابتكار» كمحركات أساسية للتنمية الاقتصادية هي الأهم. وأثبتت برامج وسياسات النيوليبرالية بأنها مدمّرة للكثير من اقتصاديات العالم، ومتوحشة بحق الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وفاشلة في إنقاذ الرأسمالية من أزماتها الجديدة التي كانت نتاجاً لتحوّلات الرأسمالية من الإنتاجية إلى سيادة المضاربات المالية والخدماتية والائتمانية. هذه الرأسمالية، التي أمست تتحكّم في مفاصلها الكارتلات العالمية حيث الـ1% من الأثرياء يسيطرون على الـ90% من ثروة العالم، أصبحت مهدّدة من دول بدأت تتحرّر من هيمنتها كالصين وروسيا. وخوفاً من عودة «الشبح» الاشتراكي واليساري من جديد، قرّرت الرأسمالية أن تكشف عن جوهرها الحقيقي المتمثل بالفاشية العسكرية والسياسية، فانتقلت من الرأسمالية الإمبريالية الاحتكارية إلى الرأسمالية الفاشية، وهي المرحلة الراهنة من مراحل الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة.

نظرية الفاشية الرأسمالية للازاراتو

تعميقاً في تحليل هذه المرحلة الجديدة من الرأسمالية، قام عالم الاجتماع الإيطالي، ماوريزيو لازاراتو، بالتنظير لسمات النظام العالمي الجديد بقيادة رأسمالية فاشية، حسب تعبيره، ونشر خلاصة فكرته في مقالٍ اعتبر فيه الحكومات التي سمّاها بـ«الذوات المهزومة»، لا يمكنها سوى الرضوخ للنيوليبرالية المتحالفة تحالفاً مقدساً مع الفاشية. ويقصد هنا جميع حكومات الدول التي رضخت - بعد مقاومة - لسيطرة النيوليبرالية الاقتصادية، وفرضت على بعضها مثل دول أميركا اللاتينية وبعض الدول الأوروبية مثل إيطاليا واليونان من خلال الانتقال العنيف من نظام سياسي-اقتصادي إلى آخر، مع تسريع هذه المرحلة الانتقالية باستخدام القوة العسكرية والأمنية. وبمجرد تحقيق النصر على الحكومات المقاومة للسياسات النيوليبرالية، جلس الاقتصاديون النيوليبراليون جنباً إلى جنب مع العسكريين الفاشيين الذين ترأسوا حكومات أميركا الجنوبية، فارضين معايير وسلوكيات جديدة، ترتكز على اقتصاد الديون والاستهلاك بالائتمان بدلاً من زيادة الأجور ودعم برامج الرعاية الاجتماعية.

يستعرض لازاراتو في مقاله، مسيرة الاقتصاد الرأسمالي على النحو التالي «لقد أُبيدت الليبرالية الكلاسيكية مع الحرب العالمية الأولى، لكن الرأسمالية واصلت إعادة إنتاج نفسها، متحالفة مع الفاشية والنازية التي بدأت تهيمن تدريجياً منذ الثلاثينيات القرن الماضي ولغاية هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية. اليوم، ماتت النيوليبرالية، لكن تستمرّ الرأسمالية عبر الصراعات والحروب الأهلية وتجديد تحالفاتها مع فاشيات جديدة، متخذة من عنف الإبادة الجماعية وجهاً لها».

اليوم، ماتت النيوليبرالية، لكن تستمرّ الرأسمالية عبر الصراعات والحروب الأهلية وتجديد تحالفاتها مع فاشيات جديدة، متخذة من عنف الإبادة الجماعية وجهاً لها

ويؤكد لازاراتو على نقطة في غاية الأهمية، وهي أن الجوهر السياسي والاجتماعي والإعلامي للنيوليبرالية الرأسمالية هو ذاته جوهر الفاشية، وأنها لا تؤمن في حقيقتها بمبادئ وقيم الديمقراطية والحرية والمساواة وحقوق الإنسان. ويؤكد «أن في الغرب الرأسمالي لم تقم الديمقراطية إلا لفترة قصيرة بفضل الصراع الطبقي وثورات القرن العشرين». ومع غياب هذه الثورات الوطنية التحرّرية، عاد الغرب إلى ما كان عليه «ديمقراطية لمالكي رأس المال ووسائل الإنتاج والأرض، وديمقراطية للحرب والإبادة الجماعية وديمقراطية للفاشيات». تخلق الرأسمالية الاحتكارية تطوراً يؤدي نحو «البربرية الفاشية»، وذلك عكس الرأسمالية التنافسية التي تطوّر نحو الديمقراطية السياسية والاقتصادية ذات الأبعاد الاجتماعية. إن أبرز سمات الفاشية التاريخية أنّها، على عكس الشيوعيين والثوريين، لا تحتاج إلى انتزاع السلطة، بل تُقدّمها لها الحكومات الرأسمالية المذعورة من أزماتها على طبق من فضّة. لقد أصبحت الفاشية والنازية عنصران لا غنى عنهما لوجود آلة الدولة-رأس المال واستمرارها.

سمات الفاشية الرأسمالية

تكثيفاً لرؤية عالم الاجتماع الإيطالي لازاراتو عن السمات الفاشية في الرأسمالية الراهنة، يمكن تحديدها في النقاط التالية.

أولاً؛ الفاشية الرأسمالية. وهو مصطلح يشير إلى التحالف بين الفاشية والرأسمالية، إذ يتم دمج أفكار النظام الفاشي لجهة «السلطة المركزية القوية» و«القومية الشديدة» أو «الشعبوية المتطرّفة»، مع «الاقتصاد الرأسمالي» النيوليبرالي، ولكن بتدخل قوي وفعّال من الدولة في تنظيم الاقتصاد لصالح الطبقات الحاكمة أو الشركات الكبرى.

ثانياً؛ في هذا النظام، يتم التحكّم في الاقتصاد من قبل «الدولة الفاشية» أو الطبقات الرأسمالية الكبرى. ولكن في إطار «الاستبداد السياسي» و«الرقابة القوية».

ثالثاً؛ في الفاشية الرأسمالية، تتعاون الحكومات التي تسيطر عليها الغالبية اليمينية المتطرّفة مع الشركات الكبرى لتحقيق «الهيمنة الاقتصادية والسياسية». ويمكن لهذا التعاون أن يتخذ أشكالاً مثل «التمويل الحكومي» للشركات الكبرى أو «العقود الحكومية» التي تضمن لها «الربح» و«التوسّع». وتستفيد هذه الشركات الكبرى من هذا الدعم الحكومي، بينما تقدّم الدولة الحماية السياسية والاقتصادية لهذه الشركات، مثل ضمان الاستقرار السياسي أو حماية السوق الداخلية من المنافسة الخارجية. وهذا هو برنامج الرئيس الأميركي الجديد مع المنافسين كالصين.

الحل المثالي في أوقات الكوارث الرأسمالية هو سيطرة الفاشيين: ينفّذ الفاشيون سياسات رأس المال كما الليبراليين، ولكن بحوكمة «غير ليبرالية»، أي بحوكمة قمعية

رابعاً؛ تتسم الفاشية الرأسمالية بـ«السلطة المركزية» و«الحكم الاستبدادي»، إذ يتم تقييد الحريات السياسية ويمارس القمع السياسي ضدّ المخالفين، كما تفرض رقابة شديدة على الإعلام والمجتمع، ويتم قمع أي نوع من الاحتجاجات الشعبية أو الانتقادات للنظام الحاكم.

خامساً؛ تروّج هذه الأنظمة لأيديولوجية «الاستعلاء الوطني»، حيث يتم تصوير «المواطنين» من «الأعراق أو الثقافات الأخرى» على إنهم أعداء أو تهديدات للأمة.

سادساً؛ تكون الفاشية الرأسمالية مرتبطة بـ «التوسّع العسكري» و«الهيمنة الخارجية» على الدول الضعيفة أو «الاستعمار الجديد». وقد يسعى إلى احتلال أراضٍ جديدة أو توسيع نفوذه في مناطق إستراتيجية، وذلك لتعزيز مصالحه الاقتصادية أو السياسية.

تطبيقات الفاشية الرأسمالية في أوروبا

بعد هذه المقدمة النظرية، ينتقل لازاراتو إلى تطبيقاتها في أوروبا. ويرى ما يحدث الآن بعد خسارة الليبرالية في الانتخابات الأوروبية، إذ بدأت آلة الدولة-رأس المال في إيصال الفاشيين إلى السلطة، كما فعل أسلافهم في ثلاثينيات القرن العشرين، قُبيل الحرب العالمية الثانية، لأنّ الحل المثالي في أوقات الكوارث الرأسمالية هو سيطرة الفاشيين: ينفّذ الفاشيون سياسات رأس المال كما الليبراليين، ولكن بحوكمة «غير ليبرالية»، أي بحوكمة قمعية، حتى بوجود دستور ومؤسسات ديمقراطية لتداول السلطة دورياً. على سبيل المثال، المواقف المزعومة المناهضة للنظام التي يروّج لها الفاشيون الإيطاليون، الذين هم بالفعل في السلطة، فما إنْ وصلوا إلى الحكم، حتى تخلّوا فوراً عن النزعة السيادية، ليصبحوا منفّذين مطيعين لأوامر أوروبا وخدماً للأطلسية، متعهّدين في الوقت ذاته ببيع «الوطن» لصناديق التقاعد الأميركية. هؤلاء الفاشيون، الوطنيون العظماء، يفتحون حدودهم لرأس المال «الأجنبي»، بينما يغلقونها أمام بضعة آلاف من المهاجرين أو يُرَحلونَهم إلى ألبانيا. وفي مقابل خدماتها المخلصة للسادة الأميركيين، نالت خادمتهم «ميلوني» مكافأتها من المجلس الأطلسي. ميلوني هي رئيسة الوزراء الحالية لإيطاليا منذ تشرين الأول/أكتوبر 2022، وعضوة في حزب «إخوان إيطاليا» اليميني القومي المتطرف. أيضاً عمدت الحكومة إلى خفض الموارد المخصّصة للرعاية الصحية والمدارس العامة، وعزّزت الاتجاه نحو خصخصة جميع الخدمات العامة، وهي السياسة ذاتها التي تتبعها الصناديق الأميركية. وقد أفقرت البلاد، وخصوصاً بعد نزع حقوق المتقاعدين، ومرّرت قوانين قمعية تحدّ من الإضرابات والمظاهرات، واعتبرت «المقاومة السلبية» (أسلوب الزعيم الهندي غاندي) جريمة يحاسب عليها بقانون. ولم تفرض أي ضرائب على الأرباح الهائلة للبنوك وشركات التأمين والشركات متعدّدة الجنسيات في قطاعي الطاقة والصيدلة أو عمالقة التكنولوجيا الرقمية. كما شجّعت التهرّب الضريبي المقنن، من خلال ما سُمي بـ«تحسين الضرائب»، الذي يُعد شرطاً أساسياً للرأسمالية المالية. هذا التحويل الهائل للثروة إلى جيوب أصحاب الأعمال استنزف الحسابات العامة. والآن يدعو الفاشيون الشعب، وخصوصاً الطبقات الفقيرة والمتقاعدين، إلى بذل «التضحيات»، «وتحمّل الضيم والفقر»، حتى نصل إلى برّ الأمان الاقتصادي.

في السياسة الاقتصادية والضريبية، يُظهر الفاشيون ليبرالية أكثر من الليبراليين أنفسهم. أما المجال الوحيد الذي يلتزمون فيه بوعودهم، فهو قمع كل أشكال المعارضة. وقد بدأ الدور - بعد إيطاليا - على فرنسا فترة تولي ماكرون الحكم، مقتنعاً بأنّ حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات عامة جديدة أفضل طريقة لتمهيد الطريق لسيطرة الفاشيين، هؤلاء الحلفاء «الأكثر من موثوقين». لكن الفاشيين خسروا، وكذلك خسر ماكرون، وتبيّن أنّ القوة السياسية الأولى لغاية الآن في فرنسا هي لليسار «الناعم»!. وعلى الفور رفض الرئيس الاعتراف بنتائج الانتخابات. وفي وضع يتسم بالهيمنة الأميركية على فرنسا، لا يُعتد إلا بالقوة، يصبح القيام بما تتطلّبه آلة الدولة-رأس المال أمراً ضرورياً. إن المعايير الديمقراطية معلّقة فعلياً وتخضع لإرادة «السيد» الديمقراطي ماكرون، الذي عيّن حكومة فيها تمثيل كامل لليمين، من الجمهوريين إلى الفاشيين، أي القوى التي خرجت مهزومة من الانتخابات. لم تتشكّل الحكومة إلا بسبب امتناع الفاشيين عن التصويت الذين يمسكون بزمامه ويفتخرون بذلك علناً. كان الطريق السياسي مفتوحاً أمام السلطة الفاشية، وكل ما كان ينقصها هو المسار الاقتصادي. وها هو: على الحكومة الجديدة تغطية العجز في الميزانية الذي تركته الحكومة السابقة، المكونة من المصرفيين، والتي أنفقت بسخاء المليارات من الأموال العامة على الشركات والأثرياء. أما الآن فيجب خفض الإنفاق العام بمقدار 60 مليار يورو، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بتطبيق سياسات التقشف. وهي السياسة نفسها التي فرضتها أوروبا «الكريمة» على اليونان.

إذا تمكنت الديمقراطية في الغرب الأوروبي والأميركي أن تنقذ القلة الرأسمالية المحتكرة عبر المساعدة والمساهمة في صعود الفاشية سدة الحكم. فهل الأنظمة العربية الفاشلة ستعلن فاشيتها علناً، بعد أن نفذتها فعلياً في العقود الماضية

لم تزدهر النازية بين الحربين بسبب التضخّم، كما تروّج الرواية الديمقراطية الألمانية، بل بسبب التقشف الذي فرضته أزمة العام 1929. باتت كل الشروط مهيأة لعودة الفاشيين الذين رفضهم «الشعب» في الانتخابات إلى السلطة في المستقبل القريب. هذه هي الديمقراطية الغربية الراهنة. والديمقراطية الأميركية لا تخرج عن هذا المسار بعد فوز ترامب.

ممارسة الفاشية الرأسمالية في فلسطين

الوضع الحالي للديمقراطيات الغربية هو الإيمان المطلق بممارسة «الحرب العادلة» و«الحرب الأهلية المعلنة أو الكامنة». يوضع الخصم خارج إطار القانون، كالدول التي بدأت تنافسهم في عقر مصالحهم مثل روسيا والصين. وتحت ذريعة التفوّق السياسي والأخلاقي لما يُسمّى بالديمقراطيات، بما في ذلك إسرائيل! يُجرَّم الأعداء إلى حد تحويلهم إلى «غير متحضرين» و«برابرة» و«متوحشين»، وهي تعريفات تحيي ذكريات الاستعمار. تتحوّل العداوة إلى عداوة مطلقة في «الإيمان الهستيري بالحق المُطلق». يُطبّق الإجراء الخطابي والسياسي نفسه على «العدو الداخلي» في حرب أهلية كامنة لكنها واضحة المعالم من خلال «التشهير القانوني والعام، والتمييز، وقوائم الحظر العلنية، أو السرّية، وإعلان شخص ما عدواً للدولة أو الشعب أو الإنسانية». بهدف قمع أي معارضة ولو ضئيلة تجاه الحرب مع روسيا أو الإبادة الجماعية للفلسطينيين. وحين لا تكفي الخطابات الإعلامية والسياسية، تتدخل الشرطة. يختصر الاستخدام المشين لتهمة معاداة السامية تعريف العدو اليوم. فمنذ بداية الحرب ضد روسيا، وبشكل أكبر مع الإبادة الجماعية التي أُطلِقت ضد الفلسطينيين — وهما لحظتان في المواجهة مع الجنوب العالمي — تُنفّذ «الحرب العادلة» والحرب الأهلية علناً ضد كل من يرفض الخضوع للعسكرة الجارية: «الشك في الحق الخاص خيانة؛ الاهتمام بحجة الخصم عدم ولاء؛ ومحاولة النقاش تصبح توافقاً مع العدو».

الأنظمة العربية والفاشية الرأسمالية

والآن، عند مقارنة جميع تلك السياسات الاقتصادية المتوحشة التي نفذتها «الديمقراطيات الغربية»، في أميركا اللاتينية وإيطاليا وفرنسا واليونان. وما مارسته في غزة والضفة الغربية من وحشية وبربرية، وأيضاً ما نفّذته الحكومات العربية على مجتمعاتها، التي أدّت إلى الآثار التدميرية الاقتصادية والاجتماعية نفسها، وإلى النتائج نفسها من عجوزات وديون فلكية، والمزيد من الفقر، وانتزاع حقوق المتقاعدين. والخطاب الإعلامي نفسه المستخدم في الغرب، مثل تقديم «التضحيات» من الشعب، وأن أي اعتراض على هذه السياسات يعتبر عدم الولاء وخيانة للوطن.

لذا، إذا تمكنت الديمقراطية في الغرب الأوروبي والأميركي أن تنقذ القلة الرأسمالية المحتكرة عبر المساعدة والمساهمة في صعود الفاشية سدة الحكم. فهل الأنظمة العربية الفاشلة ستعلن فاشيتها علناً، بعد أن نفذتها فعلياً في العقود الماضية، وتِقلد أسيادها، الرأسماليون الغربيون، في مجتمعاتنا في عصرنا الراهن؟