دانيال تانورو: لسنا حتّى في رأسمالية خضراء

تقع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في قلب الكارثة البيئية، وتُعدُّ من المناطق الطرفية الأكثر تأثراً بتغيّر المناخ. مع ذلك، لا تتصدّر المسألة البيئية اهتمامات السكّان المحلّيين، ويعود ذلك بجزء كبير إلى مخاوف عديدة يواجهونها مثل الحروب، والنزاعات، والاحتلالات العسكرية، والتدخلات الأجنبية، فضلاً عن أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة تعصف بهذه البلدان. في الواقع، تشهد المنطقة زيادة في الاحترار المناخي يساوي ضعفي المعدّل العالمي. وتشير التوقّعات إلى أن منسوب مياه البحر المتوسّط سوف يرتفع 30 سنتمتراً في العقود الثلاثة المُقبلة، وأنّ 11 بلداً من أصل البلدان الـ17 الأكثر افتقاراً إلى المياه في العالم موجودة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

يتحدّث المهندس الزراعي والمناضل البيئي، دانيال تانورو، عن الكوارث المناخية المُحدقة بالبشرية ربطاً بالنشاط الرأسمالي الممتدّ منذ أكثر من قرنين، والذي لا يزال يتحكّم بمصير البشر، ولا سيّما الأكثر هشاشة وفقراً. بالنسبة لتانورو هناك حراك يحصل في المجمع العلمي المعني بدراسات المناخ ولكنّه غير كافٍ لمواجهة التراكم الرأسمالي والحدّ منه، بل يجب أن يتضافر مع الراديكالية الشبابية التي تبرز في بلدان العالم لتحثّ النقابات العمّالية على التحرّك حول رؤى عالمية ومقاربات اجتماعية تنقذ الكوكب.

دانيال تانورو: مهندس زراعي ومناضل ضدّ الرأسمالية، عضو في اليسار المناهض للرأسمالية في بلجيكا، ومؤلّف العديد من الكتب المهمّة، من ضمنها "استحالة الرأسمالية الخضراء"، بالإضافة إلى كتاب آخر بعنوان "فات آوان التشاؤم: الاشتراكية البيئية أم الإنهيار؟".

هذه هي الصورة وهي قاتمة للغاية


يسمع غالبية السكّان المحلّيين عن المشكلات المناخية الداهمة ولكن الاستجابة لها لا تتماشى مع مستوى الخطر، وكأنّ الكارثة المقبلة لن تحدث بعد حين، على الرغم من أنّنا نتحدّث عن كارثة بيئية في المستقبل القريب، إذ من غير المُستبعد أن يشهد شخص يعيش في يومنا هذا على اختفاء جزء من مدينة الاسكندرية المصرية تحت مياه البحر قبل وفاته. كيف ترى الكوارث المناخية المقبلة، وكيف تحلّلها؟ ولماذا يجب أن تكون على سلّم الأجندة السياسية؟ وماذا يعني ارتفاع الحرارة بأكثر من 1.5 درجة مئوية بحلول العام 2030؟

تنتج الاضطرابات المناخية بنسبة 95% عن النشاط البشري الرأسمالي القائم منذ قرنين ونصف القرن. يشكّل هذا التغيّر المناخي تهديداً وجودياً، ليس بالنسبة لجميع البشر، ولكن لمئات الملايين وحتّى مليارات الأفراد الأكثر فقراً وضعفاً بسبب لا عدالة النظام العالمي، وتحديداً النساء وكبار السن والأطفال في البلدان الفقيرة الخاضعة، التي تقع ضحية العِلّل الرأسمالية الإمبريالية. وهذا ليس من نسج الخيال.

هناك إمكانية لارتفاع حرارة سطح الأرض بين 2.7 إلى 3.5 درجة بسبب تقاعسنا عن فعل أي شيء، وهو ما يعني تحوّل الأرض إلى مكان غير مناسب لعيش 8-9 مليارات كائن بشري

لقد أشرت إلى مدينة الإسكندرية في مصر المُهدّدة بالغرق. في الواقع، ينطبق ذلك على العديد من التجمّعات الكبيرة التي لا تنحصر في بلدان الجنوب العالمي مثل بنغلادش والهند وفيتنام والصين ونيجيريا، وإنّما تطال أيضاً المدن والتجمّعات الكبرى في البلدان الغنية، مثل فلوريدا ونيو أورلينز ولندن وأمستردام وروتردام مع فارق جوهري بينهما، وهو أنّ البلدان الرأسمالية الإمبريالية المتقدّمة، على عكس البلدان الفقيرة، تمتلك الوسائل المالية والتكنولوجية لاتخاذ التدابير التي تحمي سكّانها على المدى القصير. إلّا أن هذه التدابير هي أشبه بتضميد ساقٍ خشبية على المدى الطويل، لأنّ الاستمرار بعدم مواجهة التغيّر المناخي بشكل جدّي قد يؤدّي إلى ارتفاع منسوب مياه المحيطات بنحو 3.5 أو 4 أمتار.

تخيّم شكوك كثيرة حول هذه المسائل لأنّها لا تعتمد على التمدّد الحراري للكتل المائية وذوبان الجليد فحسب، فهي ظواهر يمكن نمذجتها، بل تعتمد أيضاً على ما نسمّيه بتفكّك الغطاء الجليدي، وهي ظاهرة لا يمكن قياس تحوّلاتها وبالتالي يستحيل نمذجتها. هناك مخاطر هائلة قد تنتج عن تفكّك أجزاء مهمّة من الغطاء الجلدي في أنتاركتيكا أو غرينلاند بما يؤدّي إلى ارتفاع منسوب المحيطات. لا أؤكّد على الأمر، ولكن من غير المُستبعد أن يرتفع مستوى المحيطات بنحو 1-1.5 متراً بحلول نهاية القرن بسبب انفصال أجزاء مهمّة من الغطاء الجليدي عن أنتاركتيكا وذوبانها في المحيط في وتيرة أسرع من ذوبان الجليد العادي. أيضاً إنّ ارتفاع منسوب مياه البحر المتوسّط مُمكن ويشكّل تهديداً كبيراً لدلتا النيل حيث يعيش أكثر من 10 ملايين شخص على ارتفاع لا يتجاوز المتر الواحد من سطح البحر. الوضع مأساوي حقّاً، وأحدٌ لا يتصدّى له.

أيضاً هناك إمكانية لارتفاع حرارة سطح الأرض بين 2.7 إلى 3.5 درجة بسبب تقاعسنا عن فعل أي شيء، وهو ما يعني تحوّل الأرض إلى مكان غير مناسب لعيش 8-9 مليارات كائن بشري. إذاً الكارثة واقعة، وهي أكثر من مجرّد كارثة، إنّها كارثة لا يمكن تجنّبها. لذلك يحب أن تكون هذه القضية ضمن أولويات الأجندة السياسية. حالياً تهدف السياسات إلى محاولة تجنّب ارتفاع الحرارة بأكثر من درجتين أو 1.5 درجة بحلول العام 2100، لكن مع استمرار وتيرة الاحترار المناخي بالمنوال نفسه، سوف يتم تجاوز السقف المسموح به في بداية العقد المقبل. قد يكون هناك فرصة لمنع تجاوز هذا السقف ولكنها تتقلّص سريعاً، بسبب فشل قمّة المناخ الـ27 في شرم الشيخ، وترجيح فشل القمة الـ28 التي ستليها.

يجب أن نعرف أن هناك اختلافات كبيرة بالتأثير بين ارتفاع الحرارة بنحو درجتين أو 1.5 درجة مئوية. بحسب الفريق الحكومي الدولي المعني بتغيّر المناخ، العواقب ستكون وخيمة في الحالتين. وسآخذ مثالاً صارخاً يتعلّق بالتنوّع البيولوجي، من المُقدّر زوال نحو 90% من الشعاب البحرية بسبب زيادة الاحترار بنحو 1.5 درجة، أمّا ارتفاعها بنجو درجتين فسيقضي على 99% من هذه الشعاب. يقول البعض إن الأمر يقتصر على التنوّع البيولوجي فحسب. لكنّنا نعلم أن الشعاب المرجانية تلعب دوراً مهماً في حماية وغذاء مئات الملايين من البشر الذين يستفيدون من مصايد الأسماك والموارد الأخرى لهذه البيئات الغنية. أيضاً يشير التقرير التقييمي السادس للفريق الحكومي المعني بتغيّر المناخ إلى أن الاحترار يعني مضاعفة خطر عبور العتبة البيولوجية أي عتبة البقاء على الحياة. فعندما تبلغ الحرارة 45 درجة مئوية فيما رطوبة الغلاف الجوي تصل إلى 75%، لا يمكن لجسم الإنسان التحمّل والبقاء على قيد الحياة لأكثر من ست ساعات متواصلة، وهذا ما سيحدث في أجزاء كثيرة من أفريقيا وآسيا. قد لا ينطبق الأمر نفسه على مدن الشرق الأوسط، ولكن ستصعّب درجات الحرارة الجافّة فيها القدرة على التحمّل وستحدّ من إمكانية القيام بأي نشاط خارجي لفترات أطول من السنة، بالإضافة إلى تزايد العواصف الرملية والترابية في إيران وشبه الجزيرة العربية، كما أن تسرّب المياه المالحة إلى المياه الجوفية سيشكّل تهديداً كبيراً. هذه هي الصورة وهي قاتمة للغاية.

يقاتلون مثل الكلاب


تحدّثت عن هذه الصورة القاتمة في كتابك الأخير "فات الأوان للتشاؤم"، وفي مقال أخير نشرته في أعقاب قمّة المناخ الـ27، فما هو تقييمك لهذه القمّة غير أنها فشلت إذ صحّ التعبير؟

تندرج المسألة في سلسلة من الإخفاقات. لقد تمّ تبني اتفاقية إطارية بشأن تغيّر المناخ خلال قمة الأرض في ريو في العام 1992، وقد نصّت على سلسلة من الأمور المهمّة، منها منع حدوث اضطراب مناخي خطير ناتج عن النشاط الإنساني. لكن توجّب الانتظار حتى انعقاد القمّة الـ21 في باريس لتحديد مستوى الخطورة المذكور في الاتفاقية الإطارية، ومع ذلك أتت الصيغة غامضة إذ حُدِّد هدف يقضي بعدم ارتفاع الحرارة أكثر من درجتين، وأرفق بهدف آخر يقضي بمواصلة الجهود لعدم تجاوز عتبة الـ 1.5 درجة. وعلى الرغم من ازدواجية الهدف المُعلن، لم يتخذ أي قرار، وصولاً إلى القمة الـ26 في غلاسغو، حيث تمّ الاعتراف بخطورة ارتفاع الحرارة بدرجتين مئويتين، وضرورة الالتزام بهدف الـ 1.5 درجة. ومن ثمّ انعقدت قمّة شرم الشيخ أخيراً والتي فشلت بتبنّي أي إجراءات تسمح بترجمة التزامات غلاسغو بالبقاء ما دون 1.5 درجة.

في الواقع، هناك أسباب بنيوية وأسباب ظرفية للفشل. تكمن الأسباب البنيوية بكلّ بساطة بتشكّل الاقتصاد الرأسمالي بعد الثورة الصناعية وترسّخه ربطاً باستخراج الوقود الأحفوري بدءاً من الفحم، ومن ثمّ النفط، ولاحقاً الغاز الطبيعي. ولا يزال الاعتماد الكثيف على استخراج الوقود الأحفوري يشكّل صمّام هذا النظام، فيما تتمتّع شركات النفط العملاقة بنفوذ كبير، لأن الطاقة التي تنتجها لا تغذّي الاقتصاد العالمي بأكمله فحسب، بل تعتمد عليها جميع القطاعات الأخرى ما يجعل الاستغناء التامّ عن الوقود الأحفوري والاعتماد الكامل على الطاقات المُتجدّدة مُمكناً نظرياً فقط. قد تكفي الطاقات المُتجدّدة على أنواعها لتلبية الحاجات الإنسانية ولكن ذلك يتطلّب تغيير نظام الطاقة الحالي بالكامل، وهذا عمل ضخم، وتتمّ معارضته بكل الوسائل من قبل لوبيات الوقود الأحفوري ومن يعتمد على نظام الطاقة الحالي. يريد هؤلاء استغلال جميع احتياطيات الوقود الأحفوري التي تعدُّ جزءاً من رأس مالهم وتظهر في حساباتهم الدفترية. وبالتالي إن حذف هذه الاحتياطيات عبر منع استغلالها، يُعدُّ بمثابة شطب لرأس المال. وفي العالم الرأسمالي، يمكن القيام بأي شيء إلّا شطب رأس المال، فهذا بمفهومهم بمثابة الجريمة الكبرى أو الخطيئة المُطلقة.

مع ذلك تتسبّب الأزمات الرأسمالية بشطب الرساميل من تلقاء نفسها، لكن مع فرق جوهري وهو التضحية بالرأسماليين الأضعف لمصلحة الرأسماليين الأكبر. في المسألة المناخية يجب مهاجمة الأكبر مثل إكسون موبيل وأرامكو الذين يرفضون أي مسّ برساميلهم ويقاتلون مثل الكلاب لمنع حصول ذلك. إذاً، هذه هي الأسباب البنيوية، والتي تتمثّل بالاعتماد على الوقود الأحفوري المُرتبط بالتراكم الرأسمالي. إذ لا يقوم هذا النظام سوى بتراكم رأس المال وزيادة استغلال الموارد الطبيعية وقوّة عمل الإنسان.

إلى جانب ذلك، هناك الأسباب الظرفية. في قمّة المناخ الأخيرة المنعقدة، قدّمت مصر نفسها ظاهرياً وبكلّ مهارة على أنّها المتحدّث باسم الجنوب العالمي وتحديداً جنوب الصحراء الأفريقية، لكن فعلياً حاولت ديكتاتورية السيسي إنقاذ علاقات مصر وتطويرها مع رأسماليي النفط في شبه الجزيرة العربية، ولا سيّما حكومتي السعودية والإمارات. غالباً يتمّ الاستهانة بدور الفرد في التاريخ. في حين تلعب رئاسة مؤتمر المناخ دوراً مهماً للغاية. والهند مثال على ذلك، فهي قدّمت اقتراحاً جريئاً في خلال انعقاد مؤتمر غلاسغو يقضي بالتخلّص التدريجي من جميع أنواع الوقود الأحفوري بحلول العام 2050 بعد أن حوصرت بقرار بريطاني، على ما أعتقد، يقضي بالتخلّص التدريجي من الفحم. وهو ما اعتبرته استهدافاً لها وللجنوب العالمي، وعندها تمّ التوصّل إلى القرار القاضي بالتخلص التدريجي من جميع الوقود الأحفوري، وحصل على دعم من 80 دولة من ضمنها دول في الاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة. أمّا الرئاسة المصرية للمؤتمر فقد تجاهلت هذا الاقتراح. لم تطرحه للنقاش ولم تذكره حتّى. إذن هناك الأسباب البنيوية والأسباب الظرفية التي يتداخل فيها دور الأفراد، وغالباً الأفراد الأكثر مكراً في عالمنا البربري.

غسيل أخضر


خدمة للتسلسل المنطقي الذي تفضّلت به، أود التركيز على الأسباب البنيوية. كيف ترى تعيين سلطان الجابر، الرئيس التنفيذي لشركة النفط الوطنية في الإمارات لقيادة قمّة المناخ المقبلة التي ستعقد في الإمارات؟ من وزير للصناعة، إلى رئيس لشركة بترول أبوظبي الوطنية العملاقة، وصولاً إلى تعيينه مبعوثاً خاصاً لتغيّر المناخ. إذاً التسلسل منطقي!

نعم، هذا هو التسلسل المنطقي. لقد كتبت مقالَ مراجعة عن الدورة السابعة والعشرين لمؤتمر الأطراف في شرم الشيخ، وقلت إنّنا لسنا حتّى في رأسمالية خضراء. تمثّلت نتيجة الدورة الأخيرة باستيلاء لوبيات الوقود الأحفوري ورأس المال الأحفوري على السلطة وعلى مسار مؤتمر المناخ، وسألت عمّا إذا كان هذا الاستيلاء مؤقّت أم سوف يطول. وبما أن مؤتمر الأطراف المقبل سوف يعقد في الإمارات العربية المتّحدة برئاسة الرئيس التنفيذي لإحدى شركات الطاقة الأحفورية، فذلك يعني أننا في وضع خطر لا يمكن ولا أمل من إصلاحه. في الواقع، لم يكن هناك الكثير ممّا يمكن توقّعه من قمّة شرم الشيخ أو مؤتمرات الأطراف السابقة. لكن في الوقت الحالي، نحن في وضع مثير للسخرية، وآمل شخصياً أن يساهم ذلك في فتح أعين السكّان وخصوصاً من هم أكثر حرماناً. إزاء التهديد الوجودي لبقائنا وبقاء أطفالنا لا يمكننا الاعتماد إلّا على نضالنا، لأنّه لا يمكننا التأمل من هؤلاء الناس. ما أقوله ليس جديداً. لقد قالته الناشطة السويدية الشابة غريتا ثونبرغ عندما أعلنت عن عدم ذهابها إلى شرم الشيخ. فكلّ هذه المؤتمرات هي غسيل أخضر بواسطة رأس المال الأحفوري، ولا يمكننا إيقاف هذه الآلة الجهنمية إلّا من خلال التعبئة والنضال.

أخذ "التخفيف" على محمل الجدّ


ما هو تقييمك وتحليلك للإجراءات العالمية للحدّ من تسارع الاحتباس الحراري، ونظريات التخفيف والتكيّف التي تهيمن على النقاش البيئي؟

دعنا نقول أن هناك ما يحدث ويقال على المستوى السياسي، وهناك ما يدور في المجال العلمي، ومن ثمّ هناك نطاق تداخل بينهما. لماذا أقول ذلك؟ لدينا الهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بتغيّر المناخ التي تضمّ آلاف العلماء من جميع أنحاء العالم، وتتألّف من ثلاث مجموعات عمل، تقدّم كلٌّ منها تقريراً، الأول عن المناخ والآثار الناجمة عن الاحترار، والثاني عن تدابير التكيّف، والثالث عن تدابير تخفيف الانبعاثات. ومن ثمّ تخضع لمشاورات مع ممثلي الدول لاستخلاص ملخصّات تقدّم إلى صانعي القرار.

حتى الآن، كانت تقارير مجموعتي العمل الثانية والثالثة مُتشابهة، وخصوصاً مجموعة العمل الثالثة التي تُهيمن عليها الأيديولوجية النيوليبرالية. على سبيل المثال، في تقرير التقييم الخامس للهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بتغيّر المناخ، ذكرت مساهمة الفريق العامل الثالث المعني بالتخفيف نماذج مناخية تعمل بمنطق السوق وسلوكيّاتها التنافسية. هذه هي النيوليبرالية. وهي تقول لنا إن لا خلاص من دون الرأسمالية، وإن لا وجود لقضايا ومسائل مرتبطة بالشركات العامة، أو التعاونيات، أو مبادرات المواطنية. وتقول لنا إنّ هذا هو الاقتصاد، ما يعني الاستمرار بالنموّ من دون مناقشة النمو. ولكن الوضع يتغيّر الآن. ففي تقرير التقييم السادس الذي صدر العام الماضي، برزت شكوك جدّية بالنمو الاقتصادي وأشير إلى نظريات بديلة حول النمو، وما بعد النمو، وما بعد التنمية، واللا نمو، واقتصاد الدونت وهذا مفهوم مثير للاهتمام إلى حد ما يطرح ضرورة وضع عتبة للتنمية لتلبية الحاجات وسقف لحدود النظام البيئي. لكن هذه الشكوك لم تُضمّن في الملخّصات المقدّمة إلى صانعي السياسات، إذ حرص ممثّلو الدول بعملهم الرقابي على منع وصول هذه الشكوك التي تغزو المجتمع العلمي إلى الحيّز العام. لذلك، لا يزال الخطاب السائد على المستوى السياسي هو خطاب الرأسمالية الخضراء. بمعنى أننا سوف ننجح من خلال تحقيق النمو المستند إلى تقنيات تسمح بفصله عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. هذه هي العقيدة المُسيطرة حالياً والتي تبرّر سياسات الحكومات، فيما هي موضع شكّ متزايد داخل المجتمع العلمي.

أمّا فيما يتعلّق بتدابير التكيّف والتخفيف المُهيمنة على النقاش البيئي، لقد فات الأوان لمنع وقوع الكارثة المناخية. لقد وقعت. ويجب الحدّ منها قدر الإمكان. وهذا هو الشقّ الذي نسمّيه التخفيف، أي القضاء على انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بحلول العام 2050. وبما أن الكارثة واقعة، فهذا يعني أنّه ينبغي علينا أن نأخذ جانب التخفيف على محمل الجدّ، وتخفيض الانبعاثات بنسبة 50% بحلول العام 2030، وتحديداً في بلدان الجنوب الأكثر عرضة للتهديد وخصوصاً منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. التساؤلات حول قضايا التكيّف أساسية لتحسين قدرات صمود السكّان الأكثر هشاشة، مثل مسألة بناء الحدائق في المدن، والتشجير، وكيفية ضمان وجود تهوية كافية وظل كافٍ حول المنازل، وتحسين نظام توزيع المياه، والاستثمار في النظام الصحّي. جميع هذه المسائل ملحّة، وتسمح بالعبور نحو المطالب البنيوية الضرورية لمواجهة الكارثة المناخية. مع ذلك، قد يكون هناك ميل في دوائرنا لإهمال هذه المسائل باعتبارها مجرّد إصلاحات شكلية. نعم إنها كذلك ولكنّها حاسمة ولا تتعارض مع إصلاحات أكثر بنيوية وضرورية من أجل الوصول إلى تخفيف حقيقي في تغيّر المناخ والقضاء على الانبعاثات التي تُعدُّ أكثر راديكالية وتتطلّب مصادرة رأس المال الكبير وخصوصاً في قطاع الطاقة.

إنّها راديكالية شباب اليوم


هل ترى آفاقاً أخرى غير الرأسمالية الخضراء على مستوى الحركات؟

هناك مزيد من الراديكالية أو إعادة النظر على صعيد الحركات الاجتماعية. تجسّد غريتا ثونبرغ، إذا جاز التعبير، هذه الراديكالية ومسافة النأي عن الحكومات والفكر النيوليبرالي الرأسمالي المُهيمن، إنها راديكالية شباب اليوم وهي غير محصورة بالبلدان الرأسمالية المتطوّرة، بل هي ظاهرة عالمية ترتبط أيضاً بالحركة النسائية، وتعني الشعوب الأصلية والفلّاحين الذين يقفون في الخطوط الأمامية للتصدّي لتدمير بيئاتهم. وأعتقد أن هناك العديد من الأمور المثيرة للاهتمام التي تحدث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هناك كتاب قمت بتنسيقه مؤخّراً مع مايكل ليفي، بعنوان "النضال البيئي والاجتماعي في العالم: تحالف الأحمر والأخضر"، يحتوي على مساهمات لعدد من الكتّاب من ضمنهم مساهمة للرفيقة لويزا توسكان، حول التعبئة البيئية والاجتماعية في المغرب العربي والشرق الأوسط. إنه كتاب غني بالحقائق ويعرض حالات من التعبئة دفاعاً عن الموارد وخصوصاً المياه التي تعدّ مسألة رئيسية. أعتقد أن هناك راديكالية حقيقية تحدث داخل الحركات الاجتماعية، ولو أنها مُفكّكة ويصعب تركيزها. وهناك أيضاً قوّة كبيرة حاسمة في مناهضة الرأسمالية ولكنّها ليست بهذه الراديكالية، وتتمثّل بالعمّال وأصحاب الأجور الذين يخشون على وظائفهم إذا خفِّض الإنتاج أو النمو. ماذا سيحدث لوظائفهم ومداخيلهم وبقائهم على قيد الحياة؟ وهذا مصدر قلق مشروع.

أعتقد أنه يجب العمل على التقريب بين الخبرة العلمية النقدية والحركات الاجتماعية الراديكالية لاكتساب شرعية تدفع الحركة العمّالية إلى الأمام. هذه هي رؤيتي للأمور من الناحية الاستراتيجية وأعتقد أنّ ذلك ممكن لأن الشباب أكثر راديكالية فيما يتعلّق بقضايا المناخ ويثقفون أنفسهم حول الجوانب العلمية، ولأن العلماء النقديين يعيدون النظر بالنمو والتراكم الرأسمالي والأفكار النيوليبرالية، ويدركون الحاجة إلى مقاربة اجتماعية نظراً لصعوبة إقناع الناس الذين يعتمدون على الإنتاج بأن يعيشوا من خفض الإنتاج.

هكذا أرى الأمور من المنظور الاستراتيجي، أي بمحاولة تعزيز الحوار والتقارب بين الحركات الراديكالية والعلماء الناقدين من أجل الاقتراب من الحركة العمّالية وحثّها على التحرّك، لأن دورها محوري في النضال ضدّ خطر الكارثة البيئية. علينا الخروج من الرأسمالية ولكنّنا لن نخرج منها ضدّ إرادة المنتجين. هذه سخافة لأنهم يشكّلون غالبية سكان العالم.


هناك رأي مشترك بين دول الأطراف والبيئيين وداخل اليسار يقول إن دول الجنوب العالمي ليست على مستوى المسؤولية نفسه فيما يتعلّق بالتغيّر المناخي أسوة بالدول الرأسمالية حيث مركز تراكم رأس المال. ويعتبر عدد من الأشخاص على اليسار أن هذه الدول يجب أن تتحمّل المسؤولية بمفردها أو جزء كبير منها، ما يعني أن بلدان الجنوب وعملاً بنظريات اللحاق بالركب لن تضطر إلى الخضوع لقيود بيئية مُماثلة. يقدّم هذا الرأي غالباً على أنه أكثر عدلاً وإنصافاً. كيف ترى ذلك؟ وما هو برأيك الحل الأكثر "إنصافا" على هذا الصعيد؟

يجدر بنا توخّي الحذر وعدم الوقوع بالتبسيط. من الواضح أن الشمال الإمبريالي هو المسؤول الأوّل، ولا يزال، حتّى وإن بدأت الفجوة تضيق قليلاً مع تحول الصين والهند إلى المصدرين الرئيسين للانبعاثات. ذلك لأن ثاني أوكسيد الكربون، وهو الغاز الرئيسي المسؤول عن الاحتباس الحراري، يتميّز بخصوصية التراكم في الغلاف الجوي، ولا يخرج منه إلّا بامتصاصه من النباتات الخضراء، أو بالذوبان التلقائي في المحيطات، فيما تتراكم الكمّيات الباقية. لذلك، المسؤولية التاريخية للبلدان الرأسمالية المتطوّرة هي مسألة أساسية وتصل إلى 70% أو أقل قليلاً، وبالتالي عليهم بذل الجهود الرئيسية وأن يتحمّلوا مسؤوليّاتهم وأن يدفعوا المقابل. عليهم دفع مئة مليار دولار سنوياً في صندوق المناخ الأخضر لمساعدة دول الجنوب على تنفيذ سياسات التخفيف والتكيّف، لقد وعدوا بذلك في مؤتمر كانكون، لكن مرّ وقت طويل ولم يقدّموا شيئاً.

يجب الضرب في المسمار. الشمال هو المسؤول الرئيسي عن التغيّر المناخي، وهو من يجب أن يدفع. ولكن من دون أن يعني ذلك إمكانية قيام دول الجنوب العالمي بأي عمل من دون اكتراث. هذا هو خطاب النظام في الصين، وقبله الخطاب في الهند وفي البرازيل في خلال عهد بولسينارو. بالنسبة لهؤلاء لقد دمّر الشمال البيئة في السابق، والآن من حقّهم تدمير غاباتهم من أجل الوصول إلى حقّهم في التنمية. لكن يجب التحلّي بالشجاعة لمحاربة هذا الخطاب. لأن الوضع في غاية الخطورة. لا يعني ذلك أنه لا يحقّ لدول الجنوب العالمي أن تخوض مسار التنمية، ولكن لا يمكن دفع هذا التطوّر إلّا باستخدام هامشي للوقود الأحفوري. وإلّا سوف نتخطّى عتبات الخطر، ونتّجه نحو كارثة تقع على رؤوس الجميع، ولا سيّما فقراء البلدان الفقيرة في الجنوب العالمي.

ما هو الاستنتاج السياسي؟ لا يكفي منع الشمال من التدخّل بالنموذج التنموي للجنوب، بل يجب النضال من أجل تنمية مختلفة في بلدان الجنوب. تنمية لا تقوم على استخراج المواد الأولية والمعادن والنفط والنشاط المُفرط، ولا على سيناريوهات التصنيع المبنية على الأرباح، بل تنمية قائمة على تلبية الحاجات البشرية لغالبية السكّان. هذا هو المنطق السليم، ولكن من الصعب ترجمته إلى مطالب سياسية واجتماعية.

العدالة المناخية بين الشمال والجنوب


عندما تتحدّث عن الضرورة إلى حراك عالمي في هذا الإطار - وعالمي بين مزدوجين - هل تعني أن المسألة تتعلّق أيضاً بنقل التكنولوجيا عبر الارتباط بالسياسة والأممية مجدّداً؟

نعم، يتطلّب الأمر رؤية أممية وحراكاً أممياً فعلياً. يقول كثيرون إنّ الأمر غير ممكن، لكن لدينا الهيئة الحكومية الدولية لتغيّر المناخ التي تعمل كجهاز دولي وعالمي يربط بين آلاف العلماء من كافّة البلدان والثقافات واللغات، ويمكننا القيام بما يشبه منظّمة "فيا كامبيسينا" لصغار الفلّاحين. على النقابات العمّالية وأصحاب الأجور البناء على هذه الإنجازات لترسيخ نفسها كقوة دافعة ومحرّكة على الصعيد الدولي. نعم، هناك حاجة إلى الأممية. وهناك جدل طويل قائم بين مختلف التيّارات الأناركية يدّعي بأن التعاونيات الصغيرة على المستوى المحلّي هي الحل الوحيد أمام الكارثة التي تواجهنا. وهذا ليس خاطئاً بالمُطلق، لأنّ ما من ضامن لحصول عملية ديمقراطية فعلية سوى الإدارة الذاتية على المستوى المحلي. لا تُصنع الديمقراطية العالمية من دون أن تكون مدعومة بشبكة كاملة من المبادرات المحلّية. ولكن يتطلّب الأمر تنسيقاً وتخطيطاً على المستوى الدولي، وإلّا سوف يكون التحكيم في هذه القضية مستحيلاً لتحديد من سيدفع الثمن وتحقيق العدالة المناخية بين الشمال والجنوب.

تُعدُّ مسألة العدالة المناخية بين الشمال والجنوب السبب الرئيسي وراء فشل قمة كوبنهاغن للتغيّر المناخي في العام 2009، حيث كان العلماء يحاججون بمسؤولية الشمال وحقّ الجنوب في التنمية، وبضرورة التوفيق بين الإثنين واحتساب كمية الكربون التي يمكن بعثها في الغلاف الجوي من دون ارتفاع الحرارة بما يتجاوز 1.5 درجة أو درجتين. ومن ثمّ تقسيم كمية الكربون المسموح بانبعاثها عبر إعطاء حصّة لكلّ بلد بحسب مسؤوليته التاريخية، إلّا أن عدم حصول بلدان الشمال على أي حصّة نظراً لمسؤوليتها التاريخية كان ينطوي على عواقب مُتتالية على الإنتاج والنموّ فيها. ففشلت قيمة كوبنهاغن، وأرجِئت المسألة سنة كاملة إلى حين انعقاد مؤتمر كانكون حيث جرى تغيير المشروع والتخلّي عن نهج "من أعلى إلى أسفل" في توزيع الجهود، واستبدل بنهج "من أسفل إلى أعلى" بحيث يعبّر كل بلد عمّا يريد القيام به. من الواضح أن هذه الصيغة هي التي تقودنا إلى الكارثة بسبب إلغائها كلّ القيود. في الواقع، يدافع كل بلد عن مصالح رأسمالييه. وهذا ما سنراه في الإمارات العربية المتحدة في خلال العام المقبل، حيث ستدافع الحكومات الأكثر اعتماداً على الوقود الأحفوري عن مصالحها في التنقيب عن النفط.


ترجمة ماريان غطّاس
تحرير ڤيڤيان عقيقي