معاينة electric vehicles

الفقراء يصنعون سيارات الأغنياء

تقوم الكثير من شركات السيارات العالمية ذائعة الصيت مثل رينو الفرنسية وفورد الأميركية بإنشاء مصانع في بلدان ذات اقتصادات نامية مثل المغرب ورومانيا والمكسيك، عوضاً عن بلدانها الأصلية في أوروبا وأميركا الشمالية، وذلك للاستفادة من تكاليف العمالة المنخفضة جداً التي لا تتجاوز 7% من تكلفة العمالة في بلد المنشأ. لتقوم هذه المصانع بعدها بتصدير السيارات المنتجة إلى بلدان مرتفعة الدخل، ما يؤدي إلى تقسيم عالمي لقطاع السيارات يكون فيه المستثمر والمستهلك من الدول المتقدّمة، بينما العامل من الدول النامية.

من ينتج؟ ومن يستفيد؟

مع الأخذ في الاعتبار أن المسح يشمل شركات صناعية ذات مستويات تصميم وتصنيع متفاوتة، وهو ما يؤثّر على مستوى ومهارة وكلفة العمالة المطلوبة، بدءاً من السيارات الأوروبية الفاخرة ذات التصاميم المعقدة وصولاً إلى شركات تصنيع النماذج التقليدية الأقل تعقيدًا وذات الإنتاج الضخم. فوفقاً لمنهجية شركة «أوليفر وايمان» في مقارنة تكاليف العمالة المباشرة في 250 مصنع تجميع سيارات حول العالم، يُقدر متوسط هذه التكاليف في المغرب بحوالي 106 دولارات أميركية لكل سيارة. وبناءً على ذلك، فإن إنتاج 10 آلاف سيارة سيكلف الشركات العاملة هناك نحو 1.06 مليون دولار كأجور مباشرة. وعلى النقيض، تصل تكلفة الأجور لإنتاج السيارة نفسها في فرنسا إلى حوالي 1569 دولارًا أمريكيًا، أي ما يعادل 16 ضعف التكلفة في المغرب. يشار إلى أن كلفة العمالة في السيارة الواحدة تتضمّن الأجور والإنتاجية.

ونتيجة لذلك، أصبحت المغرب وجهة مفضّلة لشركات السيارات التي تبحث عن اليد العاملة الرخيصة، ولا سيما الشركات الفرنسية، وقد ساهم ذلك في ارتفاع إنتاج السيارات في المغرب بنسبة 29% وانخفاضه في فرنسا بنسبة 36% في السنوات الخمس الماضية (2019-2024).

إلى ذلك، صدّرت المغرب 30% من السيارات إلى فرنسا بقيمة 2 مليار دولار في العام 2023. في المقابل، وقد شكّلت صادرات هذه السيارات إلى فرنسا نحو 4.2% فقط من وارداتها من السيارات. ينتج عن هذا الوضع خلل في التوازن التجاري، إذ يصبح المغرب أكثر اعتماداً على السوق الفرنسي من اعتماد المستهلك الفرنسي على السيارات المغربية.

صحيح أن قطاع تصنيع السيارات وفر حوالي 180 ألف فرصة عمل في المغرب بين عامي 2014 و2021، إنما بأجور متدنية للغاية. يتقاضى عامل في مصنع لشركة رينو في طنجة راتباً يصل إلى 300 يورو شهرياً في المتوسّط، يترافق ذلك مع ساعات عمل طويلة تصل إلى 44 ساعة في الأسبوع، وهي ساعات تفوق المتوسط المعمول به في الكثير من الدول الأوروبية. ولو غضينا الطرف عن العمّال وحقوقهم، نجد أن رجال الأعمال المغاربة حتى لا يستفيدون من عائدات القطاع، فحصة رأس المال المغربي في صناعة السيارات المحلية لا تتعدى 6%، علماً أن الاستثمار المحلي يتجاوز 90% في قطاعات أخرى.

لا نتحدث هنا عن حالة فريدة فرنسية - مغربية. ففي السنوات الخمس الماضية، انخفض إنتاج السيارات في بلدان مرتفعة الدخل مثل إيطاليا بنسبة 34%، وبريطانيا (31%)، وألمانيا (13%)، والولايات المتحدة الأميركية (2%)، حيث تتكلّف الشركة على اليد العاملة من 1,300 إلى 3,300 دولار أميركي لإنتاج سيارة واحدة. بينما ارتفع إنتاج السيارات في بلدان مثل رومانيا بنسبة 11%، والمكسيك 4%، والصين 24%، حيث تتكلف الشركات أقل من 600 دولار أميركي على اليد العاملة لإنتاج كل سيارة، وفقاً لتقرير نشرته شركة أوليفر وايمان

يشغّل مصنعون مرموقون مثل فورد وجنرال موتورز وستيلانتس وبي إم دبليو وغيرهم مصانع تقع في الغالب في الأجزاء الشمالية من المكسيك، ليُوجه ما يصل إلى 80% من إنتاجهم للتصدير إلى الولايات المتحدة. طبعاً ستفضّل هذه الشركات إنتاج السيارات  في المكسيك وإرسالها عبر  الحدود إلى الولايات المتحدة بدل إنتاجها في بلد المقصد نفسه. يبلغ أجر العامل غير الماهر 6.96 دولاراً للساعة في المكسيك، والعامل شبه الماهر 8.22 دولاراً للساعة، مقارنة بنحو 23 دولاراً للساعة في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى المزايا الأخرى.

تبقى تركيا الاستثناء، إذ تحظى برابع أدنى تكلفة يد عاملة لإنتاج سيارة بـ 414 دولار، إلا أن إنتاج السيارات تراجع بنسبة 5% في الخمس سنوات الأخيرة. لكن تقرير أوليفر وايمان يشير إلى أن الأجر الشهري في تركيا تضاعف 3 مرات في السنوات الثلاث الأخيرة نتيجة التضخّم، ما أثّر على تكلفة العمالة للسيارة. مع ذلك، لا يزال تراجع إنتاج السيارات في تركيا يمثّل تسع التراجع في دول أخرى في الاتحاد الأوروبي كفرنسا وإيطاليا، وثلث التراجع في ألمانيا، حيث يقدّر تكلفة العمالة لكل سيارة تركيا بـ 12% تكلفتها في ألمانيا.

وبالتالي، ما زالت تركيا وجهة جاذبة لشركات صناعة السيارات. ومن الأمثلة البارزة على العلامات التجارية العالمية التي لديها أنشطة في تطوير المنتجات والتصميم والهندسة، نجد فورد وفيات ودايملر وإيه في إل وإف إي في. منذ العام 2000، بلغ الحجم الإجمالي لاستثمارات العلامات التجارية العالمية في صناعة السيارات التركية 18 مليار دولار أميركي، فيما ينتج القطاع نحو 1.5 مليون مركبة سنوياً.

وما زالت هذه الشركات تستفيد من الأجور المتدنية في تركيا. يشير تقرير حديث في صحيفة حريات التركية إلى أن راتب عامل هيكل سيارات يصل إلى حوالي 45,000 ليرة تركية. ولإعطاء فكرة عن قوته الشرائية، يشير تقرير صادر عن وكالة تخطيط بلدية إسطنبول في نيسان/أبريل 2025، إلى أن الأسرة المكونة من 4 أفراد تحتاج إلى إنفاق 90,032 ليرة تركية شهرياً لتغطية احتياجاتها الأساسية.

أما وجهة السيارات التركية فهي أوروبا في المقام الأول. في العام 2023، صدّرت تركيا سيارات بقيمة 12 مليار دولار، وذهب 10.1 مليار دولار من هذه الصادرات إلى أوروبا، بينما ذهبت 1.23 مليار دولار من الصادرات إلى آسيا، و44% منها إلى الإمارات وإسرائيل.

الظاهرة ليست محصورة بالسيارات. فإذا استبدلنا صناعة السيارات بقطاعات إنتاجية أخرى، ربما أدوات مطبخ أو الكترونيات أو أثاث منزل، لوجدنا النمط نفسه يتكرر. تستثمر الدول المتقدمة في الشمال العالمي، مثل دول أوروبا وأميركا الشمالية واليابان، في دول الجنوب العالمي مستغلة تكلفة العمالة المنخفضة، وبعد انتهاء عملية الإنتاج، يتم إعادة إرسال المنتجات إلى أسواق الشمال. وراء هذا التوجه الاقتصادي، يكمن شكل خفي من سلب العمل، يحرّك الشمال بالمال ويلعب به من دون عناء ويختار بإصبعه القطاع الذي يريد استثمار المال فيه، ويستهلك ما يريد في النهاية، والجنوب يكد ويتعب.

هذا ليس شعراً، إنها ظاهرة اقتصادية يمكن إعطائها طابع كمي، يعمل الجنوب أكثر من الشمال، فيما يسرق الشمال هذا العمل. في العام 2021، صرف 2.1 تريليون ساعة عمل في إنتاج سلع للتجارة الدولية وساهم الجنوب بنحو 91% من إجمالي العمل، وفي العام نفسه استورد الشمال العالمي 906 ساعة من العمل المبذول في الجنوب في حين صدر في المقابل 80 مليار ساعة فقط أي بنسبة 1 إلى 11. 

على الرغم من مساهمة الجنوب الأكبر بكثير، إلا أنه حصل على أقل من 44% من الدخل العالمي وحصل عمال الجنوب على 21% من الدخل العالمي، لذا يتمكن العمال في الشمال العالمي مقابل كل ساعة عمل في مستوى مهارة معين، أن يستهلكوا بين 8 إلى 19 ضعفاً من المنتج العالمي مقارنة بالعمال في الجنوب العالمي.