Preview اجتماعات منظمة الأوبك في الكويت في 1973

الأساطير والحقائق وراء صدمة أسعار النفط في 1973

يسود اعتقادٌ بأن الارتفاع المفاجئ لأسعار النفط أربعة أضعاف في الأشهر الأخيرة من العام 1973 قد أذن بنهاية «العصر الذهبي للرأسمالية العالمية». ويرى إيريك هوبزباوم في تفسيره المرجعي للتاريخ أن العام 1973 كان نقطة التحوّل التي «فقد عندها العالم بوصلته وانزلق إلى عدم الاستقرار والأزمات».1  وعلى الرغم من تحيز هوبزباوم المفرط إلى الشمال العالمي، فإن التغييرات الجذرية في سوق النفط ذلك العام كانت بلا شك ذات أهمّية عالمية فورية وطويلة الأجل.

عجلت أحداث العام 1973 بظهور «مسألة الطاقة»، إذ لم تكن قبله في قلب الخطاب العام. وفي العام 1974، انضمّت غالبية البلدان الصناعية إلى وكالة الطاقة الدولية التي تتخذ من باريس مقراً لها، وذلك من أجل تنسيق سياساتها والردّ على الاعتماد المُفرط على النفط. وأسّست إدارات وطنية خاصة لإدارة خطط الطاقة، مثل وزارة الطاقة الأميركية التي تأسّست في العام 1977. وفي العام 1981، عقدت الأمم المتّحدة مؤتمراً عالمياً بشأن مصادر الطاقة الجديدة والمتجدّدة في نيروبي. لقد أسفر التوجّه نحو زيادة «كفاءة الطاقة» عن تحسين معايير محرّكات السيارات وعزل المباني، في حين أسفر التدافع نحو «الطاقات البديلة» عن تغيّرات عميقة في مزيج الطاقة العالمي، مع تراجع النفط وارتفاع الفحم والغاز الطبيعي والطاقة النووية. وحتى الطاقات «المتجدّدة» كطاقة الرياح والطاقة الشمسية دخلت في نقاش السياسات في خلال هذه الفترة.

في هذه الروايات، يُنظَر إلى ارتفاع أسعار النفط نحو أربعة أضعاف بوصفه «صدمة» خارجية طالت الدول الصناعية، ناجمة عن عمل تخريبي غير مسؤول بقيادة عربية

لكن لا تزال أصول هذا التحوّل غير مفهومة إلى حدّ كبير. في الغرب المستورِد للنفط، يُطلَق عادة على أحداث أواخر العام 1973 مسمى «الصدمة النفطية» (الأولى)، وهذه متجذّرة في الأسطورة السائدة القائلة بأن أسعار النفط ارتفعت بسبب «الحظر» المزعوم من منظّمة البلدان المصدّرة للنفط (أوبك) على شحناتها النفطية إلى الغرب في محاولة لدعم مصر وسوريا في «حرب تشرين/أكتوبر» ضدّ إسرائيل. وفي روايات أخرى، ارتفعت أسعار النفط لأن «الأعضاء العرب في أوبك» فرضوا حظراً على الدول الداعمة لإسرائيل. في هذه الروايات، يُنظَر إلى ارتفاع أسعار النفط نحو أربعة أضعاف بوصفه «صدمة» خارجية طالت الدول الصناعية، ناجمة عن عمل تخريبي غير مسؤول بقيادة عربية.

تُطلِق الدول المصدّرة للنفط، العربية وغير العربية على حدّ سواء، على هذه اللحظة مسمى «الثورة النفطية». تشير جميع التصريحات العامّة لوزراء أوبك آنذاك – بالإضافة إلى المحاضر المُتاحة اليوم لاجتماعاتهم السرّية – إلى أن الدول الأعضاء سعت إلى تعزيز تنميتها الاقتصادية (وإلى حدّ ما، رفاهية مواطنيها) في سياق مكافحة حركة مناهضة الاستعمار العالمية.

في الواقع، رفعت أوبك أسعار النفط، ولكن ليس نتيجة لحرب يوم الغفران. بل وراء ارتفاع الأسعار كانت مشروعات تنموية طموحة، وانخفاض قيمة الدولار الأميركي، ونهاية معيار الذهب والدولار. سعت الدول الأعضاء إلى وقف «الاستهلاك المُفرط» للنفط الذي من شأنه أن يستنزف احتياطياتها «بسرعة كبيرة». لم تكن أحداث العام 1973 نتيجة «صدمة عرض» خارجية بحتة، بل بالأحرى استجابة لأزمة النظام الاقتصادي العالمي في مرحلة ما بعد الحرب.

«سلاح النفط»

إن غالبية الروايات عن الارتفاع المفاجئ في أسعار النفط إلى أربعة أضعاف تخلط بين ارتفاع أسعار منظّمة أوبك وبين استخدام «سلاح النفط» من قِبَل مجموعة من الحكومات العربية في سياق الحرب العربية الإسرائيلية. في أواخر العام 1973، حدث «حظر» عربي على الولايات المتّحدة ودول أخرى مرتبطة بالحرب، وكان له بعض من التأثير في أسعار النفط. لكن هذه السياسة لم تكن لها علاقة بالزيادات الهائلة في الأسعار التي هزّت العالم.

استخدمت الدول العربية النفط «سلاحاً» لمقاومة التوسّع الإسرائيلي في ثلاث مناسبات قبل العام 1973. الأولى في عام 1948، حين أغلقت السلطات العراقية خطّ الأنابيب الذي ينقل النفط العراقي إلى حيفا. كما تأخّر مدّ خط أنابيب التابلاين، الذي كان من المفترض أن يربط حقول النفط السعودية المطوّرة حديثاً بالبحر الأبيض المتوسّط عبر الأردن وسوريا ولبنان، وأنشأت جامعة الدول العربية مكتبها الدائم للبترول في العام 1953. وبعد ثلاث سنوات، أسفر إغلاق الحكومة المصرية لقناة السويس في خلال الحرب العربية الإسرائيلية الثانية عن إثارة الخوف من نقص وشيك في إمدادات النفط في أوروبا الغربية. ادعى جان مونيه مازحاً أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر هو «موحّد أوروبا» الحقيقي، فقد عجَّل في إنشاء المجموعة الاقتصادية الأوروبية في العام 1957.

استخدمت الدول العربية النفط «سلاحاً» لمقاومة التوسّع الإسرائيلي في ثلاث مناسبات قبل العام 1973

ورداً على حرب الأيام الستة، أغلقت مصر قناة السويس من العام 1967 إلى العام 1975. وفي اليوم الثاني من الصراع، اجتمع وزراء النفط العرب في بغداد وانخرطوا في هجوم عنيف على الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وإسرائيل والشركات الدولية المحتَكِرة للإنتاج في الخليج. لكن أثبت الحظر الذي فرضوه عدم فعاليته بسبب السعة الاحتياطية للمنتجين غير العرب كالولايات المتّحدة، فضلاً عن نشر ناقلات عملاقة جديدة يمكنها الإبحار حول أفريقيا. في أواخر آب/أغسطس 1967، أعلنت جامعة الدول العربية سياسة «اللاءات الثلاثة»: لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض مع إسرائيل. ومع ذلك، أظهر بيانها العام وجهة نظر أليَن بشأن إنتاج النفط:

«كان مؤتمر وزراء المال والاقتصاد والبترول العرب قد أوصى بإمكانية استخدام وقف ضخّ البترول كسلاح في المعركة، باعتبار البترول طاقة عربية يمكن أن توجّه لدعم اقتصاد الدول العربية... قرّر المؤتمر استئناف ضخّ البترول».2

بعد العام 1967، قاد وزير النفط السعودي زكي يماني الجهود المبذولة لإنشاء كيان جديد – يهدف إلى أن يكون مستقلاً عن منظّمة الدول المصدِّرة للبترول «غير العربية» (OPEC) ومقاوماً لضغوط الشركات الأنغلو-أميركية في سوريا والعراق والجزائر. في 8 كانون الثاني/يناير 1968، تأسّست منظمة الأقطار العربية المصدّرة للبترول (OAPEC) على يد المملكة العربية السعودية والكويت وليبيا. وسرعان ما اختيرَت أبوظبي وقطر والبحرين لتنضم إلى المنظمة الوليدة. وبحسب دبلوماسي بريطاني، شرح يماني الأساس المنطقي لمنظّمة الأوبك بهذه الكلمات:

«لقد كان شيئاً جديداً في عالم النفط: منظّمة مكرّسة لفكرة وجوب فصل شؤون النفط عن السياسة وأحقية مصالح الدول المستهلكة، والدول المنتِجة. حدّد [يماني] تلك المصالح بسعر معقول، وقبل كل شيء، أمن الإمدادات. وتابع أن يد أوبك العربية ممدودة للتعاون. وأعرب عن أمله في أن تستوعبها الدول المستهلكة، وكذلك شركات النفط».3

وعلى الرغم من إعرابها عن رغبتها في الفصل بين النفط والسياسة، فقد استلَّت منظّمة أوبك العربية سلاح النفط في العام 1973. ومع ثورة العام 1969 في ليبيا التي جلبت معمّر القذافي إلى السلطة وتأميم صناعة النفط في الجزائر في العام 1971، زادت راديكالية العالم العربي، وخسرت بريطانيا سيطرتها على «شرق السويس». وفي كانون الأول/ديسمبر 1972، طلب الاتحاد الدولي للعمّال العرب من الحكومات العربية فرض مقاطعة اقتصادية على الولايات المّتحدة. وفي القاهرة، بحثت اللجنة الاقتصادية التابعة لجامعة الدول العربية سبل استخدام النفط لإجبار الولايات المتّحدة على تعديل موقفها من الصراع العربي الإسرائيلي. وفي العام 1973، وافق مجلس الأمة الكويتي على قرار يطلب من الدول العربية تجميد إنتاج النفط في حالة نشوب حرب مع إسرائيل، وبحلول 15 أيار/مايو من ذلك العام، أغلقت العراق والكويت والجزائر وليبيا صنبور النفط احتجاجاً على يوم الاستقلال الإسرائيلي. في خلال اجتماع في جنيف في وقت لاحق من ذلك العام، استمع كبار المسؤولين التنفيذيين في شركة أرامكو – الشركة الابنة لشيفرون وإكسون وتكساكو وموبيل المُشغِّلة لحقول النفط السعودية – إلى تهديد الملك فيصل بسحب امتيازهم إذا لم تغيّر حكومة الولايات المتحدة موقفها المؤيّد لإسرائيل. وبحلول هذه المرحلة، أصبحت السوق «ضيّقة»، واعتقد المنتجون العرب أن لديهم فرصة أفضل للاستفادة سياسياً من تهديداتهم.

في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973، اندلعت الحرب مرّة أخرى في خلال احتفال «يوم الغفران» المقدّس في إسرائيل. سمح الهجوم المفاجئ المنسّق على الدفاعات الإسرائيلية للجيشين المصري والسوري باستعادة بعض الأراضي في سيناء والجولان المحتلّتين من إسرائيل في خلال حرب الأيام الستة. وكان الجمهور العربي منفعلاً، ولكن في الأيام العصيبة بعدها، أقامت حكومة الولايات المتّحدة جسراً جوّياً ضخماً لإعادة إمداد القوّات المسلّحة الإسرائيلية. صمدت قوات الدفاع الإسرائيلية أمام التقدّم العربي وشنّت هجمات مضادة ناجحة في كلّ من الشمال والجنوب. وبحلول 15 تشرين الأول/أكتوبر، هدّدت الدبّابات الإسرائيلية القاهرة وحاصرت الجيش المصري الثالث على الضفّة الشرقية لقناة السويس.

في حين وضعت إجراءات منظّمة اوبك فلسطين في مركز السياسة الدولية، فإن تخفيضات الإنتاج والمقاطعة الانتقائية كان لها آثار محدودة للغاية في سوق النفط

وفي 17 تشرين الأول/أكتوبر، اجتمع أعضاء أوبك العربية في الكويت لإعلان خفض الإنتاج بنسبة 5% في الشهر التالي، على أن يستكمل بتخفيضات أخرى كل شهر يمر حتى «انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في خلال حرب 1967 واستعادة الحقوق الفلسطينية».4

وفي اليوم نفسه، أعلن وزير النفط في أبوظبي، مانع العتيبة، أن حكومته ستفرض أيضاً حظراً كاملاً على شحنات النفط إلى الولايات المتّحدة، بحجة أن «النفط ليس أغلى من الدم العربي». وستحذو المملكة العربية السعودية، إلى جانب بقية أعضاء أوبك العربية، حذوها بعد بضعة أيام، رداً على قرار إدارة نيكسون إرسال 2.2 مليار دولار من المساعدات إلى إسرائيل. وسِّعَ الحصار ليشمل في نهاية المطاف هولندا والبرتغال وروديسيا وجنوب أفريقيا، على أمل الحصول على الدعم من التحالف الأوسع المناهض للإمبريالية في العالم الثالث.

ولكن بحلول أواخر تشرين الأول/أكتوبر 1973، أسفر وقف إطلاق النار عن تغيّر موقف منظّمة أوبك العربية. وفي اجتماع عقد في مدينة الكويت في 4 تشرين الثاني/نوفمبر، فتحت المنظمة الطريق لاستئناف الإمدادات بالكامل إلى «الدول الصديقة» مثل فرنسا. وفي آذار/مارس 1974، بعد سلسلة من الاجتماعات المثيرة للجدل في فيينا والقاهرة، أُلغيَت تخفيضات الإنتاج والحظر المفروض على الولايات المتحدة وهولندا رسمياً. وفي حين وضعت إجراءات منظّمة اوبك فلسطين في مركز السياسة الدولية، فإن تخفيضات الإنتاج والمقاطعة الانتقائية كان لها آثار محدودة للغاية في سوق النفط. قال الاقتصادي الأميركي موريس أدلمان:

«على مدى الأشهر الثلاثة من تشرين الأول/أكتوبر إلى كانون الأول/ديسمبر، كان إجمالي الإنتاج المفقود [...] أقل من المخزون المُراكَم في وقت سابق من العام. وبالنظر إلى بعض الإنتاج الإضافي من أجزاء أخرى من العالم، لم يحدث أي نقص في العرض على الإطلاق».5

بحسب معظم الحسابات، فقد انخفض حجم النفط المتداول في الأسواق العالمية بنسبة تتراوح بين 5 و13% في خلال الأشهر الخمسة التي خُفِّضَ فيها الإنتاج.6  لذا لم يكن ارتفاع أسعار النفط في أواخر العام 1973 متناسباً مع تخفيضات الإنتاج، لا سيما بالنظر إلى الإجراءات المضادة من جانب المستوردين من أجل «توفير الطاقة». وبطبيعة الحال، استمرت «الأسعار المرتفعة» بعد انتهاء تخفيضات الإنتاج بسنوات عدّة. وهنا يصبح دور منظّمة أوبك وثيق الصلة، في العديد من النواحي التي لا علاقة لها تُذكَر بالصراع العربي الإسرائيلي.

ثورة الأسعار

في 16 تشرين الأول/أكتوبر 1973، أي قبل يوم واحد من اجتماع منظّمة أوبك العربية، اجتمع ممثلو المملكة العربية السعودية والكويت وأبوظبي وقطر والعراق وإيران في مدينة الكويت كلجنة فرعية تابعة لمنظّمة أوبك لإعلان قرارهم التاريخي، وللمرّة الأولى من جانب واحد، برفع سعر النفط الخام بنسبة 70%، من 3 دولارات إلى 5.11 دولار للبرميل. وفي كانون الأول/ديسمبر، قرّر مندوبو أوبك مضاعفة السعر المرجعي مرّة أخرى إلى 11.65 دولاراً للبرميل. عُقد هذا الاجتماع في طهران، حيث لم تكن إيران طرفاً في الصراع العربي الإسرائيلي، وقد رفعت مستويات إنتاجها في العام 1973، وكانت مورداً لإسرائيل. لم يكن للقرار سوى علاقة غير مباشرة بالاضطرابات الإقليمية.

زعم الوزير السعودي زكي يماني وزميله الجزائري بلعيد عبد السلام مراراً وتكراراً في خلال جولاتهما الدبلوماسية في العواصم الغربية أن ارتفاع أسعار أوبك لا علاقة له بالحرب في الشرق الأوسط. لا ترد في محاضر مؤتمرات أوبك المتاحة من أواخر العام 1973 وأوائل العام 1974 سوى القليل من الإشارات إلى الصراع العربي الإسرائيلي. وكما لاحظ أنطوني سمبسون في كتابه الأخوات السبع: «لقد أثبت ارتفاع الأسعار والحظر […] أنهما مزيج قاتل للغرب. ولكن من المدهش أن هذه المصادفة كانت عرضية».7

لاحظ أنطوني سمبسون في كتابه الأخوات السبع: «لقد أثبت ارتفاع الأسعار والحظر […] أنهما مزيج قاتل للغرب. ولكن من المدهش أن هذه المصادفة كانت عرضية»

سهّلت ظروف السوق قرار أوبك. وبحلول أوائل سبعينيات القرن العشرين، أدركت الدول الصناعية أن «أزمة الطاقة» في طور التكوين: فقد ارتفع الطلب في كلّ من الولايات المتّحدة واليابان وأوروبا الغربية، وكانت تكساس تضخّ بأقصى سرعتها للمرّة الأولى منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وكان المستهلكون الأميركيون يعانون من نقصٍ في الغاز الطبيعي والبنزين. بين عامي 1970 و1973، فرضت إدارة نيكسون المزيد من الضغوط على السوق الدولية من خلال الإلغاء التدرّجي للضوابط الإلزامية على واردات النفط التي كانت تحمي المنتجين المحلّيين في الولايات المتّحدة منذ العام 1959. وقد كتب وزير الخارجية ويليام بي روجرز إلى نيكسون يعترف بحقيقة مزعجة:

«إذا لم تُعكَس الاتجاهات الحالية، فإن الولايات المتّحدة بحلول العام 1980 سوف تنتج كمّية من النفط تزيد قليلاً عمّا تنتجه اليوم، بينما سيرتفع الاستهلاك من 15.8 مليون برميل يومياً في العام 1971 إلى 24 مليون برميل يومياً في العام 1980. وفي ذلك الوقت سوف نضطر إلى استيراد نصف احتياجاتنا من النفط، ومعظمها من الدول العربية التي تحوز ما لا يقل عن ثلثي احتياطيات النفط في العالم غير الشيوعي».8

ونظراً لهذا التغيّر في تركيبة السوق، لم يكن من الممكن تقريباً تجنّب ارتفاع أسعار النفط. لكن تصرّفات أوبك كانت عنصراً بالغ الأهمّية. إن الجهود المنسّقة من جانب البلدان المصدرة للنفط – «الدول النفطية» – لزيادة دخلها من النفط كانت السبب وراء إنشاء منظّمة أوبك ذاتها. أول المؤشرات على المنظمة تمثّلت في اتفاق شرف جرى التوصّل إليه على هامش مؤتمر البترول العربي الأول في القاهرة عام 1959. وُلِدَت المنظمة رسمياً في بغداد في أيلول/سبتمبر 1960. وتألّف أعضاؤها المؤسّسون من فنزويلا والمملكة العربية السعودية والعراق وإيران والكويت، وانتخبوا بيريز ألفونزو من فنزويلا أول رئيسٍ لها. وفي أول مؤتمر وزاري مُسجّل لمنظّمة أوبك في العام 1961، قال:

«لا يمكن تجاهل السعر المنخفض نسبياً الذي يباع به هذا المنتج القابل للنفاد إلى الدول الغنيّة. ولا يمكن لشعوبنا تفويت فرصة الانتقال من دون تأخير من الفقر إلى الرفاه، ومن الجهل إلى الثقافة، ومن عدم الاستقرار والخوف إلى الأمن والثقة».9

في خلال الفترة المتبقية من الستينيات، ظل سوق النفط الدولي الذي يعاني من فائض في المعروض خاضعاً لسيطرة المستهلكين وشركات النفط الدولية، إلا أن دول الأوبك استطاعت زيادة حصّتها من الإيرادات لكل برميل من النفط من خلال زيادات طفيفة في معدّلات الضرائب وإجبار شركات النفط على قبول الأسعار المعلنة التي كانت أعلى من سعر السوق. في أواخر الستينيات، مع تزايد الانتقادات العالمية للإمبريالية الغربية إبان حرب فيتنام، وشروع الرأي العام العربي في تحدّي القيادات العربية بعد هزيمتها في حرب الأيام الستة، جدّدت الدول النفطية نشاطها.

وفي كانون الأول/ديسمبر 1968، أُعيدَ إحياء منظمة أوبك من خلال بيان توضيحي للسياسة النفطية طالب بالسيطرة على الأسعار المعلنة، و«تخلي» الشركات الغربية متعدّدة الجنسيات عن المناطق غير المستغلة تجارياً، والمشاركة المباشرة في امتيازات النفط. وفي العام 1969، أسفرت الثورة في ليبيا وقرار الجزائر بالانضمام إلى منظّمة أوبك عن تعزيز جبهة المصدّرين الذين أرادوا أكثر من مجرد «المشاركة» في الامتيازات، بل سعوا إلى التأميم. وفي شباط/فبراير 1971، أصبحت الجزائر أول دولة في منظّمة أوبك تتّخذ هذه الخطوة المهمّة، معلنة سيطرة الدولة على 51% من صناعة النفط الجزائرية، بعدما كانت تحت سيطرة الشركات الفرنسية بعد الاستقلال.

أسفرت الثورة في ليبيا وقرار الجزائر بالانضمام إلى منظّمة أوبك عن تعزيز جبهة المصدّرين الذين أرادوا أكثر من مجرد «المشاركة» في الامتيازات، بل سعوا إلى التأميم

وسرعان ما تبعتها دول أوبك الأخرى من خلال التأميم الكامل أو المشاركة بحصّة الغالبية (بينها فنزويلا التي أمّمت النفط في العام 1975، مع أن الفضل في اتخاذ القرار يُنسب إلى هوغو تشافيز في كثير من الأحيان). ومع تأميم «امتيازات» التعدين القديمة الموروثة من الاستعمار، وضعت حكومات أوبك نفسها بين حكومات العالم الثالث التي تأمل في تأكيد سيطرتها على سلعها الأساسية. على سبيل المثال، أشار الرئيس الجزائري هواري بومدين إلى الحاجة إلى نظام اقتصادي دولي جديد أمام الجمعية العامة للأمم المتّحدة في العام 1974 وفي الإعلان الرسمي الصادر عن القمة الأولى لرؤساء دول أوبك في العام 1975.

وفي الوقت نفسه، كانت سوق النفط تتحوّل من «سوق المستهلك» إلى «سوق المنتج». وكان الطلب على المواد الخام والطاقة يرتفع بمعدّلات سنوية لافتة تجاوزت 7% سنوياً، وخصوصاً في أوروبا الغربية، وذلك بسبب الزيادات في الأجور والإنفاق على الرعاية الاجتماعية. برزت أيضاً صعوبات على جانب العرض سببها إغلاق قناة السويس بعد حرب العام 1967، وتفجير خطّ أنابيب التابلاين، وبلوغ الطاقة الإنتاجية «ذروتها» الواضحة (واللحظية) في أكبر دولة منتجة للنفط في العالم (الولايات المّتحدة) وفي المُصدِّر الرئيس في العالم (فنزويلا). انعكس هذا التوازن الجديد في مفاوضات طهران وطرابلس في العام 1971 بشأن الأسعار المعلنة بين أوبك وشركات النفط الدولية، ثم في اتفاقيات «جنيف» لعامي 1972 و1973 لضبط الأسعار المعلنة مع تخفيض قيمة الدولار. بحلول العام 1973، كانت دول أوبك قد حقّقت بالفعل زيادات كبيرة في الأسعار المعلنة، وقاومت بيع نفطها مقابل الدولار الأميركي الضعيف الذي لم يعد مدعوماً بالذهب، وبدأت في السيطرة الكاملة على صناعة النفط. هكذا، لم تكن الزيادة الرباعية الأحادية الجانب في الأسعار في شهري تشرين الأول/أكتوبر وكانون الأول/ديسمبر سوى استكمالاً لهذه العملية.

بعد خمسين سنة

في مؤتمر وزاري لمنظّمة أوبك في كانون الثاني/يناير 1974، لخّص الوزير الإيراني صاحب الثقل النفطي جمشيد آموزغار الاعتبارات الأربعة الرئيسة وراء سعر النفط البالغ 11.65 دولاراً للبرميل: أولاً، الاعتقاد بأن مُصدِّري النفط سوف يضطرون يوماً ما إلى استيراد طاقة عالية الكلفة من مصادر أخرى، كالنفط الصخري أو الفحم المسال؛ ثانياً، ضرورة الحفاظ على القوة الشرائية للنفط؛ وثالثاً، الرغبة في حماية «القيمة الجوهرية» للنفط، فهو أثمن من أن يُحرَق؛ ورابعاً، حقيقة أن النفط لم يكن مجرد مصدر للطاقة فحسب، بل كان أيضاً مادة خام لصناعة البتروكيماويات. وقبل تصريحات أموزغار، أوضح الشاه الإيراني في كانون الأول/ديسمبر 1973 أن الإجماع الجديد لمنظّمة أوبك مؤداه أن النفط «مُنتَج عزيز» آيل إلى «النفاد في خلال ثلاثين عاماً».

السردية السائدة تجعل من «الثورة النفطية» صدمةً خارجية وتحوِّل التركيز بعيداً من الأزمات العميقة الجذور في قلب الاقتصاد العالمي

هكذا، رامَ السعر المتفق عليه في طهران التوافقَ مع «السعر الأدنى الذي سيتعيّن علينا دفعه إما للحصول على النفط الصخري أو تسييل الفحم أو تحويل الفحم إلى غاز». وفي سوق نفط مواتية وغير مستقرّة، ساهم مستوى أسعار أوبك في تعزيز التنمية الصناعية الداخلية، والاعتراف بقيمة النفط كمصدر الطاقة الأهم في العالم، وتجنّب «الاستهلاك المفرط» أو «الإهدار الاقتصادي» لمورد طبيعي حيوي ليس للمستهلكين وحدهم بل لمواطني الدول النفطية.

ومهما كان نجاحه السياسي، فقد كان الحظر فاشلاً على المستوى الاقتصادي: فقد استحوذ مصدّرو النفط الآخرون (بما في ذلك من داخل منظّمة أوبك) على الحصّة السوقية التي خسرتها دول منظّمة أوبك العربية طوعاً، وأثبت الحظر الانتقائي أنه غير عملي. وليس من المستغرب أن يكون العام 1973 آخر مرّة يقوم فيها المصدّرون العرب بتنسيق محاولة لاستخدام النفط سياسياً. ولكن من خلال ربط ارتفاع أسعار النفط إلى أربعة أمثالها بالحظر، فإن السردية السائدة تجعل من «الثورة النفطية» صدمةً خارجية وتحوِّل التركيز بعيداً من الأزمات العميقة الجذور في قلب الاقتصاد العالمي. وتُبقي على فكرة أن الموجة التضخّمية في السبعينيات كانت نتيجة لنقص العرض، وليس استجابة لانخفاض قيمة الدولار الأميركي بنسبة 20% مع نهاية معيار الذهب.

إن الخلط بين هاتين السياستين يحجب أيضاً المعنى السياسي الأعمق «لثورة أوبك النفطية»: رؤية تنموية طالبت بإعادة هيكلة جذرية للعلاقات الاقتصادية بين الشمال والجنوب باعتبارها الهدف النهائي لتصفية الاستعمار. وعلى مدار العقد التالي، كان مصير هذه المحاولة أيضاً الفشل. لقد وفر الهجوم المضاد النيوليبرالي الناجح بقيادة الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة طريقة مختلفة للخروج من أزمة رأسمالية ما بعد الحرب؛ أي بأزمة ديون قسّمت العالم الثالث.

على أي حال، لا بدّ من فهم الصدمة النفطية عبر أصولها الاجتماعية والاقتصادية والمُناهِضة للاستعمار، ما يذكرنا بالتاريخ الطويل من الجهود المبذولة لإصلاح نظام بريتون وودز والنظام النقدي الدولي. واليوم، تواصل التكاليف الاقتصادية والجيوسياسية والبيئية لاقتصاد الوقود الأحفوري – وبدائله – ارتفاعها. إن تَذكُّرَ «الثورة النفطية» في العام 1973 يسلّط الضوء على الدور المركزي لهذه الدول النفطية في عمليات المواءمة المعاصرة للحوكمة الاقتصادية العالمية.

نشر هذا المقال في Phenomenal World في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.