النيوليبرالية الأمنية الإسرائيلية
إنّ هجوم حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر، والردّ الإسرائيلي الهائل عليه، يتسبّبان في خسائر فادحة. ويثير الدمار الشديد سؤالاً عن مستقبل غزة، إلّا أنّ هذه الأزمة أيضاً تضع على المحك الاستراتيجية الاقتصادية الكبرى التي وضعتها إسرائيل منذ الانتفاضة الثانية (2000-2005)، وهي استراتيجية نيوليبرالية أمنية، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببنيامين نتنياهو منذ كان وزيراً للمالية في عهد أرييل شارون ثم رئيساً للوزراء.
وكما ذكر آرييه كرامبف، فإن استراتيجية إسرائيل جاءت بعد انهيار الآمال المعلّقة في التسعينيات على اقتصاد السلم. إذ كان يأمل شيمون بيريز، وغيره من الاستراتيجيين الإسرائيليين، في الجمع بين تسوية نهائية مع الفلسطينيين والتكامل الاقتصادي الإقليمي الأوسع، على غرار التكامل في أوروبا الغربية. وكما يقول كرامبف:
«قلبَ اندلاعُ الانتفاضة الثانية في أيلول/سبتمبر 2000 اللعبة رأساً على عقب. شكّل فشل قمة كامب ديفيد في ذلك العام نهاية اقتصاد السلم».
كان لا بد من وجود فائض قوي في الحساب الجاري إذا شاءت إسرائيل «محاولة الاستقلال في قرارها». وكان قرين هذه المحاولة انخفاض حصة المساعدات الأميركية من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي
لقد وجّهت الانتفاضة ضربة قوية للاقتصاد الإسرائيلي. وبحسب تقديرات البنك المركزي، كلّفَت الانتفاضة الفلسطينية إسرائيل زهاء 3.8% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي. ولم تعد فكرة الاقتصاد الإقليمي المتكامل تبدو واقعية. بل فقدت واقعيّتها بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر والهجوم على العراق في العام 2003. وهذا وضعَ ضغوطاتٍ على علاقة إسرائيل مع الولايات المتحدة، لأنّ واشنطن كانت بحاجة إلى إيجاد حلفاء جدد في العالم العربي ولم يعد اليمين الإسرائيلي يرغب في تقديم تنازلات على طريق حلّ الدولتين.
وكما وصفها كرامبف:
«واجهت الحكومات اليمينية في فترة ما بعد الانتفاضة معضلة جديدة: كيف يمكن استعادة النمو الاقتصادي من دون عملية سلام؟ وكانت هذه المعضلة مصدر العقيدة الأمنية الاقتصادية الجديدة. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان الاقتصاد الإسرائيلي في حالة ركود... طبّقت حكومة أرييل شارون، بقيادة وزير المالية بنيامين نتنياهو، سياسة التقشف. في نيسان/أبريل 2003، بعد شهر من تعيينه وزيراً للمالية، أعلن نتنياهو خطّة الإنعاش الاقتصادي، وتضمّنت خفض الميزانية وخفض العجز الحكومي وتخفيضات حادّة في الإنفاق الاجتماعي والعلاوات. كما خفَّضَ الدعم الحكومي للقطاع الخاص. كان نمو القطاع الخاص في نظر نتنياهو وسيلةً لتحسين قوة إسرائيل الاقتصادية في عالم معولم... كانت الخصخصة والتحرير عمليتين تهدفان إلى تحسين قدرة إسرائيل على تحمّل الضغوط السياسية الخارجية وانتهاج سياسة خارجية مستقلة... وبحلول أواخر العام 2003، أصبح الحساب الجاري لإسرائيل إيجابياًً ويزداد، ما يشير إلى تدفق العملات الأجنبية إلى الاقتصاد. هذا التغيير الذي مرّ مرور الكرام على الجمهور الإسرائيلي، لم يكن أقل من لحظة تحوّل، وثورة في تاريخ إسرائيل الاقتصادي… افترضت عقيدة بن غوريون الاعتماد على رأس المال الأجنبي. وأرى أنّ هذه الاعتمادية كانت عنصراً أساسياً في الرؤية والهوية الوطنية: اعتماد مشروع بناء الدولة على المساعدات الخارجية. وفي سياق تحوّلها إلى «دولة فائض»... باتت إسرائيل أقل عرضة للخطر ممّا كانت عليه من قبل. احتفظ بنك إسرائيل بجزء من العملة الأجنبية. وفي الوقت الحالي، تشكَّّل الاحتياطيات الأجنبية لدى بنك إسرائيل، بعدما ارتفعت ارتفاعاً صاروخياً منذ العام 2007، واحدة من أعلى المعدّلات في العالم بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي. وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من الطريق المسدود الذي وصلت إليه عملية السلام مع السلطة الفلسطينية، ظلت علاوة المخاطر الإسرائيلية على السندات الحكومية منخفضة وتضاهي علاوة المخاطرة في بعض البلدان الأوروبية».
تبنّى اليمين الإسرائيلي هذا التحوّل في علاقة إسرائيل بالولايات المتّحدة بوصفه ضرورياً حال أراد مواصلة خطّه العدواني في القضية الفلسطينية. وكما يقول كرامبف في مقال حديث:
في العام 2001، بعد الانتخابات في إسرائيل وقبل الشروع في عملية الدرع الواقي في غزة، صرَّح أرييل شارون، رئيس الوزراء آنذاك، قائلاً: «نحن»، أي إسرائيل، «لا نملك إلّّا الاعتماد على أنفسنا» (quoted in Barnea and Kastner 2006, 20). أشار تصريح شارون إلى اعتزام إسرائيل رفض مسار مفاوضات السلام المتعدّدة الأطراف «خارطة الطريق» التي أقرّها بوش والتحوّل إلى مسار أحادي الجانب. وحين رفض شارون الخطة، حذّرت الأحزاب اليسارية من أنّ ذلك سوف يرتب آثاراً مدمّرة على العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل (FC 2002a). أما المعسكر اليميني فقد أشاد بتوجّه شارون.
لذا، كان لا بد من وجود فائض قوي في الحساب الجاري إذا شاءت إسرائيل «محاولة الاستقلال في قرارها». وكان قرين هذه المحاولة انخفاض حصة المساعدات الأميركية من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي.
التحوّل بعيداً من الأولوية المطلقة للمؤسّسة العسكرية
وفي إطار الاقتصاد السياسي الإسرائيلي، كان التركيز الجديد على القطاع الخاص والنمو القائم على التصدير يعني ضمناً التحوّل بعيداً من الأولوية المطلقة للمؤسّسة العسكرية.
ومن الناحية الاجتماعية والسياسية، قسَّمَ نموذج النمو الجديد المجتمع الإسرائيلي إلى أجزاء منفصلة لكل منها مسارها الاقتصادي والثقافي. اقترن النمط المألوف لتزايد عدم المساواة في ظل النيوليبرالية في إسرائيل بزيادة التمييز البنيوي للمجتمع العربي داخل إسرائيل والنمو السريع للجماعة الحريدية غير المندرجة في التعليم العام.
تلخَّصَت استراتيجية نتنياهو في جعل القطاع الحديث من الاقتصاد الإسرائيلي قادراً على المنافسة بدرجةٍ لا تمكِّنه فحسب من الاستقلال عن الضغوط الأميركية (أو الأوروبية)، بل وتحويل إسرائيل إلى نقطة جذب للمصالح الاقتصادية الإقليمية، وفي مقدّمتها منطقة الخليج. هكذا، تحوّل الاستثمار الأجنبي المباشر إلى عنصرٍ بالغ الأهمية في الاستثمار الإسرائيلي.
إن إقامة علاقات أفضل مع الاقتصادات العربية المتنامية في المنطقة من شأنه إتاحة فرصة بناء «السلام الاقتصادي» (أحد شعارات نتنياهو المفضّلة) مع تجاهل الاعتبارات الفلسطينية، وحال أبدى الفلسطينيون استياءً أو إحباطاً فسيجري التعامل مع ذلك عن طريق استراتيجية فرّق تسد.
سوف تُعزَل غزة تحت حكم حماس وتظل على شفا الانهيار الكامل. وقد أُعرِبَ عن هذا المنطق بوضوح صارخ في المحادثات مع الدبلوماسيين الأميركيين الذين تسرّبت برقياتهم لاحقاً إلى الصحافيين الأوروبيين:
«في إطار خطّتهم للحصار الشامل لغزة أكد مسؤولون إسرائيليون (لمسؤولين اقتصاديين في السفارة الأميركية) في أكثر من مناسبة أنّهم يعتزمون دفع اقتصاد غزة إلى شفا الانهيار من دون دفعه إلى الهاوية». وأظهرت برقية صدرت بتاريخ الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 2008 أنّ إسرائيل تريد أن يعمل اقتصاد غزة «بأدنى مستوى ممكن بما يسمح بتجنّب أزمة إنسانية». وتحدث إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها في كلمة ألقاها في كانون الثاني/يناير 2008، وقال «لن نمس إمدادات الغذاء للأطفال والدواء لمن يحتاجونه والوقود للمؤسّسات التي تنقذ الأرواح». وتابع في القول: «لكن ما من مبرّر للمطالبة بالسماح لسكان غزة بالعيش حياة طبيعية بينما تنطلق قذائف وصواريخ من شوارعها وأفنيتها على جنوب إسرائيل».
تلخَّصَت استراتيجية نتنياهو في جعل القطاع الحديث من الاقتصاد الإسرائيلي قادراً على المنافسة بدرجة لا تمكِّنه فحسب من الاستقلال عن الضغوط الخارجية، بل وتحويل إسرائيل إلى نقطة جذب للمصالح الاقتصادية الإقليمية
كان الانسحاب من غزة ووضعها تحت الحصار متسقاً مع ما أسماه معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي «التخارج» من الصراع. كما دعا نتنياهو أيضاً إلى بناء جدارٍ عازل وجعل منه نقطة أساسية في المواجهة بينه وبين إدارة بوش.
ومع حماس، كانت إسرائيل في حالة من «التوازن العنيف» على حد وصف طارق بقعوني من موقع الشبكة. توازنٌ غير متكافئ للقوة والإكراه يمكن للجانبين التعايش معه. كانت الكلفة التي تحمّلتها إسرائيل نتيجة «حروبها الصغيرة» في غزة معقولة. وقدّر بنك إسرائيل أنّ حرب 2014 في غزة كلّفت الاقتصاد 0.4% من الناتج المحلي الإجمالي، وحرب 2006 في لبنان لم تزِد كلفتها عن 0.5%. وبحلول العام 2022، شمل هذا التوازن فتح حدود غزة للسماح لما يصل إلى 20 ألف من سكّانها بالانضمام إلى مجمع العمالة الإسرائيلية.
وفي الوقت نفسه، دُمِجَت الضفّة الغربية، تحت إدارة السلطة الفلسطينية، في نظام أكثر انفتاحاً، ما سمح بزيادة كبيرة في العمالة الفلسطينية الوافدة في الاقتصاد الإسرائيلي. فـ«تقليص الصراع»، بحسب وصف ميكا غودمان، يستلزم السماح لأكثر من 200 ألف فلسطيني بالعمل في إسرائيل، 80 ألف منهم في قطاع البناء وحده.
لم يكن هذا تطوراً بقدر ما كان استراتيجية الاعتماد المعتادة، وقد سار جنباً إلى جنب مع برنامج عدواني لإقامة المستوطنات. وهكذا، ترافق العنف المستمر لنظام الاحتلال مع التكامل الاقتصادي العالمي لإسرائيل.
وفي السنوات الأخيرة، كما ذكر كرامبف، بدا أنّ المصدر الرئيس للتوتر داخل هذا النموذج يكمن في السياسة الداخلية الإسرائيلية. فكّر فحسب في الوضع قبل بضعة أشهر من الآن. فقد كان السؤال المطروح يدور حول إمكانية صمود اقتصاد التكنولوجيا في إسرائيل أمام التوجّه اليميني تحت تأثير ائتلاف نتنياهو. وكانت وسائل الإعلام الغربية تنشر تقارير مُقلقة عن انخفاض الاستثمار في الشركات الناشئة الإسرائيلية إلى النصف، بعدما سجّل في العام 2021 رقماً قياسياً بلغ 27 مليار دولار. وقبل هجوم حماس، أي في النصف الأول من العام 2023، أفاد معهد ستارت-أب نيشن بوليسي أنّ الاستثمار انخفض بنسبة 68% على أساس سنوي.
احتشد قطاع عريض من اليسار الإسرائيلي لمعارضة حكومة نتنياهو. ولكنّه، كما لوحظ حينها، أخرج المسألة الفلسطينية من دائرة اهتمامه. وبالتالي، يمكن مناقشة الصراع في إسرائيل، خارج السياق، من زاوية أنّه حالة أخرى من حالات التراجع اليميني غير الليبرالي. وهو كذلك بالطبع. لكنه كان يترنح على شفا هاوية سحيقة. وهجوم حماس دفع إسرائيل إليها.
إعادة خلق شعور «أمّة تحمل السلاح»
كشف العنف غير العادي لحماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر عن الواقع المروع المتمثل في الكراهية العميقة المعادية للسامية والمعادية لإسرائيل التي استزرعها النظام السائد. وأوضحَ بما لا يدع مجالاً للشك مدى زيف الوعود الأمنية التي قدّمها الوضع الراهن. وكما أشار محلّلون استراتيجيون رزينون، فالتهديد اليوم يختلف عن التهديد في العام 1973. فمصر وسوريا، وهما اللتان كانتا العدوين الرئيسين لإسرائيل، لا تشكِّلان أي تهديد لإسرائيل. كان تراجع مصر موضوعاً لبرنامجي Ones and Tooz منذ بضعة أسابيع. ولكن العنف الكابوسي الناجم عن هجوم حماس أحدث صدمة وجودية، وهذه الصدمة ليست في إسرائيل وحدها.
تفاقمت تلك الصدمة بسبب حجم رد الفعل الإسرائيلي. إذ أجرت إسرائيل عملية تعبئة فاقت بحسب الإيكونوميست تعبئة العام 1973 – 360 ألف جندي احتياطي، أو 8% من القوى العاملة في البلاد. ومن الصعب تبرير هذه التعبئة من الناحية العسكرية البحتة حتى مع افتراض احتمالية هجوم حزب الله. ويتساءل المرء ما إذا كان المقصود من هذه السياسة، بعيداً عن الضرورة العسكرية، إعادة خلق شعور «بأمة تحمل السلاح» – نزعة عسكرية وطنية تضامنية ضَعُفَت في الأعوام الأخيرة. وبصرف النظر عن الدافع، فإنّ التأثير على الاقتصاد خطير للغاية لدرجة أنّه يُقارَن بتأثير جائحة كوفيد.
السؤال المطروح يدور حول إمكانية صمود اقتصاد التكنولوجيا في إسرائيل أمام التوجّه اليميني تحت تأثير ائتلاف نتنياهو. وكانت وسائل الإعلام الغربية تنشر تقارير مُقلقة عن انخفاض الاستثمار في الشركات الناشئة الإسرائيلية إلى النصف
ويُقدّر اللوبي التكنولوجي في إسرائيل أنّ عُشر قوته العاملة قد طالته التعبئة العسكرية. وأصيب قطاع البناء بالشلل بسبب الحجر على القوى العاملة الفلسطينية في الضفة الغربية. وانهار استهلاك الخدمات مع ابتعاد الناس عن المطاعم وقلة التجمعات العامة. وتشير سجّلات بطاقات الائتمان إلى انخفاض الاستهلاك الخاص في إسرائيل بنحو الثلث في أعقاب اندلاع الحرب. كما انخفض الإنفاق على الترفيه والتسلية بنسبة 70%. وتوقّفت السياحة فجأةً، وهي الدعامة الأساسية للاقتصاد الإسرائيلي. وأُلغيَت الرحلات الجوية وأُجِلَت عمليات شحن البضائع. أما في المياه، فقد أمرت الحكومة الإسرائيلية شركة شيفرون بوقف الإنتاج في حقل تمار للغاز الطبيعي، ما كلّف إسرائيل ضياع 200 مليون دولار شهرياً.
وضعت وزارة المالية، رداً على هذا الاضطراب الاقتصادي الحقيقي، خططاً لزيادة الإنفاق الدفاعي وتقديم الدعم لمَن خسر عمله. وفي الوقت نفسه، في الأسواق، هرع المستثمرون إلى بيع الأسهم الإسرائيلية الممتازة وانخفض الشيكل إلى أدنى مستوى له منذ المواجهة الكبرى الأخيرة مع غزة في العام 2015.
تدخّل البنك المركزي ببيع 30 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي لإبطاء الانزلاق. ومع تحذير وكالة موديز للتصنيف الائتماني من تضرّر التصنيف الائتماني لإسرائيل، ارتفعت بالمعية كلفة التأمين على الديون الإسرائيلية ضد التخلف عن السداد من خلال عقود مبادلة مخاطر الائتمان.
لكن لا يعتقدنّ أحد أنّ هذا النوع من الضغوط سيحدث فرقاً فورياً كبيراً في استراتيجية إسرائيل. فواشنطن تسعى جاهدة لمساعدة إسرائيل بوعود بتقديم مساعدات تصل إلى 14 مليار دولار. ولا شك أنّ هذا الأمر موضع ترحيب في إسرائيل، ولكن الأخيرة لم تعد تعتمد على المساعدات الأميركية. لقد نجحت استراتيجية نتنياهو النيوليبرالية الأمنية على الأقل إلى حد أنّ إسرائيل، حتى بعد الجولة الأخيرة من التدخلات، لديها ما لا يقل عن 170 مليار دولار من الاحتياطيات، ولا يتجاوز دينها كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 60%. بل إنّ حرباً طويلة الأمد على غزة من غير المرجّح أن ترفع أسعار الفائدة بأكثر من بضع نقاط مئوية.
هل المجتمع الإسرائيلي مستعد لدفع الثمن؟
بحوزة إسرائيل ما يكفي من الموارد المالية لمواصلة هجومها المدمّر غير العادي على غزّة قدر ما تشاء. وإذا كانت بحاجة إلى اللجوء إلى التمويل بالعجز، فلا مانع لديها من فعل ذلك. يمكنها تحمّل أيّ عقوبة تريد إنزالها. والسؤال الحقيقي: هل المجتمع الإسرائيلي على استعداد لدفع ثمن الاضطراب المستمر؟
تشير التوقعات التحذيرية في وول ستريت، من بنك جاي بي مورغان، إلى أنّ الاقتصاد الإسرائيلي قد ينكمش في هذا الربع من السنة بنسبة 11% على أساس سنوي. وهذه النسبة تفوق سابقاتها في أي من حروب إسرائيل الأخيرة. وكلما طال أمد الحرب، زادت الأسئلة المزعجة المحيطة باستراتيجية نتنياهو.
يُقدّر اللوبي التكنولوجي في إسرائيل أنّ عُشر قوته العاملة قد طالته التعبئة العسكرية. وأصيب قطاع البناء بالشلل بسبب الحجر على القوى العاملة الفلسطينية في الضفة الغربية. وانهار استهلاك الخدمات مع ابتعاد الناس عن المطاعم وقلة التجمعات العامة
كان الدافع وراء هجوم حماس، أو أحد الدوافع على الأقل، الرغبة في تخريب عملية إبرام الصفقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية والخليج. ويبدو أنّ رد الفعل الإسرائيلي الهائل يحقّق رغبة حماس. فأي مفاوضات جدّية بين إسرائيل ومنطقة الخليج باتت حكماً مُعلّقة في المستقبل المنظور. ومهما كانت دناءة القيادة العربية، فإنّ الرأي العام غاضب إلى حدٍ يُصعّب التوصل إلى صفقة مع نتنياهو تستحق المخاطرة.
داخل إسرائيل نفسها، تغيّرت المعركة بين القوى السياسية المتنافسة، وقد كانت محتدمة بهذه الحدّة قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر. وأرقام نتنياهو في استطلاعات الرأي سيئة للغاية. وداخل حكومة نتنياهو نفسها توجد انقسامات على حزمة المساعدات.
وزير المالية بتسلئيل سموتريش – زعيم الصهيونية الدينية وأحد كبار المعارضين للانسحاب من غزة – على خلاف مع وزير الاقتصاد نير بَرْكات، وهو شخصية موالية لمؤسسة الأعمال، على خلفية صياغة حزمة الإغاثة. حسبما ذكرت صحيفة جيروزاليم بوست:
«سموتريش يسعى جاهداً للحفاظ على صورة المسيطر على الوضع، إذ يستوعب النقد بشأن غياب وزارته وعدم الاستجابة في خلال هذه الفترة، إلى جانب انتقادات زملائه الوزراء ودعمهم الضعيف. ومع تراجع حزبه في استطلاعات الرأي الأخيرة، لربما يحتاج إلى إظهار المزيد من السيطرة والفعالية لاستعادة مكانته».
وخارج الحكومة يسعى ائتلاف قوي من التيار الاقتصادي السائد إلى استغلال الحرب لتقليص نفوذ اليمين الديني. ففي رسالة مفتوحة موقعة من 300 شخصية بارزة، من بينهم البروفيسور جاكوب فرنكل المحافظ السابق لبنك إسرائيل، ومستشار الحكومة البروفيسور ليو ليدرمان من جامعة تل أبيب، وجوشوا أنغريست من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2021، قال الموقعون لنتنياهو وسموتريش: «أنتما لا تدركان حجم الأزمة الاقتصادية التي يواجهها الاقتصاد الإسرائيلي. إنّ استمرار السلوك الحالي يضر باقتصاد إسرائيل، ويقوّض ثقة المواطنين في النظام العام، ويقوّض قدرة دولة إسرائيل على التعافي من الوضع الحالي».
الحرب على مستقبل غزة أصبحت متشابكة مع المخاوف الداخلية الإسرائيلية بشأن انقسام المجتمع اليهودي بين اليهود المتدينين وغير المتدينين. والسؤال المطروح الآن، وهو لا يقل عن سؤال غزة، يدور حول مستقبل إسرائيل
واللافت أنّ ما يدعون إليه هو مراجعة ميزانية الدولة 2023-2024 التي تضمّنت أكثر من 13 مليار شيكل من الإنفاق الائتلافي الاستنسابي، الكثير منه خُصِّصَ للبرامج التعليمية للمجتمع الحريدي. هذه التبرّعات من الميزانية يجب وضعها بدلاً من ذلك تحت تصرف المجهود الحربي.
وعلى هذا فإنّ الحرب على مستقبل غزة أصبحت متشابكة مع المخاوف الداخلية الإسرائيلية بشأن انقسام المجتمع اليهودي بين اليهود المتدينين وغير المتدينين. والسؤال المطروح الآن، وهو لا يقل عن سؤال غزة، يدور حول مستقبل إسرائيل. ومثلما تحذر مراكز الأبحاث كـمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي:
«فإن هذا الرقم يُظهر بوضوح أنّ الاقتصاد الإسرائيلي يتجه نحو انخفاض كبير في حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. وإذا لم يحدث إصلاح واسع لنظام التعليم الحريدي، فسوف تتقلّص حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في إسرائيل بنسبة 5% في بداية العقد المقبل، و10% بحلول العام 2050، و15% بحلول بداية ستينيات القرن الحادي والعشرين. تُقارَن هذه التوقعات بحصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع في إسرائيل إذا ظل التوزيع الحالي للسكان بلا تغيير. وهذا التقدير المُقلق هو في الواقع أقل التقديرات لتضرّر حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في ضوء الاتجاهات الحالية في نظام التعليم الحريدي».
تعطي الحربُ التيارَ الإسرائيلي السائد الموجه نحو النمو فرصةً ليقول بوجوب خفض تمويل المؤسسات التعليمية الحريدية التي لا تفرض أي التزام بتدريس المناهج الأساسية. وبطبيعة الحال، فإنّ تمثيل اليهود الحريديين شديد الانخفاض، ليس في القوى العاملة وحدها، بل وفي صفوف الجيش الإسرائيلي. وبالتالي فإنّ الحرب تزيد من حدة الاستياء من التمويلات المقتطعة لهم.
وإذا كان هذا يبدو عادياً، فإنّ الارتباط عند كبار الاقتصاديين في إسرائيل بين اقتصاد الحرب والتعليم الديني، يعكس في الواقع مدى ما صار من مستقبل إسرائيل موضع تساؤل، ليس من الخارج وحده بل من الداخل أيضاً. في الوقت نفسه، وبالعودة إلى المخاوف السائدة قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، يخاطب الدكتور تومر سيمون، كبير العلماء في قسم البحث والتطوير في شركة مايكروسوفت في إسرائيل، مستشار الأمن القومي تساحي هنغبي في رسالة مفتوحة، محذراً من أن:
«الحرب قد خلقت فراغاً كبيراً في القوى العاملة في قطاع الهاي تك. وهذا السيناريو أوضح في الشركات متعددة الجنسيات الموجودة في إسرائيل، حيث نسبة استدعاء موظفيها إلى الاحتياط أعلى بكثير من المعدل الوطني... يحتل هؤلاء الموظفون مواقع قيادية في مؤسساتهم – كبار مديرين وروّاد أعمال ومهندسين ومطورين ومديري مشروعات وغيرها من الأدوار الأخرى الحاسمة للنجاح التشغيلي اليومي والمبادرات الاستراتيجية طويلة المدى لشركاتهم. وغيابهم عن العمل اليومي في هذا القطاع له تأثير أوسع. فهذا لا يضر بالمشروعات الحالية فحسب، بل يبعث أيضاً برسالة مُقلقة إلى مقراتها الرئيسة عن موثوقية واستقرار عملياتها الإسرائيلية، وإسرائيل بالعموم. يتزايد هذا القلق على خلفية الأشهر العشرة الأخيرة التي شهدت عاصفة سياسية كان لها بالفعل أثر سيئ على ثقة الاستثمارات الأجنبية، بل وتجلّت في إغلاق خمسة مراكز للبحث والتطوير حتى قبل بداية الأزمة الحالية. قد يدفع هذا القلق الشركات متعددة الجنسيات إلى تجميد أو تقليل استثماراتها بعد الصراع، وحتى إغلاق أنشطة البحث والتطوير الخاصة بها هنا. مثل هذه التصرفات من شأنها أن تشكل تراجعاً استراتيجياً قد يحمل في طياته نتائج ضارة على المشهد الاقتصادي الإسرائيلي ومستقبل الابتكار، ويُضعف موقفنا العالمي ويزيد من تقويض استقرارنا الداخلي».
من الواضح أنّ الصراع في الشرق الأوسط يدور حول الحياة والموت بالمعنى الأوضح والأقصى. إنّ نضال الملايين من الناس في غزة نضالٌ من نضالات الحياة العارية ضد الموت. في إسرائيل، وعلى الرغم من الصدمة الوجودية في 7 تشرين الأول/أكتوبر، فإنّ مسرحية الاقتصاد السياسي مستمرة، وهذا يعكس حقيقة أنّ النجاح الاقتصادي لإسرائيل على مدى السنوات العشرين الماضية كان دائماً تحت لواء العنف. فقد بُنِيَ على ما كان من الواضح أنّه نظام غير شرعي وغير مستقر. وكما لاحظ أحد المعلقين في الفاينانشال تايمز:
«لقد بنينا صناعة الهاي تك إبان التحديات الأمنية… والغريب كيف أصبحت هذه الصناعة طبيعية. يعي الناس وجود خطر في كل مكان. إنما المسألة مجرد تخفيفه. وحتى وسط الاضطرابات، يعود بعض العاملين في القطاع إلى العمل. سيتعين على الناس – بقدر ما يحمله قولي من جنون – [العودة] إلى بعض الحياة الطبيعية».
والسؤال المطروح بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر وتدمير إسرائيل لغزة: أيُّ شكلٍ قد تتخذه هذه الحياة الطبيعية.
نُشر هذا المقال على مدوّنة أدم توز في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2023.