Preview الإبادة الجماعية في غزة

القبّة الحديدية عالمية وكذلك المقاومة

عندما طلب مني صديقي العزيز، أسد رحمن، المساعدة في فعاليات ختام هذا التجمّع، كلّفني بالتحدّث في الوضع السياسي اليوم إنّما بطريقة «مفعمة بالأمل». إنه أمر صعب بعض الشيء، ولست واثقة من قدرتي عليه. لكن دعونا نرى ما يمكننا القيام به بدلاً من ذلك. 

آخر زيارة لي إلى لندن كانت في أواخر أيلول/سبتمبر الماضي، أي منذ خمسة أشهر فقط. لكن هذه الأشهر الخمسة بدت وكأنها قرن.

مائة عام من نحيب الآباء الفلسطينيين على أبنائهم القتلى والمشوّهين. مائة عام من قصف المدارس ومداهمة المستشفيات وانتهاك قدسية المساجد. مئة عام من جنود إسرائيليين يسجّلون فيديوهات عن جرائم الحرب التي ارتكبوها. مائة عام من مراهقين تمرّسوا في الفاشية ويعترضون شاحنات مليئة بالطعام. مائة عام من الدعوات العلنية لإبادة أكثر من مليونيّ شخص أسير ومحتل ومعزول في غيتوهات. مائة عام من خطط تدعو ببهجة إلى تحويل غزّة إلى موقف للسيارات، أو مدينة إسرائيلية على الشاطئ، أو متحف، أو مسلخ، أو منطقة عازلة. مائة عام من رواة حقيقة مطرودين ومستعاض عنهم بنقاد مائعين عمداً. مائة عام من جامعات لا تستطيع أن تقول «فلسطين»، ومائة عام من منظّمات غير حكومية لا تستطيع أن تقول «إبادة جماعية». مائة عام من إفشال ونقض قرارات تطالب بوقف إطلاق النار 

إن لم يكن أملاً، فالتزام

تصعّب كل هذه الأمور إلقاء خطاب مفعم بالأمل. ما يمكنني أن أستجمعه، وما أشعر به بعمق أكثر من أيّ وقت مضى، هو العزم والالتزام. الالتزام بالحركات التي يمثّلها هذا التجمّع، بحركات تسعى من أجل مساواة حقيقية وعدالة:  اجتماعية وعرقية وجندرية واقتصادية وبيئية. بحركات موجودة في كلّ بلد، بحركات نمت بسرعة هائلة في خلال الأشهر الرهيبة الماضية. وهي لم تنمو في حجم المسيرات والاعتراضات فحسب، بل في عمق تحليلها. ونمت من خلال رغبتها في إرساء روابط بين الحركات والقضايا، ورغبتها في تحديد النُظم الأساسية.

لا توجد قيادة أخلاقية سوى القيادة التي تنشأ من القواعد الشعبية. كل ما لدينا هو بعضنا البعض

إذا علّمتنا هذه الأشهر شيئاً، فهو أن هذه الحركات هي كل ما لدينا. لا توجد، في بلادكم وكذلك في بلادي، لا توجد قيادة أخلاقية سوى القيادة التي تنشأ من القواعد الشعبية. كل ما لدينا هو بعضنا البعض.

علينا التوقف عند هذا الأمر، لأنه جزء من الرعب والدوار الذي يحكم لحظتنا التاريخية. إن حملة الإبادة التي تشنّها إسرائيل ضدّ غزة ليست الإبادة الجماعية الأولى في التاريخ الحديث. وليست هذه المرّة الأولى التي تدمج فيها قوى فاشية علانية أيديولوجيا عنيفة وتفوق عنصري بالتزام لا حدود له من أجل القضاء على شعب ترى فيه تهديداً ديموغرافياً.

الوحدة المميِّزة للنخب السياسية العالمية

الفريد، في الأقل منذ عصر الاستعمار وإباداته الجماعية، هو الوحدة التي ألهمتها هذه المذبحة بين النخب السياسية في دول الشمال، وإلى حدّ ما خارجها. ففي نهاية المطاف، حين ظهرت الفاشية في أوروبا في ثلاثينيات القرن العشرين، كان لها مؤيدون أقوياء في طبقاتنا السياسية، لكن كان لها معارضون أقوياء أيضاً.

الغرب متّحد في رؤية مشتركة من التفوّق العنصري تؤمّن سلامة قلّة قليلة وأمنها، وهذه الرؤية هي الجانب الآخر من رفضه الثابت لمعالجة الدوافع الأساسية لهذه الأزمات

يختلف الأمر كثيراً في يومنا هذا. في جميع أنحاء الطيف السياسي، من اليمين المتطرّف المسعور إلى اليسار الوسط الموارب، شهدنا أطرافاً قوية تنحّي خلافاتها الحزبية جانباً، وتجتمع معاً من أجل دعم هذه الجرائم ضد الإنسانية. وبعيداً من الانقسام في طبقتنا السياسية، لقد ساهم تكرّر الفاشية في وحدة هذه الأطراف: دونالد ترامب يتفق مع جو بايدن؛ ريشي سوناك مع كير ستارمر، إيمانويل ماكرون مع مارين لوبان؛ جاستن ترودو مع جورجيا ميلوني؛ فيكتور أوربان مع ناريندرا مودي.

لذلك، يجب أن نتساءل: علام يتفقون جميعاً بالتحديد؟ ما الذي يتّحدون خلفه؟ وعمّ يدافعون كلّهم عندما يتحدّثون عن «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»؟

أخشى الوقوع ببساطة القول إنهم متّحدون في الدفاع عن دولة واحدة. لا شك أنهم كذلك، لكنهم متّحدون في الدفاع عن نظام عقائدي مشترك. وفي خضم واقع الفصل العنصري الاقتصادي العالمي والانهيار المناخي المتسارع، هم متّحدون في رؤية مشتركة من التفوّق العنصري تؤمّن سلامة قلّة قليلة وأمنها. هذه الرؤية هي الجانب الآخر من رفضهم الثابت لأي شكل من أشكال معالجة الدوافع الأساسية لهذه الأزمات: الرأسمالية، والنمو اللامحدود، والاستعمار، والنزعة العسكرية، والتفوق الأبيض والبطريركية.

كما تقول شيرين صيقلي، نحن «في عصر الكارثة» و«فلسطين نموذج».

القبّة الحديدية الإسرائيلية: نموذج أمني عالمي

إسرائيل رائدة نوعاً ما. على مدى عقود، منذ تخلّيها عن عملية السلام، سعت إسرائيل إلى تحقيق أمنها الخاص وإشباع نهمها بالاستحواذ على الأرض من خلال نظام متطوّر من الأسوار والجدران عالية التقنية وبما يُسمى بدرع القبّة الحديدية. يفخر مهندسوها بقدرتها على اعتراض الصواريخ والقذائف وصدّ جميع التهديدات. ويعدّ نظام المراقبة والتطويق عالي التقنية واقعاً مادياً في منطقة جغرافية محدّدة: إنه أسلوب حياة بالنسبة إلى الإسرائيليين، وسبيل قديم منذ ما قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر للموت البطيء للفلسطينيين. 

يعدّ نظام المراقبة والتطويق عالي التقنية واقعاً مادياً في منطقة جغرافية محدّدة: إنه أسلوب حياة بالنسبة إلى الإسرائيليين، وسبيل قديم للموت البطيء للفلسطينيين

بالإضافة إلى هذه السمات، تُعدّ القبة الحديدية نموذجاً أيضاً؛ نسخة فائقة التركيز وخانقة من نموذج الأمن نفسه الذي تشترك فيه جميع حكومات دول الشمال، وهي الحكومات نفسها التي اصطفت وراء حملة الإبادة الجماعية التي تخوضها إسرائيل. إنه نموذج لحماية حدود الدول الغنية - التي أثريت من خلال الإبادة الجماعية الاستعمارية - بواسطة نسخها الخاصة من القبّة الحديدية.

ولأن القبّة الحديدية عالمية في الواقع، فهي تمتد على طول حدودنا المحصّنة، بأسوارها وجدرانها ومراكز احتجازها القاتلة، وتصل إلى الخارج إلى معسكرات عابرة للحدود مكوّنة من معسكرات اعتقال بحرية للمهاجرين، وعبّارات موبؤة بالأمراض، وعوّامات ثُبتت فيها مناشير في نهر ريو غراندي، وخفر سواحل يشاهدون سفناً تغرق في البحر الأبيض المتوسط.

تصل القبّة الحديدية أيضاً إلى داخل بلداننا ومدننا التي تعاني من انعدام في المساواة ومن تكاليف معيشة لا يمكن تحمّلها. أمّا ميزانيات الشرطة المتضخّمة فهي التي تطلق العنان للقوى العسكرية من أجل إخلاء الحدائق ومخيّمات المشرّدين وقمع احتجاجات السكّان الأصليين ضدّ مشاريع الوقود الأحفوري التي فُرضت عليهم من دون موافقتهم. وتقف هذه القوى نفسها على أهبّة الاستعداد من أجل إخماد الموجة التالية من التمرّدات المطالبة بالعدالة العرقية التي تعلم أنه لا مفرّ منها. القبة الحديدية العالمية هي أيضاً شبكات المراقبة التي تتعقب كاشفي الفساد وتشنّ حرباً على الصحافيين الذين يتجرّأون على قول الحقيقة فيما يتعلّق بحروبنا وحملات التجسّس، وجوليان أسانج هو أبرز رموزهم.

القوة سوف تصوغ الحق

كما الحال بالنسبة لإسرائيل، تتمحور القبّة الحديدية العالمية حول اعتقاد بحق الدول في تلبية المطالب الإنسانية بالحقوق الأساسية وأساسيات الحياة من خلال عنف الدولة الوحشيّ. إن التزام بجعل الخارجين عن دوائر الدولة المضبوطة والعنصرية يختفون، من خلال حبسهم وإبعادهم أكثر وتركهم يغرقون. ويتعلق الأمر أيضاً بالمطالبة بحق مواجهة مقاومة المضطهدين بقوة قاتلة.

الخوف من الفشل في إحكام السيطرة يفسّر اتحاد حكوماتنا على نحوٍ غير مسبوق خلف نظامها العقائدي المركزيّ: القوة سوف تصوغ الحق

تتسم القبّة الحديدية الإسرائيلية بالتطرّف لأن قوميّتها العرقية وأيديولوجيتها التفوقية واضحتان للغاية. لكن علينا أن نكون واضحين إزاء إسرائيل التي صمّمت نفسها وفق منطق وقوانين استعمارية عنصرية، وممارسات مستوحاة من فترات الاستعمار السابقة، وأن إسرائيل في حد ذاتها نموذج أيضاً: فمنذ البداية، جرى بناء القبّة الحديدية من أجل تصديرها.

علينا أن نفهم هذا، لأن هذا النموذج وهذه القبّة الحديدية انهارا أمام أعين العالم أجمع في 7 تشرين الأول/أكتوبر. هشّم هجوم حماس وهم السلامة والأمن التي يجسّدها هذا النموذج بالكامل. ولم يرعب ذلك الإسرائيليين وحكومة نتنياهو فحسب، بل هزّ حكوماتنا حتى النخاع.

إن لم تستطع أسوار وجدران إسرائيل المسلّحة، وطائراتها المسيّرة وقبّتها الحديدية الصمود، فماذا عن أوهام بلداننا عن السلامة والسيطرة؟ يقودنا هذا إلى سؤال ثانٍ: إذا فشلت القبّة الحديدية الإسرائيلية، فماذا عن القبب الحديدية الأخرى؟ هل ستفشل أيضاً في مواجهة النزوح الجماعي الناجم عن حروب لا نهاية لها، وإحراق إجراميّ للمناخ، وسياسات اقتصادية إفقارية وحشية؟

أعتقد أن الخوف من الفشل في إحكام السيطرة يفسّر اتحاد حكوماتنا على نحوٍ غير مسبوق خلف نظامها العقائدي المركزيّ: القوة سوف تصوغ الحق. وسوف ينجح من يمتلك أكثر الأسلحة تقدماً وأكثر الجدران علواً في احتواء المليارات ممن يعانون الحرمان واليأس، والسيطرة عليهم. يساعد هذا النظام العقائدي، أكثر من أيّ شيء آخر، في تفسير سبب انضمام حكومات العالم الغنيّ إلى الجنون الانتقامي المستعر لإسرائيل، وتفسير رفض الكثيرين، بعد أشهر من هذه المذبحة، مجرد الدعوة إلى وقف دائم لإطلاق النار بالحدّ الأدنى. 

أمن فقّاعات الرفاهية المذهّبة 

يدرك الجميع أن حملة إسرائيل اللامتناهية هي شكل من أشكال الاتصال الجماهيري أيضاً: إنها رسالة. هذه الرسالة لا توجّهها حكومة إسرائيل فحسب، وإنما كلّ حكومة باركت هذا الهجوم بالكلمات، والتصويت، واستخدام حق الفيتو في الأمم المتّحدة، والتقاط الصور، وإرسال الأسلحة والمال، وشّن الهجمات المحلّية على حملات التضامن مع فلسطين. الرسالة بسيطة: إن الفقّاعات المذّهبة من الأمان النسبيّ والرفاهية في شتى أنحاء عالمنا المنقسم بحدّة، ويشهد ارتفاعاً سريعاً في درجات الحرارة سوف تحظى بالحماية بأي ثمن، حتى لو وصل الثمن إلى عنف الإبادة الجماعية.

تقودنا همجية الاستهلاك القائمة على موت الآخرين إلى صعود غير مسبوق للفاشية، وبالتالى إلى موت الديموقراطية والحرية. إنها البربرية

فُهمت هذه الرسالة الفاجرة بوضوح في العديد من الأجزاء المنهوبة لكوكبنا. فكّك رئيس كولومبيا الشجّاع، غوستافو بيترو معانيها على الفور. وبالعودة إلى تشرين الأول/أكتوبر، وبعد أيام قليلة من الهجوم الإسرائيلي، قال:

«تقودنا همجية الاستهلاك القائمة على موت الآخرين إلى صعود غير مسبوق للفاشية، وبالتالى إلى موت الديموقراطية والحرية. إنها البربرية، أو عالم 1933».

رأى في الهجوم الإسرائيلي والدعم الذي حظي به من حكومات الشمال وقوى الجنوب اليمينية، لمحة عن مستقبل مشترك، فكتب: «ما نراه في فلسطين سوف يكون معاناة كل شعوب الجنوب، إذ يدافع الغرب عن استهلاكه المفرط، ومستوى معيشته القائم على تدمير الجو والمناخ... على الرغم من معرفته بأنه سوف يتسبّب في النزوح من الجنوب إلى الشمال».

يذكّرنا بيترو بأن هذا النظام «مستعدّ للردّ بالموت» من أجل «الدفاع عن فقاعة الأثرياء الاستهلاكية على هذا الكوكب، وليس لإنقاذ البشرية، التي يرى أنه يُمكن التخلّص من غالبيتها، مثل ما يحدث لأطفال غزة».

تستحق كلمة بيترو القراءة بأكملها، إذ أعتقد أنها تاريخية، ولكنني سأقفز إلى نهايتها: «سوف نتجه إلى البربرية ما لم نغيّر السلطة. إن حياة البشرية، وخصوصاً شعوب الجنوب، تعتمد على المسار الذي تختاره البشرية للتغلّب على أزمة المناخ... غزة ليست سوى التجربة الأولى لاعتبارنا جميعاً قابلين للمحو والتخلّص منا».

كل ما لدينا هو بعضنا البعض

ما الذي يُمكن أن يُقال؟ ربما التالي فحسب: تستضيفنا اليوم حركة War on Want (الحرب على العوز). والحرب على العوز هي الحرب الوحيدة التي تستحق أن تُخاض، ويجب علينا أن نخوضها. فإما أن نغيّر آلة الموت هذه من خلال إعادة التوزيع العادل والمنصف للثورة ضمن حدود الأرض - وهو ما أشار إليه كثيرون في اجتماعنا اليوم باسم «الصفقة الخضراء العالمية الجديدة» - أو يبتلعنا هذا الكابوس جميعاً.

غزة ليست سوى التجربة الأولى لاعتبارنا جميعاً قابلين للمحو والتخلّص منا

كل ما لدينا هو بعضنا البعض. كل ما لدينا هو حركاتنا والقوة التي نبنيها معاً، كل ما لدينا هو تضامننا، وتصميمنا، وعزمنا، والتزامنا الأخلاقيّ المشترك بقيمة الحياة.

بهذا، يُمكننا أن نبني عالماً بلا قبب حديدية. وبهذا نكتسب أملنا.

اطلع/ي على الخطاب كاملاً هنا.

نشر مختصر عن الخطاب على موقع Red Pepper في 2 آذار/مارس 2024.