معاينة capitalism isn't working protest

مرّة أخرى عن النيوليبرالية
الرأسمالية والأزمة الدائمة ومستقبل الإنسانية

  • الجموح الرأسمالي الذي نراه حالياً يحول البشر (وهم محور اهتمام الاقتصاد كما هو مفترض) إلى فائض غير مرغوب فيه، موزع بين مدن صفيح على امتداد العالم، حتى في بعض بلدانه المتقدمة. هذا غير استنزاف الطبيعة إلى درجات خطر مرعبة تهدد بتغيير طبيعة الحياة خلال نصف القرن المقبل

  • ليست هناك أي خيالية في التفكير في عالم مخطط ديمقراطياً من أسفل؛ عالم يعيش الناس فيه في رغد ومساواة. ربما تكون المسيرة صعبة ومؤلمة، لكن التفكير فيها والتخطيط لها والعمل من أجلها هو الأمل الوحيد لإنقاذ الكوكب من نظام الفوضى والاستغلال القائم.

في مقال سابق لي على موقع «صفر» تناولت المرحلة الحالية من الرأسمالية التي بدأت بوادرها تظهر منذ سبعينيات القرن العشرين، والمسماة بالنيوليبرالية، من زواياها الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية. في المقال الحالي أتابع تحليل النيوليبرالية، مُركّزاً على جانبها الاقتصادي، في محاولة للكشف عن طبيعتها الأزموية وتناقضاتها الداخلية التي وصلت إلى حدّ جد خطر في المرحلة الأخيرة.

نهاية النيوليبرالية؟

يتندر الكاتب والمؤرخ الماركسي الأسكتلندي الراحل مؤخراً نيل ديفيدسون على المؤرخ البريطاني الماركسي الأشهر إريك هوبسباوم (1917-2012)، قائلاً إن هوبسباوم «كان يعلن بشكل دوري عن وفاة النيوليبرالية خلال سنوات الثمانينيات والتسعينيات وصولاً إلى مذكراته في 2002... لكنه امتنع عن ذلك في 2008، على الرغم من أن إعلاناً كهذا في ذاك التوقيت كان سيعتبر أكثر مناسبة ومعقولية».

وبالفعل فإن الحديث عن نهاية النيوليبرالية يتزايد منذ أزمة 2008 الاقتصادية، وقد تزايد أكثر وأكثر بعد أزمة كوفيد-19 خلال الأعوام القليلة السابقة. على سبيل المثال، يشير جوزيف شونارا (محرّر مجلة إنترناشيونال سوشياليزم الماركسية البريطانية) إلى كثيرين من المحلّلين الاقتصاديين ومن الساسة الذين يعلنون «نهاية النيوليبرالية»، بدءاً من رانا فوروهار، المعلقة الاقتصادية في الفاينانشيال تايمز، الصحيفة التي تحمل وجهة نظر الرأسمالية، ومروراً بجوزيف ستيغليتز، الاقتصادي النيو كينيزي، وصولاً إلى جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، وغيرهم كثيرون.

يستند هؤلاء إلى أدلة من نوع أن النظرية النيوليبرالية، كما أرستها مدرسة شيكاغو في الاقتصاد، تؤكد على ضرورة عدم تجاوز الدولة دور «الدولة الحارسة»، بينما يشير الواقع العملي إلى أن الدولة في الغرب المتقدم كبيرة، يصل فيها الإنفاق العام إلى حوالي 50% من الناتج المحلي الإجمالي في كثير من الأحيان، ولا يقل في كلّ الأحيان عن ثلث الناتج.

الدولة النيوليبرالية وأكبر ساستها ومنظّريها كانوا يتباهون بسياسات تركز على فضائل تقليص دور الدولة في الأسواق، بينما يلجأون جميعاً إلى هذه الدولة نفسها حال وقوع النظام في أزمة

وتعضيداً لفكرة نهاية النيوليبرالية، يشير آخرون إلى حزم الإنقاذ المالي للشركات الرأسمالية الكبرى، والتي وصلت إلى حد التأميم في حالتي بنكي الرهون العقارية Freddie Mac وFannie Mae إبان أزمة 2008، وذلك قبل إفلاس The Lehman Brothers Inc في 15 أيلول/سبتمبر 2008، وهو رابع أكبر بنك استثماري في الولايات المتحدة. وقد أدى إفلاسه إلى إندلاع الأزمة على نطاق عالمي، واعتبرت أكبر أزمة في تاريخ الرأسمالية بعد أزمة ثلاثينيات القرن العشرين الشهيرة. وفي الاتجاه نفسه، وعبر الشهور اللاحقة لسقوط Lehman Brothers، اشترت الحكومة 77.9% من أسهم شركة التأمين العملاقة AIG وحصة تقدّر بنحو 36% من Citigroup، وهي من أكبر شركات وول ستريت المالية، وغير ذلك من الحالات.

ومن ناحية ثالثة يشير كثيرون إلى اتساع نطاق النزعة الحمائية الجمركية والدعم المالي للشركات المحلية التي تهدّد بها الولايات المتحدة، والتي تتم بالفعل في بعض الحالات، وذلك كله على النقيض من بنود اتفاقية "الغات" التي خلقت أصلاً لتحرير التجارة. يشيرون مثلاً إلى أن بايدن واصل، بل زاد، من سياسة ترامب في وضع التعريفات الجمركية العالية على عدد من السلع مثل العربات الإلكترونية والخلايا الشمسية ورقائق أشباه الموصلات، وذلك بالتحديد في مواجهة الصين التي تعتبر بالنسبة إلى الإدارات الأميركية – جمهورية كانت أو ديمقراطية – الخطر الأكبر على الرأسمالية الأميركية.

النظرية والواقع

أنا، على العكس، أرى أن إعلان وفاة النيوليبرالية لم يحن بعد، وأرى أنه من الأدق الحديث عن «أزمة النيوليبرالية وانتقائيتها» وليس وفاتها.

نلاحظ أن كل الأمثلة التي أوردناها في القسم السابق تدور حول دور الدولة التدخلي في الاقتصاد. بدءاً من حجم الإنفاق العام الكبير (الذي لم يقل أصلاً في الدول الكبرى منذ بداية عهد النيوليبرالية)، مروراً بالتأميمات وشراء الأسهم والحصص في الشركات المُفلسة، وانتهاءً باتساع نزعة الحمائية الجمركية، نجد أن مشكلة مخالفة الواقع للنظرية تدور حول دور أكبر للدولة مما تقضي به مدرسة شيكاغو النظرية.

كل هذه الأمثلة علامة أزمة وليست إعلان وفاة. على الأقل منذ بدء القرن العشرين، نجد أن دور الدولة التدخلي يزيد مع أزمة النظام. وإذا لم تنقذ «الدولة الرأسمالية» الرأسمالية الخاصّة وقت عثرتها، فلماذا وجدت من الأصل؟

التناقض الحقيقي والزيف البائن في حالتنا هذه هو فقط أن الدولة النيوليبرالية بالذات وأكبر ساستها ومنظّريها كانوا يتباهون بسياسات واستراتيجيات كلّها تركز على فضائل تقليص دور الدولة في الأسواق، وعلى دور «اليد الخفية» الأكيد في خلق التوازن السحري في الأسواق، بينما يلجأون جميعاً إلى هذه الدولة نفسها حال وقوع النظام في أزمة. وهذا بالضبط ما يمكن تسميته بـ«مكر التاريخ».

هذا فضلاً عن أنه حتى تاريخه، لم نرَ أي منظومة من السياسات والتوجّهات، سواء نظرياً أو عملياً، تطرحها الرأسمالية على نفسها لحل أزمة النيوليبرالية، عدا خليط من تدخّلات الدولة لحماية النظام النيوليبرالي من نفسه، وهي التدخلات التي لم تحل أي مشكلة من مشاكل النيوليبرالية الكبرى، بل ربما زادت منها، كون أنها تحمي الشركات الكبرى والمتعدّدة الجنسية والدول المتعثرة من الآثار المدمّرة للنيوليبرالية التي تواصل استنزاف الكوكب وتدميره.

المشكلة الحقيقية، هنا، في ظني، هي في طريقة النظر إلى النيوليبرالية وفهمها. جاء التوجه ناحية المرحلة النيوليبرالية بطريقة التجربة والخطأ وليس بطريقة التطبيق الحرفي لكتابات مدرسة شيكاغو أو توصيات توافق واشنطن. لم يكن حب حرية السوق هو سبب التوجّه ناحية النيوليبرالية، بل كانت الأزمة هي التي أدّت إلى تطبيق تجريبي لجملة سياسات - أطلق عليها فيما بعد النيوليبرالية - للخروج من أزمة وقعت فيها الرأسمالية في مطلع السبعينيات من القرن العشرين.

وتأكيداً على ذلك، يمكننا القول إن التطبيق الأول للنيوليبرالية بدأ أبكر بكثير من الإعلان عنها كسياسة متكاملة، وذلك عندما أنهت الولايات المتّحدة في 15 آب/أغسطس 1971 سياسة سعر الصرف الثابت التي عبّرت عنها اتفاقية بريتون وودز، التي أتفق عليها رسمياً بين دول الكتلة الغربية في العام 1944. وبذلك بدأ عهد تعويم العملات واستخدام الغطاء المالي الدولاري بدلاً من الذهب.

صحيح أن تشيلي، وهي الدولة الأولى التي اتبعت السياسات النيوليبرالية على خلفية انقلاب عسكري دموي ضد رئيس منتخب، قد استعانت بمن يطلق عليهم «صبية شيكاغو»، إلا أن اتباعها لهذه السياسة لم يغر دولاً أخرى كبرى باللحاق بها إلا بعد سنوات (عندما انتخبت مارغريت تاتشر رئيسة لوزراء بريطانيا في العام 1979، ورونالد ريغان رئيساً للولايات المتحدة في العام 1981).

إذاً، لم تكن النيوليبرالية الرأسمالية تطبيقاً حرفياً لنظرية بديلة للكينزية، بل هي مجموعة سياسات جاءت، كما قلنا، كتجربة لحل أزمة ربيع 1973 الاقتصادية (أكبر أزمة اقتصادية مرّت بها الرأسمالية بعد أزمة الثلاثينيات حتى ذلك الحين).

وكعادة السياسات التي تنقل الرأسمالية من مرحلة إلى مرحلة أخرى، فإنها تتكوّن عبر الزمن - عبر قرارات تتّخذ في الغرف المغلقة، وعبر قوانين تضعها البرلمانات، وعبر تغيير في توجّهات الشركات الكبرى، وعبر ضغوط كثيرة معلومة وغير معلومة من جانب رأس المال - وعندما تتبلور السياسة في صورتها الأوضح نكتشف أنها لا تطابق النظريات التي بلورها الأكاديميون في جامعاتهم المغلقة.

أزمة الثلاثينيات

في نظري أن كل السمات المشار إليها على أنها مخالفة لسياسة الدولة الحارسة ومخالفة بالتالي للنيوليبرالية النقية، من الإنفاق العام الكبير إلى التأميم إلى الحمائية الجمركية، لا تدل في الحقيقة على أن الليبرالية قد انتهت، بل على أنها في أزمة (يمكننا القول إن النيوليبرالية كحل لأزمة 1973 ولدت مأزومة منذ بداية تطبيقها)، أكثر مما تدل على أنها انتهت وولى عهدها.

ذلك أن زيادة تدخل الدولة في الاقتصاد كان دائماً يزيد كلّما تورّطت الرأسمالية في أزمة، ويزيد التدخل بمقدار عمق الأزمة. حتى في أزمة 1929، الأزمة الأكبر في تاريخ الرأسمالية، والتي يقال إنها الأقل في أزمات القرنين العشرين والحادي والعشرين في درجة تدخل الدول لحلها، كان لتدخل الدولة دوراً كبيراً فيها، على الرغم من التلكؤ والتدرجية في التدخل. على سبيل المثال، بدأ تطبيق سياسة «العهد الجديد» (The New Deal) في الولايات المتحدة في العام 1933، بعد اندلاع الأزمة بـ4 سنوات كاملة، وذلك بعد انتخاب فرانكلين روزفلت رئيساً للولايات المتحدة؛ نقول إنه حتى في أزمة 1929 طبّقت الولايات المتّحدة - متأخّرة وبالتدريج - سياسة جديدة تعتمد في معظم جوانبها على تدخل الدولة: التدخل في سياسات البنوك لضمان عدم انهيارها، وضع قوانين للتعامل الحسن للشركات لضمان منع الاحتكار، وغير ذلك من الأدوات.

كل السمات المشار إليها على أنها مخالفة لسياسة الدولة الحارسة والنيوليبرالية النقية، لا تدل في الحقيقة على أن الليبرالية قد انتهت، بل على أنها في أزمة

وفي ظل هذه الكارثة المروعة لم تكن الولايات المتحدة وحدها هي التي مدّت يد الدولة لإنقاذ الاقتصاد، بل كان الأمر المشترك بين كل الدول المتقدمة (خارج الكتلة السوفياتية بالطبع) هو زيادة تدخل الدولة، بل واللجوء شبه الكامل إلى رأسمالية الدولة كما في حالة ألمانيا تحت حكم هتلر.

إذاً، إن تدخل الدولة هو علامة أزمة أكثر منه علامة تحوّل اقتصادي كبير يُدخل الرأسمالية في مرحلة جديدة (كما سنرى لاحقاً).

الانتعاش الطويل

مع خروج الدول المختلفة من أزمة الكساد العظيم (1929-1939)، ثم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، دخل العالم كله في أطول وأهم مرحلة انتعاش مرّت بها الرأسمالية حتى يومنا هذا.

ويعتبر فهم أسباب هذا الانتعاش الطويل وتفسيره أمراً ضرورياً لفهم أزمة 1973 الاقتصادية التي كانت المدخل الأول ناحية التحوّل النيوليبرالي.

هناك ثلاث نظريات سائدة في الأوساط اليسارية والماركسية لتحليل انتعاش ما بعد الحرب العالمية الثانية.

النظرية الأولى هي أن تطبيق السياسات الكينزية هو صاحب الفضل الأول في طول الانتعاش. وتقوم السياسات الكينزية على الميل إلى تدخل الدولة وزيادة إنفاقها - وصولاً إلى أشكال جزئية من رأسمالية الدولة - لضبط الأسواق والتدخّل في الأنشطة الرأسمالية لضمان عدم وقوع الاقتصاد في الكساد. ويقتضي هذا تداخلاً كبيراً بين رأس المال والدولة، وإنفاق عام كبير، وسياسات ضمان اجتماعي واسعة النطاق.

والحق أن هذا التفسير غير مقنع، أولاً لأنه يتغافل عن طرح السؤال الأساسي، وهو لماذا فشلت الكينزية في القيام بدورها الحامي من الكساد بدءاً من أوائل السبعينيات، بل على العكس، فإن التفسير الأكثر انتشاراً الآن بين الاقتصاديين (غير الكينزيين) لدخول العالم في كساد 1973 هو بالضبط إفلاس الكينزية وانتهاء قدرتها على استيعاب الأزمات الاقتصادية.

الأمر الثاني أن السياسات الكينزية لا تتناول، من قريب أو بعيد، المسألة المركزية المسبّبة للكساد بين الماركسيين، وهي ارتفاع التركيب العضوي لرأس المال: نسبة رأس المال الثابت (الماكينات والمواد الخام) إلى رأس المال المتغيّر (قوة العمل المنتجة لفائض القيمة). لم يشرح لنا أحد أبداً كيف أن حزمة السياسات الكينزية تقلّل من هذا التركيب العضوي.

أما النظرية الثانية فهي التي تبنّاها وطوّرها الاقتصادي الماركسي إرنست ماندل، والتي تقول إن السبب الرئيس (وليس الوحيد) في انخفاض التركيب العضوي لرأس المال (بعد الحرب العالمية الثانية)، وبالتالي ارتفاع معدلات الأرباح، هو «الهزيمة التاريخية للطبقة العاملة العالمية» في خلال تلك المرحلة التاريخية، الأمر الذي ساعد في رفع الأرباح. ويشير ماندل للتدليل على «تلك الهزيمة» إلى عوامل كثيرة مثل هزيمة الثورة الروسية، وصعود الفاشية ثم النازية، والحرب الباردة، والمكارثية في الولايات المتحدة، وغيرها.

وفقاً لماندل، أدّت هزيمة الطبقة العاملة إلى ارتفاع هائل في معدّل فائض القيمة (القيمة المنتجة في الدورة الإنتاجية مخصوماً منها قيمة العدد والآلات والمواد الخام)، وصل أحيانا إلى 300%. وعلى ذلك، فإن هذا الارتفاع الصاروخي في معدل فائض القيمة عوّض الارتفاع في معدل رأس المال الثابت، ما أدّى إلى تخفيض التركيب العضوي لرأس المال.

يبدو لي - كما أعتقد أنه سيبدو للقارئ - أن هذا التفسير مفرط في لا معقوليته. وذلك لأنه لا يفرق بين الهزيمة الثورية والقوة النقابية. صحيح أن موجة الثورات في أواخر الحرب العالمية الأولى وما بعدها هزمت؛ وصحيح تماماً أن الميول الثورية وحركات الأنصار أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها قد تم احتوائها على يد الستالينية، إلا أن هذا شيء، وقوة النقابات في تلك المرحلة نفسها التي يشير إليها ماندل، شيء آخر. العكس هو الصحيح، كان هذا عصراً ذهبياً للنقابات وقدرتها على التفاوض مع الدولة، فضلاً عن أنه كان عصراً انحسرت فيه البطالة إلى أقصى مدى، ما أعطي الطبقة العاملة قوة فوق قوتها حينذاك.

قسم ثالث من الماركسيين، كمايكل كيدرون وكريس هارمان، وقبلهم اقتصادي أميركي كان يكتب باسم حركي (إما أوكس أو فانس) يفسّر الانتعاش الطويل من منظور آخر تماماً؛ منظور يعتمد على الكتاب الثاني من رأس المال والمعنون «عملية دوران رأس المال».

أهم ما يقدّمه ماركس في هذا الكتاب هو نظريته عن أن الاقتصاد الرأسمالي ينقسم إلى قطاعين: قطاع إنتاج السلع الإنتاجية (الماكينات والآلات)، وقطاع إنتاج السلع الاستهلاكية (السلع التي يستهلكها الأشخاص العاديون في حياتهم كالثلاجات والسيارات وغيرهما).

في هذا السياق، رأى مايكل كيدرون، ومن بعده كريس هارمان، بناءً على كتابات ماركسية أسبق، أن ماركس أغفل قطاعاً ثالثاً للإنتاج الرأسمالي، وهو القطاع الذي يمكن أن نسميه قطاع «الاستثمار غير المنتج». ففائض القيمة الخارج من دورة إنتاج سابقة، يمكنه أن ينتج سلعاً تستهلكها الطبقة الرأسمالية نفسها، لا سلعاً إنتاجية أو سلع استهلاكية فقط، وبهذا المعنى فإن رأس المال المستخدم في إنتاج تلك النوعية من السلع لا يدخل في دورة الاستثمار التالية، بل يدخل في بطون الرأسماليين أنفسهم.

بناء على هذا التقسيم طرح كيدرون وهارمان أن السلع الحربية والعسكرية تماثل في دورها دور السلع الاستهلاكية التي يستخدمها الرأسماليون كنوع من البذخ الاستهلاكي، وبذلك تدخل في القطاع الثالث. مثلاً القنابل والرؤوس النووية ليست سلعاً إنتاجية وهي لا تباع في الأسواق كسلع استهلاك عادية.

وفقاً لهذه النظرية المسماة بـ«اقتصاد الحرب الدائم»، فإن قوة العمل الموظفة في القطاع الثالث تكون غير منتجة لفائض قيمة، وبالتالي لا تساهم أي مساهمة في ارتفاع التركيب العضوي لرأس المال، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع الأرباح على مدى زمني طويل، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية.

السلع الحربية تماثل في دورها دور السلع الاستهلاكية التي يستخدمها الرأسماليون كنوع من البذخ الاستهلاكي

وهذا بالضبط ما حدث في سنوات الحرب الباردة، حين ارتفعت الميزانية الدفاعية نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة من أقل من 1% في السنوات الممتدّة بين عامي 1870 و1913، إلى 1.2% في السنوات الممتدّة بين عامي 1920-1938، إلى 10.2% بين عامي 1954-1969 (وهي سنوات ذروة الحرب الباردة)، ووصلت في العام 1953 وحده إلى ما يقترب من 14%.

لكن هذا الوضع، وفقاً لكيدرون، لا يمكن أن يستمر للأبد، فعامل اقتصاد الحرب الدائم استنزف نفسه في أواخر الستينيات، ما أدى إلى عودة القانون الأساسي للعمل وهو قانون ميل معدل الربح للانخفاض.

عودة الأزمة

يفسّر كيدرون وهارمان تراجع الاقتصاد منذ أواخر الستينيات حتى دخوله في الأزمة في السبعينيات على النحو الآتي: أن الولايات المتحدة تحمّلت وحدها تقريباً الميزانية الدفاعية لما أطلق عليه العالم الحر المنتصر في الحرب العالمية الثانية (وكان حجم اقتصادها يمثل نصف الاقتصاد العالمي تقريباً آنذاك)، بينما أعفيت من هذا العبء دولاً أخرى تنتمي إلى هذا المعسكر: بالذات ألمانيا واليابان.

وعلى الناحية الأخرى، وعلى أساس من اقتصاد أصغر وأضعف كثيراً، تحمل الاتحاد السوفياتي ميزانية حربية هائلة في عصر الردع المتبادل أثناء معظم سنوات الانتعاش الكبير.

أدى هذا، بالضرورة، إلى انخفاض هائل في التركيب العضوي لرأس المال لدى القوّتين الكبريين الخارجتين من الحرب العالمية الثانية، وفي المقابل إلى ارتفاع كبير في هذا التركيب في كل من ألمانيا واليابان.

وبينما تحمّلت الولايات المتحدة وروسيا عبء تخفيض متوسط التركيب العضوي على المستوى العالمي، استفادت دول كألمانيا واليابان من هذا التخفيض من دون تحمل ثمنه. ما أدى من ناحية إلى تطور تكنولوجي واقتصادي هائل في ألمانيا واليابان بضخّ الاستثمارات في صناعة الآلات المتقدّمة والحديثة، وفي المقابل إلى تباطؤ التقدم التكنولوجي في الولايات المتّحدة، ما هدّد وضعها التنافسي في الاقتصاد العالمي وعزّز وضع اقتصادات ألمانيا واليابان، وهي اقتصادات موجّهة ناحية التصدير.

وبالفعل شعرت الولايات المتّحدة بالتهديد، إذ ارتفعت وارداتها عن صادرتها للمرة الأولى منذ نهاية الحرب في العام 1971، ما دفعها إلى تخفيض الميزانية الدفاعية بمعدلات كبيرة منذ أواخر الستينيات، حتى وصلت إلى 8.5 % من الناتج المحلي في المرحلة بين عامي 1969 و1973، ثم إلى 6.6% بين عامي 1974 و1977.

هكذا تفوّقت عوامل المنافسة الشرسة بين المراكز المتقدّمة للرأسمالية العالمية، على عوامل الدفاع والإنتاج الحربي. ما أدى بدوره إلى عودة التركيب العضوي العالمي إلى الارتفاع، وإلى اتجاه معدلات الأرباح بالتبعية إلى الانخفاض إلى حد الوصول إلى أزمة 1973.

هذا كله طبعاً بالإضافة إلى بدء عصر النفط المكلف، بدءاً من تشرين الأول/أكتوبر 1973، مع الحظر النفطي الخليجي، ثم ارتفاع أسعار النفط اللاحق، وهو الأمر الذي يزيد من تكاليف الإنتاج من دون أن يؤتي أثراً في جانب تطوير التكنولوجيا وبالتالي الإنتاجية.

تغيرات الانتعاش الطويل

لكن الذي اكتشفته الرأسمالية هو أن عالم أزمة 1929-1939 يختلف كثيراً عن عالم أزمة 1973.

في خلال سنوات الانتعاش الطويل بدأت ظواهر العولمة تتبدى في الاقتصاد العالمي. فرأس المال الناتج من دورة التراكم الموسعة كان أكبر مما يمكن استيعابه داخل الدولة الوطنية الواحدة.

صحيح أن هذه ظاهرة قديمة، وحلّتها الرأسمالية في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين من خلال الاستعمار، وكذلك من خلال خلق عولمة جزئية (حيث تكون التجارة والإنتاج داخل كتل اقتصادية مختلفة). لكن الجديد هذه المرة أن عملية إعادة تقسيم العالم والهيمنة على أقسام منه من جانب الدول المتقدّمة لم يعد من الممكن حلّها من خلال حرب استعمارية جديدة في عصر القنبلة النووية والردع النووي.

كذلك، أصبح حجم الشركات الرأسمالية الكبرى داخل كل دولة يسمح لها بالاستثمار على نطاق عالمي وليس إقليمي فقط، وهو ما أدّى بدوره إلى إضعاف فرص الحرب بين دول تدخل في سلسلة إنتاج قيمة واحدة. صحيح أن كل شركة متعددة الجنسيات ترتكز في الأغلب على دولة واحدة كظهير لحماية مصالحها، لكن صحيح في المقابل أن هذه الشركات لها مصالح عالمية متداخلة تمنعها من الإمعان في المواجهة مع دول أخرى تترابط في سلسلة إنتاج القيمة نفسها. وهذا تناقض أفرزته عملية تجاوز رأس المال للدولة القومية.

أصبح الاستعمار غير المباشر الذي لا يعتمد على القوة العسكرية هو الأساس في السوق العالمي، خصوصاً في دول ما يطلق عليه العالم الحر

في ظل هذا التداخل، الذي أنتج ظاهرة الشركات المتعددة الجنسية، أصبح الاستعمار غير المباشر الذي لا يعتمد على القوة العسكرية هو الأساس في السوق العالمي، خصوصاً في دول ما يطلق عليه العالم الحر، الذي برزت فيه مراكز متقدمة تنافس الولايات المتحدة بشراسة كما سبق وأن وأشرنا.

أفضت هذه التطورات إلى عولمة رأس المال المالي والبنكي، إذ أصبحت العمليات الائتمانية وتبادل العملات عمليات عالمية متداخلة بين كل دول العالم.

كل هذه العوامل مجتمعة أضيف إليها ظاهرة لها أهميتها، وهي الهجرة الدولية ناحية الدول المتقدمة. أدى الانتعاش الطويل إلى فيض إنتاجي جلب معه هجرات واسعة نتيجة للحاجة لقوة العمل في المصانع والشركات الجديدة.

في البدء كانت ظاهرة هجرة العمالة مفيدة للرأسماليات المتقدمة، ولذلك شجّعتها. لكن بمرور الأجيال وتجنّس العمال المهاجرين بجنسية الدول التي هاجروا إليها، زاد عبء النفقات الاجتماعية بشكل كبير.

النيوليبرالية واقعياً

وهكذا أتت الإجراءات النيوليبرالية التي اتبعتها الدول الكبرى، والعالم كله، خصوصاً منذ بدء الثمانينيات، في حزمة تختلف نسبياً عن حلول الأزمات الرأسمالية الكبرى السابقة.

الخطوة الأولى المهمة، في الرأسماليات الكبرى وفي العالم كله، كانت تحطيم قوة العمال والنقابات التي كشرت عن أنيابها إبان الموجة الثورية في 1968، وحتى النصف الثاني من السبعينيات. وهذا ما فعله ريغان وتاتشر في خلال السنوات الأولى لحكمهما، حتى تراجعت النقابات وضعفت قوتها إزاء الدولة، وتذررت الطبقة العاملة من خلال عملية إعادة هيكلة محلية وعالمية؛ عملية تضمنت نقل المراكز الصناعية الكبرى من دول الشمال إلى دول الجنوب العالمي، وتضمنت ابتداع أشكال جديدة من العمل أقل في حمايتها للعمال، وتضمنت وضع العراقيل القانونية أمام الحركات الإضرابية، حتى في أكثر الدول المتقدمة ديمقراطية، وغير ذلك من العوامل.

أما الأمر الثاني، والأكثر أهمية، فقد كان اتساع السوق العالمي ليضم الصين، جزئياً، وبالتدريج (بعد «إصلاحات» دينغ شياو بنغ بدءاً من العام 1978 وفتحه السوق الصينية أمام العالم في ظل ما أطلق عليه «اشتراكية السوق»)، ثم بعد ذلك ضم الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية بعد أحداث العام 1989 في ألمانيا الشرقية والعام 1991 في الاتحاد السوفياتي، اللذين انعطفا انعطافاً حاداً تجاه اقتصاديات السوق النيوليبرالي.

هذا بالضبط ما جعل «النيوليبرالية الواقعية» تأخذ شكل «التحرير». فقد تسابقت الدول الكبرى في العالم على النفاذ إلى أسواق بعضها بعضاً، وإلى أسواق الصين والكتلة الشرقية والجنوب العالمي. وقد تطلّب هذا إزالة الحواجز الجمركية، وإرساء نظام يسمح للشركات الكبرى في السوق العالمي – الشركات متعدّدة الجنسية – أن تعمل بلا عراقيل على النطاق العالمي. وقد تطلّب أيضاً تغيير قوانين الدول (ولاسيما دول الجنوب) ناحية رفع الحماية عن القطاع الفلاحي للسماح بما يطلق عليه الـ agribusiness للنفاذ إلى القطاع الزراعي. وفوق هذا وذاك، فقد تطلّب الأمر - كما ذكرنا سابقاً - إضعاف الطبقة العاملة بما يكفي للسماح بارتفاع معدلات الاستغلال.

أما الخصخصة، فقد أدّت دوراً شبيهاً بدور الاستحواذات إبان أزمة 1929. تشتري الشركات العابرة للجنسية وحدات إنتاجية موجودة بالفعل بأقل كثيراً من سعرها الفعلي لتشغيلها وفق قواعد السوق الرأسمالي الحر. وبالطبع فقد صاحب الخصخصة تصفية واسعة النطاق للقطاع العام في كثير من دول الجنوب وفي الهند وغيرهم.

وهكذا فقط أصبحت العولمة الرأسمالية عولمة محاولات رفع معدلات الأرباح عبر تحول عمليات الإنتاج إلى عمليات عالمية، يطلق عليها سلاسل إنتاج القيمة العالمية، مستفيدة من انفتاح الأسواق للشركات العابرة للجنسية والشركات الكبرى. تسير سلاسل إنتاج القيمة العالمية على طريق استغلال انفتاح السوق أمامها لتوزيع عملية إنتاج السلعة على حلقات السلسلة بشكل يضمن أقل التكاليف الممكنة.

وفي هذا السياق، ولاستيعاب الفائض الاستهلاكي المرعب، تراخت عمليات توجيه وضبط البنوك ورأس المال المالي. أصبح الائتمان - وهو ما يؤدي في مرحلة ما إلى اقتصاد الفقاعة - أساساً من أسس تحقيق (realization) رأس المال في سوق عالمي يفتقر إلى طلب حقيقي مساو للناتج العالمي. من هنا نشأت ظاهرة الـ subprime lending، وهي التمويل والرهن على أساس من ضمانات ضعيفة ومخاطر عالية. أصبح العالم يعوم في بحر من السيولة (القوة الشرائية) التي تتجاوز قدراته الإنتاجية الحقيقية، ولكن بما يضمن تسويق كل المنتجات التي لا تجد مالاً كافياً لشرائها.

أزمة النيوليبرالية

هكذا سارت النيوليبرالية: حل عملي تأثيره محدود للارتفاع الكبير في التركيب العضوي لرأس المال الذي حدث في السبعينيات.

لكن هذا الحل العملي، ذو الطبيعة الانتقائية والمتغير بين حين وآخر، خلق معضلة أكبر للرأسمالية العالمية، وهو الآن يستهلك نفسه ويؤدّي إلى التخبّط والفوضى.

مع حدوث المعجزة الصينية وتزايد المراكز الرأسمالية المتقدّمة، خصوصاً في دول جنوب شرق آسيا، بل وفي روسيا وتركيا وإسرائيل وغيرهم، ومع تراجع الاقتصاد الأميركي من نصف الإنتاج العالمي بعد الحرب الثانية إلى ربعه اليوم، عدنا إلى عصر تعدّد المراكز الرأسمالية (multipolar system) وتنافسها الشرس على الأسواق.

من ناحية ثانية، فإن قيادة رأس المال المالي للرأسمالية العالمية، وسيطرة الشركات متعددة الجنسيات على سلاسل إنتاج القيمة، زاد من فوضى الأسواق، وقلّل كثيراً من قدرة الدول على السيطرة عليها.

ومن ناحية ثالثة، فإن التنافس المرعب بين الشركات الكبرى مثل مايكروسوفت وإنتل وغوغل على تطوير تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي (AI)، التي تتطلب استثمارات هائلة، ولكن تؤدي إلى تقليل هائل في دور قوة العمل الحية في العملية الإنتاجية، يرفع التركيب العضوي لرأس المال بمعدلات هائلة.

وهكذا، عندما أتت أزمة 2008 أثبتت أننا نعيش في عصر رأس مال الفقاعة الذي ينذر بالانفجار بين حين وآخر؛ عصر ارتفاع جديد نسبي في التركيب العضوي لرأس المال.

في عصرنا هذا لم يعد الإنفاق الدفاعي الكبير يؤدّي دوراً في تخفيض التركيب العضوي لرأس المال عالمياً، نظراً لتوقف الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أو أي دولة أخرى لها وزن في الاقتصاد العالمي عن تحمل ميزانية دفاعية ذات حجم كبير بما يكفي لتقليل متوسط التركيب العضوي العالمي بأي درجة ملحوظة (نسبة الإنفاق الدفاعي في الولايات المتحدة إلى الناتج المحلي الإجمالي وصلت في 2023 إلى 3.4%، وفي الصين إلى 1.8%، وذلك في أكبر اقتصادين في العالم).

وفي المقابل نجد أن كل الدول والتكتلات الكبرى، كما أشرنا لتونا، تستثمر في مجالات ذات تركيب عضوي شديد الارتفاع، وقد أصبحت الاستثمارات القائدة في الاقتصادات الكبرى كلها. حدث هذا كله، لكنه أصبح الآن ممزوجاً بقوة أكبر لرأس المال الخاص، وقدرة أقل للدولة على التدخل (إلا لصالح رأس المال وبضغط منه).

كل هذه العوامل هي التي تفسر شراسة الرأسمالية حالياً (أنظر.ي إلى حرب إسرائيل في غزة ثم لبنان، وإلى حروب روسيا المتعددة وآخرها حرب أوكرانيا، وهي حروب إقليمية مهمتها السيطرة على مناطق هيمنة للقائمين بالحرب)، وهي كذلك التي تفسّر محاولة الدول والشركات متعددة الجنسية بناء وحماية سلاسل إنتاج قيمة متماسكة وذات قدرة على هزيمة الآخرين في معركة السوق.

هذه العوامل كلها تعني أن الرأسمالية ودولها الكبرى ماضية بعزم في سياسة يمكن أن أسميها النيوليبرالية الانتقائية (pick and choose neoliberalism). فهنا نصارع من أجل «حرية التجارة»، وهناك نحارب من أجل «الحمائية». هنا – ولحماية الرأسمالية من نفسها – نؤمم بعض الشركات، وهناك نعتبر الدعوات للتحرير رجس من عمل الشيطان.

لكن الخلاصة الجوهرية هي أن ثلاثين أو أربعين سنة من الليبرالية، زادوا من فوارق الدخول بشكل غير مسبوق في تاريخ الرأسمالية، وأدوا إلى بناء مؤسسات رأسمالية ميزانياتها أكبر من ميزانية عدد من دول الجنوب مجتمعة، وأدوا إلى زيادة فوضى السوق تحت قيادة رأس المال المالي، في أكبر عملية نهب شهدتها البشرية منذ أكثر من قرن.

وحتى الآن لا يوجد مخرج، فجوهر الأزمة هو ارتفاع التركيب العضوي لرأس المال، التي لم يجد أي قطب من أقطاب الرأسمالية حلاً لها حتى الآن.

ولذلك نرى أن الجموح التنافسي الرأسمالي الراهن يزيد من العنف ومن الشراسة؛ الجموح الرأسمالي الذي نراه حالياً يحول البشر (وهم محور اهتمام الاقتصاد كما هو مفترض) إلى فائض غير مرغوب فيه، موزّع بين مدن صفيح على امتداد العالم، حتى في بعض بلدانه المتقدّمة. هذا غير استنزاف الطبيعة إلى درجات خطر مرعبة تهدد بتغيير طبيعة الحياة خلال نصف القرن المقبل.

الرأسمالية ودولها الكبرى ماضية بعزم في سياسة يمكن أن أسميها النيوليبرالية الانتقائية. فهنا نصارع من أجل «حرية التجارة»، وهناك نحارب من أجل «الحمائية»

هنا بالفعل تصدق مقولة البربرية أو الاشتراكية. لا تجد الرأسمالية حلاً سحرياً لمشكلة التركيب العضوي المركزية، كذلك الذي عاشت في ظله في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، بل نراها تتخبط وتنتج سياسيين من نوعية ترامب وبوتين، مفترض أنهم مسئولون عن «إنقاذ البشرية» بينما هما، وغيرهما، من أسباب الخراب الحالي.

أزمة الوقت الراهن، التي تحلّها فقاعة الأمولة بين حين وآخر، لا يجد لها أحد مخرجاً. إن الحاجة إلى تدمير نسبة كبيرة من رأس المال لخفض التركيب العضوي ليس لها سبيل، هذا بينما تتصارع الرأسمالية متعددة الأقطاب على القيام باستثمارات ترفع التركيب العضوي أكثر وأكثر. وهكذا يبدو أننا نعيش في عصر بلا مستقبل داخل الإطار الرأسمالي؛ نحن أسرى مسيرة الرأسمالية نحو الدمار الشامل.

لذا فمن أكثر الأمور منطقية وواقعية هي التفكير بجدّية في كيفية تجاوز هذا النظام الذي يعيش مرحلة أزمة شاملة طويلة الأجل. ليست هناك أي خيالية في التفكير في عالم مخطّط ديمقراطياً من أسفل؛ عالم يعيش الناس فيه في رغد ومساواة. ربما تكون المسيرة صعبة ومؤلمة، لكن التفكير فيها والتخطيط لها والعمل من أجلها هو الأمل الوحيد لإنقاذ الكوكب من نظام الفوضى والاستغلال القائم.


المصادر الرئيسية:

Neil Davidson, What Was Neoliberalism?, 2023

Chris Harman, Explaining the Crisis, 1984

Joseph Choonara, The Late, Late Capitalism Show, International Socialism, Issue 185

Mike Kidron, A Permanent Arms Economy, International Socialism (1st Series), 1967

Ernest Mandel, Late Capitalism, 1975

Gerard Dumenil & Dominique Levi, The Crisis of Neoliberalism, 2011

Joseph Choonara, The Monetary and the Military: Revisiting Mike Kidron Permanent Economy, International Socialism, Issue 171

Vincent Bevins, Make the economy scream: The Chicago Boys and the Tragedy of the Chilean Coup, The Nation, 14 November 2023

Ernest Mandel, Long Waves in Capitalist Development, 1980

International Monetary Fund, Government Spending, Percent of GDP

Karl Marx, Capital, Volume 2, The Process of Circulation of Capital, 1885