Preview شربل نخاس ندوة

شو صار؟ شو عم يصير؟ شو فينا نعمل؟

«شو صار؟ شو عم يصير؟ شو فينا نعمل؟»، هو عنوان محاضرة في مسرح المدينة في بيروت، للامين العام لحركة مواطنون ومواطنات في دولة، الاقتصادي اللبناني شربل نحّاس، من تنظيم «الدولية للمعلومات». تناول فيها الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية المُستجدّة محلياً وإقليمياً، وحلَّل مَوضع هذه الأحداث ضمن سياقها التاريخي، كما قدّم طرحاً، اعتبره واقعياً ومُمكناً، لتغيير الواقع القائم.

 

  • ما حصل لم يكن نتيجة فساد فاسدين، ففي كلِّ الدنيا سارقون. ولا نتيجة تآمر خارجي أميركي أو إيراني أو غير ذلك، فتدخّل الدول لمصالحها هو أحد أهم أسباب وجودها. ولا نتيجة خرق للدستور والقانون لأنهما لا يعدوان مرتبة الشكليّات في مفهوم راسخ عند الجميع. إن الأحداث تؤشِّر على تعطّل صيغة السلطة، والمكابرة تقود إمّا إلى تبدُّد المجتمع وهو ما يجري، وإمّا إلى تفلُّت العنف وهو تهديد دائم الحضور، وإمّا إلى كلا الاثنين معاً
  • مقابل تفشي مساعي التدبّر الفردي ومصاعب الحياة اليومية ومقابل التطويق الذي تتولاه أداة التكيف على معارضيه، هناك حاجة لتوفير الدعم للبدائل، وذلك لا يكون بالانخراط في منظومات الـNGO وأجندات مموليها، ولا في تنظيمات الوجاهة وضمن ادعاءات الخبرة، بل عبر تنظيم الإسهامات المالية والعينية الطوعية الواعية لغاياتها.

غايتي من الكلام هي استثارة أفعال بينكم لمواجهة مسارات خطيرة من الأحداث، فما علاقة الكلام  بالحدث؟ وما علاقة القول بالفعل؟

اللغات الأوروبية تنظِّم أزمنة الأفعال بحسب زمن الكلام، فتُعاين ماضياً سبقه وحاضراً يزامنه ومستقبلاً يليه، أمّا اللغة العربية فهي تتعامل مع زمن الفعل نفسه، فتميِّز بين فعل تحقَّق إنجازه واكتماله، وبهذا المعنى يكون قد مضى حصوله، كالقول «عشتم وعاش لبنان» أو «كان الله يحب المحسنين»، وفعل جارٍ ومستمرّ يطبع اسم الفاعل وصفته كالقول «المرء يسعى» مثل القول «المرء ساع» بمعزل عن حظوظ إنجاز الفعل واكتماله، وتُخفَّف تلك الحظوظ بإضافة قد، أو تُغلَّب بإضافة «سوف» أو «س»، والـ«سوف» يعني شمَّ رائحة عن مسافة، أي إمكانية حصول فعل.

يشوب المقاربة في اللغات الغربية وَهم أن القول هو الفعل بذاته، ويساور مقاربة اللغة العربية قلقٌ من أن الفعل منفصلٌ عن الفاعل وقدرته، إلا بعد حدوثه، لذا تكثر في اللغات الغربية الصيغ الفعلية لتلطيف الوهم، بينما يكثر في اللغة العربية لا سيما المحكِية، استخدام كلمات تسبق الفعل لتحدِّد علاقة المتكلِّم به، كالقول «عِمَّال يعمل»، و«عِمَّال» صفة تُشدِّد على حصول العمل في تزامن مع الكلام، و«عِمَّال» تصبح في المحكية «عَمْ» أو «عَمِّنْ» أو «عَمَّل» أو «مِن» باستدال اللام بالنون، أو كالقول «راح يعمل» و«راح» فعل منجز أو ماضٍ وتصبح «راح» طبعاً في المحكية تشديداً على إتمام القصد، وبالتالي رجحان توقّع حصول العمل ليس أكثر، وهذا بالتحديد مفهوم واقعي جدّاً للمستقبل.

من هنا كان العنوان الذي انتهيت إليه لهذه الندوة، ويقع على شكل ثلاث أسئلة «شو صار؟ شو عم يصير؟ وشو فينا نعمل؟»، ليس لأن لا أجوبة معروفة على تلك الأسئلة، بل على العكس لأنني أعرف وأنتم تعرفون أن هناك جواباً تلقائياً جاهزاً عليها الثلاثة معاً، وهو «لبنان طول عمرو هيك» أي «ما صار شي غير المعروف المتكرّر»، وبالتالي «ما عم بصير شي»، والأهم أن لا داعٍ للفعل إذ لا جدوى منه. قد يسأل سائل ما نفع الكلام عندما يكون معروفاً مُسبقاً ومُكرَّراً؟ الجواب أن نفعه عظيم، لأنه يؤكِّد الإنتماء جماعياً. هذا ما يحصل في الطقوس على اختلافها الدينية والحزبية وغيرها، فالانتماء الجماعي هو الردّ الأسهل على القلق، ذلك أن المعروف المتكرِّر محكوم بالقلق، قطوع يقطع خلف قطوع، القلق مستحكم ومعمَّم. لذا يحل محل «شو فينا نعمل» سؤال بديل: «شو رح يصير»، ولعلّي أعرف أسوة بالخبراء والمنجِّمين الذين يملؤون الشاشات، المقصود: قياس منسوب دواع القلق، القلق يستدعي الانتماء ووقوده الانتماء. 

الانتماء هو الداء والدواء، لذا يصبح الاثنان مُستحكمين بالجماعات التي ينتجانها ويصونانها. كلّ الباقي أحداث عرضية، مشاكل فردية خاصّة، يتدبّرها كلٌّ بما استطاع. مصاعب الحياة تدعي التذمُّر والتدبُّر، تغذِّي الشكوى، وتبرِّر الشطارة. من هنا، الحاجة لتوكيل القلق، وكسب الوقت اللازم للتدبُّر وللشطارة، وتوكيله يكون لله وللزعيم، العائلة تتولَّى مصاعب الحياة، والله والوطن وممثلهما - الزعيم -  يتولَّيان القلق.

نحن مجتمعون اليوم، وعليّ، ضمن توزيع الأدوار الذي يحكم كلّ علاقة، أن أتكلَّم. وأنتم أتيتم لتستمعوا وتسائلوا. لكنني لن أتكلّم بصفتي دكتوراً، بل بصفتي سياسياً، لأطرح أمامكم طرحاً بديلاً عن المعروف: أن السلطة هي توزّع للأدوار بين الناس، وارتضائهم جميعاً بهيكل التوزيع وإن لم يرتضوا بحصتهم منه، وأن العمل السياسي الجدّي عند المفاصل الحرجة ليس تولي أدواراً مرسومة سلفاً أو التسلق من دور إلى آخر يبدو أعلى مرتبة، بل هو السعي لتأثير حاسم في السلطة، أي في توزيع الأدوار وفي العلاقات بخارج محيط، وأن مصاعب الحياة بواقعها هي المجال العام، بينما القلق والانتماء العائلي والطائفي والوطني مُجرّد منتج تاريخي ظرفي.

شو صار؟

الوقائع لا تتكلَّم لكنها تروى، وهي تتحوَّل مباشرة إلى سرديات متعدِّدة بحسب العدة اللغوية والمفهومية لسلالات الرواة وأهوائهم. جَهد الرياضيون، وبنسبة أقل الفلاسفة، وبنسبة أقل الحقوقيون، لصياغة معاجم مُغلقة تضبط الدلالات. فلنستعرض الأحداث والوقائع القريبة منا بما أمكن من واقعية، ثمّ نتناول السرديات التي أطَّرتها وأرست مفاعيلها.

على الصعيد الاقتصادي، توقّفت المصارف عن الدفع -  وهذا كلام في المعجم القانوني يعني ما يعنيه - في خريف 2019. أعلنت الدولة تخلفها عن دينها بالعملات الأجنبية في ربيع 2020. في غياب أي وجهة لما بعد إعلان الإفلاس، فقدت الليرة كامل قيمتها، تراجع الناتج المحلّي إلى الثلث، تعمَّمت الدولرة وعادت الأسعار تدريجياً إلى مستوياتها ما قبل الأزمة، بُدِّدت موجودات البلد الخارجية لتتراجع من 30 مليار دولار إلى خمس مليارات، وأيضاً في غياب أي وجهة، إنّما استيعاباً للصدمة وتهيئة لتنظيم الاستعفاء والتكيّف. 

الحدث لا يحمل معنى مُحدّداً، ولا يولِّد بذاته نتائج ولا مواقف، فالمعاينة شيء والتشخيص شيء آخر. الحدث بذاته يولِّد القلق، أمّا التشخيص فهو الذي يفتح الباب على خيارات التعامل مع الحدث، لا بل على استباقه أو حتى على افتعاله

على الصعيد البشري والمؤسّسي، حصلت تظاهرات كبيرة في خريف 2019، انفجر مرفأ بيروت في صيف 2020، تعطَّل عمل الإدارة العامة والتعليم الرسمي والقضاء إلى حدّ بعيد، تتالت موجات من مواجهات أمنية طائفية تمّ ضبطها بسرعة، ارتفعت الهجرة السنوية الصافية للبنانيين من حوالي 30 ألفاً إلى قرابة 100 ألف، بينما استمرت أعداد السوريين ونسبتهم من المقيمين ترتفع باضطراد، أجرت السلطة انتخابات نيابية في ربيع 2022، وأصبح كلّ مجلس النواب معارضاً سواء باسم السيادة أو الممانعة أو التغيير، وشغرت رئاسة الجمهورية واستعفى الجميع من مسؤوليّاته لا سيما تجاه الخارج. نجاح بارع! 

على صعيد الإقليم، استمر الوضع التقسيمي في سوريا، نشبت حرب بين روسيا وحلف الناتو على أرض أوكرانيا، قامت عدّة دول عربية بتطبيع علاقاتها علناً مع إسرائيل، أُعلن عن تنظيم خط نقل بري من الخليج إلى حيفا، وآخر من إيران وآذربيجان إلى تركيا، ما استدعى حسماً عسكرياً في أرمينيا، قام مقاومون فلسطينيون بهجوم واسع حول قطاع غزّة أصاب إسرائيل بالهلع، فردَّت بحرب تدمير وإبادة على غزة بدعم غربي، فتح حزب الله من جنوب لبنان جبهة إسناد لغزّة، وراحت المواجهات مع إسرائيل تتوسّع تدريجياً، اعتدت إسرائيل على قنصلية إيران في دمشق فردّت إيران لأول مرة، وكان الردّ مدروساً، وطبعاً انقسم اللبنانيون بحدّة حول كلّ ذلك.

موجة هائلة من الأحداث! لكن الحدث لا يحمل معنى مُحدّداً، ولا يولِّد بذاته نتائج ولا مواقف، فالمعاينة شيء والتشخيص شيء آخر. المعاينة أن «الشخص مصاب بالحمى»، التشخيص أن «الحمى تعود لهذا الالتهاب أو ذاك ولهذه البكتيريا أو تلك». الحدث بذاته يولِّد القلق، أمّا التشخيص فهو الذي يفتح الباب على خيارات التعامل مع الحدث، لا بل على استباقه أو حتى على افتعاله. التشخيص يحتاج إلى عدَّة مفهومية ويبقى مُعرّضاً للخطأ وللأهواء والنزوات، والعدَّة المفهومية متأخِّرة دائماً عن الحدث، والعمل النقدي على العُدد المفهومية يلاقي معارضات شديدة ذاتية وسياسية، لأنه يزعزع الانتظام الذي يركن إليه الناس، ويصيب مصالحهم الرمزية والمادية أيضاً.

العدَّة المفهومية المرجعية في لبنان موثّقة في نصٍ قصير، هو مقدّمة الدستور، قوامها واضح: تنظيم هدنة بين الميليشيات الطائفية برعاية دولية وإقليمية. بدأت تتبلور تلك التسوية خلال مرحلة انتقالية منذ الثمانينات، ومرّت بامتحانات صعبة، بدأت من قرار أميركا اجتياح العراق، فالاغتيالات، فإخراج سوريا، فحرب 2006، فسبعة أيار، فالمحكمة الدولية، فإقصاء سعد الحريري بقرار سعودي. بُذلت جهود لافتة لترتيب صيغة منقّحة نسميها «اللادولة الطائفية»، وهي قائمة من دون وصاية خارجية، ومن دون عنف داخلي منذ ما يقارب 15 سنة، صيغة دقيقة ومتطوِّرة وحذقة وخطرة.

توضيحاً للقصد، نقول إن ما حصل لم يكن نتيجة فساد فاسدين، ففي كلِّ الدنيا سارقون. ولا نتيجة تآمر خارجي أميركي أو إيراني أو غير ذلك، فتدخّل الدول لمصالحها هو أحد أهم أسباب وجودها، حيث توجد. ولا نتيجة خرق للدستور والقانون لأنهما لا يعدوان مرتبة الشكليّات في مفهوم راسخ عند الجميع. كلّ هذه التفسيرات لا تهدف إلّا إلى تنزيه صيغة السلطة القائمة وصيانة شرعيّتها على عجزها. نقول إن الأحداث تؤشِّر على تعطّل صيغة السلطة، أي على حالة قطيعة واقعية مع ما كان قائماً ولن يعود كما كان. المكابرة تقود إمّا إلى تبدُّد المجتمع وهو ما يجري، وإمّا إلى تفلُّت العنف وهو تهديد دائم الحضور، وإمّا إلى كلا الاثنين معاً.

في الأحداث والوقائع: الإفلاس والهجرات والإقليم. سنتناول هذه النقاط الثلاثة تباعاً.

الإفلاس: أتى الإفلاس نتيجة حتمية للنظام الاقتصادي السياسي، وإن تمّ تأجيله بشطارة جهنمية، وبتقصّد إجرامي لسنوات عديدة مقابل تعظيم الخسائر. في سنة 1999، وضعتُ كتاب «حظوظ اجتناب الأزمة وشروط تخطِّيها». في سنة 2004، فاوضنا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مع المرحوم الياس سابا على تصحيح إيرادي، لكن الاغتيالات أطاحت بحكومة عمر كرامي. في سنة 2011، عقدتُ سلسلة جلسات تفاوض مع رياض سلامة، قبل التجديد له، لوضع مجموعة من المؤشِّرات الاستباقية للأزمة المُنتظرة، ولتحديد كيفية التعامل معها متى حصلت، لكن الخلاف السياسي مع ميشال عون أسقط كليهما. في 2015، تقدّمت مع كلٍّ من السادة حسين الحسيني والياس سابا ونجاح واكيم وغيرهم بمراجعة لدى مجلس الشورى لفرض رقابة قضائية على تصرُّف الدولة غير الدستوري وغير القانوني بالمال العام، جباية وإنفاقاً، فأتى الردُّ بعد نقاشٍ طويلٍ أن القضاء لا يستطيع الحلول محلّ سلطاتٍ تخالف الأنظمة لكنّها تحوز على الشرعية الشعبية. في ربيع 2016، تمّ تأسيس «مواطنون ومواطنات في دولة»، وكُلِّف فريق برصد الأوضاع المالية وتتبّعها ووضع نماذج رياضية ارتقابية للانهيار. وعندما أصبح الانهيار وشيكاً، أصدرت الحركة تنبيهاً علنياً في أيلول/سبتمبر 2018، إلى حلقات السلطة الثلاث، الزعماء الطائفيين والمصرفيين وممثِّلي الدول الكبرى والمؤسّسات المالية الدولية، وعقدنا اجتماعات مع الضمان الاجتماعي ومع نقباء المهن الحرَّة، والمعلِّمين في بيروت وطرابلس، وأخطرناهم بمسؤوليتهم الشخصية عن مدَّخرات اجتماعية تعود لمئات الآلاف وضرورة حمايتها، من دون جدوى.

غداة توقُّف المصارف عن الدفع، أعلنا في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 برنامج المرحلة الانتقالية، القائم على توزيع عادل وهادف للخسائر، ثمّ أصدرنا في حزيران/يونيو 2020 - بعد ضرب اللصوصية التي قامت به لجنة تقصِّي الحقائق التي ضمَّت كل أحزاب السلطة - كتاب «اقتصاد ودولة للبنان»، إضافة إلى حملات «مستقبلك دهب» و«وين صندوقك؟». 

ما يجري اليوم تحت عناوين التكيّف والتعافي يؤدي إلى مجتمع لا ينتج إلا القلق من العنف والمآسي، وبضاعته الوحيدة للتصدير - أي أبناؤه وبناته - تتناقص كمّيتها وتتراجع نوعيّتها

على الرغم من الاستباق ومن التحذيرات، حُرِم المودعون من ودائعهم، ما عدا المحظيين طبعاً، وحُرِم المضمونون والمتقاعدون من مدّخراتهم، وهُدِرت مليارات الدولارات. وما هو أنكى من ذلك أن أصحاب المصارف وزعماء الطوائف استغلّوا غضب المودعين لتضع الحلقة المالية يدها أيضاً على الأموال وعلى الأملاك العامة، محوّلين سرقتهم للمال الخاص إلى حجّة لسرقة المال العام، حتى بات المرء يترحم على لازار وعلى صندوق النقد.

الهجرات: دخل مئات الآلاف من السوريين إلى لبنان خلال سنة 2012، في ظل اقتناع كلّ من محوري هدنة اللادولة أن عودتهم سريعة، لأن مؤيِّدي الأسد كانوا واثقين من نصره الوشيك، ومعارضوه من سقوطه الوشيك، ولم تعرْ السلطات اللبنانية مكوثهم، منذ ما يقارب عقد ونصف العقد، أي اهتمام! موكلة شؤونهم إلى الأمم المتّحدة وأجهزتها وأجنداتها والـNGOs. بات السوريون اليوم يشكِّلون ثلث السكّان، والغالبية بين الشباب وفي القوى العاملة خارج القطاع العام، وجلَّهم ينتظمون ضمن علاقات عشائرية ورثوها. نصفهم تقريباً لم يعرفوا سوريا! 

في المقابل، أدَّى الإفلاس وفقدان فرص العمل إلى تعظيم هجرة اللبنانيين، لا سيما من الشباب، حتى باتت نزيفاً جارفاً، وأصبحت تحويلاتهم، إضافة إلى المساعدات الخارجية واستهلاك مخزون الأموال لدى المصرف المركزي ولدى الأفراد، توازي الناتج المحلّي، وتسمح بالمحافظة على مستويات مقبولة بالحدّ الأدنى من الاستهلاك.

تبديد البشر، أي مادة المجتمع، أصبح الملاذ. خسارة هائلة في العام تبدو الحل المُتاح للأسر في الخاص. وطبعاً، ما زال اللبنانيون يتجاهلون المسار التراكمي للهجرتين، الخارجة والوافدة، ويمتنعون عن القيام بالتعداد، لأن السلطة لا ترى مقيمين ومواطنين بل ترى طوائف وأغراض. ويتجاهلون ما حصل في سوريا. إضافة إلى افتراق مقياسيْ الخاص والعام، يتظّهر افتقاد حسّ الزمن وحسّ المجال.

الإقليم: تغيّرت معالم الإقليم  بين فلسطين المحتلّة، وأهلها مهجَّرون أو مقتولون أو مقموعون. والعراق الذي تتقاسمه العصبيّات والعصابات الطائفية وازدواجية مرجعيّاتها بين إيران وأميركا. وسوريا التي تحضر فيها بعساكرها الدول العالمية والإقليمية المتصارعة. ولبنان الذي يتمسّك أهله بسبب قلقهم المستحكم بهدنة خطرة وعاجزة ويرتضون تبدُّدهم.

بات في المنطقة ثلاث دول فاعلة: إيران وتركيا وإسرائيل، مقابلها مجموعة دول صغيرة نفطية من دون مجتمعات، إذ الغالبية العظمى من سكّانها عمّال أجانب مؤقتون، تحميها قواعد أجنبية، وإلى جانبها السعودية التي يسعى حكّامها لإرساء نظام جديد وسط مخاطر ومغامرات كبيرة، ومصر الدولة الكبرى التي أصبحت تعيش على التسول والتحيّن.

أين أصبحنا؟ من زمنٍ كان فيه البداوي، ولحقت به بانياس تحت ضغط من سوريا، مصبّاً لنفط العراق بدلاً من حيفا بعدما رُسِمت حدود الأردن وفق مسار ذلك الخط أصلاً، والزهراني مصبّاَ لنفط السعودية بدلاً من حيفا وفق المخطَّط الأصلي. خطوط الغاز والنفط تعبر من إسرائيل إلى قبرص، أو عبر تركيا إلى أوروبا! أين أصبح وزن بيروت قياساً على مدن المنطقة؟ أين أصبح مرفأها ومطارها وجامعاتها؟ 

الحرب الهائلة التي تشنّها إسرائيل منذ 6 أشهر ضدّ الصامدين في غزّة، ترمي إلى طردهم من ملجئهم، بعدما أصيب المشروع الصهيوني في أساسه، بوصفه قد أنشأ ملاذاً نهائياً وآمناً ليهود العالم، وترمي بفظاعتها إلى القول للصهاينة إن ما حصل كان طارئاً وعابراً ولن يعود، وحتى كأنه لم يحصل.

الردُّ الايراني الأخير أصاب المشروع الصهيوني في ركيزته الثانية، أي في زعمه أنه اليد الطولى للغرب في المنطقة، سواء امتدّ أمد الحرب وتوسّع مداها أو انحسر، فهي ستنتهي إلى ترتيبات، وإن كانت بدورها مؤقّتة. أين لبنان منها بعد ما قدّم من تضحيات؟ المسار إلى الحرب الأهلية لا ينفصل عن هزيمة 1967، وتشتّت شرعية نظاميْ الناصرية والبعث، وبدء تفاوض مصر مع إسرائيل إثر حرب 1973. اتفاق الطائف لا ينفصل عن تقهقر الاتحاد السوفياتي وبزوغ الأحادية القطبية لأميركا، وتطبيقه بالرعاية السورية مرتبط مباشرة بغزو صدام حسين للكويت ووقوف سوريا مع التحالف الأميركي. ومؤتمر باريس 2 الذي أطال أمد النظام المالي في لبنان لقرابة 15 سنة أتى من تخوّف فرنسا والسعودية وسوريا معاً من نية بوش غزو العراق، ومتى حصل الغزو كان القرار 1959 وإخراج سوريا. 

لبنان اليوم مرتهن بتطوّر الصراعات والمفاوضات في الإقليم وعلى مصيره. شرعية الدولة شرط لقدرتها على حشد الموارد والتعامل مع الخارج الخطِر بوسائل غير المراهنة والارتهان. في مقابل التباس العام والخاص أولاً، وحلول الخاص بديلاً عن العام المستعفي. وثانياً، افتقاد حس الزمن والمجال للإقامة في عالم هوياتي جامد ومتخيل، وثالثاً التغاضي عن الحاجة لدولة ذات شرعية، تملأ الجوّ ضوضاء سخيفة ومحزنة. 

عن الإفلاس، نسمع عن التعافي والـ «resilience» وردم الفجوة وازدهار المقاهي. وعن الهجرات نسمع «أهلا بهالطلة أهلا»، وجامعات تباهي بكفأتها في تصدير الشباب، وبلديات تضبط السوريين بينما الأمن العام ينظِّم رحلات العودة. وعن الإقليم، نسمع عن قرار تتّخذه غزة، مقابل دعوات «الله يسترنا» واتهامات متبادلة مُتصاعدة، وصار تاريخ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 مرجعاً في النصوص القانونية للقيود التي وضِعت على سحب الأموال بالمجهول، وحداً فاصلاً بين الأموال الطازجة والأموال البائتة، بينما يسمّيه البعض ثورة. هذا، من دون نسيان الشغور في سدَّة الرئاسة، وهو شغور يشغل العالم.

الكلام المحكي المحلّي السائد منتظرٌ ولا يفاجىء أحداً، وهو يبدو مزيجاً من البديهيات المُتصارعة، إنّما لا عنف يتفلّت، ولكن من دون أي طرح إجرائي أيضاً. هل مطلقو هذا الكلام بتلاوينه أغبياء وفاسدون؟ نقول: لا. والدليل أن الإقبال عليه كثيف وشغوف، ومردّدوه كثر، ومطلقوه من الزعماء أسرى أدوار وأسرى قلق لا يستطيعون البوح به، فهم زعماء! ومتلقّوه بدورهم أسرى قلق لكنهم يوكلونه إلى الزعيم، وينسبون سببه إلى الزعيم الخصم أو إلى ما يسمّونه المنظومة، ويسعون قبل فوت الأوان إلى ترتيب أوضاع أولادهم في الهجرة أو الـ NGOs. الأشد إقلاقاً في الأمر هو التكيّف وارتضاؤه.

شو عم بيصير؟ 

«صار» يعني الحدث، أمّا «يصير» فيعني المسار والتغيّر، والأحداث ليست مفاجآت مُقلقة أو مناسبات طقوسية، والوضوح بالتعامل ليس «من مع ومن ضدّ». مسارات التغيّر التي تتراكم مع الوقت هي القاعدة، التغيّر مستمرّ والمسارات مُتعدّدة ووتائرها متفاوتة ومتقلِّبة: تغيّر في المناخ، تغيّر في التقنيات، تغيّر في علاقات الإنتاج، وفي أنظمة الحيازة، وفي الصيغ السلطوية، وفي المعتقدات، وفي اللغة، وفي الذمم المالية. التغيّر هو سنّة الحياة، من دونه لا ولادة ولا نضوج ولا شيخوخة ولا موت. من دونه، نفيٌ للتاريخ وإفقاد العقل جدواه، إذ لا أسباب ولا نتائج في غياب الترابط الزمني، ولا دواعي بالتالي للعمل السياسي، إلا لأداء طقوسيات تسعى لتدعيم مقولات الثبات، ثبات الدول.

دولة بالعربية تعني التحوّل، بينما «ستاتوس» التي منها جاءت كلمتا «Etat» و«State» باللاتينية، تعني الثبات، ثبات الدساتير وثبات القوميات. والأحداث والمناسبات هي مفاصل قد تكون مفتعلة كجزء من طقوسيات السلطة أو تكون مفروضة بحكم تراكم مفاعيل التغيّر داخل المجتمع أو حوله، على الرغم من إغفالها وإنكاره. لولا قاعدة التغيّر لكان التغيير وهماً، التغيير هو تأثير في مسارات التغيّر القائمة، ذلك أن التغيّر مُقلق للأفراد وللمجتمعات، والثوابت تُنتج كملجأ من القلق الذي يرتِّبه التغيّر، وقد ابتدع البشر طرقاً ومتخيّلات ومؤسّسات لا تعد ولا تحصى لمحاولة تكريس الثبات أو الشعور به، كالأنساب الواقعية والمتوهمة، والهويات الأزلية، والطقوس الدورية الرسمية والدينية، والحروب، سواء حُوّلَ الوقت إلى لحظي أو أبدي أزلي أو دوري، لا فرق! فإنه لا يعود له فعل تراكمي وتغييري ولا يبقى منه إلا كمٌّ من اللحظات، وخضم من الأحداث، يُصبح معيار الشطارة عبر تحيّن الاستفادة منها بقنصها أو الاحتماء من وقعها، ولا يعود من معنى لما يسمَّى استثمار ولا تضحية. 

تبديد البشر، أي مادة المجتمع، أصبح الملاذ. خسارة هائلة في العام تبدو الحل المُتاح للأسر في الخاص. وطبعاً، ما زال اللبنانيون يتجاهلون المسار التراكمي للهجرتين، الخارجة والوافدة، ويمتنعون عن القيام بالتعداد، لأن السلطة لا ترى مقيمين ومواطنين بل ترى طوائف وأغراض

تعامُل اللبنانيين مع الأحداث محكوم بهذا المفهوم للوقت، تراكم الذمم المالية التي هي تراكم للخسائر، لم يُرِد أحداً التعامل معه، فأتت الأزمة وكأنها مفاجأة وتلتها التظاهرات وكأنها احتفالية، بينما التكيّف جار على قدم وساق، وتراكم الهجرات الوافدة والخارجة وفعلها يغيّر المجتمع والاقتصاد، فما من أحد تقريباً يتعامل مع واقعها، بل يتخيّل كلّ فريق أنه يحلّ مشاكله في زاروبه، ومتى تتكشّف أحداثاً ستكون مفاجئة. وأتت الانتخابات كاحتفالية ثانية، وهجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر نتيجة، وإن متأخّرة، لتراكم مديد، وصدّ لتراكم مقابل، والاستشراس الإسرائيلي في القتل والتدمير مسعى لصدّ مسار ما زال في بداياته، لكنه تهديد للمشروع الصهيوني في أساسه.

مسارات التغيّر مُتعدّدة، وإن كان كلّ منها بسيطاً متى تمّ الاعتراف بحصوله والتعرّف إلى مجرياته، فإن تداخلها ينتج صورة مُرتبكة، لذلك تتشكّل ذاكرة الناس حول أحداث وشخصيّات، لما كان لها من تأثير مادي أو رمزي عليهم، ووفق ما حفظته السرديات التي يتناقلونها في عائلاتهم وأجوائهم الخاصة. وقد بقي التدوين التاريخي حتى زمن قريب محصوراً بالحوليّات، أي بتدوين الأحداث وفق تواريخ حصولها مع حرص متفاوت بين المدوًّنين على الدقة والشمولية. إنما مع تمأسس الدول وتوسّع التعليم راحت تغلب عبر كتب التاريخ المدرسية مقاربة أخرى قوامها التحقين وفق تتالي الصيغ المؤسّسية للسلطة. عندنا: إمارة، وقائمقاميتان، ومتصرفية، ولبنان الكبير، وانتداب، واستقلال، وحرب أهلية، وصيغة الطائف. وكلّ من الحقبات تتضمّن أحداثاً، لكن الصيغتين الخاصّة والعامة للذاكرة تغفلان مسارات التغيّر ومفاعيله.

هذا بينما تلك المسارات هي التي تُنتج الأحداث وتفسِّرها، وقيام الصيغ المؤسّسية واندثارها عبر مفاصل حادّة وحرجة تتظهّر فيها الخيارات والمشاريع السياسية الكبرى بنجاحاتها وبإخفاقاتها. مسارات التغيّر بسيطة بحدّ ذاتها، ومفاصل الفعل السياسي ليست عتيدة. أبرز تلك المفاصل وما أطلقت من مسارات عندنا خلال القرنين الماضيين هي التالية:

أولاً، مفصل التحديث العثماني كرد على التوسّع الرأسمالي الأوروبي، وقد أطلق إرساء أنظمة الملكية الخاصة، والتنقيد (استعمال النقد)، وتشكيك التراتبية السياسية بين أعيان وعامة، والهجرات الخارجية والداخلية.

ثانياً، مفصل التقاسم الإمبريالي، وقد أطلق مسارات إنشاء الدول، وتوسّع التعليم، وإنشاء الإدارات، والانتقال الديموغرافي، وقولبة المجال وخطوط النقل على مقاسات الدول، كما أسلفنا.

ثالثاً، مفصل مشاريع التحرّر الوطني، حيث أطلقت مسارات الأطروحات القومية من أنطون سعادة إلى العروبة الناصرية وتعميم التعليم والتأميمات، وإنهاء سيطرة وجهاء المدن أشكال متفاوتة لإدارة الريف.

رابعاً، مفصل المشروع الصهيوني، وقد أطلق مسارات تساقط شرعية الدول، والعسكرة، وتبدّلات المجال، وتراجع القومية لصالح التيّارات الدينية، وتوسّع دائرة الانهزام الطوعي.

خامساً، مفصل نظام القطبية الواحدة، وقد أطلق مسارات نيوليبرالية، وانقلاب الإقليم، وتفكّك الدول، وضياع الشرعيات ومساعي استعارتها.

عودة لا بل وصولاً مع العدَّة وضمن السياق الذين أسلفنا إلى اليوم وإلى الساحة اللبنانية، تميزت المنطقة التي باتت اليوم لبنان بخصوصيتين منذ انطلاق مسارات التغيير التي ذكرناها، وهما:

أولاً، أنها كانت ريفاً هامشياً ضمن أمبراطورية، سكّانها غالبيتهم منتظمون ضمن طوائف، من دون أقطاب مدينية متّصلة بشرعية السلطنة الدينية وصيغ المتفرعة عنها، ما عدا حالة طرابلس البالغة الدلالات.

ثانياً، أنها تشكّلت حول بيروت كمدينة قطب طارئة في الأمبراطورية، كانت بوّابة دخول التأثير الخارجي إليها وواجهة التحديث الداخلي فيها.

هاتان السمتان غير موجودتان في أي من الدول المحيطة بنا، ونتج عنهما تطوّر يمكننا تحقيبه تبسيطاً، إنما ضمن منطق المسارات وليس ضمن منطق الصيغ المؤسّسية، طوال قرنين كالتالي:

1825-1875: انطلاق مسارات التغيّر المجالي والاقتصادي والاجتماعي الأساسية.

1875-1925: ترسّخ الوضع الاقتصادي والاجتماعي الناتج عن التغيّر، ونسيان ومحو الذاكرة السابقة.

1925-1975: حكم دولة التجّار الذمّيين الضعيفة والمطمئنة حيال المسارات الفاعلة في الإقليم.

1975-2025: تدفق أموال النفط، ونزوح الريفيين، ونشوء الحرب في ما بينهم وإرساء لا-دولة الطوائف.

كل من الحقبات حكمت بمسارات أطلقتها مفاصل سابقة، إنما متى انطلق قطار التغيّر على سكته، تُمحى ذاكرة ما سبق وما أطلق المسار، وتُنسَج روايات تنطلق من نقطة الوصول، أي من تصوّرات تبدو أزلية كالقول ضمن المنطق الطائفي أن بطريرك الموارنة الياس الحويك أسّس لبنان، وأقنع الملحد كليمنصو بذلك، في حين كان تقاسم العالم بين الاستعمارين الفرنسي والبريطاني جارياً على قدم وساق، وقد أقلقتهما معاً الثورة البلشفية. أو إن لبنان قائم منذ الأزل وأن أهله قاوموا المحتلّين عبر العصور والقرون، والقول إن الشيعة كانوا مضطهدين من قبل الموارنة فحصدوا الحقوق التي حرموهم منها، بينما كلاهما أبناء نازحين من الريف أتوا مع فارق بضعة عقود، وأنهم بطبعهم مناهضون للغرب المستكبر وحريصون على تحرير فلسطين. أو إن طرابلس السنية سُلخت عن سوريا، بينما هي كانت جزء من ولاية بيروت، وكانت قبل ذلك مركز ولاية بذاتها ولم تُستخدم كلمة سوريا إلا للدلالة على ولاية دمشق، وذلك بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر، تأثراً باللغات الأوروبية، وما إلى ذلك من الأمثلة…

المسارات تبقى صامتة بينما تفعل فعلها، ومتى تنتج أوضاعاً مؤسّسية عند مفصل أو عبر أحداث ترسي سرديات مصطنعة عن تاريخها. تتجاهل، ليس فقط المسار الذي أنتجها، بل أيضاً المسارات التي تنطلق أو تستمر فاعلة ضمنها. هذه السرديات تنسب الارتقاء الاجتماعي على مستوى الخاص، والصعود الخلدوني على الصعيد العام، إلى سمات ذاتية وجماعية وتصوِّر التراجع الاجتماعي على أنه وليد ظلم وتآمر. 

نحن اليوم عند مفصل جديد. نظام اللادولة تعطّل بحلقاته الثلاث: السياسية الطائفية، والمالية، والخارجية. ثلاثية حلقات السلطة كانت متكاملة ومتآلفة: الطائفة والمصرف والخارج، ضمن توافق السين سين، وضبط تحكيمه من 1989 إلى 2004، ثم من دونه اجتياح العراق والقرار 1559 عبر نظام اللادولة الذي تمكن بإبداع من ستر تصاعد الضغوط الطائفية السياسية تحت لوائي 8 و14 آذار. والمالية: هندسات مصرف لبنان. والإقليمية: المحكمة الدولية، وحرب 2006، والقرار 1701، والحرب السورية.

هذه الثلاثية وصلت بعد 2019 إلى انقلاب مفاعيلها، بحيث تحوّلت إلى ثلاثية الهجرات والإفلاس وارتقاب إعادة تشكّل الإقليم. كانت الحلقة الخليجية تضبط الأطراف السياسية الطائفية فتنتج الوحدة الوطنية، وتوفر الدعم المالي للحلقة المالية عند الحاجة، باريس 2 على سبيل المثال. وكانت الحلقة المالية بدورها توزّع المنافع على الأطراف السياسية الطائفية. 

باتت موجتا الهجرة، الخارجة والوافدة، تترجم محلياً بتقدّم عملية إعادة تشكّل الإقليم، وتعوّض بالتحويلات والمساعدات مفاعيل الإفلاس. لكن الضغط المزدوج للإفلاس توزيعاً للخسائر، ولطرفي الإقليم انخراطاً في خندقيهما، يُواجه بتنظيم الحلقة السياسية الطائفية للاستعفاء، فيتفاقم الضغط ومفاعيله.

ما يجري اليوم تحت عناوين التكيّف والتعافي يؤدي إلى مجتمع لا ينتج إلا القلق من العنف والمآسي، وبضاعته الوحيدة للتصدير - أي أبناؤه وبناته - تتناقص كمّيتها وتتراجع نوعيّتها. ما يجري اليوم هو تبديد ممنهج للموارد، في تشبيه من علم الأحياء، تسعى بعض الفصائل أمام مسار تغيّر يتراكم واقعياً للتكيّف. بعضها يتكيّف بعد حصول تغيير في تركيبتها الجينية أي في نظامها، بينما أخرى تبقى أسيرة نظامها فتنقرض.

الخط الفاصل اليوم هو بين التكيّف أي تبديد ما تراكم من الموارد المجتمعية والمؤسّسية خلال القرنين الماضيين، بالقدر التي تُتاح المحافظة على الهدوء من جهة، وخوض تجربة سياسية أداتها دولة واثقة من شرعيّتها، أي دولة مدنية، تصون الموارد وتطوّر أسبقية التجربة في لبنان لتطلق مساراً جديداً على صعيد الإقليم والمنطقة. المواجهة على الشرعية هي عنوان الظرف، لا المطالبة ولا الوعظ، وهي ما حملنا في أطروحاتنا، فكان الجبن والتقاعس ونحن جالسون اليوم معاً للفعل.

شو فينا نعمل؟

كيف تنقلب الصورة؟، من هم الـ«نحن» المقصودون في سؤال: شو فينا نعمل؟

المتكلّم والمخاطب في لبنان يتحدّدان أولاً بالطائفة، كلٌّ ينتمي إلى شارع ومجتمع وبيئة، لكل طائفة خطابها ووسائل تواصلها وفق منطق «بيشبهونا». وقد أُضيفت مؤخراً طائفة مُرتبكة قيد الانجاز، هي طائفة التغييريين بطرافتها، وكما تسير الأمور سوف تتكوّن طائفة السوريين.

لكن، ما هي الطوائف؟ وكيف تشكّلت أصلاً؟ ما هذه الكذبة حول الحضارات؟ وهذا التحايل على الدين والفكر؟ ماذا عن مزاعم الأصول الثابتة لجموع وفدوا إلى فندق كان دائماً فارغاً لاستقبالهم؟ من غساسنة ومردة وبني عاملة إلى آخر المعزوفة… أو اللجوء من تعسّف وقمع إلى جبل منيع عصي على أمبراطوريات كانت تغزو القارات؟

الطوائف تشكّلت عند مفاصل قامت فيها الدول أو تدخّلت عندها قوى خارجية، اللافت أنها استبقت وجودها حتى بعد زوال تلك الدول والقوى، لا بل مأسسته تحنيطاً دفاعياً. الطوائف هي أحزاب سياسية من الأصل، الأمبراطوريات متى تركّزت قوتها الغازية وبدأت تفقد من عزمها تعتمد ديناً من الأديان بتركيز وإدامة شرعيتها. 

الدولة، أية دولة، وقبل كل التبريرات الأيديولوجية، هي ترتيب موضعي مُكِلف ولا يخلو من المخاطر، لكنه يصبح ضرورياً أمام الحاجة، والحاجة اليوم، وها هنا ملحّة وقاهرة، بالنظر إلى تبدّد المجتمع وعودة الصراعات بين الدول إلى الواجهة

الأديان تعمِّر أطول من الأمبراطوريات. الأمبراطورية الرومانية اعتمدت المسيحية، وانقسمت القبائل التركية بين سلاجقة وعثمانيين اعتمدوا السنَّة، وصفويين اعتمدوا التشيع، وعندما يعتمد السلطان ديناً للأمبراطورية سرعان ما يتبعه أهل المدن. فالمدينة «تُدين»، ونسبتها إلى فعل مَدَنَ غير المستخدم أصلاً، ضعيفة جداً في القواميس. وفي كلّ مدينة قلعة، ثمّ يأتي سكّان مناطق الإنتاج الأساسية والسهول المروية والثغور الدفاعية، وخير مثال هو اختفاء أي أثر للفاطميين من مصر ومن تونس. أما المناطق الهامشية الضئيلة الإنتاج، والتي لا توفر للسلطان مالاً ولا تهدِّد سلطته فلا تلتحق بدينه بسرعة. لا لشيء، إلا لأن السلطة لا تحضر فيها مباشرة، لأسباب اقتصادية بديهية، فتكتفي بقمع أية قلاقل تحصل عبر تجنيد حملات عسكرية حاسمة، تطيح هذا الوجيه الوكيل، وتحل آخر محلّه. 

الكلمة التي تستخدم بالفرنسية والإنكليزية للإشارة إلى الفلاحين هي نفسها التي تعني الوثنيين. وقد بقي سكّان المناطق الجبلية في المشرق يمارسون دياناتهم الكنعانية قروناً بعد اعتماد الرومان للمسيحية، وحتى بعد الغزو العربي. في بلداننا تقبل السلاطين أن يتعايش مع اتباعهم في المدن، أتباع ديانات سلطوية سابقة بوصفهم ذمِّيين خاضعين، فاعترف العثمانيون بثلاث ملل هم الروم والأرمن واليهود، وهذه الملل تحتفظ بتنظيمها الشرعي والوقفي وتشرف على أتباع ريفيين. أمّا في المناطق الهامشية فبقي السكان على دياناتهم السابقة من سريان ويعاقبة وموارنة، أو بقوا على ديانات حملتها أمبراطوريات سقطت كالدرزو والإسماعيليين من آثار الحكم الفاطمي، أو تأثروا بالمحيط  في ظروف تاريخية واستبقوا تلك التأثيرات كالشيعة الإثني عشريين خلال مرحلة غلبة الشيعة  في القرن العاشر مع الحمدانيين وبني عمار، أو ألَّفوا عبر بعض المثقفين والدعاة أتوا من المدن، إدماجاً لتقاليد قديمة ولعادات مستجدّة كما مع العلويين والإيزديين وغيرهم.

كل هذه التشكّلات تحجّجت بإقامة مسافة مع شرعية السلطان الدينية، سواء باستبقاء ما كان قبلها أو بالتموضع على افتراق في قلبها، لكن تمأسس هذه الجماعات لم يحصل بسرعة، بل تأخّر كثيراً وقد حصل في لبنان مع الدروز أولاً، ثمّ مع الموارنة، وأخيراً مع الشيعة.

الطوائف نتاج تاريخي وإرث مجتمعي ليس إلا. لا نتجاهلها عبر شعارات كالتي وردت في الدستور ولكننا لسنا أسراها بأي شكل من الأشكال، طرحنا اليوم يقوم على ثلاثة عناوين:

أولاً، النزاع على الشرعية، ونقول البديل موجود. والمقصود مواجهة صلابة الشرعية الذاتية لكيانات طائفية متولِّدة من الحرب ومُمأسسة، نجحت في الانتظام ضمن اللادولة، وعجزها البنيوي عن التعامل مع مفاهيم مسارات تراكمية داخلية وخارجية على المجتمع. وهذا الخيار الذي اعتمدناه مفترق جوهرياً عن تأدية أدوار هامشية ترتضيها السلطة، ولو وجّهت لها الانتقادات أو المواعظ، وهو لا يتبنّى المناشدة ولا المطالبة لأنهما يثبِّتان شرعية المخاطب والمطالب، ولا الاتهمات الشخصية بالفساد والخيانة وغيرهما لأنها لا تصيبب أسس السلطة، لكنها تفرض في المقابل صياغة مشروع سياسي مع ما يتضمّن من خيارات ومفاضلات وليس باختيار المواضيع «البييعة» على التلفزيون.

ثانياً، المرحلة الانتقالية، وشعارنا الأزمة فرصة. نقول إن طرحاً كالذي نحمله لم يكن ذا أفق لولا تعثّر النظام الذي قام منذ نهاية الثمانينيات على صعده الثلاث: المال والهجرة وإعادة تشكيل الاقليم، على الرغم من مكابراته وهندساته وبراعاتاه. عندما نتكلّم عن مرحلة انتقالية نقول إن ما كان لن يعود لأن تعطّله ليس نتاج الصدفة، ونقول إن إنجاز التأثير الحاسم في إدارة المرحلة الانتقالية ليس نهاية التاريخ كما يصوّر أتباع ومحوِّرو بعض الأيديولوجيات. إدارة المرحلة الانتقالية تتولّاها حكومة بصلاحيات تشريعية استثنائية، وفق برنامج متّفق عليه ومحدّد، والهدف من الانتقال ليس ترميم ما كان أو انتاج صيغة متحوِّرة منه، بل طي حقبة الخمسين السنة التي ساد فيها.

ثالثاً، الانتقال السلمي، ومن هنا شعار فرض التفاوض. نقول إن الانتقال في مواجهة كيانات هوياتية قتالية، يعني الطوائف، تتغذّى من الصراعات وقابلة للعودة إلى الحرب إذا دعت الحاجة، أو إذا أتى الإيعاز، لا يكون إلا سلمياً وذلك يعني التفاوض مع زعماء الطوائف، إنما التفاوض يتوجّب فرضه.

رابعاً، المخاطر والاقتدار، يعني موازين القوى. نقول إن فرض التفاوض لا يكون إلا بتعديل موازين القوى. وميزان القوى نسبي وليس مطلقاً، وهو ينتج عن تقاطع اقتدار نُحرزه، وارتفاع المخاطر التي تستشعرها أركان السلطة. دواعي قلقهم متعددة وإن اختلفت وطأة كلّ منها بينهم، ضغط ناسهم الناتج عن الأزمة الاقتصادية، انقلاب رعاتهم عليهم أو اهمالهم لهم، انفلات التشنّج العصبي الذي يحتاجون لتأجيجه وتحوّله عنفاً، تأمين وراثة المتقدّمين في السن بينهم، ووراثة زعيم بطل، وهو تجربة صعبة لأن الوريث لا يستطيع مجاراة السلف في بطولاته إلا بافتعال الصدامات. 

برنامج حكومة المرحلة الانتقالية مفصّل في منشورات الحركة وعناوينه هي التالية، بإيجاز:

1- الإرساء النهائي للشرعية المدنية للدولة مع تعاملها الواقعي مع الطوائف بوصفها كيانات مجتمعية هي جزء موروث من واقعنا إنما من دون أن تمسّ برعية السلطة وذلك عبر: 

  • أولاً القيام بتعداد المقيمين من لبنانيين وأجانب ثمّ المهاجرين اللبنانيين، وتحديد إقامتهم وأوضاعهم التعليمية والصحّية والمهنية خارج أي تصنيف إداري نسَبي أو طائفي، وبتعداد المؤسّسات على اختلافها وتنظيم قواعد المعلومات.
  • وضع نظام مرجعي مدني للأحوال الشخصية، غير اختياري، حيث يطبّق على جميع المقيمين لكنه يلحظ استبقاء الخيار للبنانيين حصراً أن ينتموا إلى طائفة واتباع أنظمتها مع ما يرتب ذلك من تبعات على صعد عدّة.
  • وضع قوانين الانتخابات، حيث تكون الإقامة الفعلية هي القاعدة، وحيث يتوجّب على المرشح اختيار تمثيله للمواطنين مباشرة أو عبر الطائفة، ويختار الناخبون الاقتراع لهؤلاء أو لأولئك، فتوزّع المقاعد بين الفئتين، من هم خارج الطوائف ومن هم داخلها، وتبقى المقاعد التي تعود للممثّلين عبر الطوائف موزّعة بينهم وفق الأعراف. 
  • تحديد صفات فئات المقيمين والمهاجرين القانونية، مع ما ترتّب كل واحدة منها من حقوق وواجبات مالية وضريبية ومهنية وعسكرية، سواء بشكل إلزامي أو عبر اشتراط تعاقدي.

2- إعادة رسم الحدود بين الخدمات ذات الصفة السلعية والخدمات التي تشكّل حقوقاً:

  • تعميم التعليم الأساسي المجّاني الإلزامي كحق اجتماعي وفق منهج موحّد، ومع الحرص على التخالط الطبقي والطائفي، وتوجيه التعليم العالي والفني بما يخدم الحاجات الاقتصادية للبلد وليس لتصدير الشباب، والتعاقد لذلك مع المؤسّسات التعليمية بالكلفة الفعلية.
  • تعميم التغطية الصحّية الأساسية على المقيمين، وتحديد مهام الضمان من جهة ووزارة الصحّة من جهة أخرى، ومقدّمي الخدمات من أطباء ومستشفيات ومختبرات ومراكز عناية.

3- اعتماد الخيارات المؤسّسية المالية اللازمة لطي تجربة العقود الأربعة الماضية وإنهاء مسارها المدمّر، لذلك علينا الخروج من الدولرة التي فرضت نفسها منذ أواسط الثمانينيات، واستعادة حرّية التأثير عبر السياسات النقدية للتحكّم بانحرافات الأسعار الداخلية النسبية، وتأثيراتها على كلف المعيشة، والأهم على كلف الإنتاج.

4- إعادة الوساطة المالية إلى دورها المُحتاج: تمويل حلقات الإنتاج والتوزيع من جهة، أي التجارة والصناعة، وتمويل الاستثمارات من جهة أخرى، مع فصل فئتي المصارف لناحية طبيعة موارد تمويلها، وأشكال تسليفها ومخاطرها بعد التطبيق الفوري للقانون رقم 110 الصادر في 1991 لإصلاح الوضع المصرفي وإنهاء المهزلة المأساة المستمرة منذ خمس سنوات. 

5- حسم الخيارات القطاعية والاجتماعية، وهي تبقى محكومة بصغر البلد وبخسارة الموارد وبالانحرافات التي تراكمت لعقود على صعيد المؤسّسات والقوى العاملة. لذا يتوجّب اعتماد نهج واضح يرمي إلى تحقيق هدفين:

  • توفير فرص عمل للبنانيين بوقف الهجرة وتحقيق التوازن في العلاقات الخارجية لوقف التسوّل والارتهان، عبر القيام بالاستثمارات العامة الآيلة لخفض الكلف الاقتصادية الداخلية وحجم الاستيراد لا سيما في النقل والطاقة.
  • إرساء نظام ضريبي لا يقتصر على جمع التمويل بأسهل الطرق، بل يصمّم لتأدية دور تحفيزي خدمة للمصلحة الاقتصادية العامة، فلا يعتمد معايير ومقاييس المحاسبة الخاصة كمرجع. فدفع الأجور وتدريب العاملين أو حملات الدعاية ومصاريف الحفلات والترفيه لا يجوز التعامل معهما وكأنها أعباء متوازية التأثير على الربح، كما أن المبيعات الداخلية أو الصادرات إلى الخارج لا يجوز التعامل معها وكأنها مداخيل متوازية التأثير على الربح.

6- انتظام عمل الإحصاء المركزي استناداً إلى تعداد المقيمين والمؤسّسات لإنتاج حسابات وطنية دقيقة ولتأمين مؤشّرات مستمرّة وسريعة تسمح برصد اقتصادي واجتماعي يوجّه السياسات العامة.

7- إعادة الاعتبار للأجر ليس فقط عبر تحسينه بل أولاً عبر تحصينه وإنهاء مهانة بدلات النقل والمساعدات الاستثنائية وغيرها من البدع التي ارتضتها جماعة اتحاد العمالة العام، تأميناً لمداخيل تؤمّن حياة كريمة وتصحّح النسبة الهزيلة للأجور في الناتج، وتوسّع الطلب الداخلي بالتوازي مع ارتفاع الإنتاج.

8 - توسعة نسبة المشاركة في العمل، لا سيّما بين النساء، عبر تعديل دوامات وعطل المدارس وتنظيم الأنشطة الترفيهية والفنية للأولاد، وإنّما أيضاً بين أفراد القوى العسكرية للاستفادة من طاقاتهم الإنتاجية مع تدريبهم مهنياً، فالإدارة العامة تحتضر! حوالي ربع الملاك فقط مشغول، وغالبية الموظّفين يتقدّمون في السن، وما من شاب أو شابة يقدّم على الوظيفة العامة، فاللادولة لا تحبّ الإدارة، لأن الإدارة هي أساس الدولة وركن شرعيّتها، جل ما ترى فيها، عدا بعض المواقع التي توفر للزعيم مالاً أو قدرة على شراء الولاءات، هي أنها باب للتوزيع. وهي تفضّل للتوزيع صيغ التعاقد لأنه يؤمن الضبط والابتزاز على المنتفع. والإدارة لا تطالب سلطة اللادولة بل تنازعها على الشرعية. تعزيز الإدارة وتحديثها وتجهيزها مهمة ذات أولوية. 

9- تصحيح الانحرافات البنيوية في الاقتصاد بعدما تمادت لعقود، أي تغييراً في المجتمع وتبدلاً في مجالات العمل وفي المهن وفي المواقع الاجتماعية، وهو بالتالي يستدعي إجراءات للمواكبة أبرزها:

  • وضوح القصد، أي المشروع، ما يُغلِّب المقارنات المسارية للمواقع، من دون إغفال أهمية التدريب الذي يجب أن تتولّاه مؤسّسات التعليم العالي بعد تصويب مهامها وأدوارها بالتعاون مع المؤسّسات الإنتاجية لتصويب كفاءات القوى العاملة.
  • اعتماد سياسات خارجية مسؤولة. فلبنان بلد صغير، وسوقه الداخلية ضيّقة، ومجتمعه مشتّت بين مواطنين مهاجرين وأجانب مقيمين توازي أعداد كلاً منهما مواطنيه المقيمين. وهو واقع ضمن إقليم ممزّق ومستباح وأطراف خارجية عدّة، دولية وإقليمية، حاضرة فيه مباشرة، وعبر رعاية أحزاب سياسية أساسية فيه لا بل رعاية إدارات ومؤسّسات عامة.

لهذه الأسباب بات الخارج يشكّل حلقة من حلقات السلطة الفعلية الثلاث في نظام اللادولة. أمام هذا الواقع بات لبنان مضطراً، لتفادي تبدّده كمجتمع، أن يتعامل بفاعلية مع محيطه، فالدعوات إلى الحياد والانكفاء عبر تحريف مقولات اللامركزية ليست سوى تعبير عن الاستسلام لهذا الواقع. التعامل الفاعل مع الخارج ليس مسألة خيار، فبقدر ما يتم التعامل مع المجتمع بواقعه كداخل يكون التعامل مع باقي العالم كخارج، والفصل بين الداخل والخارج هو بالتحديد ما تقوم به وما تقوم عليه الدولة. 

الدولة، أية دولة، وقبل كل التبريرات الأيديولوجية، هي ترتيب موضعي مُكِلف ولا يخلو من المخاطر، لكنه يصبح ضرورياً أمام الحاجة، والحاجة اليوم، وها هنا ملحّة وقاهرة، بالنظر إلى تبدّد المجتمع وعودة الصراعات بين الدول إلى الواجهة، بعدما أفَلَت مرحلة القطبية الثنائية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

نظام الطوائف هو نقيض الدولة، وهو في الأصل مسعى للاستغناء عنها والاستعفاء منها، تندرج الاعتبارات الأساسية التي تحكم السياسة الخارجية لدولة لبنانية تحت أربعة عناوين:

1 - اعتبارات تتعلّق بالاقتصاد والتجارة الدولية: صغر السوق، وضمور الطلب الداخلي يجعلان من أية زيادة في الطلب الخارجي ولو محدودة رافعة حاسمة للاقتصاد وتوسعة السوق من زاوية الإنتاج أيضاً، تسمح بالاستفادة من الوفور الحجمية وتسهل تصحيح الانحرافات المتراكمة والمتمادية في تخصيص موارده من قوى عاملة ومن استثمارات. لذا هناك مصلحة أكيدة للبنان بتجنيد علاقة مواطنيه، لا سيما المهاجرين منهم، لتنمية قدرات مؤسّساته الإنتاجية عبر انخراطها في الحلقات المُجدية من سلاسل الإنتاج العالمية، وله مصلحة أيضاً في تجنيد طاقات المقيمين من غير اللبنانيين، وأغلبيتهم سوريين، بقدر ما هي تلبّي حاجات توازن قدراته الإنتاجية.

2- اعتبارات تتعلّق بالمجال: تحوّل لبنان تدريجياً من قطب اقتصادي في المنطقة إلى تابع لاقتصاديات دول الخليج، حتى بات يقوم على تصدير أبنائه والتسوّل الاستتباعي لاستبقاء حلقة استهلاكية تتّسع وتضيق حسب تقلّب أوضاع الإقليم وعلاقاته بهم.

تراكم الذمم المالية التي هي تراكم للخسائر، لم يُرِد أحداً التعامل معه، فأتت الأزمة وكأنها مفاجأة وتلتها التظاهرات وكأنها احتفالية، بينما التكيّف جار على قدم وساق، وتراكم الهجرات الوافدة والخارجة وفعلها يغيّر المجتمع والاقتصاد، فما من أحد تقريباً يتعامل مع واقعها، بل يتخيّل كلّ فريق أنه يحلّ مشاكله في زاروبه

3- إعادة التوازن إلى الإقليم، تستدعي معاينة صريحة تقاطع مصالحه مع مصالح السوريين، بعدما حلّ ببلادهم من تمزيق وعنف وإنهاء تاريخ طويل من الاستعلاء السوري، بحيث يستعيد مربّع بيروت طرابلس حمص دمشق، موقعاً محورياً على صعيد الإقليم يقوم على تكامل مدروس للأدوار ضمنه، وثمة أسباب موضوعية لإرساء علاقات تعاون مع كل من مصر والسعودية اللتين تواجهان خلف شعارات متقلّبة ومتنوّعة تحدّيات تطاول شرعية سلطاتهما واستقرار مجتمعيهما. 

4- اعتبارات تتعلّق بالشرعية والامن: المشروع الصهيوني عدواني وديني وعنصري في أساسه، وقد نجح في تقويض شرعية كافة دول المنطقة، بدءاً بفلسطين طبعاً ثمّ لبنان، العداء اتجاهه خيار، وهو خيار مُكلف لكنّه ضروري لحماية شرعية الشكل الوحيد المتاح لدولة في لبنان، أي الشرعية المدنية. 

إدارة العداء مكلفة ودقيقة، والبعد الأمني والقتالي ليس سوى جزء منها، وإن كان ضرورياً. المشروع الصهيوني أصيب في أساسه لكنه استشرس لاستبقاء حجّته، أي شرعيته، وقد راكم لبنانيون في المناطق التي تعرّضت خلال عقود للاعتداءات الصهيونية من خلال تنظيم حزب الله قدرات عسكرية لم تحزرها جيوش عربية في أوجها، لكنهم مأطرون، أسوة بالغالبية العظمى من اللبنانيين ضمن الأطر الطائفية التي تولّد بينهم الاندفاع بقدر ما تولّد عند الآخرين الافتعال. هنا تبرز بالتوازي الحاجة لدولة والحاجة لطرح سياسي يؤطر العمل العسكري متى يكون ضرورياً، مثل إيران واضح في هذا السياق وإن كانت الدولة في إيران تعتمد الدين ركناً من شرعيتها إنما لأسباب تاريخية قائمة هناك، وهي غائبة في لبنان.

الحاجة ملحّة في فلسطين، حيث ما زال يتداول كلام غير بريء عن مشروع الدولتين، الذي لا يصيب المشروع الصهيوني، بل يحدّ من توسّعه، ولذلك تم الإطباق عليه. الطرح في ما خص فلسطين هو أيضاً دولة مدنية، وهذا الطرح أول من يستطيع حمله هم اللبنانيون إنّما بعد أن يرسوه في مقرّهم في دولتهم.

في الصورة العامة، يتظاهر لبنان ليس لرغبة أيديولوجية، بل لحاجة موضوعية، منطلقاً لمسار تغييري في المنطقة: فلسطين وسوريا والعراق، قوامه شرعية وظيفية للدول، بعد تحطّم المشاريع القومية والدينية والقمعية على اختلافها، ذلك أن منطقتنا لم ترث على عكس تركيا وإيران أمبراطورية، بل بقيت على هامشها، ولبنان لا يحوز أي فضل في ذلك سوى أسبقية زمنية على الصعد كافة: التعلّم، والنزوح من الريف، والهجرات، والانتقال الديموغرافي، وإنما أيضاً الحروب الأهلية وتسويات الهدن.

أُضيعت فرص عديدة، كانت كلفة إضاعتها هائلة: محاولات التصحيح الإرادي، والتنبيهات، وتنظيم قيادة تقوم بالتفاوض عند أوج التظاهرات، وقلب مهرجان الانتخابات، وخطّة تنظيم السلطة الفعلية للاستعفاء وستر عجزها وقلق أركانها، إلى منازعة على الشرعية عبر إعلان المجلس الوطني المدني، وشهدنا منذ أيام في نقابة المهندسين، عودة جحافل الطوائف بنتيجة أفعال نقيبين تغييريين، أو بشكل أدق إحجامهما عن أي عمل.

الموارد تتضاءل، لكن المخاطر تزداد، الحلقة المالية تعطّلت، الإقليم يتفجّر، التغيّر الديموغرافي سوف يأتي بفعله، عودة لأزمنة الأفعال، ارتضاء الرداءة هو ارتضاء للتصفية، والتكيّف انهزام، وتعديل ميزان القوى ضرورة، أولاً لوقف الانهزام. إظهار القدرة هو المحك لقلب المشاعر.

نحن اليوم أمام مفترق لذا أصارحكم بدعوة كل من الحضور إلى الإسهام في هذه المواجهة، ليست المسألة مسألة قلة موارد. المفارقة أن وفرة الموارد هي بالذات التي جعلت التصفية والتبدّد يبدوان متاحين. المسألة هي في صيغ تأطير الموارد، حزبنا طبعاً صيغة للتأطير، أقولها من دون مواربة ورياء، إنما ليست الصيغة الحصرية أبداً، وليس حتى مقصوداً أن تكون كذلك، فقد أسسنا الحزب لغاية محدّدة ظرفية هي الإسهام في إدارة مرحلة انتقالية، وتأطير الموارد متاح تحت صيغ متعدّدة، وأدعو كل واحد للإقدام والمشاركة بإحداها.

مقابل التبدّد، وهو تبدّد المؤسسات، الرد يكون بإنشاء تشكّلات مؤسّسية، جامعة لا تهدف إلى تصدير الشباب وإلى منح صفات وألقاب ومقامات اجتماعية تُعفي من العمل العام ومن إنتاج الفكر. معهد فنون للموسيقى والرسم والتمثيل كي يُخاطب الناس بلغة الجمال العابرة لحدود شرذمتهم، ويرسم حدّاً مع التسليع المقيت المتمادي، ومؤسّسات إعلامية لا تكون طبولاً لتنظيمات سياسية عاجزة ولا لشدّ الأعصاب ولا منصّات مأجورة لمشاريع خارجية، ومراكز عناية صحّية تحرِّر الناس من ابتزاز الطامحين للزعامة وتجّار الخدمات والأدوية، كلّها مؤسّسات تُنشأ لتظهير بديل واقعي، هذا ما يقلب شعور أو استشعار ميزان القوى.

مقابل القلق والتخوّف والأحجام، الرد يكون باعتماد الصيغ التعاضدية، لقلب الخسائر إلى تضحيات مجزية، أي إلى استثمار وتكريس طمأنينة قادرة، أسوة بتجارب عالمية كانت في أساس نشوء النقابات، بدءاً من التعليم الرسمي ومن الإدارة، بحيث تستكمل تقديمات تعاونية الموظّفين من خلال الصناديق التعاضدية، وإنما أيضاً في مختلف قطاعات الإنتاج، حيث تحرّر علاقات رأس المال والعمل من المنطق التعارضي القصير الأجل للرأسمالية التقليدية، فتترجم الالتزامات المتبادلة للعاملين بأنهم يمتنعون عن الهجرة وترك المؤسّسة، ولمقدّمي رؤوس الأموال ومورّدي أسواق التصدير بعدم اقتطاع مكاسب بشكل أرباح أو منافع شخصية وعدم بيع مشاركتهم، وذلك طوال مدةٍ ووفق شروط محدّدة، فتُترجم هذه الالتزامات المتبادلة تشاركاً في المخاطر وإطالة للأمد الزمني اللازم لتخطيها، وتنعكس بالتالي تخفيضاً لأعبائها ولمفاعيلها التعطيلية، وتستفيد المؤسّسات التعاضدية، طبعاً بالمواجهة، من دعم فاعلين آخرين معنيين أولهم الجامعات والمعاهد التقنية التي يعمل الطلاب لفرض صيغ تعاضدية تخفض أقساطهم، وتؤجّل ولو جزئياً تسديدها مقابل التزامهم بالعمل التعاضدي والإقامة وتقوية المؤسّسات المقيمة بدل الهجرة.

مقابل تفشّي مساعي التدبر الفردي ومصاعب الحياة اليومية، ومقابل التطويق الذي تتولاه أداة التكيّف على معارضيه، هناك حاجة لتوفير الدعم للبدائل كالتي أسلفناها أو غيرها، وذلك لا يكون بالانخراط في منظومات الـNGOs وأجندات مموليها، ولا في تنظيمات الوجاهة وضمن ادعاءات الخبرة، بل عبر تنظيم الإسهامات المالية والعينية الطوعية الواعية لغاياتها. 

بعد كل «اللي صار» ومواجهة «يلي عم يصير»، هذا ما علينا، والذي في استطاعتنا أن نفعله، كي نسوف رائحة مختلفة عن الآثن الطاغي ونَشوفَ غير مشهد الخراب.

شربل نحَّاس

مواليد بيروت في العام 1954. درس الهندسة والتخطيط في باريس إلى جانب العلوم الاقتصادية والأنتروبولوجيا. وبعد عودته إلى لبنان في العام 1979، علّم في الجامعة اللبنانية لمدة 12 عاماً. كان مسؤولا عن إعادة إعمار وسط بيروت بين 1982 و1986، وعمل في القطاع المصرفي حتى العام 1998، حيث خاض الانتخابات البلدية في بيروت ضد لائحة ائتلاف السلطة. وضع «برنامج تصحيح مالي» (1998 و1999) وعمل ضمن الفريق الذي وضع «المخطّط الشامل لترتيب الأراضي في لبنان» (بين 2002 و2004) وقاد الفريق الذي وضع «خطة الاستثمارات العامة» (2005 و2006). وضع «استراتيجية التنمية الاجتماعية في لبنان» وحضّر اقتراح قانون حول إصلاح نظام ضمان الشيخوخة. نشر أبحاث عدّة لا سيما حول مسائل التعليم والهجرة والعمل. وتولى وزارتي الاتصالات (2009-2011) والعمل (2011-2012) في الحكومة اللبنانية. ويشغل منذ العام 2016 منصب أمين عام مواطنون ومواطنات في دولة.