إريك توسان: لا توجد الآن حكومة مستعدّة للمقاومة حقّاً

يعاني لبنان منذ نحو ثلاث سنوات من إفلاس جهازه المصرفي، وانهيار متواصل بسعر عملته، وتضخّم من ثلاثة أرقام، وانكماش اقتصادي خطير. يرى البعض أنّ الأزمة ناتجة عن الفساد والإفراط في الإنفاق العام وتراكم الديون السيادية، فيما يشير آخرون إلى أن توقّف الحكومة اللبنانية عن تسديد سندات دينها بالعملات الأجنبية منذ آذار/مارس 2020 هو سبب الأزمة وتفاقمها. على الرغم من سيطرة هاتين السرديتين وشيوعهما، تبقى الحقيقة أن المصارف مُفلسة وتتواصل المساعي من أجل تحميل الخسائر إلى المجتمع ككلّ.

تهدف هذه المقابلة مع إريك توسان إلى بناء موقف من الديون وتسديدها، وفهم دور الديون وآليّاتها في استخراج الموارد من الجنوب إلى الشمال على المستوى الدولي، ومن الفقراء إلى الأثرياء في داخل كلّ مجتمع. ولا تتعلّق هذه المقابلة بالأوضاع اللبنانية فحسب، إلّا بمقدار ما تُمثِّل هذه الأوضاع نموذجاً عمّا يحصل في أماكن كثيرة في العالم وفي التاريخ.

إريك توسان؛ مؤرّخ واقتصادي، حاصل على دكتوراه في العلوم السياسية من جامعتيْ لياج وباريس الثامنة. لديه نحو 15 كتاباً عن التمويل الدولي، آخرها نُشِر هذا العام بعنوان "البنك الدولي، تاريخ نقدي"، كما أنه مؤسّس مُشارك والمتحدّث الرسمي لـ"لجنة إلغاء الديون غير المشروعة" المعروفة سابقاً باسم "لجنة إلغاء ديون العالم الثالث"، وهي شبكة دولية نشِطة في أكثر من 30 دولة في أربع قارات.

الدَّيْن بوصفه سلاحاً

 

تصف الدَّيْن كسلاح ضدّ الملكيّة العامّة، وتقول إن رأس المال المالي يعيش على أساس الديون السيادية، التي يستخدمها للتخلّص من أبسط أشكال الحكم الديمقراطي الاجتماعي، وإجبار الدولة على تحرير اقتصاداتها، وفتح أسواقها، وفرض التقشّف على السكّان. هذا ما نشهد مثالاً عليه هنا في لبنان، ونشهده في مصر والعديد من بلدان الجنوب. فهل يمكنك أن تشرح لنا كيف تعمل آليّات الدَّيْن، ولمصلحة من؟

تذكّرني هاتان الروايتان اللتان تُهيمنان على المشهد السياسي اللبناني بالوضع الحالي في سريلانكا، حيث يركّز الكثير من الناس على الفساد، الذي هو بالتأكيد ظاهرة بغيضة وخطيرة وفاضحة. لكن من الواضح أن أزمة بحجم أزمة لبنان أو سريلانكا لا يمكن اختزالها بظاهرة الفساد أو عدم كفاءة الطبقة السياسية اللذين لا يفسّران الحقائق. طريقة التفكير هذه تُدار من قبل النظام الرأسمالي العالمي وأدواته، الذي يقدِّم الفساد بوصفه مصدر المشكلة، والاتفاق مع صندوق النقد الدولي كحلّ لها. في حين أن صندوق النقد والنموذج الاقتصادي والاجتماعي الذي يجري الدفاع عنهما وإدامتهما هما سبب المشكلة وليس أحد ظواهرها، ولذلك لا يمكن أن يكونا الحلّ بأي شكلٍ.

يستكشف تحليل الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، وتحديداً تحليل كارل ماركس وفريدريك إنغلز (وأيضاً تحليل آدم سميث)، أنواعاً عدّة من التراكم البدائي. يؤكّد ماركس في الفصل 31 من كتاب رأس المال، أن الدَّيْن العام، من بين جميع أشكال التراكم البدائي، يلعب دوراً مهمّاً، ويفسِّر انتصار النظام الرأسمالي على أنماط الإنتاج السابقة. في الواقع، لا يمكن للمرء أن يفسِّر هيمنة أوروبا على ظاهرة العولمة الرأسمالية من القرن السادس عشر، ولا انتصارها على القارات الأخرى، بما فيها الصين في القرن التاسع عشر، من دون النظر إلى مسألة الديون.

أولاً، يجب معرفة أن الديون هي إحدى الآليّات التي سمحت للقوى المُهيمنة ورأس مالها المالي باستخراج جزء كبير من الثروة، خصوصاً الثروة المُنتجة في مناجم الذهب والفضّة في أميركا اللاتينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وتكديسها في أوروبا. سمح هذا التراكم لأوروبا بتحقيق قفزة حاسمة نحو الرأسمالية، ومن ثمّ الهيمنة على بقية العالم منذ النصف الأوّل من القرن التاسع عشر من خلال الثورة الصناعية.

صندوق النقد والنموذج الاقتصادي والاجتماعي الذي يجري الدفاع عنهما وإدامتهما هما سبب المشكلة وليس أحد ظواهرها ولذلك لا يمكن أن يكونا الحلّ بأي شكلٍ

ذكرتُ الصين لأنّها كانت بقوّة الدول الأوروبية مُجتمعةً حتّى بداية القرن التاسع عشر. لكنّها تراجعت لاحقاً بعد أن لجأت إلى الديون الخارجية، ما سمح للقوى المالية بالسيطرة على الصين، وصولاً إلى التهديد باستخدام القوّة ضدّها للمطالبة بأراضيها التي تحوّلت لملكيّة الدائنين. في كتابها "تراكم رأس المال" الذي نُشِر عام 1913، وسّعت روزا لوكسمبورغ التحليل الذي بدأه ماركس حول الأحداث في الهند والصين ولم ينتهِ منه بسبب وفاته في ثمانينيات القرن التاسع عشر.

ثانياً، خلال القرن التاسع عشر، استُخدِم سلاح الدَّيْن من قبل رأس المال المالي الذي سيطر على الاقتصاد الدولي عبر البنوك الدائنة الكبرى في لندن، وبدرجة ثانية في باريس، ولاحقاً في برلين. مُنِحت القروض المُجحفة والكريهة إلى المدينين في مناطق مختلفة من العالم مثل مصر وتونس التابعتين للإمبراطورية العثمانية في حينها، وكذلك مُنِحت الديون إلى حكومة الإمبراطورية العثمانية في اسطنبول ما أدّى في النهاية إلى سقوطها. أشرح في كتابي "نظام الديون"، الذي تُرجِم إلى العربية، التطوّرات الداخلية التي شهدتها مصر في السنوات الخمسين الأولى من القرن التاسع عشر. لقد استورد الخديوي أحدث التقنيات الصناعية البريطانية، ورفض توقيع اتفاقيات التجارة الحرّة مع بريطانيا أو الاستدانة من الخارج. استغلَّ الفلّاحين المصريين، وصنَّع البلاد بطريقة غير عادية، وصدَّر منتجاتها، فيما لم يستورد سوى القليل من الحاجيات ومن دون اللجوء إلى الديون الخارجية. لكن منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، أقنع الدائنون البريطانيون والفرنسيون الخديوي بالاقتراض بكثافة لتطوير قناة السويس وزيادة إنتاج القطن، وهو ما أدّى إلى إثقال البلاد بديون خارجية منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، وإخضاعها بشكل كامل لدائنيها. كرّست روزا لوكسمبورغ عشرات الصفحات للحديث عن خضوع مصر لاستغلال وتراكم رأس المال من قبل القوى الإمبريالية المُهيمنة التي أثبتت نفسها خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لقد سمح هذا الخضوع المصري لبريطانيا بالسيطرة الكاملة على مصر منذ عام 1882، وإخضاع الإمبراطورية العثمانية منذ سبعينيات القرن التاسع عشر. أحلِّل في كتابي أيضاً هيمنة فرنسا على تونس، وتحويلها إلى محميّة فرنسية منذ عام 1880. تمرّ جميع حالات التبعية هذه بمديونية خارجية وبشروط تعسّفية تجعل السداد العادي مستحيلاً، وتمنح الدائنين حجّة لإعلان الحرب على الدول المدينة لكي تستردّ منها الأموال بالقوّة. أُخضِعت الدولة العثمانية في وقت متأخّرٍ لأن الهجوم العسكري المباشر عليها كان صعباً. في الواقع، لم تسقط الأمبراطورية العثمانية، ولم تُعلَن هزيمتها وتفكّك نهائياً إلّا في إطار معاهدة فرساي في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ومع ذلك، فإنّ نظام كمال أتاتورك وتحالفه مع روسيا السوفياتية عاد وعقّد مهمّة القوى الغربية.

تمرّ جميع حالات التبعية بمديونية خارجية وبشروط تعسّفية تجعل السداد العادي مستحيلاً وتمنح الدائنين حجّة لإعلان الحرب على الدول المدينة لكي تستردّ منها الأموال بالقوّةفي المقابل، تُعدُّ اليابان مثالاً نموذجياً لتثبيت دور المديونية الخارجية كأداة هيمنة. في بداية القرن التاسع عشر، كانت اليابان قوّة اقتصادية ثانوية مُقارنة بالصين، لكنّها رفضت الاستدانة من الخارج، وشهدت ثورة برجوازية تستند إلى تراكمها الداخلي الذي أطلق عليه ثورة مييجي. أدّى استغلال الطبقات الاجتماعية من قبل الطبقات المُهيمنة إلى تحويل اليابان إلى قوّة إمبريالية غزت فورموزا (تايوان اليوم) وكوريا الجنوبية - وقد كانت مقاطعات صينية في حينها - بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكذلك الفلبين وجزء من الصين خلال الحرب العالمية الثانية قبل هزيمتها. توضح هذه الأحداث أن قوّة ثانوية نجحت في فرض نفسها كقوّة إمبريالية لأنّها بقيت متفلّتة من هيمنة الدائنين الأجانب. من ناحية أخرى، لم تنجح الصين، التي كان من المُمكن أن تعرف تطوّراً بالغ الأهمّية كما أظهر بعض المؤلّفين، لأنها وافقت على الاستدانة من الخارج وتوقيع اتفاقيات التجارة الحرّة.

من هنا، عند تحليل نظام الديون، يجب أن نأخذ بالاعتبار النخب المحلّية والطبقات الحاكمة التقليدية. هل سيؤيدون تطوّراً معيّناً كما كان الحال مع الخديوي في مصر خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر؟ أم ستعتمد على المقرضين الأجانب لإثرائها كما كان الحال مع الطبقات الحاكمة في مصر وتركيا وتونس خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر؟ لا يمكن للمرء أن يفسِّر هيمنة الدائنين الأجانب بمعزل عن تعاون الفئات المحلّية المُهيمنة معهم. لبنان مثال نموذجي. لم يكن لدى الطبقة الحاكمة اللبنانية مشروعاً للتنمية الصناعية، أو لتحويل منتج زراعي مثل القطن إلى منسوجات، أو لتطوير إنتاجات صناعية أكثر تطوّراً. تخصّصت هذه الطبقة منذ القرن التاسع عشر وحتّى اليوم في قسم مُحدّد في التقسيم الدولي للعمل ورأس المال، أي التجارة والتمويل، ولعبت دوراً ثانوياً تابعاً. ولا تعني تبعيّتها هذه أنها لم تثرِ نفسها، بل على العكس قبلت الطبقة الحاكمة محلياً التبعية للنظام الإمبريالي وسلطاته المركزية، وحصلت منه على مواقع سمحت لها بإثراء نفسها إمّا عبر استغلال السكّان المحلّيين أو استغلال المزايا النسبية للبنان مثل موقعه الجغرافي الاستراتيجي وقدرته على لعب دور في التجارة والتمويل الدوليين. من هنا أعود إلى الأحداث الجارية لأنّنا إذا لم نفهم السياق التاريخي، سنستمرّ بالحديث بكلّ بساطة عن الفساد، وعن طبقة سياسية غير قادرة على التموضع ضمن النظام، في حين أن ما يحدث في لبنان اليوم هو وظيفي بامتياز، ويقع في صلب أزمات النظام الرأسمالي المعولم.

دور النخب المحلّية

 

ركّزت بشكل أساسي على الدَّيْن الخارجي من خلال الأمثلة التي أوردتها. هل المشكلة هي حصراً بالديون الخارجية وموقع الطبقة المُهيمنة محلّياً بالنسبة لهذا الدين؟ أم أنها مشكلة تنبثق من آليّات اشتغال الديون نفسها سواء الخارجية أو الداخلية؟

استُخدِمت الديون الداخلية في جميع الأدبيّات الاقتصادية للإمبراطورية العثمانية منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر. لجأ والي تونس إلى الدائنين المقيمين في تونس، سواء تجّار تونسيين أو لبنانيين أو إيطاليين أو فرنسيين أو بريطانيين، الذين أقرضوه المال بمعدّلات فائدة ربويّة. هذه الظاهرة المُتمثّلة بوجود طبقة حاكمة محلّية تُقرِض الحكومة بأسعار فائدة مرتفعة لانتزاع الريوع منها، كانت موجودة في ظل الإمبراطورية العثمانية منذ بداية القرن التاسع عشر، واستمرّت خلال الهيمنة الاستعمارية الغربية، وكذلك بعد الاستقلال.

تضع الطبقة الحاكمة محلّياً جزءاً من رأس المال الذي تجمعه بآليّات مختلفة في الخارج، وغالباً من دون التصريح عنه، ومن ثمّ تشتري به سندات دين لبنانية خارجية لجني أرباح بالعملات الأجنبيةفي الواقع، تستمدّ الطبقة اللبنانية الحاكمة جزءاً من مواردها من خلال إقراض الدولة، وهذا ينطبق أيضاً على دول أخرى في المنطقة. من جهة أخرى، ستضع هذه الفئة جزءاً من رأس المال الذي تجمعه بآليّات مختلفة في الخارج، وغالباً من دون التصريح عنه، ومن ثمّ ستشتري به سندات دين لبنانية خارجية لجني أرباح بالعملات الأجنبية أيضاً.

عند وصف خصائص نظام الديون، يجب الأخذ في الاعتبار، أوّلاً اللاعبين الأجانب الذين قد يكونون بنوكاً أجنبية كبيرة أو صناديق استثمار أجنبية مثل بلاك روك، وثانياً صندوق النقد الدولي الذي يحقّق أرباحاً من خلال القروض الممنوحة إلى بلدان مثل لبنان، وثالثاً الحكومات الأخرى عن طريق الديون الثنائية، وهي لا تشكّل سوى نسبة صغيرة في حالة الدَّيْن اللبناني. ورابعاً الدَّيْن الداخلي الذي خلقته الطبقة المُهيمنة المحلية من خلال البنوك اللبنانية.

الديون الكريهة

 

فاقمت جائحة كوفيد-19 حالة اقتصادات عديدة كانت ترزح أصلاً تحت عبء مديونيتها، وقيّدت قدرة غالبية هذه البلدان على الإنفاق لحماية مجتمعاتها من الجائحة التي أعطت الأولوية لتسديد خدمة دينها العام. أنت الناطق الرسمي للجنة إلغاء الديون غير المشروعة، وتخوضون حملة عالمية لشطب ديون بلدان الجنوب التي تصفونها بـ"الديون الكريهة". تظن الغالبية أن كلّ دولة مسؤولة عن تسديد ديونها بما أنها اختارت أن تستدين هذه الأموال وتنفقها، فهل يمكنك شرح ما هي الديون الكريهة ولماذا شطبها مهمّ؟

هناك تعريف للديون الكريهة وهو جزء من الاجتهاد الفقهي في القانون الدولي. تمّ تطوير هذا التعريف في عشرينيات القرن الماضي، ونشره فقيه روسي مُحافظ في باريس عام 1927، كان سابقاً أستاذ قانون في الإمبراطورية القيصرية في سانت بطرسبرغ، ونُفي إلى باريس بعد الثورة الروسية. أذكر ذلك للقول إنّه لم يكن شيوعياً ولا مُتعاطفاً مع السوفيات أو البلاشفة، لا بل أصيب بصدمة بسبب رفض السوفيات تسديد الديون القيصرية. حلَّل هذا الفقيه كلّ النزاعات التي وجدها حول الديون السيادية منذ الثورة الفرنسية عام 1789، وصاغ اجتهاداً فقهياً في القانون الدولي ينصّ على أنه في حالة الخلافة أو تغيير النظام، تنتقل الالتزامات السابقة إلى النظام الجديد مهما كانت طبيعة النظام المعني - ديمقراطي، استبدادي، ديني، أو جمهوري شعبي - إلّا في حالة الديون الكريهة. إذا عُقِدت الديون ضدّ مصلحة المقيمين ضمن نطاق دولة ما، أو ضدّ المصلحة الموضوعية للدولة - وبالتالي لصالح أقلّية ذات امتيازات - وإذا لم يتمكّن الدائنون من إثبات عدم معرفتهم بذلك، يمكن وصف الدَّيْن بأنه كريه. لذلك، وفقاً لهذا الاجتهاد، فإن كيفية استخدام الدَّين هو الذي يجعله مشروعاً أم لا.

إذا عُقِدت الديون لصالح أقلّية ذات امتيازيات وضد مصلحة المقيمين ضمن نطاق دولة ما، أو ضدّ المصلحة الموضوعية للدولة، وإذا لم يتمكّن الدائنون من إثبات عدم معرفتهم بذلك، يمكن وصف الدَّيْن بأنه كريهفي حالة لبنان، لم يخدم الجزء الأكبر من الديون مصالح اللبنانيين أو حتّى الدولة اللبنانية – ذلك إذا اعتبرنا الدولة فاعلاً يعمل لصالح مواطنيها – بل خدمت المصالح الخاصّة لأقلّية تتمتّع بامتيازات، سواء كانت الطبقة السياسية أو الطبقة الرأسمالية اللبنانية أو المصالح الأجنبية. من ناحية أخرى، كان الدائنون الذين أقرضوا الأموال للحكومة اللبنانية يعرفون ذلك، وأبرزهم المصرفيون الذين أقرضوا الحكومة اللبنانية وهم يعلمون أن جزءاً من الأموال يُعاد تحويله إلى الطبقة السياسية والنخب المحّلية. سمح المصرفيون للطبقة السياسية المحلّية بوضع جزء من هذه المبالغ المُقترضة في حسابات مُرقّمة في سويسرا وموناكو ولندن وأماكن أخرى، مقابل إقراضهم الأموال للدولة اللبنانية لقاء فوائد عالية. إذا طبّقنا معايير الاجتهاد الفقهي للديون الكريهة، يمكننا أنّ نثبت بعد التدقيق أن الديون اللبنانية الداخلية والخارجية هي ديون كريهة، وبالتالي لاغية من وجهة نظر القانون الدولي. يجب خوض هذه المعركة لأن مجرّد وصف الديون بـ"الكريهة" لن يقنع الدائنين بالتخلّي عن موجب تحصيلها. من ناحية أخرى، يمكن لحكومة تتمتّع بشرعية شعبية أن تجري تدقيقاً بالديون بمشاركة المجتمع المدني اللبناني، وأن تتخذ قراراً سيادياً وأحادياً بإلغاء الديون الكريهة وفقاً للقانون الدولي، والدفاع عن موقفها في مواجهة الدائنين والرأي العام الدولي.

فوائد المقاومة ومضار الخضوع

 

ما مدى أهمّية إلغاء هذه الديون بالنسبة للاقتصاديات المحلّية سواء في لبنان أو في أي مكان آخر؟

أقوم حالياً بتحليل سلسلة من حالات إلغاء الديون التي حدثت عبر التاريخ، وكلّما تعمّقت في التاريخ كلّما اكتشفت معلومات إضافية. بين عامي 1933 و1934 قرّر الرئيس الأميركي والكونغرس إلغاء جميع ديون الولايات المتّحدة المُتعاقد على تسديدها بالدولار أو الذهب. وبين ليلة وضحاها، خفّضت حكومة الولايات المتّحدة قيمة الدولار بنسبة 60% مقابل الذهب وسدَّدت ديونها بالدولار فقط. إنها عملية شطب ديون، وقد نوقشت في الكونغرس الأميركي، وأثارت حفيظة أعضاء مجلس الشيوخ الذين خافوا من فقدان الولايات المتّحدة قدرتها على الاستدانة في الأسواق المالية. لكنّهم كانوا مخطئين، فقد فازت الولايات المتّحدة بكلّ شيء مثل السوفيات الذين ألغوا ديون الإمبراطورية القيصرية والحكومة المؤقّتة في عام 1918. لقد أثبتت في تحليلي أن الدول التي شطبت ديونها لم تتعرّض في النهاية لأعمال انتقامية على عكس الدول التي استمرّت بالدفع. في بعض الحالات، لجأت القوى الدائنة إلى القوّة، ولكن في النهاية انتصرت الدول التي قاومت، أمّا الدول التي استسلمت أو فشلت في المقاومة حتّى النهاية - مثل مصر عام 1882، وتونس عام 1881، وسلسلة دول خضعت لشروط الاتفاقيات التي أملاها صندوق النقد الدولي - فقد كان عليها القبول بدورها كدولة تابعة للدائنين، عدا أنها لم تنجح في الخروج من المديونية. لقد اختبرت هذه البلدان مصيراً غير مواتٍ بدل أن يكون لديها الشجاعة للمقاومة.

كان على الدول التي استسلمت أو فشلت في المقاومة حتّى النهاية القبول بدورها كدولة تابعة للدائنين ولم تنجح في الخروج من المديونية

الأمثلة التي ذكرتها، مثل روسيا البلشفية والولايات المتّحدة، كانتا قوّتين عظمتين عندما ألغتا ديونهما. ألا يجب أن يكون لدينا قوّة عسكرية واقتصادية بالحدّ الأدنى لنكون قادرين على مقاومة الدائنين؟

ألغت المكسيك ديونها مراراً، وقد أدّى ذلك إلى تعرّضها للغزو من قوّة فرنسية مؤلّفة 35 ألف رجل في عام 1862 لإجبارها على سداد ديونها. قاومت المكسيك وانتصرت. بين عامي 2007 و2008، أجرت الإكوادور - وهي دولة يبلغ عدد سكّانها 17 مليون نسمة وليست قوّة عسكرية ولا قوّة اقتصادية - تدقيقاً بالديون في ظل حكومة رافاييل كوريا التقدّمية، وقرّرت تعليق دفع جزءٍ من ديونها غير المشروعة وحقّقت انتصاراً على دائنيها. آيسلندا - وهي دولة شمالية يبلغ عدد سكّانها 350 ألف نسمة - قاومت وفازت في عام 2008 ضدّ بريطانيا وهولندا اللتين طالبتا بتعويضات مالية تصل إلى 3.5 مليار يورو. في المقابل، خضعت اليونان - وهي دولة يبلغ عدد سكّانها 11 مليون نسمة - بشكل مخزي للدائنين في 2015، وعلى الرغم من الوعود التي قطعتها حكومتها بالمقاومة، فقد كان أداؤها سيّئاً للغاية. قد لا يكون الفوز أكيداً من خلال المقاومة، ولكن الخسارة حتميّة من خلال الخضوع.

زيادة هشاشة الاقتصادات الهشّة

 

هل نحن على أبواب ازمة ديون سيادية عالمية؟ يعتقد البنك الدولي أنّ 60% من البلدان المنخفضة والمتوسّطة الدخل تحتاج إلى إعادة هيكلة ديونها، وقد عبّر عن خشيته من توقّف العديد من الدول عن الدفع غير المُنظّم؟ هل تعتقد أنّ الوقت مناسب لجعل مطلب إلغاء الديون حلّاً لا مفرّ منه؟

أتمنّى أن تُلغى الديون بالكامل، لكنّني واقعي ومدركٌ لميزان القوى. لا توجد حالياً حكومة مستعدة حقّاً للمقاومة، وبالتالي أتوقّع أن تجد الحكومات صعوبة في تمويل ديونها بعد الصدمات الداخلية والخارجية على الرغم من خضوعها للنموذج النيوليبرالي. في حالة سريلانكا، أدّت جائحة كوفيد-19 إلى خسارة عائدات السياحة، وكذلك أدّى نقص الموارد النفطية والاعتماد على واردات الحبوب إلى زيادة فاتورة استيراد السلع الأساسية، ما قوّض قدرتها على الدفع. وسوف تحذو دول أخرى حذوها. وبالتالي، نعم، كما يقول البنك الدولي، ستكون هناك صعوبة كبيرة في سداد الديون، إنّما وفقاً للنموذج الذي يطبّقه مع صندوق النقد الدولي ونادي باريس. لا يتحدّث البنك الدولي عن إلغاء الديون بل عن إعادة هيكلتها وفقاً لاتفاقيات مساعدة طارئة تُعقد مع صندوق النقد بشروط ستعمّق النموذج النيوليبرالي وتطيل أمده، وبالتالي تزيد هشاشة الاقتصادات الهشّة. هذا هو سيناريو البنك وصندوق النقد الدوليين، وللأسف من المرجّح أن يتحقّق. لذلك إن لم تؤدِ الحركات الشعبية مثل التي شهدها لبنان في عام 2019 إلى توعية الناس بأن صندوق النقد ليس جزءاً من العلاج بل أحد الأعداء، فلن يكون هناك من حل سوى بحكومة تُعلن القطيعة مع هذا النموذج، وفق الطريقة التي وصفها المفكّر المصري سمير أمين، أي بإعلان القطيعة مع سلسلة من الآليّات والاتفاقات المضرّة بالبلاد. لكن هكذا القطيعة تحتاج إلى شجاعة.

لن يكون هناك من حلّ سوى بحكومة تُعلِن القطيعة مع هذا النموذج وفق الطريقة التي وصفها المفكّر المصري سمير أمين، أي بإعلان القطيعة مع سلسلة من الآليات والاتفاقات المُضرّة بالبلادللأسف لا توجد في لبنان أي معارضة جدّية لبرامج صندوق النقد، بل يجري تقديمه كمنقذٍ وحيدٍ للحصول على المزيد من التمويل بالعملات الصعبة في ظل عدم القدرة على الاستدانة من الأسواق. من هنا، ما هو الدور الذي يلعبه صندوق النقد والبنك الدوليين في إبقاء البلدان عالقة في فخّ المديونية وبالتالي فرض الشروط التقشّفية على المجتمعات؟ 

إنهما يلعبان دوراً مركزياً. ينتظر صندوق النقد الدولي أن تجد دولة مُثقلة بالديون نفسها في أزمة، وأن تطالب بقرضٍ طارئ ببضعة مليارات من الدولارات لفرض تدابير تهدف إلى زيادة انفتاح الاقتصادات، وخفض الإنفاق العام، وإلغاء الدعم على المواد الغذائية الأساسية والوقود، وزيادة الضرائب غير المباشرة مثل الضريبة على القيمة المضافة لزيادة إيرادات الدولة، التي تذهب بدورها لتسديد الديون، فضلاً عن تعديل قوانين التعدين والغابات والعمل. تهدف هذه الإجراءات إلى تحرير الاقتصادات وإلغاء أي تنظيم لها وخصخصتها على حساب استقرارها. لذلك كلّ من يقول أن صندوق النقد ضروري، وكلّ من يتمسّك بسرديّة مكافحة الفساد هم إمّا صادقون ولكنّهم لا يعلمون ماهية الأمور، أو متواطئون مع النظام. ويضاف إلى أولئك، المستشارين الاقتصاديين الذين يقدّمون أنفسهم على أنهم مدافعون عن المصلحة العامة، في حين أنهم في الواقع شركاء للدائنين. في الحقيقة، يقف خلف صندوق النقد الدولي والبنك الدوليين كبار الدائنين من القطاع الخاص، والطبقة المحلّية و/أو الطبقة الأجنبية المُهيمنة، بالإضافة إلى المساهمين الرئيسيين في الشركات المالية أو صناديق الاستثمار أو البنوك، كلّ هؤلاء مستفيدون من تطبيق النموذج الليبرالي، ويطلبون من هاتين المؤسّستين فرض هذه الإجراءات حفاظاً على هذا النموذج. لذلك فإن دور البنك وصندوق النقد الدوليين أساسي للحفاظ على نظام الهيمنة.

البربرية في المستقبل

 

إذا قمنا بنظرة عامّة على وضع الاقتصاد العالمي نرى أن مجتمعات دول الجنوب والغالبية من مجتمعات الشمال يعيشون معاناة. تقارير صندوق النقد، والبنك الدولي، والمصارف المركزية، ومراكز التتبّع، والمنظّمات غير حكومية كلّها تحذّر من أننا ندخل في أزمة عالمية كبيرة وطويلة الأجل. في المقابل، تبدو المديونيات العامّة والخاصّة أكثر صعوبةً، والتضخّم مُعمَّم، ونسب الفقر واللامساواة في أعلاها تاريخياً، وتتّجه الأرض نحو انهيار بيئي يرفض أصحاب القرار معالجته. في ظل هذا المشهد المأساوي ما هو المشروع السياسي البديل، أو ما هي الوسائل المُتاحة لتغيير الاتجاه؟

هناك منطلقان أساسيين؛ أولاً التحرّك، وثانياً التحرّك وفق برنامج وتبعاً لاستراتيجية مُحدّدة. فيما يتعلّق بالجانب الأوّل، لا شكّ هناك ضرورة للتحرّك والتعبئة والحشد الشعبي لإجبار الحكومات على اتخاذ قرارات مُغايرة لن تتخذها في حال عدم وجود ضغط عليها، ولكن ذلك غير كافٍ وقد لا يغيّر الكثير، لذلك يأتي الجانب الثاني وهو التحرّك وفق برنامج وتبعاً لاستراتيجية معيّنة. في الواقع، هناك حاجة فعليّة لوضع برنامج والعمل وفقه. وفي هذه الحالة ينطلق البرنامج من إلغاء الديون وقطع الروابط مع الدائنين. هذا هو الشرط الأساسي لاستعادة بلدٍ ما سيادته على خياراته الخاصّة وموارده الطبيعية والمالية، والأهم على مستقبله بدلاً من تفويض حاضره ومستقبله إلى الدائنين. ومن ثمّ يُستكمَل البرنامج بأن تحدّد كلّ دولة القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية التي ينبغي للسلطات العامّة بدعم من المواطنين أن تستعيد السيطرة عليها. في لبنان، يعتبر القطاع المالي استراتيجياً ويجب على السلطات العامّة أن تستعيد السيطرة عليه، بالإضافة إلى السيطرة على التجارة الخارجية، وفرض آليّات رقابة على حركة الرساميل لمنع هروبها والحؤول دون زعزعة استقرار الاقتصاد وعملته، وكذلك السيطرة على العملة. لذلك يجب الاستعداد والتحلّي بالطموح لوضع برنامج تغيير هيكلي يتضمّن إصلاحات بنيوية مناهضة للرأسمالية المتجذّرة بعمق.

مع ذلك، يجب الانتباه إلى عدم الوقوع بوهم أن تَحَوّل الملايين إلى نظام اقتصادي بديل سيُغيّر مسار التطوّر الكارثي والمأساوي لكوكب الأرض، طالما أن كبرى الشركات النفطية وصناديق الاستثمار والبنوك والشركات الزراعية تستمرّ في الهيمنة على الاقتصاد العالمي. لا شكّ أن علينا تغيير ما يمكن تغييره لكن دون التوهّم بأنه الحلّ لإنقاذ البشرية. وهنا سأستعيد ما كتبته روزا لوكسمبورغ خلال الحرب العالمية الأولى بعنوان "الاشتراكية أو البربرية" لأنه يصحّ في يومنا أكثر من أي وقت مضى، أولاً لأن العديد من الدول تمتلك الوسائل النووية لتدمير البشرية جمعاء، وثانياً لأن تغيّر المناخ يتّخذ منحنى كارثياً. نحن بحاجة إلى نظام اشتراكي وبيئي ونسوي ومناهض للعنصرية عالمي للردّ على كلّ المشكلات التي تحيط بالبشرية. لذلك إن لم يتّخذ المواطنون خياراً واعياً بالانفصال عن النموذج النيوليبرالي والتوجّه نحو نموذج آخر، ستُهيمن البريرية والموت على المستقبل.


ترجمة وتحرير ڤيڤيان عقيقي