
الدين والطاقة والسيادة في الماضي والحاضر
لم تكن الحرب المالية والتجارية من الحلفاء الغربيين على روسيا عقب غزو بوتين لأوكرانيا في العام 2022 سابقة فحسب، بل كانت بمثابة زلزال لم تعرف له الساحة الدولية مثيلاً. بيد أنّ مثلث الدين الخارجي، وبُنى الطاقة التحتية، والسيادة الوطنية، يظل موضوعاً متكرراً في سرديات الجغرافيا السياسية.
أتناول هذه القضايا من خلال مسرحين معاصرين للصراع، مع تتبّع جذورهما في السوابق التاريخية. المسرح الأول أوكرانيا التي أرغمتها الحرب على الهرولة بين دائنيها الدوليين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي. أمّا المسرح الثاني، وهو محور هذا المقال، فهو مصر. في ظلّ الحرب الدائرة في غزة المجاورة، وجد صانعو القرار في القاهرة أنفسهم مضطرين إلى المناورة بين أطماع المموّلين الدوليين، بمن فيهم الجيران الأثرياء في الخليج، وبين سعيهم لجذب الاستثمارات الأجنبية وتحقيق حضور إقليمي أوسع. لطالما شكّل التنافس على التمويل الخارجي لمشاريع الطاقة سِمة مألوفة في التاريخ الاقتصادي المصري، غير أنّ مصر في ذلك ليست حالة شاذّة. بل إن قضايا المديونية الخارجية وهشاشة أمن الطاقة كانت في صلب التحوّل العاصف من الحقبة الإمبريالية البريطانية إلى «السلام الأميركي». وقد بلغ التشابك بين دفاتر بريطانيا المالية واعتمادها على نفط الشرق الأوسط ذروته في أزمة قناة السويس منتصف القرن العشرين. وعلى الرغم من أن سياسات «منطقة الإسترليني» شكّلت مظلة للضغط المالي والتجاري تكفل التوازنات البريطانية، فإن اقتحام بريطانيا للسويس لضمان عبور آمن لما أُطلق عليه «البتروإسترليني» الخاضع لسيطرتها سرعان ما أتى عليها بنتائج عكسية. ولعلّ معركة السيطرة على السويس كانت ذات جذور أعقد، من بينها مناورة الرئيس جمال عبد الناصر الذي لعب بالأوراق الأميركية والسوفياتية معاً، طلباً لتمويل خارجي يسند برامجه الكبرى في التسلّح والبنية التحتية. وبعد الاحتلال البريطاني للسويس في العام 1956، سرعان ما انتهجت الولايات المتحدة سياسة تُسلِّم باليمين وتطعن بالشمال؛ إذ ساهمت من جهة في تعجيل سقوط الجنيه الإسترليني من عرشه، ومن جهة أخرى، قدّمت دعماً مالياً لبريطانيا عقب انسحابها السريع من مصر. إنّ استحضار هذه التقاطعات الماضية والحاضرة بين الجغرافيا السياسية لإعادة التسلّح وإعادة الإعمار، عبر عدسة الدين الخارجي وهشاشة الطاقة، يقدّم قراءة أدقّ لمعنى السلطة والسيادة في عالم اليوم، عالمٍ يتسيّده الدولار الهيدروكربوني.
1. الحرب
ردّاً على الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022، فرضت بريطانيا، ثم تبعتها الولايات المتحدة ودول أخرى من مجموعة السبع، آلاف العقوبات على أفراد وشركات وسفن روسية. وسرعان ما انضمّ إلى الحملة التي قادتها الولايات المتحدة كلٌّ من الاتحاد الأوروبي و10 دول أخرى، من بينها آيسلندا وأستراليا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة. وبحلول العام 2024، بلغ عدد العقوبات المرتبطة بروسيا المفروضة من مجموعة السبع وحلفائها نحو 24 ألفاً. أما العقوبات الأميركية وحدها، فكانت ضعف نظيرتها الكندية صاحبة ثاني أكبر برنامج عقوبات على روسيا. وقد دارت رحى هذه الجبهة من الحرب في الخفاء إلى حدّ كبير، عبر تدخلات قانونية في نظام المدفوعات الدولية؛ فيما اقتصر ما ظهر منها للعيان على اليخوت الفارهة التي صادرتها السلطات في المراكز المالية الأجنبية الكبرى، ومنها حي كناري وارف في لندن.
بفضل الطفرة في إنتاج النفط الصخري، باتت الهيدروكربونات الأميركية تمثّل أكثر من خمس الإمدادات العالمية، ما يجعل قطاع النفط والغاز في الولايات المتحدة الأكبر في العالم
كانت الحرب المالية التي شُنّت على روسيا منذ العام 2022 غير مسبوقة من حيث الحجم والنطاق. اللافت أنّ وزارة الخزانة الأميركية لم تفرض برنامج عقوبات شاملاً على مستوى الدولة كما فعلت مع إيران أو كوبا أو كوريا الشمالية. فمع أنّ 10 من أكبر المصارف الروسية وُضعت على قوائم العقوبات واستُبعدت من نظام «سويفت» الدولي للرسائل المالية، فإنّ أكثر من 300 مصرف روسي آخر لم تشملها هذه الإجراءات. ويُعزى ذلك إلى الأهمية المحورية لروسيا في منظومة الطاقة العالمية، إذ كانت قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا تزوّد أوروبا بقرابة نصف حاجتها من الغاز الطبيعي (64%).
مع أنّ المحور الغربي تحاشى إقصاء النفط والغاز الروسيين كليّاً من الأسواق العالمية، إلا أنّه سعى لتقليص الريوع النفطية المتدفقة إلى موسكو. ففي صيف العام 2022، وافق الاتحاد الأوروبي على الانضمام إلى كل من الولايات المتحدة وبريطانيا في حظر استيراد النفط الخام الروسي المنقول بحراً، وهو قرار دخل حيّز التنفيذ في شباط/فبراير 2023. وفي أيلول/سبتمبر من العام 2022، فرضت الثلاثي (الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي) سقفاً سعرياً على صادرات النفط الروسية، حدّدته بنحو 60 دولاراً للبرميل. طرحت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، هذا السقف في بادئ الأمر بوصفه سياسة خارجية لها منافع داخلية، إذ إنّ كبح أسعار النفط الروسي من شأنه أن يساعد في محاربة التضخم داخل الولايات المتحدة. لكنها بعد حين أعادت حياكة السياسة في ثوبٍ من الإيثار، لتطرحها بوصفها وسيلةً تتيح تدفّق النفط الروسي الرخيص إلى دول الدخل المنخفض والمتوسط. وقد ردّت إدارة بوتين على هذا السقف السعري بوقف جزء كبير من شحنات الغاز الطبيعي إلى أوروبا، إلى جانب إجراءات أخرى. وبعد الهجمات على خط أنابيب «نورد ستريم 1» تحت بحر البلطيق (نُسبت آنذاك إلى عناصر تخريبية أوكرانية) في خريف 2022، انخفض تدفّق الغاز الروسي إلى أوروبا.
وعلى الرغم من الاستثناءات التي مُنحت لصادرات الطاقة الروسية من العقوبات، فإنّ أسواق السلع الأساسية شهدت اضطراباً عنيفاً بفعل صدمة الحرب. وأسفر ذلك عن أشدّ صدمة في أسعار الطاقة داخل الولايات المتحدة منذ سبعينيات القرن الماضي، دفعت مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى تنفيذ أسرع موجة من رفع أسعار الفائدة منذ «صدمة فولكر» في الثمانينيات. يُعدّ الدولار السعر الأشد تأثيراً في النظام المالي العالمي. وقد تسبّب مساره التصاعدي إلى أعلى مستوى له منذ 20 عاماً بزعزعة ميزانيات الدول والشركات في مختلف أنحاء العالم. وعلى عكس الاتجاه الذي ساد لعقود، أصبحت أسعار السلع الأساسية - ومعظمها مقوّم بالدولار مرتبطة إيجابياً بالعملة الأميركية بداية من العام 2021.[12] وبفضل الطفرة في إنتاج النفط الصخري، باتت الهيدروكربونات الأميركية تمثّل أكثر من خمس الإمدادات العالمية، ما يجعل قطاع النفط والغاز في الولايات المتحدة الأكبر في العالم. وفي تقاطع غير مألوف (ما أدعوه «الدولار الهيدروكربوني») باتت العملة العالمية المهيمنة تُظهر خصائص شبيهة بعملات كبار مصدّري السلع الأساسية كأستراليا وكندا، على الرغم من أنّ حصة السلع من صادرات الولايات المتحدة أقل بكثير.
فيما يتصل بالولايات المتحدة، حسَّنَت أسعار السلع المرتفعة في العام 2022 تحسّناً طفيفاً معدّل التبادل التجاري (نسبة أسعار الصادرات إلى أسعار الواردات)، فخفّفت بعض الأعباء عن العجز التجاري الأميركي الذي أثقلته الخسائر الكبيرة في ميزان تجارة السلع. ومع أنّ صعود الدولار ألحق ضرراً بقطاع التصنيع الأميركي وأسهم في تسجيل عجز غير مسبوق في الحساب الجاري تجاوز التريليون دولار، فإنّ أكبر المستفيدين من ارتفاع أسعار السلع بالدولار كانت صناعة النفط والغاز الأميركية.
في ظلّ مزيج متقلّب من التضخّم، ورفع أسعار الفائدة، وارتفاع قيمة الدولار، ارتدّت الصدمات على الاقتصاد العالمي بأسره، فوجدت كثير من الدول النامية - المعتمدة على استيراد السلع الأساسية وعلى القروض المقوّمة بالدولار - نفسها عاجزة عن الإيفاء بفواتيرها الخارجية. بين العامين 2022 و2023، جذبت أسعار الفائدة المرتفعة وقوّة الدولار ما نسبته 41% من التدفقات المالية العالمية إلى الولايات المتحدة. وبينما حصدت البنوك الأميركية تريليون دولار صافٍ من أرباح رفع أسعار الفائدة التي نفّذها الاحتياطي الفيدرالي، أنفقت بلدان الدخل المنخفض والمتوسط مبلغاً قياسياً بلغ 1.4 تريليون دولار في خدمة ديونها الخارجية. وقد استطاعت دولٌ غنية مثل ألمانيا وبريطانيا تخفيف الأعباء عن كاهل الأسر من خلال تقديم دعم للطاقة، لكنّ البلدان النامية أُقصيت فعلياً من أسواق الائتمان الدولية. ولمّا لم تجد بدّاً من اللجوء إلى قروض صندوق النقد الدولي، اضطُرّت إلى الانصياع لإملاءاته، وفي طليعتها خفض دعم الوقود. فتقليص الدعم هو في آخر المطاف أسرع وسيلة أمام أيّ حكومة مدينة لتُثبت التزامها بخفض عجز الميزانية العامة، وهو بالتأكيد أسهل بكثير من إصلاح الأنظمة الضريبية. وإذ إنّ الضبط المالي شرط دائم في وصفات الصندوق، فقد وجدت بلدان الجنوب نفسها عالقة بين المطرقة والسندان.
كما تبيّن لاحقاً، فقد أدّت الصدمة الثلاثية في أسعار السلع والدولار وأسعار الفائدة، مضافة إلى الضغوط المالية الناتجة عن الجائحة، إلى دفع 97 بلداً من أصحاب الدخل المنخفض والمتوسط إلى طلب قروض من صندوق النقد الدولي والحصول عليها بين العامين 2022 و2024، وهو عدد غير مسبوق في تاريخ هذه المؤسسة التمويلية. لكنّ الدعم الذي قدّمه الصندوق جاء مكلفاً لكثير من هذه البلدان؛ فإلى جانب الشروط السياسية المرافقة للقروض، يتجاوز أكثر من 80% من تمويلات الصندوق حدود الإقراض التفضيلي، إذ تفرض القروض في كثير من الحالات رسوماً إضافية وأعباءً مالية جسيمة. حتى أوكرانيا، على الرغم من كونها تحت القصف الروسي، خضعت لقرضٍ بقيمة 15.6 مليار دولار من الصندوق شمل هذه الرسوم الإضافية (على الرغم من أنّها كانت قد حصلت بحلول آب/أغسطس 2022 على مهلة مؤقتة لتعليق سداد ديونها الخارجية). ولم يُقدِم الصندوق على تخفيض الفوائد على والرسوم الإضافية وغيرها من الرسوم إلا في أواخر العام 2024، بعد حملات واسعة نُظّمت ضدّ سياسة الرسوم الإضافية لديه. وسيستفيد من هذا التحوّل أكثر المدينين للصندوق، وعلى رأسهم الأرجنتين وأوكرانيا التي ستُخفّض عليها الرسوم الإضافية بنحو 40%، إلى جانب مصر والإكوادور.
تجاوزت تدخلات المجتمع الدولي في حالة أوكرانيا حدود المألوف؛ ففي مكاتب شركة «روتشيلد وشركاه»، المستشار القانوني لأوكرانيا في باريس، وبدعمٍ فني متواصل على مدار الساعة من موظفي صندوق النقد الدولي، نجحت كييف في الحصول على خفض في أصل الدين بلغت نسبته 37% من قيمة سنداتها الدولية، البالغة نحو 20.5 مليار دولار، والمملوكة من قِبل مديرين كبار للأصول مثل «بلاك روك» و«أموندي» وغيرهما. كانت تلك واحدة من أسرع وأضخم عمليات إعادة هيكلة الديون السيادية في التاريخ الحديث، لا يتفوّق عليها حجماً سوى ما حصلت عليه كل من اليونان والأرجنتين. وبعد شطب جزء من الديون الأوكرانية، باتت أوكرانيا قادرة على مواصلة تلقي التمويل من صندوق النقد. بيد أنّ دعم الصندوق، مهما بدا سخيّاً، لا يُقارن بالمساعدات المالية الأميركية التي بلغت 35 مليار دولار بين عامي 2022 و2023. وكما هو الحال مع قروض الصندوق المشروطة، لم تأتِ المساعدات الأميركية بلا أثمان؛ إذ أُعيد تدوير جزء غير معلوم من تلك الدولارات إلى الوكالات والشركات الأميركية، من بينها العملاقان «بلاك روك» و«جي بي مورغان تشايس»، اللذين تعاقدت معهما الحكومة الأوكرانية لتصميم آلية إعادة الإعمار بعد الحرب، المعروفة باسم «صندوق تنمية أوكرانيا». وهكذا، بعيداً من الصفحات الأولى للصحف، بات مديرو الأصول الأميركان، والشركات القابضة المصرفية، ومستشارو الثروات الخاصة، أصحاب القرار في شكل المالية العامة في أوكرانيا.
تقليص الدعم هو في آخر المطاف أسرع وسيلة أمام أيّ حكومة مدينة لتُثبت التزامها بخفض عجز الميزانية العامة، وهو بالتأكيد أسهل بكثير من إصلاح الأنظمة الضريبية
في مواجهة معضلاتها الخاصة، حصلت مصر، على غرار أوكرانيا، على تمويلات طارئة من مصادر متعدّدة. وقد تدفقت الدولارات على القاهرة بعد أن شهدت أوضاعها المالية، التي كانت تعاني أصلاً منذ الجائحة، تدهوراً سريعاً في أعقاب السابع من أكتوبر 2023. وبسبب حدودها المشتركة مع قطاع غزّة، تعرّض الاقتصاد المصري لتأثيرات مباشرة من الحملة العسكرية الإسرائيلية، من بينها اضطرابات في حركة الشحن التجاري. وفيما كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تمطر أجزاء من غزة بالقنابل، شنّ مقاتلو جماعة الحوثي في اليمن (تعبيراً عن تضامنهم مع الفلسطينيين) هجمات على سفن تجارية في البحر الأحمر. ومن الجدير بالذكر أن اليمن نفسه كان قد تعرّض، بين عامي 2015 و2022، لأكثر من 25 ألف غارة جوية نفذها تحالف تقوده السعودية والإمارات. وقد شاركت في حملة القصف تلك أيضاً كل من مصر والأردن وقطر، بينما وفّرت الولايات المتحدة وبريطانيا الدعم اللوجستي والفني.
بينما ركّز مقاتلو الحوثي على إلحاق أضرار اقتصادية بإسرائيل مثل تعطيل شحنات البضائع المتجهة إليها، استهدفت هجماتهم أيضاً ناقلات غاز طبيعي مسال قادمة من قطر في طريقها إلى أوروبا عبر قناة السويس. ونتيجة لتحويل مسارات السفن بعيداً من السويس، تراجعت إيرادات حركة الشحن التجاري بنسبة 70% وتسببت بانخفاض حاد في مصادر النقد الأجنبي لمصر. وبعد أن تحمّلت مصر ديوناً ضخمة لمواجهة صدمة الأسعار في العام 2022، تسبّب جفاف عائدات القناة في وصول الإنفاق على خدمة الدين إلى نصف الإيرادات العامة للدولة.
في خضم هذه الحالة المتأججة، لجأت السلطات المصرية إلى ورقتها المألوفة. وبعد أن روّجت لنفسها وسيطاً محورياً بين إسرائيل وحماس، وبعد أن سبق أن نالت استحقاقها كحليف لأبو ظبي في خلال الربيع العربي، قدّمت القاهرة نفسها من جديد بوصفها شريكاً استراتيجياً لا يمكن السماح بانهياره. ومع التلويح بإمكانية قبول موجة من اللاجئين الفلسطينيين في سيناء بدأت الدولارات تتدفق. وكان أول الواصلين مليارات الدولارات من استثمارات صندوق «أبوظبي القابضة»، أحد صناديق الثروة السيادية في أبوظبي. وقد منحت شروط الاتفاق «القابضة» حقوق تطوير منطقة رأس الحكمة، وهي واجهة بحرية ضخمة على المتوسط. وفي مقابل حصة لا تصل إلى الأغلبية في المشروع، حصلت الحكومة المصرية على دفعة نقدية فورية قدرها 24 مليار دولار (من أصل استثمار إجمالي يبلغ نحو 35 مليار دولار).
وقد شكّل هذا الاتفاق بوابة مصر إلى خط ائتمان جديد من صندوق النقد الدولي، إذ مكّنت استثمارات «القابضة» السلطات المصرية من استيفاء ما يُعرف في أدبيات الصندوق بـ«ضمانات التمويل الخارجي». ووفقاً لمتطلبات «استدامة الدين» لدى الصندوق، يتعيّن على الدول المقترضة إثبات قدرتها على الوصول إلى مصادر تمويل خارجية أخرى كي تحظى بقرض من الصندوق. وقد أفضت دفعة أبوظبي النقدية البالغة 24 مليار دولار إلى اتفاق سريع على قرض معزَّز مع مصر في آذار/مارس 2024 بلغت قيمته 8 مليارات دولار. وبعد ذلك بفترة وجيزة، حطّت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في القاهرة، حاملة حزمة منح وقروض بقيمة 7.4 مليار يورو (8.1 مليار دولار)، قبل أن تعود مجدداً بعد شهر للمشاركة في مؤتمر استثماري، تعهّدت خلاله شركات أوروبية بإبرام صفقات مع شركاء مصريين بقيمة 40 مليار يورو. أما بريطانيا، فسارت على الدرب نفسه بحزمة تمويلية أصغر.
عاد الحديث عن تنمية المنطقة الاقتصادية لقناة السويس إلى الواجهة، ومعه ملف الطاقة. (يشكّل كل من الوقود المكرّر والغاز النفطي أهم صادرات مصر). كما طُرح بند جديد على الطاولة: تمويل إضافي للأجهزة الأمنية المصرية بغرض ضبط تدفّق المهاجرين نحو أوروبا. وإذا أضفنا إلى ذلك نحو 10 مليارات دولار كانت السعودية قد أودعتها في البنك المركزي المصري في 2022 لدعم ميزان المدفوعات، فإنّ حزمة الإنقاذ الدولية تناهز 57 مليار دولار. وبموازاة رفع وكالات التصنيف الائتماني تقديراتها لمستقبل الاقتصاد المصري، ضغط المستثمرون لإعادة إدراج مصر في مؤشر «جي بي مورغان» الخاص بأسواق الدين السيادي الناشئة، وهو ما من شأنه أن يتيح لها اجتذاب استثمارات من الصناديق غير النشطة التي تميل إلى الاحتفاظ طويلاً بأدوات الدين السيادي وتكون في الغالب من بين كبار حملة السندات. (أُخرِجَت مصر من المؤشر مرتين في السابق).
وكما في كل مرة، لم تأتِ الإغاثة الطارئة بلا أثمان. أول هذه الأثمان كان رفع أسعار الفائدة. ففي استجابة لمطالب صندوق النقد الدولي، أقدم البنك المركزي المصري، في أواخر شباط/فبراير 2024، على رفع أسعار الفائدة (المرتفعة بالأصل عند 21%) بمقدار مذهل بلغ 600 نقطة أساس. وسمح البنك المركزي بانخفاض قيمة الجنيه، على الرغم من تعهّدات الرئيس عبد الفتاح السيسي السابقة بالحفاظ على استقرار سعر الصرف «لدواعٍ تتصل بالأمن القومي». وفي 6 آذار/مارس، انهارت قيمة الجنيه بنسبة 62% قبل أن يستعيد جزءاً من خسائره ويغلق عند تراجع قدره 38% مقابل الدولار. ولإثبات الجدية في ضبط المالية العامة، وافق صنّاع القرار في مصر على تقليص الإنفاق المخطط على مشروعات البنية التحتية.
تُجسِّد تجربتا مصر وأوكرانيا راهنية «الشروط القصوى»، وهي دينامية ارتبطت بأواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وفصّلها المؤرّخ الاقتصادي ديداك كويرالت، وتشير إلى ما تفعله الدول الناشئة المهددة بالتخلّف عن سداد ديونها الخارجية حين ترهن أصول الدولة مقابل مديونية خارجية جديدة. وقد صاغت الاقتصادية السياسية روزا لوكسمبورغ، قبل أكثر من قرن، طرحاً أكثر جذرية لهذا التصوّر. ففي عملها الأهم تراكم رأس المال، كتبت أنّ القروض الخارجية لعملية شقّ قناة السويس كانت طريق مصر إلى قبضة دائنيها الأوروبيين. وقالت إنّ السويس «شكّلت النواة» لما أصبح لاحقاً «الدين العام المصري الهائل، ومهّدت لاحتلالها عسكرياً من قِبل بريطانيا». وأشارت لوكسمبورغ، بنبرة لا تخلو من مرارة، إلى أن عجز مصر المالي لم يكن رادعاً للمموّلين الأوروبيين عن ضخّ المزيد من القروض. ومثلما هو الحال اليوم، فإن تَورُّط مصر في مديونية ثقيلة لصالح دائنيها الأجانب عزّز اختراق رأس المال الأوروبي للمالية المصرية. ومع الوقت، بات يعني هذا أنّ الأراضي المصرية صارت ضمانة للدين العام المملوك للدائنين الأجانب، أو تنتزعها ببساطة السلطات البريطانية على سبيل دفع كلفة الاحتلال، أو «البقشيش». أما الفائدة الاسمية على القروض المصرية في 1874، وقد وصفتها لوكسمبورغ بأنها «باهظة» عند 9%، فهي لا تُقارن اليوم بسعر الفائدة القياسي في مصر، وقد تجاوز 27%.
2. انتقال في الهيمنة
في الواقع، لطالما شكّلت الشروط المرافقة للمساعدات الخارجية شكلاً من أشكال الإكراه الاقتصادي تمارسه الدول القوية. فالمعونة المالية الأميركية لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، المعروفة اختصاراً باسم «خطة مارشال»، كانت مثالاً صارخاً على تداخل المصالح الاقتصادية الأميركية مع اعتبارات الأمن القومي. فقد كان بروز كتلة شيوعية موحّدة في أوروبا يُهدّد النفاذ الأميركي إلى الأسواق الأوروبية. وكان إنعاش هذه الأسواق وسيلة فعّالة لامتصاص فائض الإنتاج («القدرة الزائدة») في الاقتصاد الأميركي، حيث كانت أنماط توزيع الدخل فيه غير متوازنة، تكبح الاستهلاك الداخلي - على نحو يشبه الحالة الصينية اليوم. وبالتالي، لم تكن «خطة الإنعاش الأوروبي» مجرد تمويل لإعادة الإعمار بعد الحرب، بل صُمّمت بحيث تشتري أوروبا بضائع وخدمات أميركية. وفي نهاية المطاف، استُخدم نحو 70% من أموال خطة مارشال لشراء منتجات من الولايات المتحدة، بما في ذلك معدات رأسمالية لبناء أول محطة أوروبية للطاقة الحرارية الجوفية في توسكانا.
خُصِّص أكثر من ربع مساعدات «خطة الإنعاش الأوروبي» (13.3 مليار دولار آنذاك، أو نحو 200 مليار بأسعار اليوم) لبريطانيا وحدها. جاءت دولارات خطة مارشال بُعيد سنوات قليلة من اتفاقية التمويل الأنغلو-أميركية في كانون الأول/ديسمبر 1945، بموجبها قدّمت واشنطن قرضاً بقيمة 3.75 مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد البريطاني المتهالك، إلى جانب 650 مليون دولار أخرى لتسوية ديون «الإعارة والتأجير» الحربية. لكن في بريطانيا، أُثير امتعاض واسع من كون المساعدات الأميركية تأتي في صورة قروض بفائدة. وعلى الرغم من أنّ واشنطن كانت قد زوّدت الحلفاء (بمن فيهم السوفيات) بالمعونة التي ساهمت في الانتصار، كما عبّر وزير الخارجية البريطاني قائلاً إن الحرب حُسمت على «موجة من النفط الأميركي»، فالولايات المتحدة لم تدخل الحرب إلا متأخراً في كانون الأول/ديسمبر 1941. رأى كثير من البرلمانيين البريطانيين أن بلادهم هي من حملت العبء الأكبر من المجهود الحربي، وعليه استاؤوا من تعامل واشنطن مع الدَّين البريطاني بمنطق الصفقات التجارية. (على أن هذه النظرة البريطانية كانت، بطبيعة الحال، جزئية؛ إذ لولا التقدّم السوفياتي على الجبهة الشرقية، لما أمكن للحلفاء كسب الحرب).
أدّت الصدمة الثلاثية في أسعار السلع والدولار وأسعار الفائدة، مضافة إلى الضغوط المالية الناتجة عن الجائحة، إلى دفع 97 بلداً من أصحاب الدخل المنخفض والمتوسط إلى طلب قروض من صندوق النقد الدولي والحصول عليها بين العامين 2022 و2024
دارت نقاشات في البرلمان البريطاني عما إذا كان يجب قبول القرض الأميركي لعام 1945 أصلاً، نظراً لما عُدّ شروطاً غير سخية. فقد نصّ عقد القرض على تفكيك بريطانيا لنظامها التجاري التفضيلي المعروف بمنطقة الإسترليني، لكن ما أثار مزيداً من القلق في الأوساط السياسية كان طلب تقليص مديونية بريطانيا الخارجية. ففي تموز/يوليو 1944، كانت ديون بريطانيا لدول منطقة الإسترليني تُقدّر بنحو 12 مليار دولار اسمياً، أي أكثر بكثير مما كانت مدينة به للولايات المتحدة نفسها. وقد نصّ عقد القرض الأميركي صراحة على أنّ الدولارات المقترضة لا يجوز استخدامها لسداد أي التزامات خارجية أخرى. وكما اتضح في مؤتمر بريتون وودز في العام 1944، مالت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا إلى طيّ ملف أرصدة الإسترليني. ومثلما ستتكرر الحال لاحقاً في نمط المساعدات المالية الأميركية الخارجية، اشترط القرض أن تُستخدَم الدولارات الأميركية لتسهيل شراء بريطانيا للسلع والخدمات الأميركية.
وعلى الرغم من ما شاب عملية التفاوض من خلافات حادة، لم يفلح القرض الأميركي في تدعيم المالية البريطانية، إذ نفدت أمواله بعد عامين، على نحو أدهش صانعي السياسات على ضفتي الأطلسي. ويُعزى هذا الاستنزاف السريع للدولارات إلى أحد شروط القرض، أي اشتراط جعل الجنيه الإسترليني قابلاً للتحويل الكامل، وتسبب هذا الشرط بنزيف سريع في احتياطات بريطانيا من النقد الأجنبي، إذ بادر المستثمرون إلى التخلص من الجنيه فور رفع ضوابط الصرف عن المعاملات التجارية البريطانية في تموز/يوليو 1947. ولمنع تدهور إضافي في قيمة الجنيه، أعادت بريطانيا فرض ضوابط الصرف في آب/أغسطس من العام نفسه، لكن ليس قبل أن تنال إذناً بذلك من دائنيها في واشنطن.
لقد أضرّت الحربان العالميتان ميزانيات بريطانيا. فبعد أن كانت دائناً دوليّاً صافياً قبل الحرب العالمية الأولى، خرجت من الحرب الثانية كأكبر الدول المدينة سيادياً. وفي عالم كانت فيه النقود، في نهاية المطاف، تستند إلى الذهب، أضعفت مديونية بريطانيا آفاق الجنيه الإسترليني. وكانت التجربة البريطانية الممتدة على قرنٍ من الزمن مع قاعدة الذهب قد انتهت بطبيعة الحال في سنوات ما بين الحربين؛ ففي العام 1919، أسفرت الضغوط المالية المستمرة عن إعلان الخزانة البريطانية رسمياً تعليق قابلية تحويل الجنيه إلى الذهب. أما محاولات إعادة ربط الجنيه بالذهب عند سعر ما قبل الحرب، فقد تسببت في انكماش مالي، وانتهت بالتخلي عنها عقب انهيار وول ستريت في العام 1929. وعلى الرغم من أنّ نيويورك كانت قد تجاوزت لندن كمركز مالي عالمي مهيمن منذ العشرينيات، وأنّ الطاقة التصنيعية الأميركية تفوّقت بكثير على نظيرتها البريطانية عند مشارف ما بعد الحرب، فقد استغرق الأمر بعض الوقت قبل أن يُزيح الدولارُ الجنيهَ الإسترليني من موقعه كعملة مهيمنة في الاحتياطات والتجارة الدولية. وحتى العام 1957، كان الجنيه يُستخدم في تمويل قرابة نصف التجارة العالمية.
لقد تطلّبت حماية الجنيه الإسترليني من تغوّل الدولار قدراً كبيراً من المناورة الجيوسياسية. ولم تكن الإدارة المالية في لندن غريبة عن هذه الألاعيب النقدية، إذ صقلت أدواتها منذ زمن طويل في مستعمراتها. ففي مطلع القرن العشرين، نقلت السلطات الاستعمارية احتياطات الهند من الذهب (الخاصة بنظام قاعدة الذهب) إلى لندن، وحوّلتها إلى وسادة نقدية لدى بنك إنكلترا. وقد جرى تحويل ذهب الهند تدريجياً إلى سندات دين مقوّمة بالإسترليني، فصار مصدراً رخيصاً للسيولة تصبّ في شرايين حيّ المال في لندن. ومع إنهاء قابلية تحويل الجنيه إلى الذهب في العام 1919، بدأت الدول المنضوية ضمن «المنطقة الإسترلينية» غير الرسمية - وكانت تميل إلى إيداع احتياطاتها من النقد الأجنبي في لندن - بالتحوّل من ربط عملاتها بالذهب إلى ربطها بالإسترليني. وبحلول الثلاثينيات، تقلّص هذا التجمّع الفضفاض إلى دول الكومنولث (باستثناء كندا)، مع بقاء عدد قليل من البلدان ضمنه، منها مصر وفلسطين والسودان وشرق الأردن. وقد أدّت الحرب العالمية الثانية فعلياً إلى الشروع في تطبيق ضوابط على الصرف داخل الكتلة الإسترلينية، ليجري لاحقاً تقنين «منطقة الإسترليني» لتصبح كياناً قانونياً في العام 1940.
إنّ الرسوم الجمركية التي فُرضت في العام 1932 على الواردات المصنّعة، والتي جرى بموجبها منح أستراليا وكندا وسائر الدومينيونات امتيازات خاصة في الوصول إلى السوق البريطانية مقابل خفض تعريفاتها الجمركية، شكّلت بلا شك نموذجاً يُحتذى في رسم سياسات منطقة الإسترليني. وقد أصبح تسليح العلاقات التجارية سمة مألوفة في الاقتصاد العالمي المعاصر. فممارسة الضغط القسري على الشركاء التجاريين تمثّل، بطبيعة الحال، عنصراً مركزياً في طموحات الرئيس ترامب في ولايته الثانية. إذ أعلن عزمه التفاوض على خفض الرسوم الجمركية مع الشركاء التجاريين بشرط أن ينقلوا جزءاً من إنتاجهم الصناعي (عبر الاستثمار الأجنبي المباشر) إلى داخل الولايات المتحدة. غير أنّ هذا النهج لم يغب حتى في عهد إدارة بايدن؛ فبينما روجت وزيرة الخزانة جانيت يلين لمفهوم «الصداقة في سلاسل التوريد» - أي تعزيز الروابط التجارية مع الحلفاء الجيوسياسيين - انتهج مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، سياسة أشد صرامة تُعرف بـ«الحديقة الصغيرة والسياج العالي»، تقوم مثلاً على حظر واردات الولايات المتحدة من الرقائق الإلكترونية المتقدمة القادمة من الصين. وبالتوازي مع فرض قيود على التصدير، كثّفت إدارة بايدن العقوبات الأميركية على الكيانات الصينية، مواصلةً بذلك، بل ومُصعّدة، الهجمة الاقتصادية التي بدأها ترامب في ولايته الأولى.
أما بصدد سياسات منطقة الإسترليني، فقد جاءت أدوات الضبط المالي مكمّلة للممارسات التجارية القسرية. إذ إنّ تعزيز نواة منطقة الإسترليني تطلّب وجود احتياطي مشترك من العملات الصعبة. وبناءً عليه، جمعت الدول الأعضاء في منطقة الإسترليني إيراداتها من النقد الأجنبي (بما في ذلك الجنيهات الإسترلينية من تصدير السلع إلى بريطانيا) وأودعتها جماعياً في بنك إنكلترا. وقد فرضت السلطات البريطانية ضوابط صارمة على وصول هذه الدول إلى احتياطاتها من العملات الأجنبية. فبينما كانت تحويلات الإسترليني داخل المنطقة مسموحاً بها، كانت التدفقات النقدية بين منطقة الإسترليني والمناطق الخارجة عنها خاضعة لتنظيم صارم. أما الدول التي تختار الخروج من منطقة الإسترليني، فكانت تخسر امتياز الوصول إلى منطقة تجارية تفضيلية (وتُواجَه برسوم جمركية أعلى)، فضلاً عن حرمانها من سهولة التمويل عبر أسواق رأس المال العميقة والسائلة في لندن.
كانت ودائع الذهب والدولار العائدة لدول منطقة الإسترليني، فضلاً عن الأموال المستحقّة لها على بريطانيا (مقابل وارداتها من تلك الدول)، مُحتجَزة في لندن. وقد سُجّلت هذه الأرصدة، بأسلوب مُبهم نوعاً ما، في الحسابات المالية البريطانية تحت بند يُعرف بـ«أرصدة الإسترليني». وبحلول العام 1945، كانت القيمة الإجمالية لأرصدة الإسترليني تفوق احتياطات بريطانيا من الذهب والدولارات بـ 7 أضعاف. وقد أفاد الاقتصادي البريطاني البارز، اللورد جون ماينارد كينز، أمام مجلس اللوردات في العام نفسه، كانت ثلثي هذه الأرصدة مستحقّة لكلٍّ من الهند ومصر وفلسطين وإيرلندا.
لقد سبق الموقف الأميركي الداعي إلى تفكيك منطقة الإسترليني اتفاق القرض الأنغلو-أميركي لعام 1945. وفي اجتماعات بريتون وودز في تموز/يوليو 1944، أعاد الأميركان التعبير عن استيائهم من السياسات التجارية الحمائية التي تنتهجها بريطانيا. إذ كانت منطقة الإسترليني منافية لروح التعددية التي سعت الولايات المتحدة إلى ترسيخها بعد الحرب من خلال مفاوضات بريتون وودز - وذلك بإقامة نظام تجاري ونقدي عالمي جديد قائم على الدولار. وعلى الرغم من الهالة التعددية التي أحاطت بمؤتمر بريتون وودز، فإنّ النقاشات الجوهرية عن مستقبل النظام الاقتصادي العالمي كانت محصورة في الغالب بين الوفدين الأميركي والبريطاني، بقيادة كبير مسؤولي الخزانة الأميركية هاري دكستر وايت، ومن الجانب البريطاني، جون ماينارد كينز.
كانت الحالة البائسة للمالية البريطانية، ولا سيما التزاماتها الخارجية الضخمة (أرصدة الإسترليني)، تقيّد قدرة كينز على التفاوض مع وايت. ففي العام 1941، دعا كينز إلى أن تُموَّل هذه الأرصدة - ربما بمساعدة أميركية - أو أن تبقى مجمّدة كما كان عليه الحال في خلال الحرب. وقد أخذ وايت ذلك بالحسبان، وسعى إلى كسب دعم بريطانيا لنظام نقدي عالمي جديد قائم على الدولار، من خلال تقديم تنازل جزئي عن ديونها المستحقة لدول منطقة الإسترليني. وكانت الحصة الأكبر من أرصدة الإسترليني المجمّدة أو «المحجوبة» - أي ما يزيد عن ثلث المبلغ الإجمالي البالغ نحو 12 مليار دولار (اسمياً) في تموز/يوليو 1944 - مستحقّة للهند. واحتلت مصر المرتبة الثانية بعد الهند، بأرصدة مجمّدة بلغت قيمتها مليار دولار.
في بريتون وودز، جرى تجاهل مطالب الوفد الهندي بتحويل جزء من أرصدة الإسترليني المحجوبة إلى دولارات لتمويل واردات الغذاء. وكانت مجاعة البنغال - الناتجة عن سياسات خنق الطلب التي فُرضت لتمويل الإنفاق الحربي للحلفاء - قد تسببت بتراجع مروّع في استهلاك الغذاء في الهند، وأسفرت عن تسجيل 1.5 مليون حالة وفاة في خلال عامي 1943 و1944 وحدهما. وفي خضمّ الخلافات الأنغلو-أميركية عن ملامح النظام النقدي الدولي الجديد، رفض كينز المقترحات التي تقدّمت بها كلّ من الهند ومصر لتسوية ثلاثية (تضمّ الولايات المتحدة) بشأن أرصدتهما المحجوبة من الإسترليني، والبالغة نحو 5 مليارات دولار، وأصرّ على تسويات ثنائية بين بريطانيا وكل دائن على حِدة. وكان كينز على دراية تامة بأنّ العجز المالي البريطاني سيؤدّي إلى مزيد من انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني، وبالتالي تقليص حجم الأرصدة المستحقّة على بريطانيا.
بعد أن تحمّلت مصر ديوناً ضخمة لمواجهة صدمة الأسعار في العام 2022، تسبّب جفاف عائدات القناة في وصول الإنفاق على خدمة الدين إلى نصف الإيرادات العامة للدولة
في 14 آب/أغسطس 1947، جرى التوصّل في لندن إلى تسوية حدّدت أرصدة الإسترليني العائدة لشبه القارّة الهندية التي كانت قد خرجت تواً من التقسيم. أُعيدت هذه الأموال إلى الهند وباكستان على دفعات متقطعة. لكن دائني إنكلترا (أي مستعمراتها السابقة) لم يحصلوا على كامل مستحقاتهم. احتفظت لندن بزمام المبادرة في الخلافات المرتبطة بمساعدات الإعارة والتأجير للهند (وكان كينز قد جادل بأنّ على الهند تسديدها لبريطانيا)، وفي ملف الفوائد المتراكمة على أرصدة الإسترليني، ورسملة المعاشات التقاعدية المستحقّة لضبّاط الإدارة الاستعمارية. وقد زاد من تآكل هذه الأرصدة ما لحق بها من خسائر بسبب تقلبات سعر الصرف؛ إذ لم تكن أرصدة الإسترليني الخاصة بشبه القارّة محمية بأي بند يوفّر الحماية من انخفاض قيمة العملة، فتعرضت لضربة إضافية عند الانخفاض الحاد للجنيه الإسترليني في العام 1949.
3. نهاية الإمبراطورية
لم يمضِ على بريطانيا سوى أقل من 10 سنوات على انسحابها المتعجّل من الهند، حتى تلقّت صفعة جديدة في الشرق الأوسط تمثّلت في أزمة السويس. فقد كانت أزمة العام 1956 كفيلة بأن تُشعل فتيل «كل مكوّن تقريباً من مكوّنات السياسة العالمية». وكان لجهود إعادة الإعمار بعد الحرب والتسلّح من جديد أثر بالغ في نموّ سوق النفط بوتيرة سريعة، وفي تفاقم النقص الحاد في الدولار داخل أوروبا. وفي العام 1947، أصرّت بريطانيا على أن تتخلّى القاهرة عن جزء من أرصدة الإسترليني المدينة بها لمصر. (وقد كشف ونستون تشرشل، في كلمة ألقاها أمام البرلمان في آذار/مارس 1951، تأييده هو الآخر، حين كان رئيساً للوزراء، للتنصّل من المطالبات المالية المصرية). وحين طالبت مصر بالإفراج السريع عن أرصدتها المحجوبة من الإسترليني، واجهتها لندن بإنذار أخير: إما أن تغادر منطقة الإسترليني وتأخذ معها جزءاً من أرصدتها أو تبقى وتُحجب عنها الأرصدة كاملة. وهكذا، وبعد أن دفعت بريطانيا مصر فعلياً إلى الخروج من منطقة الإسترليني في تموز/يوليو 1947 - بينما نسجت رواية تزعم أنّ القرار قرار مصري - أقدم بنك إنكلترا على تقليص المبلغ الموعود لها من أرصدة الإسترليني المصرية. وكما حدث مع أرصدة الهند التي بقيت عالقة في لندن، فقد خسرت أرصدة مصر أيضاً جزءاً كبيراً من قيمتها بفعل تخفيض سعر صرف الجنيه في العام 1949.
كان النفط أكبر سلعة متداولة في التجارة العالمية في خلال منتصف القرن العشرين. وكان ثلثا النفط المتجه إلى أوروبا يمر عبر قناة السويس، وثلاثة أرباع واردات بريطانيا من النفط كانت تأتي من الشرق الأوسط. وكانت القوات البريطانية متمركزة منذ زمن طويل في منطقة قناة السويس، حيث كانت شركة القناة الأنغلو-فرنسية تجبي الرسوم من السفن المارة عبر المضيق. وقد توزعت احتياطيات النفط الخام (خارج الولايات المتحدة وأوروبا الشرقية) في الغالب بين الشركات الأميركية والبريطانية. وفي العام 1949، قدّرت الحكومة البريطانية أنّ نصف العجز الدولاري لمنطقة الإسترليني مردُّه واردات النفط، وربع هذا العجز تحديداً سببه إنفاق دول المنطقة على نفط تنتجه شركات أميركية، مثل شركة النفط العربية الأميركية (أرامكو). وفي العام 1950، أصدرت بريطانيا أمراً لأعضاء منطقة الإسترليني بتقليص مشترياتهم من «النفط الدولاري» الأغلى ثمناً، والتحوّل إلى شراء «النفط الإسترليني» بدلاً منه. كانت هذه السياسة فعلياً تُلزم دول المنطقة بشراء النفط من شركة (أنگلو-إيرانيان أويل كومباني) ولبريطانيا فيها حصة الأغلبية، وهي الشركة التي ستُعرف لاحقاً ببريتيش بتروليوم أو بي پي.
شكّلت الاحتياطيات الدولارية لدى دول منطقة الإسترليني درعاً ماليّاً يقي بريطانيا من تقلبات ميزان مدفوعاتها الخارجي؛ إذ كان يمكن استخدام تلك الدولارات (ببيعها) للدفاع عن الجنيه (بشرائه) في حال تعرّضه لتخفيضات مستقبلية في سعر الصرف. وإلى جانب ذلك، كانت التوسّعات المتوقّعة في إنتاج النفط الإيراني الخاضع للسيطرة البريطانية تتطلّب أسواقاً صديقة تستوعب هذا الفائض. وعلى الرغم من أنّ مصر كانت قد غادرت رسمياً منطقة الإسترليني، فإنّها واصلت شراء النفط المقوّم بالإسترليني؛ إذ أدرك صنّاع القرار فيها أنّ استمرار العلاقات التجارية مع بريطانيا من شأنه أن يُعزّز فرصهم في استعادة ما تبقّى لمصر من أرصدة الإسترليني.
لكنّ القول إنّ السنوات التي سبقت أزمة السويس كانت حافلة بالأحداث لا يفي المشهد حقّه. فقد تسبب قيام دولة إسرائيل وما تلاه من تهجير واسع للشعب الفلسطيني (النكبة) في إشعال اضطرابات إقليمية كبرى. واحتجاجاً على ذلك، رفضت السعودية السماح بعبور السفن الإسرائيلية عبر قناة السويس. وفي العام 1949، بعدما حاولت إسرائيل إنشاء ميناء على خليج العقبة لتأمين منفذ بحري إلى الأسواق الآسيوية، فرضت مصر، بالتنسيق مع السعودية، حصاراً على عبور السفن الإسرائيلية في الخليج، ما حال دون تسليم النفط من مصفاة حيفا المملوكة لبريطانيا، وأجبرها على العمل بربع طاقتها التشغيلية لا أكثر.
دلّ الحصار المصري على قدرة الدول العربية على تعطيل المصالح النفطية الغربية والإسرائيلية. وقد شجّع نجاح هذا التحرك على خطوات أجرأ في ميدان الطاقة. ففي العام 1951، أقدم رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدّق على تأميم أصول شركة النفط الأنغلو-إيرانية. وردّاً على ذلك، فرضت الحكومة البريطانية حظراً على صادرات النفط الإيراني. وبحلول العام 1953، أطاحت عملية سرّية دعمتها أجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية بمصدق من منصبه، ومهّدت الطريق لحلول الشاه محله. وعلى إثر هذا استحوذت الولايات المتحدة على حصة تجاوزت 40% في الكونسورتيوم الغربي الذي تولّى السيطرة على النفط الإيراني.
في العام 1954، وقّع الرئيس المصري جمال عبد الناصر الاتفاقية الأنغلو-مصرية، ضمنت انسحاب القوات البريطانية من منطقة قناة السويس. وفي العام التالي، تقدّم عبد الناصر بطلب إلى واشنطن لشراء أسلحة بقيمة 27 مليون دولار. غير أنّ الولايات المتحدة اشترطت الدفع نقداً، مع علمها التام بأنّ دولة كمصر تعاني شحاً مالياً لن تتمكن من تنفيذ الصفقة. وكان موقف عبد الناصر السابق المحايد نسبياً تجاه إسرائيل قد تغيّر؛ وقد شعر الرئيس الأميركي الجنرال دوايت أيزنهاور بأنّ عبد الناصر يلاعب الطرفين، الأميركي والسوفياتي، في آن واحد. (وللمفارقة، فقد فاقت مشتريات مصر من السلاح الروسي في العام 2022 نظيرتها من الولايات المتحدة). وقد أثار هذا التوازن المتقلقل في الإقليم قلق إدارة أيزنهاور. ثم، في تموز/يوليو 1956، تراجعت الولايات المتحدة وبريطانيا عن اتفاقهما المشترك مع البنك الدولي لمنح مصر 70 مليون دولار من العملة الصعبة لتمويل المراحل الأولى من بناء السد العالي في أسوان، وهو مشروع شبيه بمشروع القناة ميزانيته عشرات المليارات آنذاك، يمتد على مدى عقد، ويُعد الأكبر من نوعه في العالم.
بحلول ذلك الوقت، كانت صفقة السلاح الضخمة بين عبد الناصر والسوفيات عبر تشيكوسلوفاكيا (قيمتها حسب التقديرات بين 83 و200 مليون دولار) قد انكشفت، إلى جانب العرض السوفياتي لتمويل بناء السد العالي في أسوان. وبحسب البنك الدولي، كانت اتفاقية التسلّح المصري-التشيكوسلوفاكي لتجعل من الصعب على مصر سداد ديون السد العالي - فاحتياطاتها من النقد الأجنبي موضع شك. وفي جدال محتدم دار في واشنطن في تموز/يوليو من العام نفسه، تراجع وزير الخارجية الأميركي، جون فوستر دالاس، عن تعهّدات بلاده بتقديم المساعدة لمصر. وبعد أقل من أسبوع على هذا التنصّل الأنغلو-أميركي، وبينما السوفيات في حالة تردد (إذ لم تتبلور مساعدتهم لمصر في مشروع السد إلا لاحقاً)، اتخذ عبد الناصر قراره التاريخي بتأميم قناة السويس. وأعلن أنّ رسوم المرور في القناة ستُستخدم لتمويل مشروع السد العالي، ذلك المشروع العملاق في مجال الكهرباء المائية والري.
لم يوقف تأميم عبد الناصر لقناة السويس حركة الملاحة فيها، بيد أنّ بريطانيا وفرنسا - بذريعة ضمان مرور السفن بأمان - أطلقتا القوات الإسرائيلية لاحتلال سيناء، ثم دفعتا بقواتهما لاحتلال القناة. وقد رافق الحرب العسكرية، وأبرز أحداثها قصف سلاح الجو الملكي البريطاني لمدينة بورسعيد في الطرف الشمالي للقناة، ضربات مالية موجعة: فقد حُجِزَت، مرة أخرى، أرصدة مصر من الإسترليني. وقد أقلق هذا الإجراء دول أخرى ذات سيادة، منها الكويت، بشأن مدى أمان الاحتفاظ باحتياطاتها في لندن. ومن أجل حماية مصالح المالكين السابقين للقناة من البريطانيين والفرنسيين، جمدت كل من واشنطن وزيورخ أرصدة شركة قناة السويس في الخارج، ولم تتمكّن الحكومة المصرية من الوصول إليها، بالرغم من لجوئها إلى القضاء وتقديمها طلبات قانونية بالحجز على الأموال.
وغزو بريطانيا لقناة السويس إنّما كان محاولةً منها لصون أمنها المالي وضمان إمداداتها من الطاقة، غير أنّ هذه المحاولة، إذا نُظر إليها في سياقها، فشلت فشلاً ذريعاً. فإثر العدوان، شهدت الأسواق المالية العالمية عمليات مضاربة ببيع الأصول المقوّمة بالإسترليني، فتراجعت احتياطيات بريطانيا من النقد الأجنبي إلى ما دون الحدّ الأدنى المقرر من بنك إنكلترا. ولمّا أدرك الرئيس أيزنهاور ضيق حال بريطانيا المالي، رفض مساندتها في طلب قرض من صندوق النقد الدولي أو من بنك التصدير والاستيراد الأميركي، واشترط صراحةً: لن تُعِين الولايات المتحدة بريطانيا على دفع ثمن وارداتها النفطية ما لم تُعلن وقف إطلاق النار. وقد حمل هذا التهديد، بما فيه من وعيد مالي وفوضى مرتقبة في الأسواق، الحكومة البريطانية على الإذعان، فسحبت جيوشها من السويس. والعجيب أنّ الضربة التي كبحت جماح التوسّع البريطاني جاءت من الحليف الأقرب، وبالمال لا السلاح. أما انسحاب إسرائيل من سيناء، فقد طال أمره؛ إذ لم يحدث إلّا بعد أن مارسَ أيزنهاور ضغطاً متواصلاً، متحدياً مقاومة الكونغرس المتعاطف مع إسرائيل، ومهدِّداً بتعليق الاستثمارات الأميركية في ديونها السيادية، بل ملوّحاً بدعم الولايات المتحدة لمقترحات في الأمم المتحدة تُفضي إلى فرض عقوبات على إسرائيل. وحينها فحسب رضخت حكومة تل أبيب، فأمرت قواتها بالانسحاب من شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة.
وهكذا، كانت الولايات المتحدة هي التي أسهمت في وضع حدّ لاحتلال بريطانيا الطويل لمصر. فقد انطلق موقف واشنطن يومذاك من خشية الرئيس أيزنهاور من أن تجعل مغامرة الغرب في السويس دول الشرق الأوسط المصدّرة للنفط تدير ظهرها للغرب. إذ في ظلّ الزحف السوفيتي، كانت مسألة وصول الغرب إلى موارد الطاقة في هذه المنطقة الحسّاسة على المحكّ. وكما جرت سنّة السياسة الخارجية الأميركية، لم يكن دفاع الولايات المتحدة عن سيادة مصر إلّا بدافع المصلحة الذاتية.
لقد مهدت كارثة السويس السبيل لهيمنة الدولار الأميركي على امتداد الطيف المالي العالمي، كما أسفرت عن إعادة صياغة العلاقة المالية بين بريطانيا والولايات المتحدة. فالأزمة التي عصفت بالإسترليني دفعت بنك إنكلترا إلى فرض قيود على المصارف البريطانية، تمنعها من تقديم القروض الدولية بعملتها الوطنية. غير أنّ هذه القيود لم تشمل القروض المقوّمة بالدولار، وهي مفارقة لافتة، إذ إنّ هذا الاستثناء، إلى جانب عوامل أخرى، هو ما مهّد الطريق أمام لندن لتغدو مركز النظام الدولاري الخارجي في العالم.
لقد خلّفت الحرب في أوكرانيا عواقب عديدة لم تكن في الحسبان، ولعلّ من أبرزها ما عاد على الولايات المتحدة من مكاسب في صادراتها من الهيدروكربونات والسلاح. فقد جعلت صدمة الأسعار في العام 2022 النفط الخام أغلى سلعة متداولة في العالم، بقيمة قاربت 1.45 تريليون دولار
وبموافقة الولايات المتحدة، أصبحت بريطانيا أكبر مقترض من صندوق النقد الدولي على مدى العقدين التاليين. وقد مثّلت هذه السابقة صدى لاحقاً لما فعله الصندوق حين قدّم قروضاً لأوكرانيا الممزّقة بالحرب، رغم عجزها عن الوفاء بشرط الصندوق المتمثّل في ضرورة أن يُظهر المقترِض مستويات مديونية قابلة للاستدامة. فالقروض من البنك لبريطانيا آنذاك استدعت بدورها تليين العمل بنصّ المادة السادسة من اتفاقية الصندوق: حظر إقراض الدول التي تواجه «تدفّقاً كبيراً أو مستداماً لرؤوس الأموال نحو الخارج». ولم يخرج ميزان المدفوعات البريطاني من دائرة الضغط إلّا بعد عقود، وتحديداً في عهد مارغريت تاتشر، بفضل العائدات النفطية القادمة من بحر الشمال. أما مصر، فقد دخلت هي الأخرى بعد أزمة السويس في سلسلة من أزمات ميزان المدفوعات، لكنها، لما لها من ثقل جيوسياسي ودورها بوصفها قوّة عربية إقليمية، عُدَّت دولة «لا يُسمح بسقوطها بسبب أهميتها الاستراتيجية». وفي العقود التالية، تحوّلت مصر إلى واحدة من أكبر مقترضي الصندوق، لا يسبقها في ذلك سوى الأرجنتين.
4. شروط قصوى
لقد خلّفت الحرب في أوكرانيا عواقب عديدة لم تكن في الحسبان، ولعلّ من أبرزها ما عاد على الولايات المتحدة من مكاسب في صادراتها من الهيدروكربونات والسلاح. فقد جعلت صدمة الأسعار في العام 2022 النفط الخام أغلى سلعة متداولة في العالم، بقيمة قاربت 1.45 تريليون دولار. وبينما تصدّرت أرامكو السعودية قائمة المصدّرين، واحتلّت الصين موقع المستورد الأول، فإنّ أرباح الولايات المتحدة من النفط والغاز - سواء من مبيعاتها المحلية أو الخارجية - فاقت الجميع، إذ بلغت أكثر من 300 مليار دولار في العام 2022 وحده.
ترجع الطفرة في صادرات الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي المسال مباشرةً إلى الحرب الروسية الأوكرانية. فقد دفعت الانقطاعات في تدفّق الطاقة الروسية إلى أوروبا جرّاء الحرب معظمَ دول أوروبا الغربية، بما فيها ألمانيا، إلى البحث عن مصادر بديلة لتأمين الإمدادات من قطر وأبوظبي والولايات المتحدة. وعلى الرغم من تجنّب أوروبا في السابق الغاز الأميركي بسبب بصمته الكربونية الثقيلة، فقد جاء نحو نصف وارداتها من الغاز الطبيعي المسال في العام 2023 من الولايات المتحدة. وقد جعل هذا الارتفاع في الطلب الأوروبي الولايات المتحدة المُصَدِّر الأول للغاز الطبيعي المسال على مستوى العالم. ولم تكن الأسعار بمنأى عن تأثيرات الحرب؛ إذ كانت أرباح الشركات الأميركية من ارتفاع أسعار الغاز هائلة. ففي حين تضاعفت أسعار الغاز الطبيعي المسال داخل الولايات المتحدة 3 مرات بين كانون الأول/ديسمبر 2021 وأيلول/سبتمبر 2022، فإنّها ارتفعت في أوروبا بقرابة 8 أضعاف. وقد استفادت الشركات الأميركية استفادة قصوى من هذه الفجوة السعرية بين الولايات المتحدة وأوروبا، بفضل احتواء معظم عقود الغاز الأميركي على بندٍ قانوني يُعرف بـ«مرونة الوجهة»، يُتيح للمورّدين إعادة توجيه الشحنات إلى أي وجهة غير خاضعة للعقوبات.
لقد شكّلت طفرة الغاز الطبيعي المسال في واقع الأمر انتصاراً حاسماً لما يُعرف بالدولار الهيدروكربوني. فعلى الرغم من طموحات إدارة بايدن في ما يتعلّق بسياسات المناخ، فإنّ هذه الطفرة، من حيث النتائج الملموسة، لم تَعُد إلا بتعزيز مكانة صناعة الوقود الأحفوري في الولايات المتحدة. وكانت العواقب على كوكب الأرض جليّة؛ إذ سجّلت الولايات المتحدة أعلى مستوى لانبعاثات الغازات الدفيئة في تاريخها. ومع عودة ترامب إلى السلطة لولاية ثانية، استُبدلت بسياسة «توطين سلاسل التوريد لدى الحلفاء» التي انتهجتها إدارة بايدن، منطقٌ أكثر صراحة وفظاظة، أقرب إلى قانون الغاب؛ إذ هدّد ترامب أوروبا بفرض رسوم جمركية ما لم تُكثّف مشترياتها من الهيدروكربونات الأميركية. كما ألغى قرار بايدن بتجميد إصدار التراخيص الجديدة لتصدير الغاز الطبيعي المسال إلى الدول غير المرتبطة باتفاقيات تجارة حرّة، وشرع في الموافقة على تراخيص تصدير جديدة.
يمثّل الطلب على الغاز الطبيعي نحو ربع إجمالي الطلب العالمي على الطاقة، وتأتي قرابة ربع هذه الكمية من داخل الولايات المتحدة وحدها. أما في أوروبا، فقد بدأ الطلب على الغاز الطبيعي في الانخفاض المستمر منذ صدمة الأسعار في العام 2022، ومن المتوقّع تراجعه بنسبة 25% بحلول العام 2030. وبالرغم من أنَ قرابة 70% من صادرات روسيا من الغاز الطبيعي المسال ذهب إلى أوروبا في عام 2024 (وهو رقم قياسي)، فإنّ الغاز الروسي لم يشكّل سوى 17% من واردات أوروبا من الغاز المسال. ولا يزال الغاز الروسي المنقول عبر الأنابيب يصل إلى أوروبا، وإنْ بوتيرة أقل بكثير من السابق. لكن يظلّ مستقبل العقوبات عاملاً رئيساً في تأجيج حالة عدم اليقين.
وفيما يتعلّق بالعرض، تُظهر التوقّعات أنّ إنتاج الغاز الطبيعي المسال سيرتفع بنسبة 5% في العام 2025، على أن تكون الولايات المتحدة مسؤولة عن الحصّة الأكبر من هذا الارتفاع، إذ إنّ ثلاثة أرباع القدرة العالمية على التسييل المزمعة بين العامين 2022 و2023 كانت في الولايات المتحدة. لكنّ القسم الأعظم من الطلب المستقبلي على الغاز الأميركي لا يأتي من أوروبا، بل من آسيا، حيث تُعدّ الصين اليوم المستورد الأكبر للغاز الطبيعي المسال في العالم، وتُسجّل الهند بدورها نموّاً سريعاً في الطلب. ومن المتوقّع أن تمثّل آسيا نحو 45% من الطلب العالمي على الغاز الطبيعي المسال في العام 2025. تزامن ارتفاع الطلب الآسيوي مع طفرة العرض الأميركي، ما يثير أسئلة لافتة تتصل بإدارة ترامب. فمنذ العامَين 2021 و2022، تجاوزت عقود الغاز الأميركي المبرمة مع الصين نظيراتها مع أوروبا. ومن شأن رئاسة قائمة على المعاملات التجارية الصرفة أن تدفع نحو عقد صفقات جديدة تُصدَّر بموجبها شحنات الغاز الأميركي إلى الصين، مقابل استمرار الأخيرة في شراء سندات الخزينة الأميركية. وفي أحلام متعطّشي الأرباح من تجار الطاقة، وأولئك الذين يسعون لتكريس هيمنة سندات الخزينة الأميركية، قد تبدو هذه المعادلة نوعاً من الانفراج. لكنّ نزعة عقد الصفقات حين تتحوّل إلى ابتزاز اقتصادي، فإنّ النتائج سرعان ما تخرج عن السيطرة. ولا حاجة للذهاب بعيداً؛ فالحرب التجارية الجارية بين واشنطن وبكين خير دليل على ذلك. فقد ردّت الصين أصلاً على الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب بنسبة 10% على جميع واردات بلاده من الصين، بفرض رسوم بنسبة 15% على واردات الغاز الأميركي. ومنذ أكثر من شهر، لم تستورد الصين أي شحنة غاز طبيعي مسال من الولايات المتحدة، فيما يعمد المشترون الصينيون الذين يرتبطون بعقود طويلة الأجل إلى تحويل وجهات شحناتهم من الغاز الأميركي إلى أوروبا. وشهية الصين لاقتناء سندات الخزانة الأميركية قد أخذت في الانحسار أيضاً.
في دعوته إلى تحقيق «الهيمنة الطاقية» الأميركية، يتّضح أنّ ترامب يدرك تمام الإدراك أنّ خفض معدلات التضخم، في ظلّ سياسات جمركية تصعيدية (ذات أثر تضخّمي بطبيعتها)، سيتوقّف إلى حدّ كبير على تقليص أسعار الطاقة. ولهذا السبب، لم يتوانَ في أول يوم من عودته إلى البيت الأبيض عن توقيع إعلان لحالة طوارئ وطنية في مجال الطاقة، تحت شعار «إطلاق العنان للطاقة الأميركية». تستدعي التنمية المستدامة السير في مسار نزع الكربون، لكنّ الحروب التجارية والرسوم الجمركية تُنذر بموجات تضخّم جديدة، ما قد يدفع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في أي لحظة إلى رفع أسعار الفائدة. وبالنظر إلى أنّ الغالبية العظمى من مشروعات الطاقة النظيفة حول العالم تُموَّل بالاقتراض (أي أنّها رهينة معدلات الفائدة)، فإنّ الاستثمار في البنية التحتية الخضراء في بلدان الجنوب العالمي مرشّح للتراجع خلال السنوات الأربع المقبلة.
في خطابه الافتتاحي، وعد الرئيس ترامب بإنهاء الحروب. وبالفعل، اضطلعت عودته إلى البيت الأبيض بدور حاسم في تمكين إدارة بايدن من التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس. وقد بدأ الغزّيون بالعودة إلى أرض قاحلة تشبه سطح القمر، أو كما وصفها ترامب نفسه، «موقع هدم هائل»، حيث أُلقِيَ على غزة ما يفوق، من حيث الحمولة، أي قصف شهده حيّ حضري في التاريخ الحديث. غير أنّ التساؤلات لا تزال تحيط بتمويل عملية إعادة الإعمار، وما تقتضيه من إزالة أولية للأنقاض تُقدَّر بخمسين مليون طن من الخرسانة الملتوية والحديد والانسكابات الكيميائية والمياه الجوفية المشبعة بالمعادن الثقيلة كالرصاص المتسرب من ألواح الطاقة الشمسية فضلاً عن رفات البشر. وفي مسعاه لتقليص الإنفاق الحكومي، كانت من أولى خطوات ترامب بعد توليه المنصب من جديد تقليص برنامج المعونة الخارجية الأميركية المعروف بـUSAID.
في لقائه مع بنيامين نتنياهو في شهر شباط/فبراير، أعلن الرئيس ترامب أنّ الولايات المتحدة ستتولّى الإشراف على قطاع غزة، مشيراً إلى أنّ «موقعه الاستثنائي» المُطلّ على البحر المتوسط يتيح «فرصاً مذهلة» لتطويره، على حدّ تعبيره. وقد جاءت تصريحاته في إطار ما أصبح يُعرف بـ«خطة الريفييرا» لغزة، وتقوم هذه الخطة على التهجير القسري للفلسطينيين من أرضهم لصالح مشروعات استثمارية كبرى. ورداً على هذه الخطة، اقترحت جامعة الدول العربية خطّة بديلة لإعادة الإعمار بقيمة 53 مليار دولار، بالاستناد إلى تقديرات البنك الدولي، تضمن بقاء الفلسطينيين على أرضهم. وقد تمخّض هذا البديل عن قمة عقدتها الجامعة في القاهرة، ونال دعم القوى الأوروبية الكبرى.
الخطة التي اقترحتها مصر، والمعروفة بـ«خطة التعافي وإعادة الإعمار والتنمية في غزة» (ويُشار إليها اختصاراً بـ«تعافي غزة»)، جرى إعدادها بتوجيه مباشر من الرئيس عبد الفتاح السيسي. وقد وُصِفت في غير موضع بالـ«تكنوقراطية»، غير أنّها، في حقيقتها، أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. تستدعي الخطة نماذج من «التجارب» التي شهدها العالم في لحظات الكارثة من هيروشيما إلى برلين وبيروت، وتنادي بـ«نهضة اقتصادية واجتماعية متكاملة» تتحقق من خلال «صناديق استثمار دولية وإقليمية». لكن كما يُستدلّ من التجربة المصرية ذاتها في ميدان التمويل الدولي، فإنّ عقود القروض والاستثمارات غالباً ما تكون مشروطة بما يُعرف بـ«الشروط القصوى». وما يبعث على مزيد من القلق أنّ هذه الخطة البديلة لغزة لم يكتبها الفلسطينيون أنفسهم، بل جاءت كمبادرة مصرية في سياق اقتصادي ضاغط، تعاني فيه مصر من مديونية خانقة، تجعلها بالكاد تتحمل تبعات إزعاج دائنيها في واشنطن وسواها.
تُظهِر كل خريطة من خرائط «غزّة الجديدة»، المصمّمة حول شريط أخضر تصطفّ على جانبيه الأشجار، نقاط العبور إلى إسرائيل وسيناء بشكل واضح ولافت. وسيظلّ الحزام الأمني الفاصل بين غزّة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلّة قائماً كما هو. (وقد كشف الرئيس المصري أنّ القاهرة شرعت بتدريب فلسطينيين للعمل كقوات أمن خلال المرحلة الانتقالية التي ستخضع فيها غزة لحُكم دولي تشرف عليه قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة). وبالرغم من أنّ «خطة تعافي غزة» تَعِد بمستقبل معماريّ فخم ذي مآذن مقبّبة وخمسة عشر مركزاً تجارياً كبيراً، فإنّها في المدى القريب تقترح حلّاً سكنيّاً أقلّ ما يُقال فيه إنّه تقشفي: تحويل حاويات الشحن إلى 200 ألف وحدة سكنية تؤوي 1.6 مليون نسمة مع العلم بأنّ عدد الفلسطينيين المشرّدين يناهز المليونين. أما على صعيد التنمية، فلا تقلّ المقترحات تناقضاً عن واقع الحال. فغزّة التي تبلغ نسبة الإلمام بالقراءة والكتابة فيها 98%، وهي نسبة تفوق مصر نفسها (71%)، تُقترَح لها خطة تركز بإفراط على توليد فرص عمل في الزراعة والصيد البحري. كما تتجاهل الخطة تحكّم إسرائيل الكامل في مداخل القطاع ومخارجه، وتقترح خلق 60 ألف وظيفة في قطاع السياحة، أي أقل بعشرة آلاف وظيفة من تلك المقدّرة للصناعة، وبأقل من عشرين ألفاً من الوظائف المتوقعة في قطاع الصيد. وفي محاولة للجمع بين تكريم الضحايا، تدعو الخطة إلى استخدام جزء من أنقاض غزة في مشروع استصلاحٍ ساحليّ، قيل إنّ شركة بلجيكية مستعدة لتنفيذه.
في أواخر شهر شباط/فبراير، سعى الرئيس ترامب إلى ابتزاز أوكرانيا لعقد صفقة مواتية لبلاده، مطالباً بأن تستحوذ الولايات المتحدة على نصف ثروات أوكرانيا المعدنية، مقابل شكلٍ من الحماية الأميركية لا يرقى إلى مستوى الضمانات الأمنية. وقد أُحبطت هذه الخطّة مؤقتاً بعد مشاهد عبثية في البيت الأبيض، شهدت توبيخاً علنياً من ترامب ونائبه فانس للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. لكن لا تزال أوكرانيا في وضع لا تُحسد عليه، محاصَرة بشروط قصوى. وبات من شبه المحتم التوصّل إلى اتفاقٍ يمضي في الاتجاه الذي ترسمه واشنطن. أما على الجبهة العسكرية، فقد أسفرت المفاوضات الأخيرة بين ترامب وبوتين عن وقفٍ مؤقت ومحدود لإطلاق النار، تعهّد فيه الطرفان (الكرملين وكييف) بالتوقّف عن استهداف البُنى التحتية للطاقة لدى الآخر. (وقد تبيّن أن الضربات الأوكرانية على منشآت النفط والغاز الروسية ألحقت ضرراً ملموساً بإيرادات الدولة الروسية).
تُظهِر كل خريطة من خرائط «غزّة الجديدة»، المصمّمة حول شريط أخضر تصطفّ على جانبيه الأشجار، نقاط العبور إلى إسرائيل وسيناء بشكل واضح ولافت. وسيظلّ الحزام الأمني الفاصل بين غزّة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلّة قائماً كما هو
ما ينتظر غزّة لا يزال طيّ المجهول. لكن المؤكّد أنّ ساحلها المُطلّ على المتوسّط المزمع عليه بحسب الخطة المصرية إقامة كورنيش، وربّما استثمار احتياطاته البحرية المتواضعة من الغاز الطبيعي المقدّرة بـ32 مليار متر مكعّب، سيكون له دور، ولو رمزياً، في هذا العصر الجديد من «الشروط القصوى».
في الخامس عشر من آذار/مارس، أعطى الرئيس ترامب الإذن للقيادة المركزية الأميركية «سنتكوم» بقصف أهداف في العاصمة اليمنية صنعاء. وكان الحوثيون، من جهتهم، قد أوقفوا هجماتهم في البحر الأحمر، التزاماً باتفاق وقف إطلاق النار في غزّة. لكن اختارت الولايات المتحدة التدخّل، بنيّة ترسيخ هيمنتها الإقليمية - وكانت قد نشرت، أواخر العام الماضي، أكثر من 40 ألف جندي أميركي في المنطقة. وفي اليوم نفسه، نشر حساب «سنتكوم» على تويتر صوراً لإطلاق صاروخ من سفينة تابعة للبحرية الأميركية، وأخرى تُظهر سُحباً فطرية ترتفع عقب القصف. وفي ضوء هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنّ وزارة الدفاع الأميركية تُعدّ، على المستوى المؤسسي، أكبر جهة مُصدِرة للهيدروكربونات على كوكب الأرض.
بعد مضي يومين، وفي انتهاك صارخ لاتفاق وقف إطلاق النار الموقّع في 19 كانون الثاني/يناير بين إسرائيل وحماس، شنّت قوات الاحتلال الإسرائيلي أعنف سلسلة غارات جوية شهدها قطاع غزة منذ أكثر من شهرين. وقد أشار عدد من المعلّقين الإسرائيليين إلى أنّ هذا التقليد الإسرائيلي للضربات الأميركية على اليمن، كان محاولة يائسة من نتنياهو لمنع انهيار ائتلافه الحاكم وسط موجة من الغضب الشعبي داخلياً. في تلك الليلة الواحدة من القصف الجوي سقط أكثر من أربعمئة شهيد في غزة. وتشير تقارير محلية إلى أنّ القوات الأمنية التي كانت قطر والولايات المتحدة ومصر قد تعهّدت بنشرها لضمان وقف إطلاق النار، قد انسحبت من ممر نتساريم وسط القطاع. وفي زمن يسود فيه العنف بلا قيد، ويُدار العالم بمنطق الشروط القصوى، تُختزل الأرواح البشرية إلى مجرد أضرار جانبية؛ لم يَعُد الأسوأ مستبعداً.
نُشِر هذا المقال في Noria Research في 25 آذار/مارس 2025، وترجم إلى العربية ونشر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الكاتبة.