الفاشية
إن الأمة التي تَمزّقت بنيتها الاقتصادية والاجتماعية بشكل خطير نتيجة لحرب تقسيم إمبريالية، قد تدخل، في حالة فشل ثورة اشتراكية ناجحة، في فترة من التوازن الطبقي على أساس علاقات الإنتاج الرأسمالية. وفي ظل هذه الظروف، يؤدي تكثيف تناقضات الرأسمالية إلى أزمة داخلية حادّة لا يمكن «حلّها» باللجوء إلى الأساليب المعتادة للتوسّع الإمبريالي. وهذه، إذا جاز التعبير، هي التربة التي تتجذّر فيها الفاشية وتنمو.
لا ينبغي لنا أن نفترض أن الرأسماليين سعداء تماماً بصعود الفاشية. فلا شك أنهم يفضّلون حل مشكلاتهم بطريقتهم الخاصة إذا كان ذلك ممكناً. لكن عجزهم يجبرهم على تعزيز الفاشية، وعندما تصبح الظروف في النهاية غير محتملة بشكل عام وتلوح في الأفق حالة ثورية جديدة، يفتح الرأسماليون، من مواقعهم داخل قلعة السلطة الحكومية، الأبواب ويسمحون للجيوش الفاشية بالدخول.
إن إنجازات «الثورة» الفاشية هي إذاً تحطيم التوازن الطبقي القائم مسبقاً، وإقامة الدولة القوية، وإعداد الأمة لحرب جديدة لإعادة التقسيم. وبعيداً عن الإطاحة بالإمبريالية الرأسمالية، فإن الفاشية في الواقع تكشف عن جوهرها الاحتكاري العنيف والتوسّعي.
نُشرت هذه المادة في الأصل كفصل في كتاب «نظرية التطور الرأسمالي» لبول سويزي (مطبعة «منثلي ريفيو»، كانون الثاني/يناير 1942)، وأعيد نشرها في Monthly Review في 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2024. وتُرجمت إلى العربية ونُشِرت في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.
على نحو عام، يمكن القول إن الفاشية، كما هي موجودة في ألمانيا وإيطاليا، شكل من الأشكال التي تتّخذها الإمبريالية في عصر حروب إعادة التقسيم. وسوف نُخصّص الفصل الحالي لتوضيح هذه الثيمة على أساس نظرية الإمبريالية التي طرحناها في الصفحات السابقة.
1. ظروف الفاشية
تنشأ الفاشية في ظل ظروف تاريخية مُحدّدة هي بدورها نتاج لتأثير حروب إعادة التقسيم الإمبريالية على البنية الاقتصادية والاجتماعية للدول الرأسمالية المتقدّمة. ووفقاً للاستخدام العسكري والدبلوماسي، تُصنّف الدول المتحاربة في نهاية الحرب إلى فئتين، الدول المنتصرة والدول الخاسرة. ومع ذلك، فإن مدى الضرر الذي يلحق بالبنية الاجتماعية الداخلية لهذه الدول المتباينة يوفِّر أساساً أكثر أهمية للتصنيف. فوفقاً لمدى الضرر وشدّته، من الممكن ترتيب الدول في سلسلة تتراوح من تلك التي خرجت سالمة تقريباً أو حتى مُعزَّزة بالفعل إلى تلك التي تحطَّمت فيها البنية القائمة للعلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بالكامل. والدول التي تقف على الجانب المنتصر عادة ما تكون أقرب إلى القمّة، وتلك التي تقف على الجانب الخاسر أقرب إلى القاع، ولكن الارتباط بعيد كل البعد من الكمال.
ليس من السهل وضع معايير للحكم على مدى وشدّة الضرر الذي لَحِق ببلد ما نتيجة للحرب، ولكن لا شكَّ أن بعض الأعراض ذات الصلة يمكن التعرّف إليها على نطاق واسع باعتبارها مؤشرات: الندرة الشديدة في الغذاء وغيره من ضروريات الحياة، والانهيار الجزئي «للنظام العام»، والفوضى وضعف الانضباط وعدم الموثوقية في القوات المسلّحة، وفقدان الثقة من جانب الطبقة الحاكمة، وعدم مراعاة العادات الراسخة في التفكير والسلوك بين قطاعات واسعة من السكان. ومن المؤكد تقريباً أن مثل هذه الظروف من شأنها أن تؤدي إلى نشوء صراعات ثورية قد تنتهي إلى انتصار حاسم للثورة، والإطاحة بالبنية القائمة لعلاقات الملكية وإقامة الاشتراكية، أو إلى حالة من الجمود المؤقّت لا تتمكّن فيها أي من القوّتين الرئيستين المتنافستين، الطبقة العاملة أو الطبقة الرأسمالية، من تحقيق نصر حاسم، كما حدث في ألمانيا، وبصورة أقل وضوحاً في أجزاء أخرى من أوروبا الوسطى والشرقية في عامي 1918 و1919. والحالة الأخيرة هي التي تهمّنا هنا.
إن حقيقة توقّف الثورة قبل اكتمال الاشتراكية تُشكِّل، بمعنى حقيقي للغاية، مفتاح التطوّرات اللاحقة. ولعل أفضل وصف لما ينشأ عن هذه الثورة هو أنها حالة انتقالية من التوازن الطبقي ترتكز على أساس علاقات المِلكية الرأسمالية. ومن الناحية القانونية، يميل هذا التوازن بين القوى الطبقية إلى التعبير عن نفسه في شكل دولة ديمقراطية للغاية أطلق عليها أوتو باور اسم «جمهورية الشعب»1. تترك جمهورية الشعب هذه للرأسماليين السيطرة على الاقتصاد، ولكنها في الوقت نفسه تمنح الطبقة العاملة حصة في السلطة الحكومية والحرية في التنظيم والتحريض من أجل تحقيق أهدافها الخاصة. لا تتغيّر كوادر جهاز الدولة إلى حدّ كبير، ولكن ضعف وعدم موثوقية القوات المسلّحة الموجودة تحت تصرّف الدولة يجبران الرأسماليين على اتباع سياسة المماطلة والتسوية.
يرى الليبراليون في تقاسم السلطة في الدولة والتسويات الناجمة بالضرورة عن ذلك عربوناً على التعاون الطبقي وتخفيفاً للصراع الاجتماعي، ويعتقد التحريفيون أن جمهورية الشعب ليست سوى حجر عثرة في طريق تحقيق الاشتراكية تدريجياً. وكثيراً ما تُتَجَاهل حقيقة تصاعد العداء الطبقي وراء التوازن المؤقّت للقوى
يثير الطابع الديمقراطي لجمهورية الشعب مجموعة متنوّعة من الأوهام. يرى الليبراليون في تقاسم السلطة في الدولة والتسويات الناجمة بالضرورة عن ذلك عربوناً على التعاون الطبقي وتخفيفاً للصراع الاجتماعي، ويعتقد التحريفيون أن جمهورية الشعب ليست سوى حجر عثرة في طريق تحقيق الاشتراكية تدريجياً. وكثيراً ما تُتَجَاهل حقيقة تصاعد العداء الطبقي وراء التوازن المؤقّت للقوى. لكن هذه التشخيصات المتفائلة سرعان ما تفقد مصداقيتها بفعل الأحداث. ولا شيء يثبت بوضوح الطابع غير المستقر وغير الدائم لجمهورية الشعب مثل عجزها عن تحسين تناقضات الإنتاج الرأسمالي. إذ تتفاقم هذه التناقضات بدلاً من القضاء عليها. فالمكاسب التي حقّقتها النقابات العمالية التي أصبحت أقوى بشكل كبير والتشريعات الاجتماعية التي سُنّت بضغط من الطبقة العاملة تفرض أعباء على الإنتاج الرأسمالي غير المجهّز وغير المستعد لتحمّلها. ويواجه رأس المال الكبير هذا الوضع بطريقتين. أولاً، من خلال تشديد منظّماته الاحتكارية والضغط على الطبقات المتوسطة. والطبقات المتوسطة، التي أفقرتها الحرب وما تلاها من اختلال في الحياة الاقتصادية في شكل تضخّم أثقل كاهل أصحاب المدخرات الصغيرة الذين لا يملكون أي منظمات تحميهم، تجد الآن أن وضعها اليائس لم يتحسّن إلا قليلاً بعودة «النظام العام»، وأن أبنائها أصبحوا في الواقع أيتام جمهورية الشعب. ثانياً، يشرع الرأسماليون في حملة مكثفة من «العقلنة»، أي استبدال قوة العمل بالآلات وتكثيف ظروف العمل، الأمر الذي من عواقبه تضخّم صفوف جيش الاحتياط. من المؤكد أن تعويض الدمار الاقتصادي والهدر الذي خلفته فترة الحرب يوفر الأساس لانتعاش كبير في النشاط الاقتصادي، وهو الانتعاش الذي شجّعه ودعمه في كل مكان تقريباً في أوروبا في خلال عشرينيات القرن العشرين استيراد رأس المال من الولايات المتحدة. ولفترة من الوقت ينفصل إنتاج وسائل الإنتاج عن اعتماده على سوق السلع الاستهلاكية، ولكن لفترة قصيرة فقط. وبمجرد إعادة بناء الآلية الإنتاجية بشكل جوهري، يتبيّن لنا أن الطلب على السلع الاستهلاكية، الذي تقلّص بفعل إفقار الطبقات المتوسّطة والبطالة التكنولوجية بين العمّال، غير كاف لدعم مستويات عالية من النشاط الاقتصادي. ويصبح من غير الممكن تجنّب الأزمة التي يتبعها انحدار حادّ في الإنتاج والعمالة.
ومن وجهة نظر الإنتاج الرأسمالي، يمكن تخفيف مثل هذه الأزمة أو التغلّب عليها من خلال الأسلوب الإمبريالي الطبيعي للتوسّع في الخارج. لكن البلدان التي أضعفتها الحرب السابقة بشدّة هي على وجه التحديد البلدان التي لديها أقل الفرص لاتباع هذا المسار. فقد انتزعت منها مستعمراتها، وأصبحت قوتها العسكرية مستنفدة إلى الحد الذي يجعلها عاجزة عن متابعة سياسة خارجية عدوانية. فضلاً عن ذلك فإن النفوذ السياسي للطبقة العاملة في ظل جمهورية الشعب يعارض بكل تأكيد الشروع في مغامرات إمبريالية جديدة. ولقد تأثر هيلفردينغ بهذا الوضع إلى الحدّ الذي جعله يعتبر التوسّع الإمبريالي شيئاً من الماضي تقريباً، وذلك في كتاباته التي كتبها في العام 1931، وفي ضوء التجربة الألمانية الحديثة. وكما كتب، «فإن السيطرة القوية على السياسة الخارجية في البلدان الديمقراطية هي التي تحدّ بدرجة غير عادية من قدرة رأس المال المالي على التحكّم في سلطة الدولة»2. وكان هذا صحيحاً بدرجة كافية في وقت كتابته، ولكن من المؤسف أن هيلفردينغ لم يعد قادراً، كما كان من قبل، على استخلاص استنتاجات من تحليله الخاص.
يمكن تلخيص حجة هذا القسم بإيجاز على النحو التالي: إن الأمة التي تَمزّقت بنيتها الاقتصادية والاجتماعية بشكل خطير نتيجة لحرب تقسيم إمبريالية، قد تدخل، في حالة فشل ثورة اشتراكية ناجحة، في فترة من التوازن الطبقي على أساس علاقات الإنتاج الرأسمالية. وفي ظل هذه الظروف، يؤدي تكثيف تناقضات الرأسمالية إلى أزمة داخلية حادّة لا يمكن «حلّها» باللجوء إلى الأساليب المعتادة للتوسّع الإمبريالي. وهذه، إذا جاز التعبير، هي التربة التي تتجذّر فيها الفاشية وتنمو.
2. صعود الفاشية إلى السلطة
إن أصول الفاشية وقاعدتها الجماهيرية تكمن في الطبقات المتوسطة، التي تشكّل قسماً كبيراً من سكان البلدان الرأسمالية في فترة الرأسمالية الاحتكارية. وقد أشار لينين بوضوح شديد إلى خصائص نفسية الطبقة المتوسطة التي تعمل في ظل الظروف المناسبة على تعزيز وتشجيع نمو الحركة الفاشية:
«بالنسبة إلى الماركسيين، من الثابت نظرياً - وقد أكّدت ذلك تماماً تجربة كل الثورات والحركات الثورية الأوروبية - أن المالك الصغير (وهو نوع اجتماعي مُمثّل على نطاق واسع في الكثير من البلدان الأوروبية)، الذي يعاني في ظل الرأسمالية من القمع المستمر والتدهور الحاد والسريع للغاية في ظروف الحياة، بل وحتى الضياع، يصبح بسهولة ثورياً للغاية، ولكنه غير قادر على إظهار المثابرة والقدرة على التنظيم والانضباط والحزم. إن البرجوازي الصغير، «الغاضب» من أهوال الرأسمالية، هو ظاهرة اجتماعية تشبه الفوضوية، وسمة مميزة لجميع البلدان الرأسمالية. إن عدم استقرار مثل هذه النزعة الثورية، وعُقمها، وقدرتها على التحوّل بسرعة إلى خضوع، ولامبالاة، وخيال، وحتى إلى هوس «جنوني» بـ«موضة» برجوازية أو أخرى - كل هذا أمر معروف للجميع»3.
إن ما يقوله لينين عن أصحاب الملكيات الصغيرة ينطبق بدرجات متفاوتة على قطاعات واسعة من الطبقة المتوسطة. فهذه الفئات بالذات هي التي تتأثر بشكل كارثي في خلال فترة رأسمالية التوازن الطبقي التي قد تلي حرب تقسيم فاشلة. وهي تشكّل جوهر الدعم الشعبي للفاشية. وبمجرد أن تبدأ الحركة في إحراز تقدم، تنجذب إليها عناصر أخرى من السكان، وإن لم يكن ذلك دائماً للأسباب نفسها، وتشمل هذه العناصر مجموعات معيّنة من العمال غير المنظّمين، والمزارعين المستقلّين، وجزء من جيش العاطلين عن العمل، والعناصر المنبوذة والمجرمين (ما يُسمّى بالبروليتاريا الرثة)، والشباب من جميع الطبقات الذين يرون في المستقبل فرصاً ضئيلة لحياة مهنية طبيعية.
إن أيديولوجيا الفاشية وبرنامجها يعكسان الوضع الاجتماعي للطبقة المتوسطة، وفي هذا الصدد ليسا سوى تكثيف للمواقف التي ثبت بالفعل أنها من سمات الإمبريالية4. إن المكوّنات الرئيسة لها طابع سلبي، ألا وهو العداء للعمالة المنظمة من ناحية، ورأس المال الاحتكاري من ناحية أخرى. وعلى الجانب الإيجابي، تعوض الطبقة المتوسطة عن افتقارها إلى المصالح الطبقية المشتركة والقواعد التنظيمية المتينة من خلال تمجيد الأمة و«العرق» الذي تنتمي إليه. ويُلام الأجانب والأقليات العرقية على المصائب التي تُفهم طبيعتها5. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، فإن برنامج الفاشية عبارة عن مجموعة من المقترحات غير المهضومة والمتناقضة في كثير من الأحيان والتي تتميز بشكل أساسي بطابعها الديماغوجي الواضح. ونادراً ما يكون أي من هذه المقترحات جديداً أو أصيلاً؛ فقد ظهرت هذه المقترحات وعادت إلى الظهور من دون استثناء تقريباً في فترات سابقة من البؤس الاجتماعي. إن ما يعطي الفاشية التماسك والحيوية هو تأكيدها على القومية، ومطالبتها باستعادة سلطة الدولة القوية، ودعوتها إلى حرب انتقامية وغزو أجنبي. وهذا هو ما يوفر الأساس المتين للتقارب بين الفاشية والطبقة الرأسمالية.
إن ما يعطي الفاشية التماسك والحيوية هو تأكيدها على القومية، ومطالبتها باستعادة سلطة الدولة القوية، ودعوتها إلى حرب انتقامية وغزو أجنبي. وهذا هو ما يوفر الأساس المتين للتقارب بين الفاشية والطبقة الرأسمالية
إن موقف الرأسماليين تجاه الفاشية في البداية هو موقف تحفظ وشك؛ فهم لا يثقون بها بشكل خاص بسبب هجماتها التطرفيّة على رأس المال المالي. لكن مع انتشار الحركة واكتسابها للدعم الشعبي، يخضع موقف الرأسماليين لتحوّل تدريجي. إن موقفهم صعب، إذ يقعون بين مطالب الطبقة العاملة المنظمة و«تطويق» القوى الرأسمالية المنافسة. وعادة في ظل مثل هذه الظروف، تستخدم الطبقة الرأسمالية سلطة الدولة لكبح جماح العمّال وتحسين موقفها الدولي، ولكن هذا المسار لم يعد مفتوحاً لها الآن. فالدولة ضعيفة والعمال يشاركون في سيطرتها. وبالتالي، بمجرد أن تثبت الفاشية حقّها في أن تؤخذ على محمل الجد، فإنها تصبح بمثابة حليف ثمين محتمل ضد ألد أعداء الرأسمالية، عمّال بلادهم ورأسماليي البلدان الأجنبية؛ ذلك أن صدق كراهية الفاشية للعمال والأجانب أمر لا يقبل الشك. ومن خلال التحالف مع الفاشية، تأمل الطبقة الرأسمالية في إعادة تأسيس الدولة القوية، وإخضاع الطبقة العاملة، وتوسيع «مساحة معيشتها» الحيوية على حساب القوى الإمبريالية المنافسة. وهذا هو السبب وراء الإعانات المالية التي يدعم بها الرأسماليون الحركة الفاشية، وربما الأهمّ من ذلك التسامح الذي يبديه موظّفو الدولة الخاضعون لسيطرة الرأسمالية في التعامل مع الأساليب العنيفة وغير القانونية للفاشية.
لا ينبغي لنا أن نفترض أن الرأسماليين سعداء تماماً بصعود الفاشية. فلا شك أنهم يفضّلون حل مشكلاتهم بطريقتهم الخاصة إذا كان ذلك ممكناً. لكن عجزهم يجبرهم على تعزيز الفاشية، وعندما تصبح الظروف في النهاية غير محتملة بشكل عام وتلوح في الأفق حالة ثورية جديدة، يفتح الرأسماليون، من مواقعهم داخل قلعة السلطة الحكومية، الأبواب ويسمحون للجيوش الفاشية بالدخول.
3. «الثورة» الفاشية
بمجرد وصولها إلى السلطة، تنطلق الفاشية بقوة لا هوادة فيها لتدمير التوازن الطبقي الذي يكمن وراء التردّد والشلل في جمهورية الشعب. تتلقّى النقابات العمالية والأحزاب السياسية للطبقة العاملة الضربات الأولى والأكثر قسوة. تُسحَق منظماتها ويُقتل قادتها أو يُسجنوا أو يُطردوا إلى المنافي. بعد ذلك يأتي إنشاء الدولة القوية. وأخيراً، بعد القيام بهذه المقّدمات الضرورية، الانطلاق إلى الاستعدادات الكاملة لحرب تقسيم جديدة. إن هذه الخطوات الثلاث تتضمن ما يسمّى عادة بـ«الثورة» الفاشية.
إن بناء سلطة الدولة في حدّ ذاته عملية معقّدة تتضمّن حتماً التخلّص من البرنامج الراديكالي للطبقة المتوسطة الذي صعدت الفاشية على أساسه إلى السلطة. وسواء كان هذا خياراً متعمّداً من جانب الزعماء الفاشيين أم لا، فهذه مسألة لا داعي أصلاً لطرحها. إن البرنامج الفاشي متناقض مع ذاته ولا يأخذ في الاعتبار الطبيعة الحقيقية للقوانين الاقتصادية، وسوف يلقى معارضة شديدة من جانب كل العناصر القوية في الطبقة الرأسمالية. ومحاولة تطبيقه عملياً من شأنها أن تؤدّي إلى كارثة وربما تجعل تحقيق أحلام الغزو الأجنبي التي تشكل جوهر الأيديولوجيا الفاشية مستحيلاً إلى الأبد. لا تستطيع الفاشية أن تتحمّل عداء الرأسماليين، بل إنها تتطلب تعاونهم الكامل، لأنهم يحتلون المواقع الاستراتيجية في الاقتصاد ويمتلكون التدريب والخبرة اللازمين لتشغيله. يرحّب الرأسماليون من جانبهم بتحطيم القوة المنظمة للطبقة العاملة ويتطلّعون بحماسة إلى استئناف سياسة التوسع الأجنبي. وبالتالي فإن إعادة بناء سلطة الدولة تتم على أساس تحالف أوثق بين الفاشية ورأس المال، خصوصاً رأس المال الاحتكاري في الصناعات الثقيلة ذات الأهمية القصوى.
يحدث «تداخل» بين القيادة الفاشية العليا والدوائر المهيمنة لرأس المال الاحتكاري، ما يؤدي إلى إنشاء أوليغارشية حاكمة جديدة تتصرّف بطريقة منسقة نحو السلطة الاقتصادية والسياسية
على الصعيد السياسي، يتطلّب إنشاء الدولة القوية التخلّص من أدوات الأحزاب السياسية الملائمة للديمقراطية البرلمانية. ولكن هذا ليس كل شيء. فالعناصر المتطرّفة داخل الحزب الفاشي نفسه تشعر بالاستياء الشديد إزاء ما لا يمكنهم اعتباره إلا خيانة للبرنامج الفاشي للإصلاح الاجتماعي، وهم يضغطون بإصرار من أجل «ثورة ثانية». وفي مواجهة الأزمة المتنامية داخل صفوف الفاشية، يتم تطهير الزعماء المنشقين ودمج الجيوش الفاشية الخاصة في القوات المسلّحة النظامية للدولة. ومنذ الآن فصاعداً يفقد الحزب الفاشي أهمّيته المستقلّة ويصبح في الواقع مجرد ملحق لجهاز الدولة. إن الفاشية من خلال هذه الأفعال تنقل قاعدتها الاجتماعية بشكل نهائي لا رجعة فيه من الطبقات المتوسطة إلى رأس المال الاحتكاري. والآن يحدث «تداخل» بين القيادة الفاشية العليا والدوائر المهيمنة لرأس المال الاحتكاري، ما يؤدي إلى إنشاء أوليغارشية حاكمة جديدة تتصرّف بطريقة منسقة نحو السلطة الاقتصادية والسياسية. ومن الآن فصاعداً تُوجّه كل طاقات الأمة نحو إعادة التسلح، وتخضع جميع الاعتبارات الأخرى للسياسة الاقتصادية والاجتماعية للهدف الأساسي المتمثل في شن حرب إمبريالية جديدة لإعادة التقسيم والفوز بها.
إن إنجازات «الثورة» الفاشية هي إذاً تحطيم التوازن الطبقي القائم مسبقاً، وإقامة الدولة القوية، وإعداد الأمة لحرب جديدة لإعادة التقسيم. وبعيداً عن الإطاحة بالإمبريالية الرأسمالية، فإن الفاشية في الواقع تكشف عن جوهرها الاحتكاري العنيف والتوسّعي.
4. الطبقة الحاكمة في ظل الفاشية
ظهرت نظريات كثيرة عن الفاشية تُفسّرها باعتبارها نظاماً اجتماعياً جديداً لا يتسم بالطابع الرأسمالي ولا الاشتراكي في الأساس، وقد يكون من المناسب أن نصيغ موقفنا الخاص تجاه هذه المشكلة بشكل أكثر وضوحاً6. عادة ما تعترف النظريات المعنية بأن الفاشية احتفظت بأشكال الرأسمالية، ولكنها ترى أن هذه الأشكال لا تعني سوى ستاراً تستولي من خلاله طبقة حاكمة جديدة على الضوابط الحقيقية وتتلاعب بها لتحقيق غاياتها الخاصة. وعادة ما يُترَك تحديد هذه الغايات غامضاً إلى حدّ ما، ولكن ربما لا يكون من غير الدقيق أن نقول إن معظم الكتاب يتصوّرونها من حيث مصطلحات السلطة. ففي سعيها إلى السلطة، تتجاهل الطبقة الحاكمة الفاشية «قواعد اللعبة الرأسمالية»، وبالتالي فإن الفاشية مجتمع جديد لا يطيع القوانين ولا يعاني من تناقضات الرأسمالية. يتطلب الاستكشاف الكامل لهذه الأطروحة، بطبيعة الحال، تحليل المجتمعات الفاشية الملموسة، وهو الأمر الذي لا يمكن محاولة القيام به هنا7. لكن قد يكون من المفيد اختبار مفهوم «الطبقة الحاكمة» الفاشية الجديدة في ضوء نظرية الرأسمالية التي طرحها هذا الكتاب.
إن الانتماء الطبقي ليس مسألة أصول اجتماعية. فمن يولد في الطبقة العاملة يمكن أن يصبح رأسمالياً والعكس صحيح. إن الأصول الاجتماعية المشتركة مهمة لتفكير وتماسك الطبقة، لكنها لا تُحدِّد تركيبتها. هذه مسألة تتعلق بالمكانة التي يشغلها الأفراد بالفعل في المجتمع، أي علاقاتهم بالآخرين والمجتمع ككل. وبالنسبة إلى الماركسية، هذا يعني في المقام الأول المكانة في بنية العلاقات الاقتصادية التي تهيمن على مجموع العلاقات الاجتماعية. ومن خلال هذا المسار نصل إلى تعريف الطبقة الحاكمة على أنها تضم هؤلاء الأشخاص الذين يمارسون السيطرة على وسائل الإنتاج بشكل فردي أو مجتمعين.
إن هذا التعريف عام ولا يمكن الاعتراض عليه إلى حد ما، ولكن من المهم أن ندرك أنه لا يذهب إلى أبعد من ذلك وأن تطبيقه غير النقدي قد يكون مضللاً. وفي حين أنه من الصحيح أن الطبقة الحاكمة تتكون من أولئك الذين يسيطرون على وسائل الإنتاج، فإن العكس ليس صحيحاً بالضرورة. فالسيطرة على وسائل الإنتاج ليست مرادفة بأي حال من الأحوال لاستغلال جزء من المجتمع من قِبل جزء آخر. وإذا لم تكن علاقة الاستغلال موجودة، فإن مفهوم الطبقة الحاكمة لا ينطبق؛ ويُقال إن المجتمع بلا طبقات. والمثال الأكثر وضوحاً لمجتمع بلا طبقات يقدّمه ما أسماه ماركس «إنتاج السلع البسيط» حيث يمتلك كل منتج وسائل إنتاجه الخاصة ويعمل بها. وعلاوة على ذلك، وبسبب طبيعته كتعريف عام ينطبق بالتساوي على جميع المجتمعات الطبقية، فإن التعريف المعني لا يُقدِّم أي دليل على الاختلافات بينها وبالتالي لا يُقدِّم أي معايير للتمييز بين طبقة حاكمة وأخرى. ولنضع المشكلة بشكل تقريبي: لنفترض أن مجموعة جديدة من الأفراد اكتسبت السيطرة على وسائل الإنتاج. هل هي طبقة حاكمة جديدة أم مجرد أفراد جدد للطبقة الحاكمة القديمة؟ لا يساعدنا التعريف العام في الإجابة على هذا السؤال.
ينبغي أن يحذرنا هذا المثال من استحالة التعامل مع مشكلة الطبقة الحاكمة باعتبارها مشكلة مجردة للمجتمع بشكل عام. لابد أن نكون محدّدين تاريخياً إذا أردنا أن نجعل من هذا المفهوم أداة مفيدة للتحليل الاجتماعي. وهذا يعني أنه في حالة كلّ طبقة حاكمة بعينها لا بد أن نُحدِّد بعناية طبيعة العلاقات الاجتماعية التي تحتل فيها هذه الطبقة موقعاً مهيمناً، وشكل السيطرة التي تمارسها على وسائل الإنتاج. وهذه العوامل وحدها هي التي تُحدِّد دوافع وأهداف الطبقة الحاكمة. وعلى هذا النحو نستطيع أن نميز بين الطبقات الحاكمة. باختصار، سوف نتوصل إلى طريقة لفصل الثورات الاجتماعية الحقيقية (التحوّلات في حكم الطبقة) عن مجرد استبدال وجوه جديدة لوجوه قديمة، على نحو أكثر أو أقل شمولاً.
ولنطبق الآن هذه الاعتبارات على حالة الرأسمالية. فهنا نجد فئتين أساسيتين، بعيداً من المجموعات الوسيطة وبقايا الأشكال الاجتماعية السابقة، ألا وهما الرأسماليون الذين يمتلكون وسائل الإنتاج، وطبقة العمّال الأجراء الأحرار الذين لا يملكون شيئاً سوى قدرتهم على العمل. ولا يمكن المبالغة في التأكيد على أهمية شكل السيطرة الذي يُمارس على وسائل الإنتاج. هذا الشكل هو ملكية رأس المال، والتي تستمدّ الرأسمالية تسميتها منها بطبيعة الحال، وعلى هذا فإن الاستغلال يتّخذ شكل إنتاج فائض القيمة. إن «رأس المال» ليس مجرّد اسم آخر لوسائل الإنتاج، بل هو وسائل الإنتاج وقد اختُزِلَت في صندوق متجانس نوعياً وقابل للقياس كمياً من القيمة. لا يهتم الرأسمالي بوسائل الإنتاج بحد ذاتها، بل برأس المال، وهذا يعني بالضرورة أن رأس المال يُنظَر إليه باعتباره كمية، لأن رأس المال لا يمتلك سوى بعداً واحداً وهو بعد الحجم.
إن توسّع رأس المال ليس هدفاً يتمتع الرأسماليون بحرية اتخاذه أو عدم اتخاذه كما يحلو لهم، بل يتعين عليهم أن يسعوا إلى تحقيقه مخافة الإقصاء من الطبقة الحاكمة. وينطبق هذا على حد سواء على المالكين الفعليين لرأس المال وعلى أولئك الذين «يديرون» رأس المال
رأينا في الفصول السابقة أن اهتمام الرأسمالي بكمية رأس المال يترتب عليه أن يصبح توسّع رأس المال هدفه الأساسي والمهيمن. إن مكانته الاجتماعية تتحدّد - ولا يمكن أن تحدّد إلا - بكمية رأس المال الخاضعة لسيطرته. وعلاوة على ذلك، حتى لو كان الرأسمالي كفرد راضياً بـ«الحفاظ على رأس ماله سليماً»، من دون زيادة، فإنه لا يستطيع أن يسعى إلى تحقيق هذه الغاية عقلانياً إلا من خلال السعي إلى التوسّع. فرأس المال يميل «بشكل طبيعي» إلى الانكماش - وتعمل قوى المنافسة والتغير التكنولوجي بالكامل في هذا الاتجاه - ولا يمكن هزيمة هذا الاتجاه إلا من خلال جهد مستمر للتوسُّع. إن القيمة الزائدة في الأساس هي زيادة في رأس المال، وحقيقة أن الرأسمالي يستهلك جزءاً من دخله هي ظاهرة ثانوية.
وعلى هذا فإن توسّع رأس المال ليس هدفاً يتمتع الرأسماليون بحرية اتخاذه أو عدم اتخاذه كما يحلو لهم، بل يتعين عليهم أن يسعوا إلى تحقيقه مخافة الإقصاء من الطبقة الحاكمة. وينطبق هذا على حد سواء على المالكين الفعليين لرأس المال وعلى أولئك الذين، على الرغم من أنهم ليسوا هم أنفسهم مالكين جوهريين، «يديرون» رأس المال، كما يحدث في كثير من الأحيان في الشركات الكبرى الحديثة. إن أياً منهما ليس فاعلاً حراً بأي حال من الأحوال. فالطبقة الحاكمة في ظل الرأسمالية تتألَّف من موظفي رأس المال، أولئك الذين تُحدّد لهم دوافعهم وأهدافهم من قِبل الشكل التاريخي المحدّد لسيطرتهم على وسائل الإنتاج. وهذا هو ما دفع ماركس إلى التعليق في مقدمة الطبعة الأولى من «رأس المال» قائلاً: «إن وجهة نظري، التي ترى أن تطوّر التكوين الاقتصادي للمجتمع هو عملية تاريخية طبيعية، لا يمكنها أن تجعل الفرد مسؤولاً عن علاقات هو نفسه نتيجتها من الناحية الاجتماعية، مهما كان بإمكانه أن يرفع نفسه فوقها من الناحية الذاتية».
يساعدنا هذا التحليل في حل مشكلة الطبقة الحاكمة في ظل الفاشية. كما رأينا، فإن أشكال الرأسمالية تكون مُصانة: فوسائل الإنتاج تحتفظ بشكل رأس المال، ويستمر الاستغلال في اتخاذ شكل إنتاج فائض القيمة. وبالتالي فإن الطبقة الحاكمة لا تزال هي الطبقة الرأسمالية. لكن أفرادها يتغيرون إلى حد ما. على سبيل المثال، قد تُصادَر ممتلكات الرأسماليين اليهود، وقد يستخدم الكثير من القادة الفاشيين سلطتهم السياسية للحصول على مناصب مهمة في الصناعة. لكن هؤلاء الأعضاء الجدد في الطبقة الحاكمة لا يحملون معهم مجموعة جديدة من الدوافع والأهداف التي تتعارض مع وجهة نظر الرأسماليين القائمين. بل على العكس من ذلك، فإنهم سرعان ما يتبنّون الدوافع والأهداف التي تنبع حتماً من المركز الذي يحتلّونه في المجتمع. إنهم الآن مسؤولون أمام رأس المال، ومثلهم مثل أي شخص آخر في هذا المركز، يتعيّن عليهم أن يجتهدوا في الحفاظ عليه وتوسيعه. ولكنهم، كما هي الحال مع كل المحدَثين، يبذلون في مهمّتهم طاقة أكبر وشكوكاً أقل مقارنة بأولئك الذين اعتادوا، بحكم التدريب والتقاليد، على الوفاء بالالتزامات المفروضة على موظفي رأس المال.
يُشكِّل ضخ دماء جديدة في صفوف الطبقة الرأسمالية نتيجة بالغة الأهمية لانتصار الفاشية. وهناك نتيجة أخرى لا تقلّ أهمية، وهي استيعاب أجهزة رأس المال الاحتكاري على نحو متزايد في جهاز الدولة. تُصبح غُرَف التجارة، وجمعيات أصحاب العمل، واتحادات المنتِجين، وغيرها من الهيئات المماثلة إلزامية، وتخضع مباشرة لسلطة الدولة. كما تُنسّق أنشطتها بدورها من خلال سلسلة هرمية من المجالس واللجان، التي تؤدي إلى الوزارات الحكومية الموجودة في القمة. وفي كل مرحلة يتم اختيار المسؤولين والخبراء في المقام الأول من بين الموظفين ذوي الخبرة في الصناعة والشؤون المالية، مع إضافة الكثير من الذين برزوا من خلال نشاطهم السياسي في الحركة الفاشية. وهنا تبلغ الاتجاهات المتأصلة في الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية ذروتها، حيث تلتقي الوظائف الاقتصادية المتوسِّعة للدولة ومركزية رأس المال فيما يمكن وصفه بالزواج الرسمي بين الدولة ورأس المال الاحتكاري. فالقنوات المنفصلة التي تمارس من خلالها الطبقة الحاكمة السلطة الاقتصادية والسياسية في الديمقراطية البرلمانية تندمج في قناة واحدة في ظل الفاشية.
من المهم ألا نسيء فهم طبيعة وأهمية هذه العملية. ولابد من التأكيد على أن ما يحدث ليس توحيداً عضوياً لكل رأس المال في صندوق ضخم واحد ـ ما يُطلق عليه هيلفردينغ «الكارتِل العام»8 ـ مع الحكومة، إذا جاز التعبير، بوصفها مجلس الإدارة. بل يظل رأس المال مقسّماً إلى وحدات تنظيمية متميزة تتخذ في أغلبها الشكل الشركاتي. ويشكل أولئك الذين يهيمنون على أكبر الشركات الأوليغارشية الحاكمة، في حين يحتل أولئك المرتبطون بوحدات أصغر من رأس المال مكانة أدنى في التسلسل الهرمي الاقتصادي والاجتماعي. وعلاوة على ذلك فإن وضع الفرد داخل الأوليغارشية الحاكمة ذاتها يتناسب تقريباً مع حجم رأس المال الذي يمثله، تماماً كما هو الحال في المجتمع الإقطاعي، على سبيل المثال، حيث يتفوق اللوردات الذين يمتلكون أكبر الممتلكات على منافسيهم الأقل شأناً. ولهذا السبب فإن الرغبة في التوسّع الذاتي تظل قوية كما كانت دائماً في القطاعات المنفصلة من رأس المال. وهناك أربع طرق للتوسّع متاحة للوحدات الأكبر من رأس المال الاحتكاري: التراكم الداخلي، وامتصاص رؤوس الأموال الأصغر، والتوسُّع في الخارج، والتوسُّع على حساب بعضها البعض. والطريقة الأخيرة، إذا ما مورست إلى أقصى حد، قد تضعف رأس المال الاحتكاري ككل بشكل خطير، وبالتالي يجب أن تظل تحت سيطرة صارمة إلى حد ما من جانب الأوليغارشية الحاكمة، لكن لا ينطبق مثل هذا الاعتراض على الطرق الثلاث الأولى. ونتيجة لهذا فإن الشركات الكبرى تعيد استثمار أرباحها، وتتنافس مع بعضها البعض في التهام رؤوس الأموال الصغيرة، وتستخدم الدولة بطرق متنوعة لتوسيع «مساحة معيشتها» على حساب الدول الأجنبية. وكل شركة منها تأمل من خلال الاستغلال الماهر للفرص المتاحة لها أن تعزز أهميتها النسبية وقوتها من دون أن تتورّط في صراع مكلف وربما حتى انتحاري مع منافسيها. وبالتالي فإن الحاجة الملحة إلى سياسة موحدة ضد الجماهير في الداخل وضد العالم الخارجي لا تمنع الرأسماليين الاحتكاريين من مواصلة حملة مستمرة، وإن كانت غير ملحوظة إلى حد كبير، من أجل التوسُّع والترقي في إطار الاقتصاد الفاشي.
في وقت ما، اعتقدت أن الفاشية يمكن وصفها بشكل مناسب بأنها «رأسمالية دولة»، والتي عرفتها بأنها «مجتمع رأسمالي بالكامل في بنيته الطبقية، ولكن فيه درجة عالية من المركزية السياسية للسلطة الاقتصادية»9. التعريف نفسه، على الرغم من افتقاره إلى الدقة ربما، ليس توصيفاً غير صحيح للفاشية، ولكن النظر في الطريقة التي استخدم بها كتاب آخرون، خاصة الماركسيون، مصطلح «رأسمالية الدولة» قادني إلى استنتاج أن تطبيقه على حالة الفاشية من المرجح أن يكون مربكاً أكثر من كونه مفيداً. يمكن اعتبار وصف بوخارين لرأسمالية الدولة نموذجياً إلى حد ما للطريقة التي غالباً ما يُفهم بها المفهوم. فانطلاقاً من مجتمع «تتوحَّد فيه الطبقة الرأسمالية في اتحاد مُفرَد وحيث علينا أن نتعامل مع نظام اقتصادي منظّم، ولكنه في الوقت نفسه معادٍ من وجهة نظر طبقية»، يمضي بوخارين على النحو التالي:
«هل التراكم ممكن هنا؟ بالطبع. رأس المال الثابت ينمو لأن استهلاك الرأسماليين ينمو. وتتوافق فروع جديدة من الإنتاج مع احتياجات جديدة تنشأ دائماً. وينمو استهلاك العمّال، على الرغم من الحدود المحدّدة المفروضة عليه. وعلى الرغم من هذا «الاستهلاك الناقص» للجماهير، لا تنشأ أي أزمة لأن طلب فروع الإنتاج المختلفة على منتجات بعضها البعض وكذلك الطلب على السلع الاستهلاكية... يُحدَّد مسبقاً. (بدلاً من «فوضى» الإنتاج - ما يُعتبر من وجهة نظر رأس المال خطة عقلانية). إذا حدث خطأ في سلع الإنتاج، فإن الفائض يضاف إلى المخزون ويتم إجراء تصحيح مماثل في فترة الإنتاج التالية. وإذا حدث خطأ في سلع استهلاك العمال، يمكن تقسيم الفائض بين العمال أو تدميره. أيضاً في حالة حدوث خطأ في إنتاج السلع الفاخرة، فإن «المخرج» واضح. وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك أي أزمة إفراط في الإنتاج العام. بشكل عام، يتقدم الإنتاج بسلاسة. ويوفر استهلاك الرأسماليين الدافع للإنتاج وخطة الإنتاج. وبالتالي، لا يوجد في هذه الحالة تطور سريع خاص للإنتاج»10.
يظل رأس المال، وبالتالي الطبقة الرأسمالية، مقسماً إلى وحدات متمايزة تنظيمياً، ويظل التراكم هو الدافع السائد للإنتاج في ظل الفاشية كما هو الحال في ظل جميع أشكال المجتمع الرأسمالي الأخرى
والآن، أياً كانت مزايا هذا النموذج للأغراض النظرية المحدودة التي كان بوخارين يقصدها، فمن الواضح أنه لا يناسب حالة الفاشية، ولا يلقي الضوء على أي اتجاهات فعلية للإنتاج الرأسمالي. إن الفاشية ليست مجتمعاً «تتوحد فيه الطبقة الرأسمالية في اتحاد مُفرَد»، ومن غير الصحيح على الإطلاق أن استهلاك «الرأسماليين» هنا يوفر الدافع للإنتاج وخطة الإنتاج. على العكس من ذلك، يظل رأس المال، وبالتالي الطبقة الرأسمالية، مقسماً إلى وحدات متمايزة تنظيمياً، ويظل التراكم هو الدافع السائد للإنتاج في ظل الفاشية كما هو الحال في ظل جميع أشكال المجتمع الرأسمالي الأخرى. في القسم التالي، سنحاول إبراز الآثار المترتبة على هذه الحقائق ذات الصلة الوثيقة.
5. هل تستطيع الفاشية القضاء على تناقضات الرأسمالية؟
إن التناقضات التي تسود الرأسمالية، كما عبر عنها ماركس، تنشأ «من حقيقة مفادها أن رأس المال وتوسّعه الذاتي يظهران كنقطة بداية ونهاية، كدافع وهدف للإنتاج، وأن الإنتاج ليس سوى إنتاج لرأس المال، وليس العكس، حيث تكون وسائل الإنتاج مجرد وسائل لنظام متوسّع باستمرار لعملية الحياة لصالح مجتمع المنتجين»11. وهذا الوصف، كما رأينا، ينطبق على الفاشية، ولكن هناك هذا الاختلاف، وهو أنه في ظل الفاشية تأخذ السيطرة على النظام الاقتصادي طابعاً مركزياً، وتُقمَع الصراعات بين فروع رأس المال المختلفة إلى حد كبير لصالح رأس المال ككل، وتُجمّع المخاطر الثقيلة من خلال أدوات الدولة. لدينا هنا ما أطلق عليه خبراء الاقتصاد النازيون بشكل مناسب «الاقتصاد الموجّه»، حيث يجب على الرأسمالي الفرد أن يخضع لسياسة وطنية موحَّدة. وهنا من الطبيعي أن ينشأ السؤال عما إذا كانت المركزية الكاملة للسيطرة الاقتصادية في حد ذاتها توفر أساساً للقضاء على تناقضات الرأسمالية.
إن أولئك الذين يجيبون على هذا السؤال بالإيجاب يُحاججون عادةً أن صحة إجابتهم قد ثبتت بالفعل في الممارسة العملية. ووفقاً لهذا الرأي فإن التناقض الرئيس للرأسمالية يتلخص في الركود الاقتصادي، وانخفاض مستويات الإنتاج نسبياً، والبطالة الجماعية. فعجز الرأسمالية عن التغلب على هذه الظروف هو الذي مَهَّد الطريق لصعود الفاشية إلى السلطة. ولكن بمجرد وصولها إلى السلطة، أثبتت الفاشية بسرعة قدرتها على القضاء على البطالة وزيادة الإنتاج إلى مستويات قصوى. وبالتالي، لابد من استنتاج أن الفاشية نجحت في تحرير نفسها من التناقض الأساسي للرأسمالية. على الرغم من أن هذه الحجة قد تكون معقولة إلى حد ما في ظاهرها، فإن الفحص الدقيق يكشف بوضوح عن طبيعتها المغلوطة. فالواقع أن تناقض الرأسمالية يتلخص في عدم القدرة على استخدام وسائل الإنتاج «لنظام متوسِّع باستمرار لعملية الحياة لصالح مجتمع المنتجين». وفي ظل ظروف معينة يتجلى هذا في الركود والبطالة، أي في عدم استخدام جزء من وسائل الإنتاج. لكن في ظروف أخرى، تتجلى الفاشية في استخدام وسائل الإنتاج لأغراض التوسّع الخارجي. وبالتالي فإن الركود والبطالة من جهة، والعسكرة والحرب من جهة أخرى، تشكل أشكالاً بديلة ومتعارضة إلى حد كبير للتعبير عن التناقض الموجود في الرأسمالية. وعندما نفهم هذه الحقيقة، فإن إنجاز الفاشية يظهر في منظوره الحقيقي. فلم تقدّم الفاشية أي دليل على قدرتها على التغلب على الركود والبطالة من خلال استخدام الموارد المادية والبشرية لتوسيع قِيَم الاستخدام لجماهير الشعب. بل على العكس من ذلك، كرست منذ البداية كل الموارد المتاحة لها للتحضير لشن حرب إمبريالية هدفها إعادة التقسيم. وفي ظل الفاشية، تُفسِح البلادة القسرية المجالَ للعنف وسفك الدماء. وهذا ليس تغلباً على تناقضات الرأسمالية، وإنما هو كشف عن مدى عمق هذه التناقضات في الواقع.
لنفترض، لأغراض المضي قدماً في التحليل، أن أمة فاشية خرجت من الحرب ببنيتها الاجتماعية سليمة وأراضيها ومستعمراتها متوسِّعة إلى حد كبير. ما هو إذاً التطور المحتمل اللاحق؟ هل سيكون بوسعها أن تخلق نظاماً اقتصادياً مخطّطاً ومستقراً وقادراً على تجنّب الكساد الداخلي وتجنّب المزيد من العدوان الخارجي؟ ولو كان من المشروع أن نفترض أن هدف الإنتاج سوف يتحوّل، في ظل هذه الظروف، من تراكم رأس المال إلى توسيع قِيَم الاستخدام، فإننا بالتأكيد يجب أن نجيب على هذا السؤال بالإيجاب، لأنه من المستحيل التشكيك في الإمكانية المجرّدة للاقتصاد المخطط الخالي من تناقضات الرأسمالية. لكننا لا نتعامل مع احتمال مجرد، بل مع شكل ملموس من أشكال المجتمع لا يمكن فهمه إلا من خلال تاريخه وبنيته. ومن هذا المنظور، لا يوجد أدنى سبب لتوقع أن الفاشية قد تتخلى عن تراكم رأس المال باعتباره الهدف الأساسي للنشاط الاقتصادي. بل على العكس من ذلك، هناك كل الأسباب التي تجعلنا نفترض أن رأس المال الاحتكاري، بمساعدة كاملة وحماية من الدولة، سوف يشرع على الفور في استغلال أي أراضٍ أو مستعمرات جديدة قد يحصل عليها نتيجة للحرب من أجل توسيع نطاقه الذاتي.
ولكن من المرجح أن تحتفظ الفاشية باقتصاد شديد المركزية موجَّه من قِبَل الدولة. ومن ثَمَّ، يمكننا أن نفترض أن الركود والبطالة الجماعية لن يظهرا تحت أي ظرف من الظروف. لكن هذا لا يعني القضاء على تناقضات الرأسمالية، تماماً كما لا يعني قمع الأعراض علاج المرض. وإذا ما فُرِضَت رقابة صارمة على استهلاك الجماهير، وسُمح للتراكم بالتقدّم بوتيرة متسارعة، فسوف تتدخّل فترة من ظروف الازدهار التي قد تستمر لفترة طويلة من الزمن. لكن في نهاية المطاف، سوف يبدأ الميل إلى قلة الاستهلاك في البروز مع ظهور فائض الطاقة ليس فقط في السلع الاستهلاكية، بل وأيضاً في صناعات السلع الإنتاجية. وسوف تضطر الفاشية الآن إلى مواجهة المشكلة نفسها التي واجهتها عندما وصلت إلى السلطة: هل ينبغي لنا أن نوجّه وسائل الإنتاج نحو رفع مستويات معيشة الجماهير، أم ينبغي لنا أن نحشدها مرة أخرى لشنّ حرب غزو جديدة؟ إذا تمسّكنا بمعرفتنا بالفاشية، وتذكّرنا أننا افترضنا أن إحدى مغامرات العدوان الأجنبي كانت ناجحة، فليس من الصعب أن نتخيّل القرار الذي قد نتّخذه.
لكن هذا ليس المسار الوحيد الممكن للتطوّر. بدلاً من ذلك، قد تجد الدولة الفاشية أنه من المستحسن أن تسمح بارتفاع مستويات المعيشة في المدن الكبرى وبالتالي كبح معدل التراكم إلى حد معيّن. ولا شك أن مثل هذه السياسة قد تكون مجدية لفترة من الوقت، ولكن إذا استمرت لفترة طويلة، فإنها سوف تؤدي بالتأكيد إلى انخفاض معدل الربح. ولأننا استبعدنا الأزمة والكساد كعلاجين لانحدار الربحية، فلابد وأن نفترض أن الأوليغارشية الحاكمة سوف تجد أنه من الضروري أن تبادر إلى اتخاذ تدابير متعمّدة لعكس هذا الاتجاه. وهذا من الممكن أن يتحقّق من خلال خفض الأجور، وهي الوسيلة التي لا تفشل أبداً في جذب الرأسماليين، ولكنها تؤدي إلى التأثير المؤسف المتمثل في إحياء الميل إلى قلة الاستهلاك. وهنا لا يقل العلاج مرارة عن المرض. ولكن من المرجح أن تظهر المشكلة في هيئة نقص «مساحة المعيشة» الوطنية، وبالتالي فإن هذا من شأنه أن يؤدي مباشرة إلى تجدّد السعي إلى الغزو الأجنبي.
لذلك، حتى في ظل الظروف الأكثر ملاءمة، ليس هناك من سبب للاعتقاد بأن الفاشية سوف تنجح في الهروب من التناقضات الاقتصادية للرأسمالية. ولكن افتراض توافر هذه «الظروف الأكثر ملاءمة» هو في الواقع تنازل غير مبرر لأولئك الذين يؤمنون باستقرار الفاشية. وهذا يفسر سبب صياغة التحليل السابق بعناية في وضعٍ شَرطي. إن التحليل، كما نتذكر، بدأ من افتراض مفاده أن الفاشية نشأت من حرب تقسيم جديدة سليمة مع اتساع كبير في الأراضي. والواقع أن الدول الفاشية منخرطة الآن في حرب عملاقة كانت سبباً في اندلاعها دوافعها إلى التوسُّع والغزو الأجنبي. لا يمكن للفاشية أن تضمن انتصارها، ولا حتى أن تضمن بقائها على حالها. وبعبارة أخرى، أثبتت الفاشية بالفعل بأوضح صورة ممكنة طبيعتها المدمرة للذات. وفي ظل هذه الظروف، فإن التكهُّن بما سيحدث للفاشية بعد انتهاء الأزمة العالمية الحالية قد يتحول بسهولة إلى ما وصفه لينين ذات مرة، في سياق مماثل، بأنه «إخفاء وتلطيف لأعمق التناقضات في أحدث مرحلة من مراحل الرأسمالية، بدلاً من الكشف عن عمقها الحقيقي»12.
6. هل الفاشية حتمية؟
تحمل كل دولة رأسمالية، في فترة الإمبريالية، في داخلها بذور الفاشية. ويثور السؤال بشكل طبيعي عما إذا كان من المحتم أن تتجذّر هذه البذور وتنمو حتى تصل إلى مرحلة النضج. في «رأس المال»، استقى ماركس معظم مادته من التجربة الإنكليزية، لكنه كان حريصاً على تحذير بلاده الأصلية من أنها لا يمكن أن تتوقع الإفلات من مصير مماثل - «إياك أعني واسمعي يا جارة». لكن عند الكتابة عن الفاشية اليوم، هل يجب علينا إصدار مثل هذا التحذير لشعوب الدول الرأسمالية غير الفاشية؟
إذا كان تحليلنا صحيحاً، فيبدو أن الفاشية ليست مرحلة حتمية من مراحل التطور الرأسمالي. فالفاشية لا تنشأ إلا من موقف تتعرض فيه بنية الرأسمالية لإصابات بالغة، ولكنها لم تسقط بعد. ويؤدي التوازن الطبقي التقريبي الذي ينشأ عن ذلك على الفور إلى تكثيف الصعوبات الكامنة في الإنتاج الرأسمالي وإضعاف سلطة الدولة. وفي ظل هذه الظروف تنمو الحركة الفاشية إلى أبعاد هائلة، وعندما تندلع أزمة اقتصادية جديدة، كما هو مفترض، فإن الطبقة الرأسمالية تتبنى الفاشية باعتبارها السبيل الوحيدة للخروج من مشاكلها التي لا يمكن حلها. وبقدر ما يسمح لنا التاريخ بالحكم - وفي مثل هذه المسائل لا يوجد دليل آخر - فإن الحرب المطولة و«الفاشلة» هي الظاهرة الاجتماعية الوحيدة الكارثية في آثارها بما يكفي لبدء هذه السلسلة الخاصة من الأحداث. ومن المؤكد أنه ليس من غير المعقول أن تكون الأزمة الاقتصادية عميقة وطويلة الأمد إلى الحد الذي يؤدي إلى النتائج نفسها بشكل أساسي. ولكن هذا يبدو مستبعداً ما لم تُقوّض بنية الحكم الرأسمالي بشكل خطير بالفعل. إن الدولة الرأسمالية التي تحتفظ بحرية نسبية في التصرّف وتسيطر على قوات مسلّحة قوية تكون قادرة تماماً على المبادرة باتخاذ التدابير، سواء الداخلية أو الخارجية أو كليهما، التي من شأنها أن توقف الكساد الاقتصادي بفعالية قبل أن يصل إلى أبعاد خطيرة.
يبدو أن الفاشية ليست مرحلة حتمية من مراحل التطور الرأسمالي. فالفاشية لا تنشأ إلا من موقف تتعرض فيه بنية الرأسمالية لإصابات بالغة، ولكنها لم تسقط بعد. ويؤدي التوازن الطبقي التقريبي الذي ينشأ عن ذلك على الفور إلى تكثيف الصعوبات الكامنة في الإنتاج الرأسمالي وإضعاف سلطة الدولة. وفي ظل هذه الظروف تنمو الحركة الفاشية
ولكي نزعم حتمية الفاشية، يبدو من الضروري أن نثبت أمرين: أولاً، أن كل دولة رأسمالية لابد وأن تتعرض بنيتها الاجتماعية للضرر الشديد في وقت ما بسبب الحرب، وثانياً أن علاقات الإنتاج الرأسمالية لا بد وأن تبقى على قيد الحياة حتى ولو كانت في شكل ضعيف للغاية. ومن الواضح أن أياً من هذين الادعاءين لن يصمد أمام الاختبار. ولا نحتاج إلا إلى الاستشهاد بالاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة لإثبات هذه النقطة. فقد انهارت روسيا نتيجة للحرب الأخيرة، ولكن علاقات الإنتاج الرأسمالية لم تنج من الكارثة. فقد نشأ مجتمع اشتراكي جديد على أنقاض الرأسمالية. ومن ناحية أخرى، خرجت الولايات المتحدة من الحرب الأخيرة أقوى من أي وقت مضى، وبقدر ما نستطيع أن نحكم الآن، فليس هناك ضرورة للافتراض بأن البنية الداخلية للرأسمالية سوف تتضرّر بشكل لا يمكن إصلاحه نتيجة للحرب الحالية. لا شك أننا لو اضطررنا إلى توقع سلسلة لا نهاية لها من الحروب في المستقبل، لكان من المؤكد القول بأن الأمور سوف تتجه في يوم من الأيام إلى اتجاه مختلف. ولكن مسألة ما إذا كانت هناك سلسلة أخرى من الحروب في المستقبل لا تتعلق بأمة واحدة، بل تتعلق بطبيعة الاقتصاد العالمي ككل. وفي هذا الصدد، هناك اتجاهات فاعلة اليوم قد تغير تماماً طبيعة العلاقات الدولية وبالتالي مسار التنمية في كل أمة على حدة. وفي الفصل الأخير، سوف نحاول أن نستعرض بعض الاعتبارات الأكثر أهمية التي يجب أخذها في الاعتبار عند تكوين رأي حول المستقبل المحتمل للرأسمالية العالمية.