معاينة الانتخابات الأميركية

الرأسمالية آلة لصنع الحرب

في ظل الانحدار السريع للحزب الديمقراطي نحو نزعة محافظة جديدة متشدّدة على مدى العقود القليلة الماضية، ربما لم تكن هناك لحظة خُلِعَت فيها الأقنعة مثل لحظة احتفال كامالا هاريس بتأييد ديك تشيني لها، واحتضانها المقابِل لليز تشيني لمرافقتها في مسار الحملة الانتخابية.

وعلى الرغم من فقدان الذاكرة التاريخي الجماعي الذي يبدو أنه استقر مثل دثار مُبلَّل على الكثير من الديمقراطيين الأميركيين الذين يبدو أنهم يقبلون هذا التأييد من دون سؤال، فإنه من المهم أن نتذكّر أن نائب الرئيس ديك تشيني كان مجرمَ حرب سيئ السمعة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ومهندس بعض أبشع تقنيات التعذيب (فكر في صور سجن أبو غريب)، وإساءة معاملة السجناء، والاحتجاز غير القانوني، وممارسات الاستجواب التي أشرفت عليها هذه الدولة. اختلق تشيني عدداً لا يحصى من الأكاذيب التي قادت البلاد إلى غزوها غير القانوني للعراق في العام 2003، والذي انتهى إلى إزهاق أرواح أكثر من مليون شخص. وكان مسؤولاً عن الكثير من انتهاكات الحقوق الدستورية التي طالت مواطنين أميركيين، مثل الاحتجاز من دون محاكمة (بما في ذلك لمواطنين أميركيين)، والمراقبة من دون مذكرة قضائية، والتنصُّت من دون مذكرة قضائية، وهي الأشياء التي أصبحت القاعدة الجديدة في المراقبة العامة في الولايات المتحدة.

ديك تشيني هو الرئيس التنفيذي السابق لـ«هاليبرتون»، وهي شركة خدمات نفطية تُقدِّم خدمات بناء ودعم عسكري، شاركت وشركتها التابعة، «كيلوغ براون آند روت»، بشكل كبير في إعادة بناء العراق بعد الغزو الأميركي في العام 2003. وتشير التقديرات إلى أن «كيلوغبراون آند روت» حقَّقت مليارات الدولارات من إعادة بناء العراق بعد الحرب. وكان تشيني، الذي تنحَّى عن منصبه في «هاليبرتون» في العام 2000، لا يزال يتلقَّى ما يصل إلى مليون دولار سنوياً كتعويض مؤجَّل في العام 2003، إذ لَعِبَت «هاليبرتون» دوراً رئيساً في تعامل إدارة بوش مع إنتاج النفط في العراق بعد الحرب - وهي قصة كلاسيكية في ظاهرة «الباب الدوار» بين الجيش والقطاع الخاص والحكومة.

ولذلك، من اللافت للنظر أنه على الرغم من السجل الإجرامي الفظيع لتشيني، كانت هاريس فخورة جداً بقبول تأييده وتفاخرت بذلك في مناسبات متعددة. كما تتفاخر بانتظام بتأييد 200 جمهوري عملوا سابقاً مع الرئيس جورج بوش وميت رومني وجون ماكين. في الوقت نفسه، قالت هاريس نفسها، في مقابلة أجريت في 8 تشرين الأول/أكتوبر في برنامج «ذا فيو» أن الاختلاف الرئيس بين إدارة هاريس وإدارة بايدن هو أنه على عكس جو بايدن، تُخطِّط هاريس لتوظيف جمهوري في حكومتها.

تتظاهر إدارة بايدن-هاريس بأن يدها مقيدة، بينما تواصل إرسال ملايين الدولارات في شكل حزم من المساعدات إلى إسرائيل

تتوافق كل هذه البيانات بشكل جيد مع المتحدثين في «المؤتمر الوطني الديمقراطي» لعام 2024 الداعم لهاريس في شيكاغو: حيث صعد 6 جمهوريين على المنصة مقارنة بصفر من الفلسطينيين، الذين تقدَّموا بالتماسات إلى حملة هاريس حتى تمنحهم صوتاً كجزء من «الحركة غير الملتزمة» - حتى تمنحهم فرصة واحدة فقط لسماع صوتهم من منصّة «المؤتمر الوطني الديمقراطي». لكن لم يتم سماع أي أصوات فلسطينية. نظم الناخبون العرب الأميركيون احتجاجاً خارج «المؤتمر الوطني الديمقراطي»، بينما تعرَّض مندوب ديمقراطي مسلم للضرب على رأسه بلافتة «نُحِب جو» داخل المؤتمر - وهو اعتداء جسدي على يد مندوب ديمقراطي آخر.

ووفقاً لعباس علوية، المؤسِّس المشارك «للحركة الوطنية غير الملتزمة» والموظَّف السابق بـ«الكونغرس»، ترفض حملة هاريس الآن حتى مقابلة أي أعضاء من «الحركة غير الملتزمة» لأن هاريس ترفض مقابلة أي شخص لم يؤيدها بالفعل. وفي 11 تشرين الأول/أكتوبر، طردت حملة هاريس، بالاشتراك مع ليز تشيني، ديمقراطياً أميركياً مسلماً من تجمُّع انتخابي في مترو ديترويت، وهُدّد بالاعتقال، على الرغم من أنه كان قد أكد حضوره، واجتاز إجراءات الأمن، وكان جالساً بالفعل في الحدث، في الوقت الذي طردوه فيه. حظاً سعيداً، يا هاريس، مع الصوت العربي الأميركي في تشرين الثاني/نوفمبر!

وفي لفتات واضحة أخرى لمكانتها كمحافظة جديدة يمينية، تَعِد إعلانات حملة هاريس بأن تكون أكثر صرامة بشأن الهجرة غير الشرعية من ترامب. وتكرّر هاريس حتى الغثيان شعارها حول «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، حتى مع استمرار إسرائيل في مذبحتها الوحشية وشنها غارات جوية يومية تقتل مئات الأشخاص (في غزة ولبنان) - غارات جوية على المدارس والملاجئ والمستشفيات وعلى أحياء بأكملها، واستهداف لعمال الإغاثة التابعين للأمم المتحدة واللاجئين النازحين في الخيام، وحرق الأطفال والمرضى أحياء. تتظاهر إدارة بايدن-هاريس بأن يدها مقيدة، بينما تواصل إرسال ملايين الدولارات في شكل حزم من المساعدات إلى إسرائيل.

ومؤخراً، عندما سُئل تيم والز، الذي اختارته هاريس لمنصب نائب الرئيس، في مناظرة مع جيه دي فانس، عما إذا كان ينبغي للولايات المتحدة أن تدعم ضربة استباقية من جانب إسرائيل على إيران، رد قائلاً: «إن توسع إسرائيل ووكلائها ضرورة أساسية مطلقة للقيادة الثابتة للولايات المتحدة هناك». وهذه هي المرة الأولى، على حد علمي، التي يدعو فيها الحزب الديمقراطي الأميركي علناً إلى توسُّع إسرائيل في دول ذات سيادة أخرى، على الرغم من أن الولايات المتّحدة دعمت منذ فترة طويلة توسُّع إسرائيل من خلال التمويل والعمليات الاستخباراتية وما إلى ذلك.

والآن تستمر الولايات المتحدة في تسليح إسرائيل بينما تنفّذ المراحل الأخيرة من الإبادة الجماعية في غزة، وحملة القصف في لبنان، والهجوم الذي وعدت به على إيران. ومن الجدير بالذكر مرة أخرى أن الرئيس السابق ريغان منع إسرائيل من قصف لبنان في العام 1982، بمكالمة هاتفية واحدة. لكن الديمقراطيين المحافظين الجدد اليوم هم بوضوح على يمين ريغان، عندما يتعلّق الأمر بتقديم الدعم والتحريض على جرائم الحرب والإبادة الجماعية. لا تُظهِر الولايات المتّحدة أي علامات على ضبط النفس أو الدبلوماسية بينما تخطّط إسرائيل لضربة كبرى أخرى ضد إيران. ويبدو الأمر وكأننا على شفا حرب عالمية ثالثة.

لا تُظهِر الولايات المتّحدة أي علامات على ضبط النفس أو الدبلوماسية بينما تخطّط إسرائيل لضربة كبرى أخرى ضد إيران. ويبدو الأمر وكأننا على شفا حرب عالمية ثالثة

في الوقت نفسه، أسقطت إدارة بايدن/هاريس كل الحديث عن وقف إطلاق النار الذي كان من المفترض أنهم «يعملون بلا كلل» من أجله في الأسابيع التي سبقت «المؤتمر الديمقراطي». ووفقاً لأكبر شهيد أحمد، كبير المراسلين الدبلوماسيين لدى «هافينغتون بوست»، فإن «فكرة أنهم سيُحقِّقون صفقة، ويعيدون الرهائن إلى ديارهم، ويرسلون المساعدات إلى الفلسطينيين، ويوقِفون القصف والمجاعة، لم تَعُد موضع نقاش في هذه المرحلة. الشيء الجديد اللامع هو غزو لبنان، والفرصة والأمل في ألا تصل غزة إلى عناوين الأخبار الرئيسة».

وفي 1 تشرين الأول/أكتوبر، في لحظة نادرة من الصدق، قال المتحدّث باسم البيت الأبيض ماثيو ميلر: «لم نرغب قط في رؤية حل دبلوماسي مع حماس». ثم عندما سأله المراسل في حيرة: «حسناً، وماذا عن وقف إطلاق النار؟!»، قال ميلر: «أردنا أن نرى وقفاً لإطلاق النار، لكننا كنا ملتزمين دائماً بتدمير حماس». جاء هذا التصريح العدواني قبل أيام من قيام إسرائيل بقتل رئيس المكتب السياسي لحماس ورئيس مفاوضيها، يحيى السنوار. وجاء بعد يومين فقط من قيام إسرائيل بقتل الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، الذي وافق على وقف لإطلاق النار بين إسرائيل ولبنان قبل ساعات فقط من اغتياله.

ألا توجد نهاية لاستعداد هذه الإدارة الأميركية لدعم الإبادة الجماعية، والغزو غير القانوني، والقتل خارج نطاق القضاء، وتوسيع الحرب الأميركية الإسرائيلية في جميع أنحاء غرب آسيا، بينما يكافح سكان الولايات المتحدة داخل وطنهم - حيث لا يزال كثيرون منهم يسبحون في أحيائهم بعد موجة من الأعاصير القاتلة؟ وقد شهدت الطبقة العاملة الأميركية من الصعوبات الاقتصادية في العقد الماضي أكثر مما شهدته في أي وقت مضى في التاريخ الحديث. 

الحزب الواحد: سياسة خارجية واحدة لحكم العالم

على الرغم من أن ملاحظة تبنِّي الحزب الديمقراطي لنزعة محافظة جديدة تُحرِّض على الحروب قد تبدو شيئاً صادماً بالنسبة إلى بعض التقدميين، فإنها ليست ظاهرة جديدة على الإطلاق. ففي مقابلة حديثة مع غلين غرينوالد، لخَّص جيفري ساكس، الخبير الاقتصادي الشهير عالمياً والأستاذ في «جامعة كولومبيا»، حال قادة السياسة الخارجية الأميركية منذ العام 1991 (سقوط الاتحاد السوفياتي)، قائلاً:

«ترسَّخت عقيدة «الدولة العظيمة أحادية القطب التي لا غنى عنها» في العام 1992، ودوَّنها بول وولفويتز، ونفَّذها في البداية وزير الدفاع ديك تشيني في عهد بوش الأب. واستندت هذه العقيدة إلى الحاجة إلى توسيع «حلف شمال الأطلسي»، وهو الأمر الذي هيمن على رئاسة بيل كلينتون.

وبعد تولي جورج بوش الابن منصبه في العام 2001، أصبحت فيكتوريا نولاند نائبة مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس آنذاك، ديك تشيني.

ثم جاء أوباما في العام 2008، الذي افتُرِضَ أنه رئيس السلام. وأصبحت فيكتوريا نولاند المتحدثة باسم هيلاري كلينتون في وزارة الخارجية الجديدة. وانتقلت من كونها سفيرة بوش لدى «حلف شمال الأطلسي» في الفترة 2005-2008، عندما دفع بوش بتلك الحملة المتهورة بشكل غير عادي لتوسيع «حلف شمال الأطلسي» إلى أوكرانيا وجورجيا - سبب حرب أوكرانيا -، إلى كونها المساعدة الأولى لهيلاري كلينتون. ثم أصبحت مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأوروبية، ثم أصبحت الشخص الرئيس الداعم للإطاحة بالحكومة الأوكرانية في 22 شباط/فبراير 2014، أثناء «احتجاجات ميدان».

كانت وزارة الخارجية ذات يوم موطناً لكبار الدبلوماسيين في البلاد. وهي الآن موطن كبار جماعات الضغط التي تعمل لصالح المجمع الصناعي العسكري

ثم جاء ترامب في العام 2016. وواصل سياسات «حلف شمال الأطلسي». وهو الذي بدأ في تسليح أوكرانيا». لم يذكر ساكس هذا، ولكن الديمقراطيين أطلقوا دعوات عزل ترامب في العام 2019، بمجرد توقفه عن تسليح أوكرانيا. وحينها، ألقى كبير الداعمين لعزله، آدم شيف، خطابه الشهير حول سبب حاجة الولايات المتحدة إلى الاستمرار في تسليح أوكرانيا.

ثم جاء بايدن في العام 2021. وكما قال ساكس، «كان بايدن غارقاً حتى عنقه في المجمع الصناعي العسكري طوال حياته المهنية. يأخذ المال منه، ويمارس دور الوسيط فيه، ويؤدّي دوراً محورياً به. كان الشخص الذي أعطى التأييد للإطاحة بيانوكوفيتش المنتخب ديمقراطياً في العام 2014، ولطالما دفع نحو توسيع حلف شمال الأطلسي».

والحجة الختامية لجيفري ساكس مفادها أن الولايات المتحدة، منذ العام 1991، امتلكت سياسة خارجية واحدة لحكم العالم، بغض النظر عن الرئيس. والآن، تَعِد هاريس بالحفاظ على السياسات الأساسية نفسها التي تبنَّاها بايدن، بخلاف إضافة جمهوري إلى حكومتها. لهذا، هل يجب أن يكون من المستغرب حقاً أن يدعم ديك تشيني و200 جمهوري وكل هؤلاء المحافظين الجدد هاريس؟ لا، هكذا يعمل الحزب الأحادي الحاكم منذ عقود. 

حكومة الولايات المتحدة وصناعة الحرب

في حين أن هذه السياسة ليست مفاجئة، فإن غياب أي جهود صادقة نحو الدبلوماسية في نظام الحزب الأحادي أمر جدير بالملاحظة. كانت وزارة الخارجية ذات يوم موطناً لكبار الدبلوماسيين في البلاد. وهي الآن موطن كبار جماعات الضغط التي تعمل لصالح المجمع الصناعي العسكري. على سبيل المثال، جاء وزير الخارجية بلينكن إلى الوزارة بعد أن شارك في تأسيس «مستشارو ويست إكسيك»، وهي شركة وصفها «مشروع الرقابة الحكومية» بأنها «تساعد شركات الدفاع في تسويق منتجاتها إلى «البنتاغون» والوزارات الأخرى». وفي العام 2020، وصف موقع «ذي إنترسيبت» فريق الأمن القومي التابع لبايدن بأنه «مجموعة مستهلكة من المستشارين الذين دعموا أو شنوا حروباً كارثية في العقدين الماضيين، وتشتهر المجموعة بالحفاظ على «الباب الدوار» للمجمع الصناعي العسكري مُشحَّماً ودائراً. ومن بين مستشاري بايدن الانتقاليين... الجنرال المتقاعد لويد أوستن (من شركة «رايثيون»)، ونائبة وكيل وزارة الدفاع السابقة للسياسة كاثلين إتش هيكس (من شركة «إيروسبيس كوربوريشن»)، والمسؤول المدني السابق رقم 2 في «البنتاغون»، روبرت وورك (من شركتي «رايثيون» و«غوفيني»)، من بين كثيرين يدورون في فلك الإدارة المقبلة». في الواقع، تُموِّل شركات صناعة الأسلحة ثلث فريق الأمن القومي لبايدن.

هناك شيء واحد يمكننا استنتاجه بسهولة من هذا الاستثمار الأميركي المتزايد دائماً في صناعة الحرب وهو أن الحرب مربحة للغاية، لكن الدبلوماسية ليست كذلك. إن الحرب مربحة للغاية، في الواقع، لدرجة أن المشرعين الأميركيين أنفسهم لا يستطيعون إبعاد أيديهم عن المكاسب، حتى عندما يجلسون في لجان الأمن القومي، ويديرون أعمالاً حكومية رسمية. دعونا نلقي نظرة على بعض الأرقام. 

لا تزال الولايات المتحدة تمتلك أكبر ميزانية عسكرية في العالم - ما يُقدَّر بنحو 967 مليار دولار لعام 2024 - وهي ميزانية عسكرية أكبر من ميزانية الدول التسع التالية على القائمة التي لديها أكبر ميزانيات عسكرية وطنية مجتمعة.

لا تزال الولايات المتحدة أكبر مورد للأسلحة في العالم. فمنذ العام 2014 وحتى العام 2018، قدمت الولايات المتحدة 35% من صادرات الأسلحة العالمية. ومن العام 2019 وحتى العام 2023، قدمت 42%، بزيادة قدرها 17% بين هاتين الفترتين. وفي الفترتين، انخفضت حصة روسيا من صادرات الأسلحة العالمية بنسبة 53%.

في العام 2020، وفقاً لمجلة «أميركان بروسبكت»، «امتلك 51 عضواً في «الكونغرس» وزوجاتهم ما بين 2.3 و5.8 مليون دولار من الأسهم في شركات من بين أكبر 30 شركة مقاولات دفاعية في العالم». و«امتلك 18 عضواً في «الكونغرس» مجتمعين ما يصل إلى 760 ألف دولار من أسهم «لوكهيد مارتن»، أكبر شركة مقاولات دفاعية في العالم من حيث إجمالي عائدات الدفاع».

في العام 2022، وفقاً لـ«ريسبونسابل ستيتكرافت»، «جلس ما لا يقل عن 25 عضواً في «الكونغرس» في اللجان التي تشكل سياسة الأمن القومي بينما كانوا يتاجرون في الوقت نفسه بأصول مالية في شركات يمكن أن تخلق مصالح متنافسة مع عملهم، مثل شركات الدفاع. ومع انقسام حزبي شبه متساوٍ بشأن المكاسب، ربما وجد الديمقراطيون والجمهوريون مثالاً نادراً على أرضية مشتركة بينهما».

توفر دورات الدمار وإعادة الإعمار منافذ مستمرة لرأس المال المتراكم بشكل مفرط؛ أي أنها تفتح فرصاً جديدة لتحقيق الربح للرأسماليين العابرين للحدود الوطنية الذين يسعون إلى فرص مستمرة 

في العام 2022 أيضاً، وفقاً لشبكة «سي إن بي سي»، في الفترة التي سبقت الحرب الأوكرانية المدعومة من الولايات المتحدة ضد روسيا، تداول أكثر من 12 عضواً في «الكونغرس» (أو أفراد أسرهم) أسهماً في شركات أسلحة شاركت بشكل مباشر في الحرب: شركات مثل «رايثيون» و«شيفرون» و«أوكسيدنتال بتروليوم» و«كراودسترايك» و«ماراثون» و«أكاماي». وبلغ إجمالي هذه الصفقات حوالي 7.7 مليون دولار بدأت في الأول من شباط/فبراير 2022، قبل أيام فقط من بدء العمليات العسكرية الروسية. 

بالإضافة إلى الأرباح المباشرة التي يحققها أعضاء «الكونغرس» مباشرة من الحروب التي تدعمها الولايات المتحدة، يجب علينا أيضاً أن ننظر إلى الاتجاهات العامة لسوق الأوراق المالية مع تزايد عسكرة الاقتصاد العالمي.

في العام 2022، في الأسبوعين الأولين من العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، ارتفعت أسهم صناعة الحرب في جميع المجالات: ارتفعت أسهم «رايثيون» و«جنرال ديناميكس» و«لوكهيد مارتن» و«نورثروب غرومان» بنسبة تتراوح بين 8% و22%، مع قول أحد مستشاري «بوينغ» و«جنرال ديناميكس» و«لوكهيد مارتن» و«رايثيون تكنولوجيز»: «بالنسبة إلى صناعة الدفاع، عادت الأيام السعيدة مرة أخرى».

وفي تشرين الأول/أكتوبر 2024، وصلت الأسهم العسكرية إلى مستويات مرتفعة قياسية مع تصاعد الحروب في فلسطين ولبنان والتوترات مع إيران. سجلت أسهم «لوكهيد مارتن» و«آر تي إكس» («رايثيون» سابقاً) أعلى مستوياتها على الإطلاق في 1 تشرين الأول/أكتوبر 2024، بينما سجَّلت «إل ثري هاريس» و«نورثروب غرومان» أعلى سعر سهم لهما منذ عام 2022. 

وفقاً لصحيفة «فاينانشال تايمز»

«من المقرر أن تجني أكبر شركات الطيران والدفاع في العالم مستويات قياسية من النقد على مدى السنوات الثلاث المقبلة إذ تستفيد من زيادة الطلبات الحكومية على أسلحة جديدة وسط توترات جيوسياسية متزايدة. ومن المتوقع أن تسجّل أكبر 15 شركة مقاولات دفاعية تدفقات نقدية حرة بقيمة 52 مليار دولار في العام 2026 - وهو ما يقرب من ضعف تدفقاتها النقدية المجمعة في نهاية عام 2021».

 التراكم العسكري - مُحرِّك أساسي للاقتصاد العالمي

فماذا يقول كل هذا عن مسار الاقتصاد العالمي؟ في مقاله «الرأسمالية العالمية أصبحت معتمدة على صناعة الحرب للحفاظ على نفسها»، يشرح عالم الاجتماع ويليام آي روبنسون بالتفصيل كيف أصبح التراكم العسكري الآن محرّكاً أساسياً للاقتصاد العالمي. وفي حين كان من المنطقي دائماً تقريباً أن الحرب تحفز الاقتصاد، فإن تحليل روبنسون يتجاوز ذلك بكثير. فهو يُعرِّف «التراكم العسكري» على أنه: 

«حالة يعتمد فيها اقتصاد حربي عالمي على الدولة لتنظيم صناعة الحرب والسيطرة الاجتماعية والقمع لدعم تراكم رأس المال في مواجهة الركود المزمن وتشبع الأسواق العالمية. ويتم الاستعانة برأس المال الشركاتي العابر للحدود الوطنية لتنفيذ هذه الممارسات التي تنظّمها الدولة، والتي تنطوي على دمج التراكم الخاص مع عسكرة الدولة من أجل دعم عملية تراكم رأس المال. وتوفر دورات الدمار وإعادة الإعمار منافذ مستمرة لرأس المال المتراكم بشكل مفرط؛ أي أن هذه الدورات تفتح فرصاً جديدة لتحقيق الربح للرأسماليين العابرين للحدود الوطنية الذين يسعون إلى فرص مستمرة لإعادة استثمار كميات هائلة من النقد تراكمت لديهم بشكل مربح. هناك تقارب في هذه العملية بين الحاجة السياسية لدى الرأسمالية العالمية للسيطرة الاجتماعية والقمع في مواجهة السخط الشعبي المتزايد في جميع أنحاء العالم وحاجتها الاقتصادية إلى إدامة التراكم في مواجهة الركود».

كما أفهم هذا، فإن الربحية المترتبة على الحرب المستمرة تخلق حلقة تغذية مرتدَّة يراكم فيها الرأسماليون العابرون للحدود الوطنية كميات هائلة من الثروة من خلال الاستثمار في الأسلحة والعقود العسكرية والاستخبارات والمراقبة والشرطة وغيرها من أشكال السيطرة الاجتماعية. ومن خلال الاستثمار في صناعة الحرب على حساب الأولويات المحلية - التعليم والرعاية الصحية والإسكان وما إلى ذلك - يتكوّن المزيد والمزيد من السخط السياسي داخل الجماهير، داخل الطبقة العاملة، والمزيد من حاجة الطبقة الحاكمة للحروب والشرطة لقمع حركات المقاومة الشعبية. ولذلك، فإن الحكومات لا تزيد ميزانياتها العسكرية والشرطية كل عام فحسب، بل إنها تعيد استثمار هذه الأرباح مباشرة في اقتصاد الحرب. ومن ثمَّ، يستمر رأس المال العابر للحدود الوطنية في النمو من خلال هذه الدورة العنيفة من الربح والحروب والإبادة الجماعية والدمار الشامل، والتي تليها إعادة الإعمار الرأسمالية.

عندما عرض بنيامين نتنياهو خططه في أيلول/سبتمبر 2023 على الأمم المتحدة - خطط لمشروع اقتصادي ضخم يأخذ شكل قناة/ممر لربط الهند وأوروبا والشرق الأوسط - أظهر لجمهوره خريطة لقناة تمر مباشرة وسط فلسطين، عبر الضفة الغربية وقطاع غزة. لكنه لم يذكر الفلسطينيين. مثل هذا الممر العابر للحدود الوطنية لن يكون مشروعاً ضخماً للبنية التحتية الرأسمالية فحسب أو مشروعاً مربحاً بشكل لا يصدق للشركات التي تبنيه فحسب، بل سيكون مربحاً أيضاً للاقتصاد العالمي الإبادة الجماعية لتخليص فلسطين من الفلسطينيين، من أجل التحضير لهذا المشروع.

بالإضافة إلى ذلك، تحدَّث المسؤولون الإسرائيليون لعقود من الزمان عن احتياطيات النفط والغاز الطبيعي التي تقع قبالة ساحل غزة. ووفقاً لـ«تي آر تي وورلد»، «تعكس هيمنة إسرائيل على احتياطيات النفط والغاز في محيطها طموحاً طويل الأمد لتصبح مركزاً للطاقة ومركز اتصال إقليمي. وعلى هذا، وكما هي الحال في أي مسعى استعماري استيطاني، فإن التهجير والقتل الجماعي ليسا سوى الثمن الذي يتعيَّن دفعه لمواصلة الاستغلال الوحشي لموارد السكان الأصليين». لعله من المروع للغاية بالنسبة إلى معظم الناس أن يتصوروا أن هذه هي الطريقة التي يعمل بها اقتصادنا العالمي. ومن الأريح كثيراً أن نتظاهر بأننا ما زلنا نعمل في إطار ديمقراطيات تستجيب لاحتياجات الناس، بدلاً من إدراك أن الحكومات الوطنية أصبحت إلى حد كبير وكلاء للتراكم العسكري لرأس المال.

لا تزال الولايات المتحدة أكبر مورد للأسلحة في العالم. فمنذ العام 2014 وحتى العام 2018، قدمت 35% من صادرات الأسلحة العالمية. ومن العام 2019 وحتى العام 2023، قدمت 42%

في مقالها «الإمبراطورية الأميركية ليست حكومة تدير حرباً متواصلة، بل هي حرب متواصلة تديرحكومة»، كتبت كايتلان جونستون:

«إن فهم الإمبراطورية الأميركية ليس على أنها حكومة وطنية يصادف أنها تدير عمليات عسكرية متواصلة، بل على أنها عملية عسكرية متواصلة يصادف أنها تدير حكومة وطنية يزيل الكثير من الارتباك... فالحروب ليست مصممة لخدمة مصالح الولايات المتحدة، بل الولايات المتحدة مصممة لخدمة مصالح الحروب. إن الولايات المتحدة كدولة ليست سوى مصدر للتمويل والأفراد والموارد والغطاء الدبلوماسي لحملة متواصلة للسيطرة على الكوكب بالعنف العسكري الشامل والتهديد به».

وبعيداً من سياسات الهيمنة العالمية، فإن أي شخص لديه فهم أساسي للاقتصاد الماركسي يعرف أن الرأسمالية كنظام اقتصادي تتطلب نمواً مستمراً وربحاً ثابتاً واستخراجاً لا نهاية له للموارد من أجل تحقيق الربح. وإذا توقّفت الرأسمالية عن النمو وتوقفت عن الربح، فإنها تنهار. إنها ليست نظاماً يمكنه التوقف عن النشاط أو التوازن مع الأنظمة المترابطة الأخرى المحيطة به. عليها أن تتوسّع وتستهلك كل شيء وتخلق أرباحاً أكبر وأكبر حتى تلتهم مُضيفها. وهذا أحد التناقضات القاتلة في الرأسمالية، ولهذا السبب فإن الرأسمالية نظام اقتصادي غير مستدام داخل أنظمة بيئية هشّة. وهذا هو السبب أيضاً وراء تدمير الاقتصاد الرأسمالي العالمي المفرط في العسكرة لنظامنا البيئي بسرعة، لأن الحرب واحدة من أكثر الأنشطة المسبّبة لانبعاثات الكربون وتدميراً للبيئة على هذا الكوكب.

وفي هذه المرحلة من تراجع الرأسمالية الحتمي، أصبح هذا النظام الاقتصادي العالمي معتمداً على الحروب المستمرة. يتعيّن على الرأسمالية أن تكتسب أسواقاً جديدة دائماً، والحرب الآن هي إحدى الطرق الرئيسة التي يتبعها الاقتصاد العالمي لتحقيق ذلك، إن لم تكن هي الطريقة الرئيسة. الحروب آليات لتوسُّع السوق. وإذا كنت تعتقد أن الدول صاحبة سيادة ولديها قوة عليا في السوق، فلن تتمكّن من فهم هذا. وإذا كنت تعتقد أن الحكومات ستفعل عموماً الأفضل لشعوبها ولن تبدأ حرباً عالمية ثالثة أو حرباً نووية أو تُدمِّر المناخ بالكامل لتحقيق أرباحها، تكون قد أخطأت الهدف.

كما هي الحال مع عقود النفط التي أبرمتها «هاليبرتون» خلال فترة إعادة بناء العراق، وعقود «شيفرون» في أوكرانيا، والممرّ الذي يخطط له نتنياهو فوق غزة المدمرة، فإن الغنائم المحتملة التي تأتي من هذه الحروب الإبادية والمشاريع الاستعمارية تتغلَّب على أي مخاطرة أو مصلحة وطنية. وعلى حساب كل شيء - الأمن القومي، والدبلوماسية، والمكانة الدولية، وبقاء الإنسان - تستعد حكومات كثيرة بكل سرور للتوقيع على رعاية إبادة جماعية (كما نشهد الآن) من أجل المشاركة في غنائم الحرب. والآن أصبحت حكومات كثيرة من بين عملاء المجمع الصناعي العسكري. وهي في حالة سُكر من أرباح الحرب. إن الرأسمالية آلة لصنع الحرب.

نُشِر هذا المقال في Counter Punch في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة من الجهة الناشرة.