
شبح الفاشية يطارد أميركا
- «الحزب الجمهوري»، الذي كان سبب وجوده لفترة طويلة هو هدم حقوق العمال والرفاهة الاجتماعية، قد يتظاهر اليوم بأنه العدو اللدود لـ«بارونات وول ستريت»، لكنه لا يزال يمثل وسيلة لمشروع أوليغارشي للقضاء على جميع العقبات التنظيمية أمام تراكم الثروة الخاصة.
- مع تنافس فصائل مختلفة من رأس المال على حِصص متزايدة من فطيرة متناقصة، وفشل الحكومات الليبرالية السلطوية في اكتساب الشرعية الشعبية، وعد الفاشيون بإصلاح الدولة الضعيفة ورأس المال المحاصَر على حد سواء.
«عُنصرية الدولة باسم مصالح العمال». هذه ليست الإجابة الوحيدة على السؤال الأزلي «ما الفاشية؟» - لكنها إجابة مُقنِعة. والآن، بعد أن انضمَّت عمليات الترحيل الجماعي - بدءاً بالسكان الهايتيين في مدينة سبرينغفيلد بولاية أوهايو - إلى غلق الحدود و«احفر، يا عزيزي، احفر» كأحجار أساسٍ لبرنامج «الحزب الجمهوري»، لا يمكن إنكار أن الجهود التي يبذلها الحزب لإعادة تصوير نفسه على أنه «حزب العمال» لا تنفصل عن هجومه على حقوق وسلامة المهاجرين. وفي حين كانت حملة ترامب تدور حول التعريفات الجمركية الوقائية، وأشاد بعض الجمهوريين المؤيدين لـ«لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» بسياسات مكافحة الاحتكار التي انتهجتها رئيسة «لجنة التجارة الفيدرالية» لينا خان، فإن جوهر خطاب «الحزب الجمهوري» يظل أبسط وأكثر قوة: تهدئة مخاوف «العامل الأميركي» من خلال تصعيد الإرهاب ضد أقرانه «غير الأميركيين».
وكما أكد الظهور البائس لرئيس «نقابة سائقي الشاحنات» شون أوبراين في «المؤتمر الوطني الجمهوري»، فإن ليس كل مَن في الحركة العمالية يحمل أجساماً مضادة للفيروس الشوفيني. وقد استند بعض المشجعين لترامب صراحةً إلى هذا التراث من العنصرية «المؤيدة للعمال»، والتي، كما تتبعها المؤرخ غابرييل وينانت، لها جذور عميقة في مدينة سبرينغفيلد نفسها. ويشير مقال رأي نُشِرَ مؤخراً في «نيوزويك» - بعنوان «سبرينغفيلد رمز لدوامة الموت بسبب الهجرة في أميركا»، وهو عنوان مناسب جداً لموقع مثل «ستورمفرونت» يُروِّج للتفوق الأبيض - إلى مؤسس «اتحاد العمل الأميركي» صامويل غومبرز، وإلى ربطه انهيار الأجور العادلة للعمال الأميركيين في عام 1924 بالإمدادات المتزايدة من العمالة المهاجرة منخفضة التكلفة. يتجاهل هذا المقال التاريخ الحقيقي لنضالات العمال في الولايات المتحدة - حيث كان العمال المهاجرون والمُعرقَنون في الطليعة غالبا - ويواصل مناقشة اليقين المبهج للشركات بأن «الهايتيين الذين وظفتهم لن يشتكوا أبداً من قلة الأجور ولن يحاولوا تشكيل نقابات».
وقد كان غومبرز - وهو مهاجر يهودي من شرق لندن - مؤيداً قوياً لـ«قانون استبعاد الصينيين» لعام 1882، وشارك في تأليف الكتيب شديد العنصرية الذي صدر عام 1902، «بعض أسباب استبعاد الصينيين. اللحم مقابل الأرز. الرجولة الأميركية ضد العمالة الآسيوية المُفتقرة للبراعة. أيهما سيبقى على قيد الحياة؟». إن كذبة ترامب، التي تعرضت للسخرية كثيراً، خلال المناظرة مع هاريس والتي تقول إن المهاجرين الهايتيين في أوهايو «يأكلون الكلاب» والقطط في سبرينغفيلد تُعَدُّ ذريَّة شنيعة لافتراءات غومبرز بحق العمال الصينيين: «فيما يتصل بأخلاقهم، فإنه ليس لديهم معيار يمكن للقوقازي أن يحكم عليهم به».
إن النواة المادية لـ«مهرجان التحرُّك نحو اليمين» اليوم تكمن في أزمة ربحية كوكبية وتفكك إجماع واشنطن النيوليبرالي
والآن، بعد مرور ما يقرب من 150 عاماً، لا تزال الكراهية العُمالويَّة للصين تؤتي ثمارها، كما أوضح المرشح لمنصب نائب الرئيس جيه دي فانس في «المؤتمر الجمهوري». فبعد أن وعد «بالالتزام بالرجل العامل» وزعم أن ترامب «ليس في جيب الشركات الكبرى» («مشروع2025» يُكذِّب ذلك)، أرسى فانس خطابه على ادِّعاء بأن جو بايدن سمح «لبلدنا» بأن «تغمره السلع الصينية الرخيصة» و«العمالة الأجنبية الرخيصة».
إن هذا الإطار الرجعي الذي يقوم على وضع «العامل» مقابل «المهاجر» لا يستهدف أرض المصنع بقدر ما يستهدف ما أطلق عليه المراسل السياسي إريك ليفيتز بشكل لاذع «طغيان الناخب الأبيض غير المتنبِّه للمظالم في الولايات المتأرجحة». إن الوظيفة الأساسية لهذا الخطاب - حيث «تُنطَق كلمة «أبيض» دائماً بصوت عالٍ، فيما تُنطَق كلمة «عامل» بصوت خفيض»، كما يلاحظ المؤرخ ديفيد روديغر - هي تحريض العمال على رفض أي مطالب بالعدالة وإعادة التوزيع وتحسين الأجور الاجتماعية. والأمر الأكثر أهمية هو أنه يوفِّر قاعدة انتخابية جماهيرية لتقليص رأس المال في خضم التباطؤ الاقتصادي العالمي والتقلبات المتزايدة الناجمة عن كارثة المناخ والحرب.
وكانت القدرة على توفير قاعدة شعبية للسياسات المؤيدة للأعمال التجارية في صميم صعود الفاشية إلى السلطة خلال سنوات ما بين الحربين العالميتين. ويفسر هذا الموقف لماذا، على الأقل في البداية، لاقت الفاشية ترحيباً من مفكرين نيوليبراليين رائدين مثل لودفيغ فون ميزس. فمع تنافس فصائل مختلفة من رأس المال على حِصص متزايدة من فطيرة متناقصة، وفشل الحكومات الليبرالية السلطوية في اكتساب الشرعية الشعبية، وعد الفاشيون بإصلاح الدولة الضعيفة ورأس المال المحاصَر على حد سواء. أو كما قال دبليو إي بي دو بوا في عام 1935 - ضمن وصفه لتواطؤ الشمال في هزيمة «إعادة الإعمار» وتعزيز ما أسماه الشاعر أميري باراكا «الفاشيةالعرقية» في الجنوب - إنها «ثورة مضادة للمِلكية».
تلخَّصت المعضلة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين في كيفية تعبئة الجماهير للدفاع عن رأس المال المحلي مع تفتت السوق العالمية واقتراب الحرب. ففي ذلك الوقت، كما هي الحال الآن، كان الدعم يعتمد بشكل أكبر على الطبقة المتوسطة المحبَطة أكثر من البروليتاريا المكافِحة، على الرغم من الخطاب الذي يصف العمال «الأصليين» أو «المنتجِين».
وكما يُحاجج المُعلِّق الاقتصادي والسياسي جيمي ميرشانت في كتابه الأخير، «نهاية اللعبة: القومية الاقتصادية والانحدار العالمي»، هناك أصداء غريبة للأزمات العالمية المتراكمة التي مهَّدت الطريق للفاشية، حتى مع عدم تطابق الحكام السلطويين الصاعدين اليوم مع الحركات الجماهيرية القومية المتطرفة قبل قرن من الزمان. ويكتب ميرشانت عن لحظتنا الحالية: «مع تباطؤ النمو، يصبح الوضع على نحو متزايد شأناً محصلته صفر، حيث تأتي مكاسب القِلة فقط على حساب الأغلبية، وفي الاقتصاد الرأسمالي يعني هذا التضحية بسبل عيش الأغلبية العظمى من أجل الحاجة إلى الربحية المستمرة». إن النواة المادية لـ«مهرجان التحرُّك نحو اليمين» اليوم تكمن في أزمة ربحية كوكبية وتفكك إجماع واشنطن النيوليبرالي.
في حين لا يزال المليارديرات والشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية يراهنون على «النيوليبرالية التقدمية» لدعم النظام، اصطفَّت كتلة رأسمالية - تمتد من أصحاب رؤوس الأموال المغامرة مثل بيتر ثيل إلى أصحاب سلاسل التنظيف الجاف - خلف تذكرة ترامب- فانس. وفي الوقت نفسه، قابل إجماع أميركي متزايد، يمتد بين المصالح الرأسمالية ومؤسسة الأمن القومي، تداعيات التجارة الحرة بموقف عدواني متزايد تجاه الصين - وليس فقط من جانب الرجعيين اليمينيين. ففي مواصلةٍ لشعار رئاسة ترامب، فرضت إدارة بايدن أولاً تعريفات جمركية بنسبة 100٪ على المركبات الكهربائية الصينية وهي الآن تحظر البرامج والأجهزة المتعلقة بالسيارات التي نشأت في الصين، في محاولة لدرء «حَدَث على مستوى الانقراض»، على حد تعبير شركات السيارات الأميركية.
في عالم يتَّسم بالنمو المتقلص، والتفاوت المتزايد، وأزمات المناخ والحرب، ستُعزِّز القومية الاقتصادية دائماً اليمين المتطرف، سواء داخل أو خارج السلطة
كما تجلَّى هذا الاتجاه نحو القومية الاقتصادية في الدعم المستمر، بما في ذلك بين الليبراليين، لزيادة مستويات استخراج الوقود الأحفوري المحلي. فعندما أعادت نائبة الرئيس كامالا هاريس مؤخراً تأكيد رفضها لحظر التكسير الهيدروليكي، تباهت قائلة: «حققنا أكبر زيادة في إنتاج النفط المحلي في التاريخ بسبب مقاربة تعترف بأننا لا نستطيع الاعتماد بشكل مفرط على النفط الأجنبي». وفي الإجابة نفسها التي هاجمت فيها إنكار ترامب لتغير المناخ واحتفلت بدعم «نقابة عمال السيارات المتحدة» لها، أعلنت هاريس أن إدارة بايدن حطمت الأرقام القياسية لإنتاج الغاز المحلي، وربطت صراحةً بين استراتيجية الطاقة هذه وتعزيز التصنيع في الولايات المتحدة وفتح المزيد من مصانع السيارات.
إن «الحزب الجمهوري» الذي كان سبب وجوده لفترة طويلة هو هدم حقوق العمال والرفاهة الاجتماعية قد يتظاهر اليوم بأنه العدو اللدود لـ«بارونات وول ستريت»، لكنه لا يزال يمثل وسيلة لمشروع أوليغاركي للقضاء على جميع العقبات التنظيمية أمام تراكم الثروة الخاصة. إن الثناء الأوتوماتيكي الذي أبداه ترامب على تسريح إيلون ماسك لعمال شركة «تسلا» ليس سوى غيض من فيض، في حين تشير خطط «مشروع 2025» لتقويض التقدم الأخير الذي أحرزه «مجلس العلاقات العمالية الوطنية» إلى الخطط اليمينية الأكبر التي تكمن أدناه.
وبينما يُعلِن الديمقراطيون عن أنفسهم باعتبارهم الحزب «الحقيقي» الذي يقف وراء الصناعة الأميركية، فقد يسخرون بسهولة من ترامب باعتباره «خائناً للعمال» ومن فانس باعتباره رأسمالياً مغامراً. لكن يبدو أنهم غير راغبين وغير قادرين على محاربة الشوفينية الاقتصادية التي تغذي شعار «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» حقاً. تبنَّى الديمقراطيون، مثل نظرائهم الأوروبيين الوسطيين، تكتيكاً محكوماً عليه بالفشل يتمثَّل في التحدث بقوة عن الهجرة «غير القانونية» كوسيلة لتقويض أشكال أكثر شراسة من كراهية الأجانب. لكن بمجرد تصوير الهجرة باعتبارها «مشكلة»، فإن الأمر يعود بالنفع دائماً على أقصى اليمين، الذي لا يحتاج إلى تقديم «حلول» طالما أنه يُحوِّل الضيق الاجتماعي بعيداً عن البِنَى ونحو كبش فداء.
قد يدافع الديمقراطيون عن سجلهم في عمليات الترحيل واسعة النطاق باعتبارها شراً ألطف وأقل خطورة، لكنهم مخطئون إذا تصوروا أن هذا يُمثِّل ترياقاً لصرخة الجمهوريين الانتخابية «الترحيل الجماعي الآن». إن كل الاستدعاءات الشوفينية «للعامل الأميركي» التي تعامل العمال الهايتيين - أو العمال المكسيكيين أو الصينيين أو السلفادوريين - باعتبارهم من الدرجة الثانية تؤدي في نهاية المطاف إلى سياسة محصلتها صفر، والتي، بغض النظر عن مدى غضبها من «وول ستريت»، ستمنح الرأسماليين دائماً تصريحاً بالمرور، حتى لو سمحت لهم بالتظاهر بأنهم أصدقاء «الرجل العامل».
في عالم يتَّسم بالنمو المتقلص، والتفاوت المتزايد، وأزمات المناخ والحرب، ستُعزِّز القومية الاقتصادية دائماً اليمين المتطرف، سواء داخل أو خارج السلطة.
نُشِر هذا المقال في In These Times في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الكاتب.