سيندي ماكين: مقاتلة إسرائيلية في الأمم المتّحدة
تستخدم إسرائيل كلّ الأدوات والأسلحة الموضوعة بتصرّفها لخدمة مجهودها الحربي، ولا يقتصر ذلك على إمدادها بشتّى أنواع الأسلحة الفتّاكة والمدمّرة، ولا بتطويع الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي لترديد سرديّتها، بل ينسحب أيضاً على استخدام الأمم المتّحدة كمنصّة إسرائيلية للحرب على الفلسطينيين، وانتشار «جنود إسرائيل» السرّيين والعلنيين في وكالاتها المُتعدّدة لتأدية مهامهم القتالية.
سيندي ماكين مثالاً
تُعدُّ المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي، سيندي ماكين، واحدة من جنديّات إسرائيل في الأمم المتّحدة. فبينما كانت إسرائيل تحاصر قطاع غزّة وتدكّه بالقنابل وتمنع وصول المساعدات الإنسانية إليه وتستخدم التجويع كسلاح في حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها ضدّ الفلسطينيين، كانت سندي ماكين، المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي المعني بمكافحة الجوع والقضاء عليه، تشارك في منتدى «هاليفاكس» للأمن الدولي، الذي عُقِد بين 17 و19 تشرين الثاني/نوفمبر في نوفا سكوتيا في كندا، وخُصِّصت إحدى فعاليّاته للتغنّي بـ«الديمقراطية» الإسرائيلية ومنح جائزة (زوجها الراحل) جون ماكين لمنظّمة «أخوة السلاح» الإسرائيلية دعماً لجهودها في مساعدة المدنيين الإسرائيليين وإغاثتهم وتخفيف ضغوط الحرب على الحكومة الإسرائيلية.
بينما كانت إسرائيل تستخدم التجويع كسلاح في حربها ضدّ غزّة، كانت سندي ماكين، المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي، تشارك في منتدى «هاليفاكس» الذي خُصِّصت إحدى فعاليّاته للتغنّي بـ«الديمقراطية» الإسرائيلية
تعدُّ «أخوة السلاح» أكبر منظّمة إسرائيلية غير حكومية متلقّية للمساعدات راهناً. تشكّلت مطلع العام الحالي من مجموعة من المحاربين القدامى تحت ذريعة «حماية الديمقراطية الإسرائيلية»، ونجحت في فترة قصيرة باستقطاب جزء وازن من جيش الاحتياط احتجاجاً على الإصلاحات القضائية التي طرحتها حكومة بنيامين نتنياهو للحدّ من صلاحيّات المحكمة العليا. ومع بدء الحرب على غزّة، علّقت المنظّمة جميع أنشطتها السياسية والاحتجاجية وكرّست جهودها للمساعدة والإغاثة. ومع تحوّلها إلى أكبر وكالة مساعدات غير حكومية، تولّت تنظيم أنشطة تطوّعية لإغاثة الإسرائيليين الذي تم إجلاؤهم من غلاف غزّة والمناطق الحدودية مع لبنان، ومساعدة عائلات الأسرى والمفقودين، وتأمين المتطوّعين للعمل في المزارع التي فرغت من عمّالها.
«دافوس الأمن الدولي»
بالنظر إلى الدور الأمني الذي يلعبه منتدى «هاليفاكس»، فمن غير المفاجئ أن يختار تكريم إسرائيل في دورته لهذا العام بالتزامن مع حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها ضدّ الفلسطينيين في غزة والضفّة الغربية، والتي تسبّبت بقتل أكثر من 15 ألف إنساناً في أقل من شهرين. في الواقع، تصف وسائل الإعلام الغربية المنتدى بـ«دافوس الأمن الدولي»، فكما اجتماعات دافوس تحشد سنوياً كبرى المصالح الرأسمالية في العالم لخطّ السياسات التي تخدمها، كذلك يحشد «هاليفاكس» كبرى المصالح السياسية والعسكرية لهدف مماثل، فهو عبارة عن منظّمة غير حزبية مقرّها واشنطن ومدعوم من حلف شمال الأطلسي، تأسّس في العام 2009، ويضمّ شبكة من المسؤولين الحكوميين والعسكريين الدوليين والخبراء والأكاديميين ورجال الأعمال المعنيين بقضايا الأمن والعسكر. ومنذ العام 2018، يمنح المنتدى جائزة «جون ماكين للقيادة في الخدمة العامة» إلى أفراد في بلد مُعيّن يجد أنهم «أظهَروا قيادة غير عادية في السعي لتحقيق العدالة الإنسانية»، وذلك تخليداً لذكرى جون ماكين، السيناتور الأميركي الراحل والمرشّح الرئاسي الخاسر لمّرتين، والذي كان أحد أبرز الفاعلين في هذا المنتدى نظراً لتاريخه في الجيش الأميركي ومشاركته في حرب فيتنام، وموقعه في مجلس الشيوخ الأميركي وترأسه لجنة القوّات العسكرية وقربه من المجمّع الصناعي العسكري.
ظلال جون ماكين
لا شك أن منح جائزة «جون ماكين» للمنظّمة الإسرائيلية الناشئة واصطفاف «هاليفاكس» إلى جانب إسرائيل يندرج ضمن حملة الدعم المُطلقة التي يقدّمها الغرب، ولاسيّما الولايات المتّحدة، لإسرائيل في حربها. إلّا أن مشاركة المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي سندي ماكين في فعاليات المنتدى تبقى إشكالية، ولو عدّها البعض «طبيعية» نظراً لمواقفها ومواقف زوجها الداعمة لإسرائيل، وتعبيره في أكثر من مناسبة عن التزامه باحتفاظ إسرائيل بتفوّقها العسكري، عدا عن الصداقة العائلية التي تجمعهما مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي وصف ماكين عند وفاته بـ«الصديق الشخصي، والصديق الحقيقي لإسرائيل وأكبر مدافع عنها». إن مشاركة سيندي ماكين في المنتدى وجلوسها في الصف الأمامي إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت يشكّل خرقاً لمبدأ الحياد الذي يحكم عمل الموظّفين في وكالات الأمم المتّحدة، ويعبّر عن انحياز إدارة برنامج الأغذية العالمي واستخدامه كأداة من الولايات المتحدة وحلفائها لخدمة مصالحها السياسية.
ثمة صداقة عائلية تجمع سيندي ماكين وزوجها الراحل جون ماكين برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي وصف ماكين عند وفاته بـ«الصديق الشخصي، والصديق الحقيقي لإسرائيل وأكبر مدافع عنها»
طبعاً لم يكن انحياز ماكين لإسرائيل، ولا صمت البرنامج عن الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزة ضرورياً للتأكّد من انحياز الأمم المتّحدة ووكالاتها لصالح الدول الكبرى ومصالح رأس المال العالمي. في الواقع، يُعدّ برنامج الأغذية العالمي أكبر منظّمة إنسانية في العالم لمكافحة الجوع، ويقتضي دوره العمل على إنقاذ الأرواح والاستجابة لحالات الطوارئ عن طريق توفير الغذاء للجوعى والمستضعفين بسرعة. وبالفعل يستفيد منه أكثر من 90 مليون شخص في أكثر من 70 بلداً في العالم، من خلال المساهمات المالية التي تقدّمها الدول بشكل أساسي، ومن ثمّ شركات من القطاع الخاص، وقد بلغت قيمتها نحو 9,6 مليار دولار في العام 2021، وتجاوزت الـ10 مليارات دولار في العام 2022 بحسب التقرير السنوي للبرنامج. مع ذلك، تشكّل بنية التمويل هذه مصدر تطويعه الأول، خصوصاً أن 67% من مجمل هذه المساهمات تأتي من خمس جهات، وهي بالترتيب: الولايات المتحدة، وألمانيا، والمفوضية الأوروبية، وبريطانيا وكندا. وهي نفسها الدول الرئيسة الداعمة لإسرائيل والتي تتحكّم بقرارات البرنامج. فمنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي وحتّى اليوم، ترشّح الولايات المتّحدة من سيتولّى إدارة أكبر منظّمة إنسانية في العالم.
من هنا، تطال البرنامج انتقادات عديدة بسبب عمليّاته في غزّة ودوره الخجول في منع إسرائيل من استخدام سلاح التجويع ضدّ أكثر من مليوني شخص في القطاع سواء في الحرب الحالية التي أدّت إلى معاناة جميع السكّان من سوء التغذية ومواجهتهم خطر الموت جوعاً بحسب البرنامج نفسه، أو طوال سنوات الحصار الستة عشرة التي هدّد البرنامج مرّات عدّة في خلالها بقطع المساعدات تحت ذريعة نقص التمويل وآخرها في أيار/مايو الماضي، عندما كانت موارد البرنامج منصبة على إغاثة أكثر من 10,5 مليون أوكراني في الحرب الروسية - الأوكرانية. ولا تقتصر الانتقادات الموجّهة إلى برنامج الأغذية العالمي على توظيف أعماله لخدمة مصالح سياسية، بل يضاف إليها انتقادات بسبب نهجه في العمل الذي يخدم مصالح رأس المال العالمي، ويقوم على تقديم المساعدات الغذائية والنقدية والقسائم الشرائية، التي تستخدم جميعها لاستيراد الأغذية من شركات الأغذية المتعدّدة الجنسيات الكبرى التي تحتكر السوق العالمية، بدلاً من تعزيز الإنتاج المحلي كوسيلة أكثر استدامة للقضاء على الجوع.
المديرة التنفيذية يجب أن ترحل
الدلائل التي تقوّض صدقية البرنامج الذي يدّعي مكافحة الجوع في العالم كثيرة. بالعودة إلى مديرته الحالية، فهي تولّت منصبها في نيسان/أبريل الماضي بعد أن رشّحتها الحكومة الأميركية، على الرغم من كونها رئيسة شركة «هينسلي» للمشروبات، التي ورثتها عن عائلتها، وتعدُّ من أكبر موزّعي منتجات «أنهوسر-بوش» في الولايات المتحدة، مع ما ينطوي عليه الأمر من تضارب في المصالح، كما يجرى غضّ النظر عنها على الرغم من خرقها مبدأ الحياد الذي يحكم عمل العاملين في وكالات الأمم المتّحدة.
تطال البرنامج انتقادات عديدة بسبب عمليّاته في غزّة ودوره الخجول في منع إسرائيل من استخدام سلاح التجويع ضدّ أكثر من مليوني شخص في القطاع سواء في الحرب الحالية أو طوال سنوات الحصار الستة عشرة
بحسب موقع «ديفيكس» الذي يعنى بالتنمية المُستدامة، يتداول موظّفو برنامج الأغذية العالمي رسالة داخلية تشكّك بـ«الأخلاقيات المهنية» لماكين، وتطالب بـ«استقالتها فوراً من منصبها بسبب حضورها في المنتدى (هاليفاكس)، وهو ما يضرّ بالحياد المتصوّر للبرنامج وبسمعته كحامل لواء مكافحة الجوع في العالم ورفضه استخدام الغذاء كسلاح في الحروب».
وصدرت مواقف من خارج الأمم المتّحدة تطالب بإقالة أو استقالة سيندي ماكين، ودعا المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إلى استقالتها بسبب «انتهاكها مبدأ الحياد من خلال مشاركتها في جمع التبرّعات لصالح إسرائيل والجيش الإسرائيلي بالتزامن مع حملة التجويع التي يتعرّض لها قطاع غزة منذ بدء الحرب والاستجابات البطيئة للبرنامج حيال حاجات المدنيين في غزّة في خلال الحرب»، بالإضافة إلى بيان آخر صادر عن المجموعة العربية لحماية الطبيعة دعا إلى المشاركة في الضغط على الأمم المتّحدة لطرد ماكين.
يعكس هذا الواقع حالة الامتعاض المُتزايدة داخل منظّمات الأمم المتّحدة بسبب المواقف المتخاذلة من حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل على غزّة، والتي تُرجِمت باستقالات عدّة أبرزها استقالة كريغ مخيبر من منصب مدير مكتب نيويورك في المفوّضية السامية لحقوق الإنسان، وتخلّي الممثلة التونسية هند صبري عن لقب سفيرة النوايا الحسنة في برنامج الأغذية العالمي. مع ذلك، لم يتجاوب مع تلك المطالبات لا الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريس ولا المجلس التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي، ولا تزال ماكين في موقعها، ولا تزال وكالات الأمم المتّحدة المعنية بالتصدّي للانتهاكات وجرائم الحرب وإغاثة السكّان وحمايتهم ساكتة عن الحق.