عن حاجة النيوليبرالية إلى الفاشية الجديدة

  • يمكن لرأس المال المالي أن يهجر بلداً في غضون مهلة قصيرة ويتسبّب بأزمة حادّة لذلك تنتهج الحكومات سياسات مواتية له وهو في واقع الأمر مَن يمليها
  •  يجب تعبئة الرأي العام العالمي ضدّ النيوليبرالية وحشد الدعم للحركات الديمقراطيّة العالميّة للقضاء على خصوبة أرض الفاشية الجديدة

مرّت أربعة عقود مذ بدأت العولمة النيوليبراليّة في إعادة تشكيل النظام العالمي. خلال هذا الوقت، صَفَّت أجندتها حقوق العمّال، وفرضت قيوداً صارمة على العجز المالي، مع منح إعفاءات ضريبيّة ضخمة وحُزَم إنقاذ هائلة لرأس المال الكبير، وضحَّت بالإنتاج المحلّي كرمى لسلاسل التوريد متعدّدة الجنسيّات، وخصخصت أصول القطاع العام بأسعار بخسة. والنتيجة اليوم هي نظام فاسد يرتكز على الحركة الحرّة لرأس المال الذي ينساب عبر الحدود الدوليّة بكلّ سهولةٍ ويسر، في الوقت الذي تتكبَّل فيه حركة الناس بفعل الزيادة الحادّة في عدم المساواة في الدخل والتصفية المستمرّة للديمقراطيّة.

بغض النظر عمّن يصل إلى السلطة، وعمّا قُطِع من وعودٍ قبل الانتخابات، فالسياسات الاقتصاديّة هي نفسها. وبما أنّ رأس المال، لا سيّما رأس المال المالي، يمكنه أنّ يهجر بلداً في غضون مهلة جدّ قصيرة – ليتسبّب بأزمة ماليّة حادّة إذا تبدَّدت "ثقته" في بلد ما – فإنّ الحكومات تعزف عن زعزعة الوضع الراهن، وتنتهج سياسات مواتية لرأس المال المالي، وهو في واقع الأمر مَن يمليها. باختصار، لقد استُبدِلَت بسيادة الشعب سيادةُ رأس المال المالي العالمي والشركات المحلّية المُندمجة معه.

عادة تُبرِّرُ النخبُ السياسيّة والاقتصاديّة هذه التصفية للديمقراطيّة بالقول إنّ السياسات الاقتصاديّة النيوليبراليّة تأتي بنموٍ أعلى في الناتج المحلّي الإجمالي – يُعَدُّ هذا سدرة المنتهى الواجب على جميع السياسات استهدافها. الحقّ أنّه في العديد من البلدان، لا سيّما في آسيا، أسفرت الفترة النيوليبراليّة عن نموّ أسرع بشكل ملحوظ مقارنةً بفترة الاقتصاد الموجَّه. وبطبيعة الحال، فإنّ نمواً كهذا نادراً ما يفيد غالبيّة الناس، فالسياسات النيوليبراليّة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بازدياد عدم المساواة في الدخل أكثر من ارتباطها بنمو الناتج المحلّي الإجمالي. (حتّى خبراء الاقتصاد في صندوق النقد الدولي، جوناثان دي أوستري وبراكاش لونجاني وديفيد فورسيري، أقرّوا بهذه النقطة في ورقتهم الصادرة عام 2016 بعنوان «?Neoliberalism: Oversold»). لكن النيوليبراليين قابلوا هذا الاعتراض بردٍّ قوي مفاده: يجب النظر إلى ازدياد عدم المساواة في الدخل على أنّه ثمن معقول لقاء نموٍ أسرع، لأنه ما زال يعني تحسّناً مُطلقاً في أحوال الناس الأكثر حرماناً. إن التصوّر الأيديولوجي الأساس عند النيوليبراليّة تلخِّصه مقولة أنّ النموّ سيرفع جميع القوارب، وإنْ رُفِع بعضٌ منها أكثر من بعض.

لعلّه ما من مثال مُضاد لهذا الإدعاء أفضل من الهند، حيث بدأ تطبيق السياسات النيوليبراليّة عام 1991، ما حفّز الارتفاع الدراماتيكي في عدم المساواة، وفي الوقت نفسه، زيادة في بعض مؤشّرات الفقر المُطلق والقضاء على الزراعة الفلاحيّة. في عام 1982، بعد أكثر من ستة عقود من فرض ضرائب مُرتفعة على الدخل، كان أعلى 1% من أصحاب الدخل لا يستأثرون إلّا بـ 6% من الدخل القومي، بحسب لوكاس تشانسيل وتوماس بيكيتي. بحلول عام 2014، تضخّم هذا الرقم إلى 22%، وهو أعلى مستوى له منذ قرن. في غضون ذلك ارتفع معدّل الفقر أيضاً، حسبما أوضحت عالمة الاقتصاد أوتسا باتنايك في تقرير حديث قدّمته إلى المجلس الهندي لأبحاث العلوم الاجتماعيّة. ففي المناطق الريفيّة الهنديّة، حيث كان معيار تحديد الفقر حصول الفرد على أقلّ من 2,200 سعرة حراريّة في اليوم، زادت نسبة الفقراء إلى مجموع السكّان من 58% في 1993-1994 إلى 68% في 2011-2012 (آخر عام تتوفّر له بيانات استقصائيّة). كذلك الحال في المناطق الحضريّة، حيث كان المعيار 2,100 سعرة حراريّة في اليوم: زادت نسبة الفقراء من 57% إلى 65% خلال الفترة نفسها.

على الرغم من هذه التصدّعات وغيرها في حجّة المدّ المُتصاعد التي غدت واضحة بحلول مطلع القرن، فإنّ السرديّة القائلة بأنّ "النيوليبراليّة ستفيد الجميع" ظلّت قائمة حتّى أوائل العقد الأوّل من القرن الحالي، ويرجع هذا الأمر لسببين على الأقلّ. أوّلهما، قيل إنّ العولمة النيوليبراليّة ساهمت في الانخفاض الهائل بمعدّل  الفقر في الصين – شكّك عالم الاقتصاد براناب باردهان في هذه القصّة المكرورة – وإنّ أداء شريحة كبيرة من الطبقة الوسطى العالميّة كان جيّداً: زادت فرصها بفضل تعاقد البلدان المُتقدّمة معها على أداء مجموعة من الأنشطة، وزيادة حصّة الفائض الاقتصادي بسبب تدنّي الأجور وارتفاع إنتاجيّة الطبقة العاملة. ثانيهما، أنّ أولئك المُتضرِّرين من النظام النيوليبرالي غالباً ما أذكوا الأمل بأنّ ثمرات النموّ المتواصل المرتفع سوف "تتساقط" عليهم عاجلاً أم آجلاً، وهو أمل غذَّته باستمرار مؤسّسات إعلاميّة تُهيمن عليها الطبقات الوسطى والعليا.

بيد أنّ هذا الأمل انحسر جدّياً مع نهاية مرحلة النموّ المُرتفع للرأسماليّة النيوليبراليّة في 2008 عندما انفجرت فقّاعة الإسكان في الولايات المتّحدة مشرِّعةً الأبواب على أزمةٍ مطوّلة وركودٍ في الاقتصاد العالمي. ومع فقدان السند القديم – نظريّة التساقطنظرية اقتصادية تقول بخفض الضرائب على الطبقات العليا وتقديم تسهيلات قانونية لها بهدف تحفيز النمو الذي سوف تتساقط ثماره بالتبعية إلى الطبقات الأدنى عاجلاً أو آجلاً. (المترجم) – للنظام النيوليبرالي صدقيّته، برزت حاجة إلى سندٍ جديد يحافظ عليه سياسياً. جاء الحلّ في شكل تحالف بين رأس المال الشركاتي المُتكامل عالمياً والعناصر الفاشية الجديدة المحلّية.

استحكمت هذه الديناميّة في عدّة بلدان حول العالم، من ناريندرا مودي في الهند وجايير بولسونارو في البرازيل إلى دونالد ترامب في الولايات المتّحدة. برأي بعض المراقبين، تعكس بعض الجوانب في إدارة ترامب – مقترحاته الحمائيّة، ودعمه لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي – طلاقاً بين الفاشيّة الجديدة والنيوليبراليّة. لكن يبالغ هذا التحليل في أهمّية خروج ترامب عن العقيدة النيوليبراليّة ويتجاهل في الوقت نفسه العلاقة الواضحة بين الفاشيّة الجديدة والنيوليبراليّة في العالم النامي. للوقوف على دليلٍ على هذه العلاقة، ما علينا سوى الالتفات إلى حقيقة أنّه ما من نظام فاشي جديد قد فرض ضوابط على التدفّقات الماليّة عبر الحدود فعليّاً. في النهاية، لا يسعنا الخلاص من هذا التحالف إلّا بتطبيق مثل هذه الضوابط – بالتوازي  مع سياسات رفاه اجتماعي قويّة.

لتقييم آفاق مثل هذا التحوّل، من الضروري أنّ نقف على السِمات المميّزة للفاشيّة الجديدة. توجَد مجموعات الفاشية الجديدة في جميع المجتمعات الحديثة، لكنَّها عادةً ما تكون عناصر هامشيّة، وهي لا تحتلّ مركز الصدارة إلّا في فترات الأزمات وبدعمٍ من رأس المال الشركاتي الذي يؤمِّنُ لها الوصول إلى الموارد الماليّة الضخمة والسيطرة على الوسائل الإعلاميّة وغيرها من الوسائل المعنيّة بتكوين الآراء.

تتمثّل إحدى الإستراتيجيّات المميّزة عند الفاشيّة الجديدة، شأنها شأن أسلافها الكلاسيك، في شيطنة "الآخر"، سواء كان هذا الآخر مُسلماً كما في الهند أو أقلياتٍ عرقيّة وجنسيّة كما في الولايات المتّحدة والبرازيل. بطبيعة الحال، تختلف هذه الشيطنة من بلد لآخر، ويمكنها اتخاذ أشكالٍ متعدّدة، فمثلاً قد تُغفل ذكر الأزمة الاقتصاديّة، لتركّز بدلاً من ذلك على حاجة مجتمع الغالبيّة إلى استعادة "احترامه لذاته" الذي يُزعم أنّ الأقليّة قد قوَّضته في الماضي؛ أو قد تُحمِّل الأقليّة مسؤوليّة المشاكل الاقتصاديّة بصرف النظر عن دورها المزعوم في تقويض احترام مجتمع الغالبيّة لذاته. أمّا الحكومات غير الفاشيّة فتُرمى بتهمة "القوادة" لهذه الأقليّة عبر ممارسة سياسة "الاسترضاء".

بالإضافة إلى هجومها على "الآخر"، تحذو الفاشيّة الجديدة حذو الفاشيّة الكلاسيك في مهاجمة منتقديها كافة، واصفة إيّاهم بـ"أعداء الأمة والوطن" عبر مساواتها بين انتقاد الحكومة وخيانة الأمة. كما تُلصِق بأحزاب المعارضة شتّى أنواع المخالفات والتجاوزات (أنظر محاكمة لولا في البرازيل)، وتخلق جوّاً عامّاً من الخوف في المجتمع – بوضعها الناس في السجون من دون محاكمة، وترهيبها الجهاز القضائي أو تحويله إلى سلاح، وإلغائها الحقوق الدستوريّة للشعب، وترويعها السياسيين المعارضين لينضمّوا إلى حزب الفاشيّة الجديدة في الأماكن التي خسرت فيها الانتخابات، وإطلاقها العنان لعصابات البلطجة في الشوارع وعلى وسائل التواصل الاجتماعي لمهاجمة المعارضين، وتوجيهها تهماً زائفة ضدّ المعارضين، وتقويضها استقلال مؤسّسات الدولة، وهلم جرا. ويآزر الفاشيّة الجديدة، في كلّ هذا، وسائلُ إعلام مطواعة وسهلة الانقياد. وخلال ذلك كلّه، تستخدم سطوتها لإعانة قطاع الشركات على مهاجمة حقوق العمّال المُكتسبة بفضل عقود من النضال.

وعلى الرغم من كون كلّ هذه العناصر مُستقاة من الفاشيّة الكلاسيك، فإن الفاشيّة الجديدة تختلف عن أسلافها في نواحٍ مهمّة. ظهرت الفاشيّة الكلاسيك قبل عولمة رأس المال، بمعنى أنّها تحمل بصمة أصلها القومي بشكل أوضح، حيث كانت مُنخرطة في تنافسٍ بين-إمبريالي مع رأس المال من البلدان المتقدّمة الأخرى، وهو تنافس جنَّدَت فيه دعم بلدها. كان هدفُ الفاشيّة أنّ تعيدَ اقتسام عالمٍ مُقسَّم أصلاً إلى مناطق اقتصاديّة. بالمقابل، تقوم الفاشيّة الجديدة اليوم في ظل نظامِ رأس مال مالي معولم حيث أخمدت ظاهرةُ التدفّق الحر لرأس المال التنافس البين-إمبريالي. وبما أنّ رأس المال المعولم عازم على إبقاء العالم بأكمله مفتوحاً خدمة لحركته الحرّة، فإنّه لا يشجّع التنافس البين-إمبريالي ولا تقسيم العالم إلى مناطق اقتصاديّة مُتنافسة.

تقدّم الهند مثالاً حيّاً عن العلاقة بين الفاشيّة الجديدة والنيوليبراليّة. على سبيل المثال، لم يكن لدى ممثّلي الفاشيّة الجديدة في الهند – وهؤلاء وصلوا إلى السلطة في عام 2014 – أيُّ علاقة بنضال الهند ضدّ الاستعمار (في الواقع، أحدهم اغتال المهاتما غاندي). هؤلاء نيوليبراليون أقحاح، حتّى أكثر من الحكومات النيوليبراليّة السابقة، إذْ يتركّز موقفهم السياسي بالكامل، حتّى أثناء الوباء، على إبقاء العجز المالي تحت السيطرة خوفاً من الإساءة إلى رأس المال المالي المعولم، ولهذا كانت الهند من البلدان التي تقدّم أبخس مساعدة حكوميّة للمتضرّرين من الإغلاق. أيضاً تتعطَّش حكومة الهند اليوم أكثر من أي وقت مضى لخصخصة مؤسّسات القطاع العام وتقديم المساعدة للشركات، وخصوصاً لقلّة مُفضّلة. كما كانت أحرص من أي حكومة سابقة على ضمان تعدّي الشركات على الزراعة الفلاحيّة والإنتاج الصغير.

تحذو الفاشية الجديدة حذو الفاشية الكلاسيك في مهاجمة منتقديها واصفة إيّاهم بـ"أعداء الأمة والوطن" عبر مساواتها بين انتقاد الحكومة وخيانة الأمةفي الواقع، منذ الأيّام الأولى للنيوليبراليّة في الهند، حصل ارتفاع مأساوي في معدّلات انتحار الفلّاحين – أكثر من 300 ألف حالة في العقدين ونصف العقد اللاحقين لعام 1991. ويعود ذلك إلى تزايد مديونيّة الفلّاحين، فقد انفجر الدَّيْن في ظلّ ارتفاع تكاليف الخدمات الأساسيّة المخصخصة والانخفاض الحادّ في أرباح الزراعة الفلاحيّة بعد إلغاء الدعم الحكومي لأسعار المحاصيل النقديّة وتقليصه في الحبوب الغذائيّة. كان الضغط على الزراعة الفلاحيّة – قطاعٌ يوظِّف قرابة نصف القوى العاملة – حادّاً لدرجة أنّ عدد "المزارعين" قد تقلّص بنحو 15 مليوناً بين تعدادي عامي 1991 و2011. تحوَّل البعض إلى عمّال وهاجر البعض الآخر إلى المدن بحثاً عن وظائف لم تعد موجودة، ما أدّى إلى تضخّم جيش العاطلين عن العمل أو زيادة العمالة المُقنَّعة التي أضعفت الموقف التفاوضي للعدد القليل نسبياً من العمّال النقابيين. زاد معدّل نموّ الناتج المحلّي الإجمالي، ولكن حدث انخفاض في معدّل نموّ فرص العمل – في الواقع انخفض إلى النصف – ما جعله أقلّ حتّى من المعدّل الطبيعي لنموّ القوّة العاملة.

تهدف مظاهرات الفلّاحين الحاشدة التي تهزّ البلاد حالياً إلى إلغاء ثلاثة قوانين زراعيّة سنّتها حكومة مودي العامَ الماضي، وتوسّع بموجبها هذا الوضع النيوليبرالي. وبالرغم من أنّ الإدارة الأميركيّة وصندوق النقد الدولي ينتقدان طريقة تعامل الحكومة الهنديّة مع المظاهرات، فإنهما يدعمان القوانين الثلاثة. وهكذا فإنّ الفاشيّة الجديدة لمودي واضحة وصريحة تماماً في دفاعها عن الأجندة النيوليبراليّة وتنفيذها.

ما مدى استقرار هذا التحالف العالمي بين النيوليبراليّة والفاشية الجديدة؟ وإلى متى يمكن لسنَد الفاشيّة الجديدة – المُتمثل في شيطنة الآخر – أنّ يسند نيوليبراليّة مأزومة؟ من ناحية أولى، قد يُخيَّل إلى المرء، بناءً على أنّ رأس المال المالي العالمي لن يتسامح مع الحروب بين القوى الرأسماليّة الكبرى أو الصغرى، أنّ الفاشيّة الجديدة باقية أبداً. من ناحية أخرى، تخضع هذه الأنظمة الفاشيّة الجديدة ذاتها للقيود التي تفرضها هيمنة رأس المال المالي المعولم، ومن تبعات هذا التقييد أنّه خانق: إذْ يُبطِل قدرة الفاشيّة الجديدة على توفير فرص العمل.

وفّرت الفاشيّة الكلاسيك فرص العمل عبر الإنفاق على التسليح الحكومي المموّل بغالبيّته من الاقتراض – أي عبر إدارة عجز مالي كبير. وعبر جهود كهذه كانت اليابان أوّل دولة تخرج من الكساد الكبير في 1931، وكانت ألمانيا أوّل دولة أوروبيّة تخلق تحسّناً ملحوظاً في النشاط التجاري في 1933 في عهد الحكومة النازيّة. نتيجة لذلك، لم يكن هناك سوى فترة وجيزة، بين نهاية البطالة الجماعيّة وبداية أهوال الحرب، تمتّعت فيها الحكومات الفاشيّة بدعم جماهيري كبير.

بالمقابل، تعجز الفاشية الجديدة المُعاصرة عن إنهاء البطالة الجماعيّة. لا يقتصر الأمر على أنّ مثل هذا الهدف يتطلّب إنفاقات حكوميّة أكبر، وهذا أصلاً محل ازدراء النيوليبراليين، بل أنّ هذه الإنفاقات ينبغي تمويلها عن طريق فرض ضرائب على الرأسماليين أو التمويل بالعجز، وكلاهما خيار مرفوض في النيوليبراليّة. فبحسب العقيدة النيوليبراليّة، يُزعم أنّ فرض الضرائب على الرأسماليين، سواء ضريبة الأرباح أو ضريبة الثروة، يؤثّر سلباً في "أرواحهم الحيوانيّة"، كما كان كينز ليقول – أي، يؤثّر في جملة المواقف التي تشجّع الرأسماليين على زيادة الاستثمار. من ناحية أخرى، يثير ازدياد العجز المالي استياء رأس المال المالي، لكونه يقوِّض الشرعيّة الاجتماعيّة للرأسماليين (لا سيّما المصالح الماليّة التي تخلق ما أسماه كينز "المستثمر المتبطّل").

يطرح هذا الوضع مشكلة أمام سيطرة الفاشيّة الجديدة على السلطة. فقد يؤدّي عدم قدرتها على التخفيف من أزمة النيوليبراليّة إلى هزيمتها في الانتخابات (على افتراض أنها لا تزوّرها أو تتجاوزها كليةً): يمكن القول إنّ هذا ما حدث في الولايات المتّحدة مع خسارة ترامب أمام جو بايدن. لكن وإنْ خَسِرت الفاشيّة الجديدة على المدى القصير، فإنّها تظل مرشّحة بقوّة للعودة إلى السلطة ما دامت الحكومات اللاحقة تعود إلى العمل النيوليبرالي كالمُعتاد. بغية كسر هذه الحلقة، من الضروري ألَّا تستأنفَ الحكومة اللاحقة السياسات النيوليبراليّة القديمة التي تؤدّي إلى ازدياد عدم المساواة والفقر والبطالة. لا بدّ من حدوث تحوّل جدّي نحو دولة الرفاه مع إحياء الخدمات الاجتماعيّة العامّة وتوفير السلع العامّة وزيادة معدّلات التوظيف – أو على وجه التحديد، إحياء السياسات التي أجهضتها هيمنة رأس المال المالي العالمي.

لا بدّ من حدوث تحوّل جدي نحو دولة الرفاه وإحياء السياسات التي أجهضتها هيمنة رأس المال المالي لفك الارتباط بين الفاشية الجديدة والنيوليبراليةمن الناحية الكمّية، هذا التحوّل مُمكن تماماً. في الهند، تشير التقديرات إلى أنّه لإقرار خمسة حقوق اقتصاديّة عامّة شاملة وعادلة – الحقّ في الغذاء، والحقّ في العمل (أو الأجر الكامل إذا لم توفَّر فرص العمل)، والحقّ في الرعاية الصحّيّة المجّانية، والحقّ في التعليم المجّاني المموّل من القطاع العام (على الأقل حتّى مرحلة ترك المدرسة)، والحقّ في معاش الشيخوخة ومعونة كافية لذوي الإعاقة – يلزمُ نسبة 10% إضافيّة من الناتج المحلّي الإجمالي فوق ما يُنفق فعلياً في هذه الأبواب. من الناحية العمليّة، سيتطلّب هذا موارد إضافيّة تقارب 7% من الناتج المحلّي الإجمالي، بالنظر إلى أنّ ارتفاع الناتج المحلّي الإجمالي على حساب هذه الإنفاقات سيحقّق تلقائياً إيرادات إضافيّة. (ناقشت أنا وجَياتي غوش هذه الحسابات في مساهمتنا في الكتاب الأخير نحن الشعب، من تحرير نيخيل داي وأرونا روي وراكشيتا سوامي).

يمكن تأمين نسبة الـ7% من ضريبتين لا ثالثة لهما، تُفرضان على الـ1% الأغنى من سكّان البلاد: ضريبة ثروة بنسبة 2%، وضريبة ميراث على المجموعة ذاتها بحدود ثلث التركة الموروثة. اكتسبت ضريبة الثروة شعبيّة في المناقشات العامّة في الولايات المتّحدة بعد مُقترحات قدّمها بيرني ساندرز وإليزابيث وارِن في موسم انتخابات 2020، بل إنّ حفنة من المليارديرات الأميركيين أيّدوا اقتراح وارِن. باختصار، ثمَّة فهم عامّ ينضج في جميع أنحاء العالم مؤداه أنّ الخلاص من الظروف الحاليّة يتطلّب تحرّكاً نحو تعزيز إجراءات دولة الرفاه التي جرى التراجع عنها خلال صعود النيوليبراليّة.

من الناحية السياسيّة، يُمثِّل هذا التحوّل تحدّياً بالطبع. ستؤدّي محاولات فرض ضرائب على الأثرياء إلى إبعاد المستثمرين وإذكاء المخاوف من هروب رأس المال أو عدم كفاية التدفّقات الماليّة الوافدة لتغطية العجز التجاري. عاجلاً أم آجلاً، يجب أنّ تتضمّن الإجابة السيطرة على التدفّقات المالية الخارجة. لا تتسبّب  إجراءات مُماثلة في كارثة للعالم النامي بالضرورة، إذْ يمكن للاقتصادات الكبيرة والمتنوّعة التعامل مع التبعات، ومع الوقت التغلّب على الصعوبات القصيرة المدى لإدارة العجز التجاري – الناجم عن جفاف التدفّقات الماليّة في أعقاب مثل هذه الضوابط – عبر تنويع الإنتاج بهدف زيادة الاكتفاء الذاتي. كما يمكن للاقتصادات الصغيرة أنّ تدبّر أمرها بأنّ تشكِّل تكتّلات تجاريّة محلّيّة. لكن السبب الحقيقي للقلق يتمثّل في ما إذا كانت الدول المُتقدّمة، "حارسة" العولمة، ستفرض عقوبات تجاريّة وتتدخّل بطرائق أخرى ضدّ البلدان التي تحاول الخلاص من الفاشيّة الجديدة بتبنّيها مثل هذه السياسات الاقتصاديّة المؤيّدة للشعب.

أمّا هجوم الفاشيين الجُدد على الديمقراطيّة فليس سوى محاولة أخيرة من جانب الرأسماليّة النيوليبراليّة لإنقاذ نفسها من الأزمة. وبغية الخلاص من هذا الوضع، يجب تعبئة الرأي العام العالمي ضدّ النيوليبراليّة، وحشد الدعم للحركات الديمقراطيّة العالميّة. عندئذٍ، وفقط عندئذٍ، ستختفي إلى غير رجعة تلك الأرض الخصبة لنموّ الفاشيّة الجديدة.

نُشر هذا المقال في Boston Review في 19 تموز/يوليو 2021.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.