معاينة neoliberalism

ماذا تعني النيوليبرالية؟

  • أصبح حال السياسة في ظل صعود النيوليبرالية: إعادة هيكلة الدولة نيوليبرالياً، وتفريغ الديمقراطية من مضمونها، ونمو اليمين المتطرف، ونمو حركات جهادية أو غير جهادية رجعية، وتهميش لليسار المناضل والثوري ولقيم الاشتراكية والديمقراطية المباشرة، وتراجع للحركة العمالية وتحوّل نضالاتها إلى محض نضالات اقتصادية محدودة، وصعود حركات هوية أغلبها تحت قيادة طبقة وسطى بمطالب غير جذرية وبغير اتصال بالمستغلّين والمضطهدين الآخرين.

  • تمثّل النيوليبرالية طوراً متدهوراً من أطوار الرأسمالية. فعلى المستوى الاقتصادي هي تعني تعظيم الاستغلال واللامساواة والنهب، وعلى المستوى السياسي تعني تماسك أوليغاركية حكم رأسمالية كبرى، مع صعود لليمين الشعبوي والمتطرف أو للجهادية الرجعية، وعلى المستوى الفكري فهي تبني استقطاباً بين عقائدية جامدة ونسبية يائسة وخاملة.

منذ بدايات سبعينيات القرن العشرين، طفت إلى السطح، ثم تماسكت وترسخت، ظواهر جديدة نظّمت الرأسمالية في شكل جديد يمكن أن نعتبره المرحلة الخامسة من التطور الرأسمالي بعد مراحل أربعة سابقة هي: الرأسمالية التجارية في القرن السابع عشر وحتى ما يقترب من منتصف القرن الثامن عشر، والرأسمالية الصناعية التي بدأت مع الثورة الصناعية في إنجلترا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ووصلت إلى منتهاها في بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والرأسمالية الإمبريالية (الصناعية أيضاً) التي بدأت في الثلث الثالث من القرن التاسع عشر وأكسبت دولة السوق طابعاً تنافسياً على المستوى العالمي أدى إلى اندلاع حربين عالمتين في النصف الأول من القرن العشرين، ثم أخيراً رأسمالية دولة الرفاهة (الصناعية-الخدمية) في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات.

ثم أتت بعد ذلك المرحلة الخامسة، وهي المرحلة النيوليبرالية التي بدأت منذ مطالع السبعينات وما زلنا نعيشها حتى الآن.

في هذا المقال أحاول أن أرسم صورة للمرحلة النيوليبرالية في مستوياتها الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، محاولاً أن أبرز التفاعل الديالكتيكي بين هذه المستويات الثلاثة.

عن الرأسمالية بوجه عام

لفهم طبيعة النيوليبرالية، نبدأ بتذكير أنفسنا أن الرأسمالية عموماً وفي كل مراحلها تقوم على عملية التراكم (المتوسّع) في رأس المال. بتعبير آخر: فائض القيمة المتحقق من أي دورة من دورات الإنتاج الرأسمالي لابد أن يعاد تدويره في استثمارات جديدة على نطاق موسع؛ هكذا بلا توقف، دورة وراء دورة من التراكم (المتوسع)؛ أو كما قال كارل ماركس في كتابه  الأشهر والأهم «رأس المال»: Accumulate, Accumulate, Accumulate! This is Moses and the prophets!.

لكن التراكم المتوسع ليس بالضرورة طريقاً سهلاً معبداً. إذ أنه يواجه في طريق مهمته المقدسة عوامل معاكسة لابد له من حلها.

من أهم تلك العوامل هو أن التنافس بين الرأسماليين يؤدي بهم إلى السعي الدائب والدائم لتطوير التكنولوجيا («رأس المال الثابت» كما أطلق عليه ماركس) لرفع الإنتاجية، ومن ثم تقليل التكلفة من أجل جني أرباح أكثر من غيرهم من الرأسماليين. وهذا ما يؤدي، بعد أن يتبنى باقي الرأسماليين التكنولوجيات الجديدة للحاق بأصحاب الأرباح الأعلى، إلى ارتفاع معمم في نسبة رأس المال الثابت إلى «رأس المال المتغير» (هذا هو المصطلح الذي استخدمه ماركس لوصف العمال الذين هم مصدر فائض القيمة بعد أن يستغلهم الرأسماليون بإعطائهم أجوراً أقل من إنتاجيتهم)، ما يؤدي بدوره إلى تقليل النسبة من رأس المال الكلي التي يمكن استثمارها لإنتاج فائض القيمة في دورة تراكم جديدة، مما يفضي إلى انخفاض في الأرباح يصل دورياً إلى مستوى الأزمة الرأسمالية المعممة.

لفهم طبيعة النيوليبرالية، نبدأ بتذكير أنفسنا أن الرأسمالية عموماً وفي كل مراحلها تقوم على عملية التراكم (المتوسّع) في رأس المال

كذلك، فإن من العوامل المعاكسة للتراكم الموسع هو ميزان القوة الاقتصادية والسياسية بين العمال والرأسماليين. فإن كانت حركة العمال في صعود وذات قوة، تتجه الأجور إلى الارتفاع، مما يؤدي إلى تقليل العائد الرأسمالي. أما إن ضعفت حركة العمال واتسع جيش العمال الاحتياطي (ممثلاً في ارتفاع معدلات البطالة)، فإن هذا يعطي الفرصة للرأسماليين حتى يفرضوا شروط عمل أسوأ على الطبقة العاملة.

وأيضاً فإن قلة فرص الاستثمار نتيجة للإشباع، الذي يحدث في مناطق جغرافية لم يعد فيها مجال جديد للاستثمار، يعتبر عاملاً معطلاً للتراكم الموسع.

النيوليبرالية اقتصادياً

على أساس من هذه الطريقة في فهم آليات عمل الرأسمالية يمكننا أن نبني تصوراً مادياً دياليكتياً عن صعود ثم هيمنة النيوليبرالية.

بدأت المرحلة النيوليبرالية بتباطؤ اقتصادي في نهاية ستينيات القرن العشرين وصل في ربيع 1973 إلى أزمة عالمية واسعة، تلاها ارتفاع حاد في أسعار النفط أدى إلى زيادة تكاليف الإنتاج، لأن النفط هو مصدر الطاقة ليس فقط لتشغيل الآلات ولكن لتوصيل المنتجات إلى مستهلكيها عبر وسائل النقل البرية أو البحرية.

كل هذا كان من ممهدات التحول النيوليبرالي. لكن العامل الذي حسم التوجه نحو الطريق النيوليبرالي الذي اتخذته الرأسمالية لحل أزمتها هو الهزائم الكبرى التي تلقتها الطبقة العاملة، والطبقات الشعبية، في النصف الثاني من السبعينيات بعد موجة صعود مبهر بدأت في 1968 في فرنسا ثم انتشرت في القارة الأوروبية، بل في العالم كله، وكان من أهم أسباب هذه الهزائم هو أولاً المواقف والأداءات الإصلاحية للأحزاب الشيوعية الأوروبية (بالذات في فرنسا وإيطاليا)، وكذلك أداءات النقابات التي استوعبت حركات الطبقات العاملة وكبحتها في حدود مجرد الإصلاح من داخل النظام الرأسمالي وليس تغييره. ثم أتت بعد ذلك هزائم مفصلية للحركات العمالية في الولايات المتحدة (هزيمة إضراب المراقبين الجويين في مطلع الثمانينيات)، والمملكة المتحدة (هزيمة عمال المناجم حوالي منتصف الثمانينات).

في سياق هذه الهزائم العمالية، وبسببها، سهل على الطبقة الرأسمالية، في الولايات المتحدة الأميركية أولاً، ثم في باقي الدول والتكتلات الإمبريالية الأخرى لاحقاً، اتباع طريق كان جوهره في البداية أمران: الأول هو تجميد، بل وتخفيض، سعر قوة العمل، والثاني (الذي بدأ في السبعينيات واستمر حتى مطالع التسعينيات) هو توسيع النطاق الجغرافي للرأسمالية العالمية حلاً لما يسميه الجغرافي والاقتصادي الإنجليزي-الأميركي ديفيد هارفي أزمة فيض التراكم الذي لا يجد مجالاً لإعادة تدويره في دورات التراكم الرأسمالي.

دفعت الأزمة الاقتصادية العالمية وارتفاع أسعار النفط دول الجنوب العالمي (غير المنتجة للنفط) إلى التوسع في تلقي المساعدات والديون

من أجل توسيع النطاق الجغرافي للسوق الرأسمالية العالمية، وفي سبيل إدماج دول الجنوب في سوق رأسمالية عالمية واحدة، بدأ الأمر بالمساعدات والديون. حيث دفعت الأزمة الاقتصادية العالمية وارتفاع أسعار النفط دول الجنوب العالمي (غير المنتجة للنفط) إلى التوسع في تلقي المساعدات والديون. وكانت البنوك الأوروبية والأميركية جاهزة بسيولة ضخمة أتت من إيرادات النفط الخليجي التي أودعها شيوخ النفط في البنوك الغربية.

وبمرور الوقت زادت الديون حتى أصبحت خدمتها تلتهم نسب أكبر فأكبر من ميزانيات دول الجنوب. وهنا بدأ عصر التزايد الكبير في عجز الميزانيات، ما دفع الدول إلى المطالبة بإعادة الجدولة أو بشطب أجزاء من الديون.

في هذه المرحلة التي أسميت مرحلة أزمة الديون – بدءاً من مطلع الثمانينيات – برز صندوق النقد الدولي كلاعب أساسي وكوكيل للرأسمالية العالمية في إملاء الشروط على دول الجنوب المدينة.

تلخصت الشروط في عناصر عدة كلها يؤدي إلى إدخال دول الجنوب بقوة، وفي مركز التابع، في السوق الرأسمالية العالمية. فبدلاً من اتباع سياسة إحلال الواردات، التي كانت تمثل النموذج الأساسي المتبع طوال سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ضغط الصندوق في إتجاه ما أسمي بالـ«تحرير».

وقد تضمنت حزمة التحرير كثيراً من السياسات: تحرير التجارة عن طريق تخفيضات هائلة في التعريفات الجمركية، مما سهل كثيراً تصريف المنتجات الغربية في دول الجنوب؛ إعادة هيكلة البنية الضريبية، عن طريق تخفيض الضرائب على رأس المال، والتوسع في الضرائب غير المباشرة التي تضر أكثر ما تضر أصحاب الأجور من عمال وموظفين؛ الخصخصة – بيع القطاع العام والخدمات – بأسعار أقل من قيمتها الحقيقية، وهو ما يعتبر من ناحية منفذ لتصريف الفائض المتراكم في الغرب، ومن ناحية أخرى أصل رأسمالي للإنتاج بتكلفة أقل من التكلفة الحقيقية؛ إعطاء القطاع الخاص المحلي والعالمي حرية النفاذ إلى الأسواق بلا عوائق، بل وبتسهيلات وإعفاءات مغرية؛ إلغاء سعر الصرف الثابت وتعويم العملة وربطها بسوق العملات العالمية؛ رفع الدعم وتقليص المساعدات المقدمة للفقراء؛ تحرير سوق العمل، أي إلغاء نظام تعيين الخريجين الذي كان سائداً في السابق، ورفع الحماية عن العمال في مواجهة رأس المال؛ تقوية دور البنوك المركزية واتباعها سياسة مواجهة التضخم، حتى وإن أدى ذلك إلى معدلات بطالة مرعبة، وغير ذلك من السياسات.

بهذه الحزمة من السياسات نفذ رأس المال العالمي أكثر فأكثر إلى أسواق الجنوب، مستفيداً من شروط العمل المذلة، ومساحات الخصخصة الواسعة، لتصريف الفائض الواسع المتوفر لديه.

وهكذا تضخمت الشركات الكبرى وأصبحت تنشط على نطاق عالمي، وزادت مركزة وتمركز رأس المال، في ظل سياسات نقل الصناعات (خاصة المضرة بالبيئة) إلى دول الجنوب.

ولكن هذا كله كان يجري في ظل انخفاض كبير في نصيب قوة العمل من كعكة الفائض المتحقق. وقد زاد هذا الانخفاض أكثر وأكثر بالتوسع الهائل في جيش العمال العاطلين، مع دخول الصين ودول الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية إلى سوق العمل، بعد انهيار الماوية وتبني دينغ شياو بنغ لسياسة «اشتراكية السوق»، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الشرقية وتبنيها منذ أول لحظة لسياسات النيوليبرالية.

لكن انخفاض نصيب قوة العمل من كعكة الفائض سبّب مشكلة في تصريف الإنتاج المتوسع. ولحل هذه المشكلة – مشكلة إنكماش السوق الاستهلاكية – بعد أن مدت الرأسمالية العالمية تحت القيادة الأميركية يدها إلى كل العالم تقريباً، اتبعت الولايات المتحدة، ثم باقي الدول الكبرى، سياسة تخفيف شروط الائتمان. فإذا كان أجر العامل لا يمكنه من شراء سيارة، عليه فقط أن يستخرج كارت ائتمان يتولى شراء السيارة على أقساط.

وهكذا ظهرت إشكالية فائض السيولة في الأسواق. فعن طريق الديون عالية المخاطر والتجارة فيها وفي مشتقاتها، وعن طريق ارتفاع معدلات إصدار السندات من الدولة، أصبح العالم يعوم على بحر من السيولة التي لا مكافئ مادي لها على الأرض. وهكذا فقد انتفخ القطاع المالي والبنكي في الاقتصاد وأصبح محدداً رئيسياً من محددات تصريف المنتجات.

هذا بالضبط ما أدى إلى ارتفاع معدلات الأزمات الاقتصادية المحلية والإقليمية والعالمية في السنوات الثلاثين الأخيرة، حتى أن الشركات المفترض أنها صناعية تحولت إلى القطاع المالي، وأصبحت محفظتها المالية تدر عليها أكثر مما تدر الصناعة.

أصبح العالم يعوم على بحر من السيولة التي لا مكافئ مادي لها على الأرض. وهكذا فقد انتفخ القطاع المالي والبنكي في الاقتصاد وأصبح محدداً رئيسياً من محددات تصريف المنتجات

وكذلك، فإنه من ناحية أخرى أدت ظاهرة الأمولة (financialization) تلك، إلى ما أطلق عليه البعض «حكومة وول ستريت»، أي إلى لعب القطاع البنكي وشبه البنكي (shadow banking) دوراً فاصلاً في دورات الاقتصادي العالمي، وفي السياسات الاقتصادية للدول؛ كل هذا على أساس من تدني النمو الاقتصادي المادي (فيما عدا الصين ودول جنوب شرق آسيا).

هنا أصبحت النيوليبرالية، تحت رحمة قطاع مالي النسبة الأكبر من قيمته ما يطلق عليه رأس المال الوهمي (fictitious capital)، نموذجاً لاقتصاد الفقاعة، التي تنفجر بين الحين والآخر بشكل متسارع (يذكر ديفيد هارفي في كتابه «معضلة رأس المال وأزمات الرأسمالية» أن عدد الأزمات الاقتصادية المحلية والإقليمية والعالمية من أزمة 1973 وحتى أواخر العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين يعد بالمئات، بعد أن كانت الأزمات نادرة الحدوث في عهد دولة الرفاهة ودولة إحلال الواردات).

النيوليبرالية والدولة

كانت هذه هي الظاهرة الأولى – الاقتصادية – التي تكون ما يسمى بالنيوليبرالية الاقتصادية.

أما على المستوى السياسي فهناك جانبان: جانب الدولة وطبيعتها، وجانب القوى المعارضة والمقاومة وأشكالها المختلفة.

فمن ناحية أولى، وبخصوص مسألة الدولة، تغيرت علاقة الدولة برأس المال تغيراً كبيراً. إذ تشير كثير من أدبيات الآثار السياسية للنيوليبرالية إلى مصطلحات كـ«الديمقراطية الفارغة من المضمون» (hollow democracy) أو «السلطوية النيوليبرالية» (authoritarian neoliberalism) لتشرح أبعاد سياسات الحكم الجديدة (نذكر هنا فقط أسماء كساركوزي وبوتين وترامب وغيرهم كثير). هذه السلطوية هي في جوهرها تحالف أوليغاركي – يختلف في طابعه وشروطه من دولة إلى دولة – بين رأس المال الكبير، خاصة المالي، ومؤسسات الدولة المعاد هيكلتها نيوليبرالياً، والمؤسسات الاقتصادية العالمية، مع صعود في السياسات الشعبوية اليمينية وسياسات اليمين المتطرف.

طبعاً دائماً ما كانت الديمقراطية البرجوازية ناقصة ومشوهة، إذ أنها تفتقر في صلبها إلى المساواة الاقتصادية المطلوبة حتى يكون كل أطراف اللعبة على قدر متساو من القوة. لكن الحقيقة أنه تحت السطح الظاهري المسمى بالمواطنة والمساواة بين المواطنين كان دائماً ما يوجد نظام اجتماعي-اقتصادي يتسم بالاستغلال والقهر والاضطهاد.

اليوم أصبح دور الدولة هو إنجاز مهمة حماية إمبريالية السوق العالمية وتوسيع نطاقها، وسحب باقي مكتسبات العاملين بأجر والفقراء بعامة

لكن جديد النيوليبرالية أنه من آثار الهزيمة الكبرى التي تلقتها الحركات العمالية، والشعبية عامًة، بدءا من سبعينيات القرن العشرين، أن انهار تماماً ما سمي بالعقد الاجتماعي الذي ساد سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، فتراجعت عضوية النقابات، وخفت صوت العمال، واختفى – أو كاد – دورهم كفاعل سياسي يضغط ويشكل، حتى في داخل إطار وحدود الرأسمالية، السياسات والتوجهات.

أدت هذه الهزيمة لمعسكر العمال والشعوب، ممتزجة مع مركزة وتمركز رأس المال أكثر فأكثر، إلى وصول الحاكمين اليمينيين مارغريت تاتشر ورونالد ريغان إلى الحكم في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، فبدآ في عملية تغيير في شكل التراكم الرأسمالي وفي شكل الحكم وفي العلاقة بينهما.

اليوم أصبح دور الدولة هو إنجاز مهمة حماية إمبريالية السوق العالمية وتوسيع نطاقها، وسحب باقي مكتسبات العاملين بأجر والفقراء بعامة. فإن كانت هذه الدولة من دول الجنوب العالمي يحدث هذا تحت إشراف البنك والصندوق ومؤسسات أخرى (كالـG8 والـG20 وغيرهما من المؤسسات المدارة على يد الرأسمالية العالمية). أما إذا كانت من دول الشمال الغني، فإن أحزاب اليمين وتحالفاتها تتولى هذه المسئولية.

في هذا السياق نذكر أنه في مطالع سبعينيات القرن العشرين دار جدال بين الماركسيين حول الدولة الرأسمالية. فهناك من رأى بتبسيطية شديدة، كـ«رالف ميليباند»، أن الدولة هي ذراع للرأسمالية أو مجلس لإدارتها وليس أكثر. لكن آخرين كـ«نيكوس بولانتزاس» فهموا تعقيدات الدولة الرأسمالية أكثر، فطرحوا أنها ليست بالقطع مطابقة للرأسمالية (التي هي كما قال ماركس عصابة من الأصدقاء المتحاربين)، بل طرحوا دورها في إطار محاولة تمثيل الميل العام للسياسة التي تحفظ وتعظم مصالح الدولة الرأسمالية في مجموعها في ظل من توازن طبقي محدد، أي أنها ليست فقط مدافعة عن المصالح الرأسمالية الكبرى، كالملكية الخاصة، بل لاعب له استقلاليته النسبية، ودوره التوازني حفاظاً على استمرار عملية التراكم.

وفي يومنا هذا، وبما أن التوازن يميل بشدة تجاه رأس المال، فإن الدولة، بعد إعادة هيكلتها نيوليبرالياً، تعمل أولاً على الحفاظ على التوازن الحالي وثانياً على خلق مرتكزات تمنع أي انفجار طبقي في ظل مرحلة تتزايد فيها فروق الدخول بمعدلات غير مسبوقة وتتضاءل تحت ظلها حصة العاملين بأجر نسبياً من فائض القيمة المتزايد الذي تنتجه الرأسمالية. ويساعدها في هذا ارتفاع معدلات البطالة في دول كثيرة يخلق جيش عمال احتياطي يضغط بقوة سلباً على الطبقة العاملة.

كلها سياسات من نواتج النيوليبرالية التي تشظي المجتمع وتضع الفرد قبل الجماعة وتقوض الجماعية

النيوليبرالية والمعارضة

هذا عن جانب الدولة وطبيعتها. أما جانب القوى المعارضة، فقد تعرض أيضاً لتحولات جوهرية؛ من السياسات الطبقية التي ظلت هي السائدة حتى منتصف السبعينات، إلى سياسات من نوع آخر (سنشرحه حالاً) في ظل النيوليبرالية.

فمثلاً، وبخصوص السياسات المعارضة والمقاومة في الغرب المتقدم بالأساس، وفي ظل التوجهات والبنى الاقتصادية النيوليبرالية، ضاق هامش الإصلاحية  والتيار الرأسمالي الوسطي (سواء أكان يميناً أم يساراً) إلى أقصى الحدود، وتصاعدت السياسات التي في مفاصلة مع السياسات البرلمانية العادية، وهي سياسات تتخذ أشكالاً عديدة منها صعود اليمين المتطرف في الغرب، ومنها – على النقيض، أي على مستوى المعارضة المساواتية – سياسات الهوية ذات المطلب الواحد.

كذلك فقد تراجع دور النقابات (والإضرابات والاعتصامات) في تقرير السياسات.

تلك كلها سياسات من نواتج النيوليبرالية التي تشظي المجتمع وتضع الفرد قبل الجماعة وتقوض الجماعية.

وهنا نؤكد أنه ليس هناك شك أن صعود حركة المرأة مثلاً أمراً محموداً، لكن طالما ظلت هذه الحركة منبتة الصلة بالنضال ضد جذر النيوليبرالية، بل والرأسمالية، وطالما هي لا تتضامن وتتآلف وتتحد مع حركات المضطهدين الآخرين، وطالما هي لا تقف على أرض طبقية صلبة، فإن النتيجة تكون مكسب هنا أو مكسب هناك من دون مواجهة جوهر العلة، وهذا – جزئياً – بسبب الطابع العابر للطبقات لمثل تلك الحركات، بحيث مثلاً أن الكثير من حركات المرأة تسود فيها سياسات الطبقة الوسطى والوسطى العليا التي لا تربط بين الاستغلال والاضطهاد والمطالب النسوية، مما يؤدي إلى تحول معركتها إلى قشور مطلبية وليس إلى التغيير الجذري.

النيوليبرالية والحركات الإسلامية

جانب آخر من الصورة السياسية، وهو الأخطر أثراً، هو صعود الحركات الدينية السياسية، خاصة الإسلامية الجهادية، منذ مطالع السبعينيات، حتى أن الإمبريالية العالمية، في طبعتها النيوليبرالية، تعطي اسم الحرب على الإرهاب (قاصدة بالإرهاب الإسلامية الجهادية بالتحديد) لسياستها الإمبريالية العالمية.

قصة ما يطلق عليه «الإسلام السياسي» وصعوده العالمي قصة معقدة وطويلة. فمنذ بداية القرن العشرين برزت الإسلامية الخيرية، ثم برزت بعدها الإسلامية السياسية، كتيار عريض اتخذ اسماً عاماً وغير دقيق وهو «الإحياء الإسلامي». فقد رأى البعض في هذا «الإحياء» أمراً من بقايا الماضي لا يزال يكافح حتى لا يزول، إلا أن الحقيقة كانت على غير ذلك تماماً. فالإحياء الإسلامي الأول (في مطلع القرن) والإحياء الإسلامي الثاني (منذ بدايات السبعينيات) هما من نتاج الحداثة وليسا من بقايا ماض ما قبل حداثي.

فمع الهجوم الحداثي الرأسمالي على دول المستعمرات أصبحت قضية الجهاد ليست مجرد تحرر وطني بسيط. قطاعات واسعة من الطبقات الشعبية التي تربت في الريف المتأخر وفي ظل قيم محافظة – تظلها صورة من صور الإسلامية صنعتها المجتمعات كل على شاكلتها – صدمت بما رأته في المدينة مع توغل الرأسمالية وتوسع المدن وانتشار البطالة والأعمال الهامشية، وتاهت في زحام من البشر غير مترابط عضوياً كالوضع في الريف. وهنا حدث بالضبط ما تصوره ماركس: إن الناس في كثير من الأحيان تخوض حروب الحاضر والمستقبل بلغة وأدوات مستقاة من ماض قديم «ذهبي».

ولأن الإسلام كدين، ككل الأديان الكبرى، عمره الزمني طويل جداً واتساع نطاقه الجغرافي كبير جداً، فإنه «كشعار وراية» يمكن أن تصبح له معان كثيرة من تأويلات البشر؛ معان تتبنى مصالح تقريباً كل طبقات المجتمع. ولذلك فإنه مع ضعف الخلافة الإسلامية في إسطنبول (ما كان يطلق عليه في الغرب «المسألة الشرقية»)، ثم مع سقوطها رسمياً في 1924، ظهرت أشكال متباينة، بل ومتناقضة، للإسلامية، تدافع عنها قوى متباينة وتحاول أن تطرحها كحل لمسألة طمس الهوية التي جاءت مع الاستعمار. بعض هذه الأشكال كانت مهادنة وخيرية، وبعضها كان دعوياً بلا دخول في السياسة، وبعضها انخرط في سياسة ذات طابع ملتبس (أحياناً مع الحكام، وأحياناً أخرى ضدهم).

حدث بالضبط ما تصوره ماركس: إن الناس في كثير من الأحيان تخوض حروب الحاضر والمستقبل بلغة وأدوات مستقاة من ماض قديم «ذهبي»

أما ما أطلق عليه الإحياء الإسلامي الثاني فقد تزامن مع بدايات صعود النيوليبرالية، وكان اتساعه ناتجاً من نواتج اتساعها ثم هيمنتها. فبعد فترة من المد الوطني ضد الاستعماري، ومع تحرر دول الجنوب (ومنها الدول التي كانت مندمجة في دولة الخلافة)، تولت «الدولة الوطنية» السلطة عبر طرق كثيرة منها مثلاً حروب التحرير أو الانقلابات العسكرية أو غيرها من الطرق والأشكال.

المهم هنا هو أن خيبات دولة ما بعد الاستعمار، وسقوطها في التخلف، واعتماد معظمها على القهر، الأمر الذي انتهى في منطقتنا بالقضاء فكرياً وسياسياً على السياسات العروبية (الاشتراكية العربية) التي كانت سائدة طوال عقدين حتى أوائل السبعينيات؛ نقول إن الأمر المهم هنا هو أن هذا السقوط المزري للحكومات الوطنية ما بعد الاستعمار، كان تمهيداً سياسياً لتحولات كبرى في منطقة الشرق الأوسط بالذات. فقد سقط الحكام أنصاف العلمانيين العرب في الامتحان، وبدأوا يتحولون إلى المعسكر الغربي الواحد تلو الأخر، ثم بدأوا في التقارب مع إسرائيل، حتى أن حركة المقاومة نفسها عقدت معاهدات مع إسرائيل ودخلت في عملية السلام.

في تلك المعمعة نمت الحركات الإسلامية الجديدة، جهادية وغير جهادية، في ظل حالة عدم الاستقرار والخوف من المجهول والإفقار والبطالة وتفكك مؤسسات رأسمالية الدولة التي لعبت دور المظلة الحامية للعمال والفقراء؛ في ظل هذه الحالة التى تسمى في أدبيات النيوليبرالية بالـprecariousness، لم تجد شرائح واسعة من الطبقات الوسطى والفقيرة يساراً مناضلاً أو ثورياً ينظمها ويقودها على طريق المقاومة، بل وجدت مثلاً في مصر أن أكبر أحزاب اليسار (التجمع والحزب الشيوعي المصري)، وبعد فترة قصيرة جداً من النضال الجاد، تحولا تحولاً حاداً في السياسات. إذ رفع اليسار سياسة تخفيض الأسقف، ثم اقترب من الدولة أكثر فأكثر، بل وتحالف معها تقريباً، ضد «الخطر الفاشي الذي يريد العودة بنا إلى الوراء». وكذلك الأمر في دول أخرى كثيرة في المنطقة.

هنا تحولت شرائح من مختلف الطبقات (أكثرها من المتعلمين وأنصاف المتعلمين من الطبقات الوسطى أو ما دون الوسطى القادمين من الريف وأطراف المدن العشوائية) إلى الحركة الإسلامية، ومن ضمنها الإسلامية الجهادية. فأصبح الإسلام (حسب تأويل كل طرف وتيار) هو راية المعارضة، بينما تقزم اليسار وانتقل إلى الهامش. 

احتضنت الناس الإسلام كراية بعد أن أرعبها عدم استقرار الحاضر والخوف من مجهول المستقبل. فقد وجدت في الدين يقيناً فقدته في الواقع، ووجدت فيه قلباً في عالم بلا قلب، خاصة وأن الحركات الإسلامية لم تكن تعمل كالأحزاب العادية، بل كانت كالجمعيات المتساندة في داخلها، تحمي الأعضاء وتعاملهم كعائلة واحدة متضامنة.

صعود تيارات نقد الحداثة جاء من جانبين محددين: الجانب الأول هو فلاسفة (غالباً أكاديميون غربيون أو يعملون في جامعات الغرب)، والجانب الثاني هو عقائديون إسلاميون (غالباً ينتمون إلى حركات سياسية إسلامية أو يمثلون مرجعيتها الفكرية)

صحيح أنه كما قلنا كان الإسلاميون من أصناف وذوي توجهات متباينة، بل متعارضة: بعضهم له علاقة بالسياسة وبعضهم لا، بعضهم جهادي وبعضهم مدخلي، بعضهم خيري وبعضهم دعوي، بعضهم مع الدولة وبعضهم ضدها؛ كل هذا صحيح. لكن في إطار هذا الموزاييك نمت حركات الإسلام الجهادي، وتعولمت في عصر العولمة، فأصبحت قوة كبرى تدار حرب عالمية ضدها.

وهكذا، فبرجعيتها الجامحة وعصبويتها المتشددة واحتقار أغلبها للنساء وقبولها في أحيان كثيرة لسياسات الاستغلال، كسبت هذه الحركات، الغامضة السياسات والمتقلبة الرؤى، أعداداً غفيرة من شرائح طبقية عديدة. وأصبحت لدينا معارضة هويتية تعد بيوتوبيا إسلامية ما في عالم أصبح رافضاً للسرديات الكبرى وللعقائد الثابتة الجامعة، وكل هذا يخفي عداءً للحداثة التي حنثت بعهودها، لكنه عداء جاء من اليمين؛ جاء من عالم سردية كبرى ترفض الحداثة لتنكر على النساء بعض أو كل حقوقهن ولترسخ طائفية دينية مقيتة.

هكذا أصبح حال السياسة في ظل صعود النيوليبرالية: إعادة هيكلة الدولة نيوليبرالياً، وتفريغ للديمقراطية من مضمونها، ونمو لليمين المتطرف، ونمو لحركات جهادية (أو غير جهادية) رجعية، وتهميش لليسار المناضل والثوري ولقيم الاشتراكية والديمقراطية المباشرة (وهي على النقيض من سياسات الكتلة الاشتراكية سابقاً)، وتراجع للحركة العمالية وتحول نضالاتها إلى محض نضالات اقتصادية محدودة، مع صعود حركات هوية أغلبها تحت قيادة طبقة وسطى بمطالب غير جذرية وبغير اتصال بالمستغلين والمضطهدين الآخرين.

النيوليبرالية والأيديولوجيا

أما الظاهرة الثالثة التي تزامن صعودها مع صعود النيوليبرالية فهي الصعود الواسع لفلسفات نقد الحداثة والتشكيك في منجزاتها الفكرية والمادية. وهو الأمر الذي ينبع في ظننا من منطق وطبيعة المجتمع النيوليبرالي الفرداني الذي مزق المجتمعات العضوية السابقة، وفكك قوى التضامن العمالي مثل النقابات، وخلق عالماً ضبابياً غامض المستقبل.

يرى الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس في كتابه «الخطاب الفلسفي للحداثة: اثنا عشر محاضرة»، أن الجدل حول الحداثة – معها، ضدها، مع نقدها والإبقاء على جوهرها العقلاني – بدأ مع الحداثة نفسها. هذا صحيح تماماً. فالحداثة لم تأت صافية بدون إشكاليات وتناقضات. فهي وإن كانت تمثل – عبر التنوير الراديكالي – العقلانية والعلمانية والتقدم والتسامح الديني، فهي أيضاً، وعلى الجانب الآخر، تمثل أشكالاً جديدة من الاستغلال والقهر والفوضى، ربما أكبر مما كان حادثاً في عهود سابقة.

أما في ظل النيوليبرالية، فإن صعود تيارات نقد الحداثة جاء من جانبين محددين: الجانب الأول هو فلاسفة (غالباً أكاديميون غربيون أو يعملون في جامعات الغرب)، والجانب الثاني هو عقائديون إسلاميون (غالباً ينتمون إلى حركات سياسية إسلامية أو يمثلون مرجعيتها الفكرية).

أما عن الأكاديمية الغربية فإن نقدها للحداثة يأتي غالباً مقروناً بنقد لما أطلق عليه السرديات الكبرى. فبعد هزائم منتصف السبعينيات والثمانينيات، ومع التدهور الحاصل في الحركة العمالية، ثم بعد ذلك سقوط الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الاشتراكية، التي تلازم معه، بل وسبقه، انتصار النيوليبرالية وتثبيت أقدام مجتمع التسليع والاستهلاك، انتشر فكر رافض للحداثة من زاوية ناقدة للتحديث برمته.

فنقد السرديات الكبرى الجاري حالياً يحمل في طياته يأساً من الحداثة؛ يأساً من نوع خاص. فهو يطرح نقداً للعقلانية نفسها، ويرفع من شأن ما يسمى «بالإرادة الفردية»، ويضع كل الوجود في إطار من النسبية لا يمكن معها طرح مشروع أكثر من المشاريع المحلية الصغيرة. نقد السرديات الكبرى يرى التقدم ككذبة، أو على الأقل، كنصف كذبة، طرحها عقلانيون مؤمنون بوجود معنى للتاريخ وفاعلين طبقيين يمكن لهم أن يغيروا العالم، بينما الحقيقة أننا ندور في دائرة مفرغة نسبية الطابع لا مركز لها أو أساس وأن السرديات تتعدد بتعدد الساردين في عالم لا هدف له أو مرتكز.

هذه الفلسفة اليائسة قد تأخذ أحياناً طابعاً جذرياً – ميشيل فوكو نفسه سار في المظاهرات ورفع المطالب – لكنها في الوقت نفسه تبتسم أمام ما تراه من عبثية الحياة. فطالما أن «لعبة القوة» لعبة لا مخرج منها، وهي ستعيد إنتاج نفسها مع كل تغير في شكل المجتمع، فإن المحلي والصغير، بل والفردي، هو الأساس.

أما على الناحية الأخرى، فإن نقد الحداثة قد يأخذ، كما ذكرنا سابقاً، شكل السردية الكبرى التأسيسية. وهذا بالضبط ما يكمن تحت سطح أفكار وأفعال الحركات الإسلامية. هنا يأتي النقد في الأغلب منافياً للعقلانية (الدنيوية) وممجداً للعقائدية (السماوية – حسب رؤيتهم). وهو يأخذ شكل اليوتوبيا (أو الديستوبيا – على حسب الموقع الذي تقع فيه) التي تعطي اليقين الذي غيبته «الحالة النيوليبرالية» بما تعنيه من انتزاع الناس من مجتمعاتهم العضوية، وزرعهم في بيئات مفككة، ووضع قوت يومهم على المحك يومياً في عالم ظالم لا قلب له.

عملية التسليع والنزعة الاستهلاكية قد تنفذت في كل ركن من أركان عالمنا الفسيح، وارتبط هذا بشعار «أكبر من أن يسقط» (too big to fail)، حيث تحمي الدولة بكل قوتها الرأسمالية من جنونها وفوضاه

النيوليبرالية كتدهور للرأسمالية

نرى إذاً أن النيوليبرالية تمثل طوراً متدهوراً من أطوار الرأسمالية. فعلى المستوى الاقتصادي هي تعني تعظيم الاستغلال واللا مساواة والنهب، وعلى المستوى السياسي هي تعني تماسك أوليغاركية حكم رأسمالية كبرى، مع صعود لليمين الشعبوي والمتطرف أو للجهادية الرجعية، وعلى المستوى الفكري فهي تبني استقطاباً بين عقائدية جامدة ونسبية يائسة وخاملة.

هذا الطور الرأسمالي، في ظننا، يمثل ما يمكن أن أسميه الرأسمالية الأتم، ليس بمعنى أن هذه هي نهاية المطاف (فقد نغرق أكثر وأكثر في الوحل، أو قد نجد مرتكزاً تحررياً ينتقل بنا إلى عالم جديد إنساني فعلاً ومنعتق من القهر والاستغلال فعلاً).

لكني أقصد بـ«الأتم» هنا أن عملية التسليع والنزعة الاستهلاكية قد تنفذت في كل ركن من أركان عالمنا الفسيح، وارتبط هذا بشعار «أكبر من أن يسقط» (too big to fail)، حيث تحمي الدولة بكل قوتها الرأسمالية من جنونها وفوضاها.

نحن نعيش اليوم كما لو كنا في كازينو قمار، سادته هم رؤوس شركات مالية كبرى، وأصحاب مؤسسات استغلالية كبرى بعضها يصل في قيمته إلى ما يساوي ميزانيات أو حتى ناتج دولاً بأسرها، وحكام شعبويون رجعيون من هذا الصنف أو ذاك؛ كازينو رفع حمايته عن المستضعفين في الأرض تماماً، وخلق عالماً فردانياً لا يقين فيه ولا أرض صلبة لمستقبل مضمون. هذا الكازينو الرأسمالي يديره مقامرون ماليون يبحلقون بأعينهم في شاشات ترسم مؤشرات صاعدة وهابطة تتحرك كزهرة النرد، تحدد مصائرنا بمنطق فوضوي عميق يقودنا إلى مجهول لا يعلمه إلا قلة على القمة ستحميهم الدولة مهما أجرموا.

ما العمل إذاً؟ هذا سؤال كبير ليس محل إجابته هنا. فقط نشير أن الحل يكمن في جوهره في تبلور فاعل تاريخي قادر على نقد العقلانية الجامدة غير الديالكتيكية، وكذلك على نقد النسبية الفارغة من المضمون، في إطار مشروع إنساني لتجاوز الرأسمالية وفتح الباب لعالم جديد لا تتناقض فيه حرية الفرد مع حرية المجموع، ويصبح التطور التكنولوجي فيه خادماً للإنسان وليس للأرباح، وتتحول فيه العلاقة بين الإنسان والطبيعة إلى علاقة انسجام وتكامل.


المصادر:

David Harvey; The Enigma of Capital and the crisis of Capitalism

Jurgen Habermas; The Philosophical Discourse of Capitalism; Twelve Lectures

Chris Harman; The Prophet and the Proletariat

Karl Marx; Capital (Volume 1)

Adam Hanieh; Lineages of Revolt; Issues of Contemporary Capitalism in the Middle East

Nicos Poulantzas; The Poulantzas Reader: Marxism, Law and the State

Ralph Miliband; The State in Capitalist Society