Preview الاستعمار الاستيطاني

نهاية الاستعمار الاستيطاني في فلسطين

  • الصهيونية ظاهرة مشابهة لحركة الأوروبيين الذين خلقوا الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا. ومن شأن هذه الفكرة أن تساعدنا على فهم طبيعة المشروع الصهيوني في فلسطين على نحو أفضل بكثير، منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اليوم، وتعطينا فكرة عمّا يمكن توقّعه في المستقبل.
  • وصل هذا المشروع التاريخي إلى نهايته وهي نهاية عنيفة: عادة ما تنهار مشاريع كهذه بعنف، ما يجعل اللحظة خطرة للغاية بالنسبة إلى ضحايا هذا المشروع، والضحايا هم دائماً الفلسطينيون مع اليهود، لأن اليهود أيضاً هم ضحايا الصهيونية. وهكذا فإن عملية الانهيار ليست لحظة أمل فحسب، بل هي أيضاً الفجر الذي سينبثق بعد الظلام، وهي الضوء في آخر النفق.

في يوم الذكرى السنوية للإبادة الجماعية الذي تقيمه اللجنة الدولية لحقوق الإنسان في لندن، في 21 كانون الثاني/يناير 2024، تحدث البروفيسور إيلان بابيه عن حاجتنا لفهم أنّ إبادة الفلسطينيين الجماعية التي نشهدها الآن، على الرغم من وحشيّتها، هي أيضاً زوال ما يسمّى بالدولة اليهودية. وعلينا أن نكون على استعداد لتخيّل عالم جديد أبعد من ذلك.

ليست الفكرة التي مفادها أن الصهيونية هي استعمار استيطاني بالفكرة الجديدة. إذ أدرك الباحثون الفلسطينيون الذين كانوا يعملون في بيروت في مركز أبحاث منظّمة التحرير الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي أن ما كانوا يواجهونه في فلسطين لم يكن مشروعاً استعمارياً كلاسيكياً. ولم يصوّروا إسرائيل على أنها مجرّد مستعمرة بريطانية أو أميركية، بل عدّوها ظاهرة وجِدت في أجزاء أخرى من العالم؛ وتُعرّف بالاستعمار الاستيطاني. ومن اللافت أنه على مدى 20 إلى 30 عاماً اختفت فكرة الصهيونية باعتبارها استعماراً استيطانياً من الخطاب السياسي والأكاديمي. ثمّ عادت لتظهر عندما اتفق باحثون في أجزاء أخرى من العالم، أبرزها جنوب أفريقيا وأستراليا وأميركا الشمالية، على أن الصهيونية ظاهرة مشابهة لحركة الأوروبيين الذين خلقوا الولايات المتّحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا. ومن شأن هذه الفكرة أن تساعدنا على فهم طبيعة المشروع الصهيوني في فلسطين على نحو أفضل بكثير، منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اليوم، وتعطينا فكرة عمّا يمكن توقّعه في المستقبل.

مقاومة السكّان الأصليين كانت صراعاً ضدّ الإبادة، وليس من أجل التحرير فحسب. وهذا مهم عندما يفكّر المرء في عمليّات حماس وغيرها من عمليات المقاومة الفلسطينية منذ العام 1948

ما أراه هو أن هذه الفكرة عينها، التي ربطت على نحو واضح أفعال المستوطنين الأوروبيين، خصوصاً في أماكن مثل أميركا الشمالية وأستراليا، بأفعال المستوطنين الذين جاؤوا إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، قد بيّنت بوضوح، في تسعينيات القرن العشرين، نوايا اليهود المستوطنين الذين استعمروا فلسطين وطبيعة المقاومة الفلسطينية المحلّية لذلك الاستعمار. لقد اتبع المستوطنون المنطق الأهم الذي تبنّته الحركات الاستعمارية الاستيطانية، ومفاده أنه لإنشاء مجتمع استعماري استيطاني ناجح خارج أوروبا، لا بدّ من القضاء على السكّان الأصليين في البلد الذي يتم استيطانه. وهذا يعني أن مقاومة السكّان الأصليين لهذا المنطق كانت صراعاً ضدّ الإبادة، وليس من أجل التحرير فحسب. وهذا مهم عندما يفكّر المرء في عمليّات حماس وغيرها من عمليات المقاومة الفلسطينية منذ العام 1948.

كان المستوطنون أنفسهم، كما هو الحال بالنسبة إلى العديد من الأوروبيين الذين أتوا إلى أميركا الشمالية أو أميركا الوسطى أو أستراليا، لاجئين وضحايا اضطهاد. وكان بعضهم أوفر حظاً، يبحث عن حياة وفرص أفضل فحسب. لكن معظمهم كانوا منبوذين في أوروبا ويتطلّعون إلى إنشاء أوروبا في مكان آخر، أوروبا جديدة، بدلاً من أوروبا التي لم تُرِدْهم. وفي معظم الحالات، اختاروا مكاناً يعيش فيه غيرهم، أي السكّان الأصليون. وهذا ما جعل المجموعة الأساسية الأكثر أهمّية بينهم تلك التي ضمّت قادتهم وأيديولوجييهم الذين قدّموا مبرّرات دينية وثقافية لاستعمار أرض الآخرين. ويمكن أن نضيف إلى ذلك حاجة الاعتماد على إمبراطورية لبدء الاستعمار والحفاظ عليه، حتى لو تمرّد المستوطنون في بعض الأحيان على الإمبراطورية التي ساعدتهم وطالبوا بالاستقلال وحقّقوه، ذلك الاستقلال الذي حصلوا عليه في كثير من الأحيان ثم جدّدوا تحالفهم مع الإمبراطورية. والعلاقة الأنغلو-صهيونية التي تحوّلت إلى تحالف أنغلو-إسرائيلي هي خير مثال على ذلك.

قد تكون الفكرة التي مفادها أنّ بإمكانك القضاء على شعب الأرض التي تريدها بالقوة، مفهومة لا مبرّرة - على خلفية القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر - لأنها ترافقت مع تأييد كامل للإمبريالية والاستعمار. وقد تغذّت هذه الفكرة على النزع الشائع لإنسانية الشعوب الأخرى غير الغربية وغير الأوروبية. وحين تنزع إنسانية البشر، يسهل عليك القضاء عليهم. وما كان فريداً للغاية في الصهيونية بوصفها حركة استعمارية استيطانية هو أنها ظهرت على الساحة الدولية في وقت بدأت فيه الشعوب في جميع أنحاء العالم تعيد التفكير في شأن الحقّ في القضاء على السكّان الأصليين، وإبادة المحلّيين، ولذلك يمكن أن نفهم الجهد والطاقة اللذين وظّفهما الصهاينة ومن ثم دولة إسرائيل في محاولة التستّر على الهدف الحقيقي لحركة استعمارية استيطانية مثل الصهيونية، وهو القضاء على السكّان الأصليين.

لكنَّ الصهاينة اليوم يقضون على السكّان الأصليين في غزّة أمام أعيننا، فما الذي يدفعهم لأن يقتربوا كل هذا القرب من التخلّي عن 75 عاماً من محاولة إخفاء سياساتهم الإبادية؟ كي نفهم ذلك، علينا أن ندرك التحوّل الذي طرأ على طبيعة الصهيونية في فلسطين على مرّ السنين.

في المراحل الأولى من المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، نفّذ قادته سياساتهم الإبادية في محاولة حقيقية لتربيع الدائرة بادعاء إمكان بناء ديمقراطية والقضاء على السكّان الأصليين في آن معاً. كانت هناك رغبة قوية في الانتماء إلى مجتمع الأمم المتحضّرة، إذ افترض القادة، خصوصاً بعد الهولوكوست، أنّ السياسات الإبادية لن تقصي إسرائيل عن هذه الرابطة.

بات من الواضح بالنسبة إلى معظم البشر أن المطلوب هو سياق وليس ذريعة. ويبدو من الجلي، تاريخياً وأيديولوجياً، أنّ السابع من تشرين الأول/أكتوبر يوظّف كذريعة لاستكمال ما عجزت الحركة الصهيونية عن إكماله في العام 1948

وكي تربّع القيادة هذه الدائرة، أصرّت على أن ممارساتها الإبادية ضد الفلسطينيين كانت «انتقاماً» من أفعال فلسطينية أو «رداً» عليها. لكن هذه القيادة، عندما أرادت الانتقال إلى أفعال تصفية أكثر جوهرية، سرعان ما تخلّت عن ذريعة «الانتقام» الزائفة وتوقّفت عن تبرير ما فعلته.

ثمّة ارتباط، في هذا الصدد، بين الطريقة التي تطوّر بها التطهير العرقي في العام 1948 والعمليات الإسرائيلية في غزة اليوم. في العام 1948، برّرت القيادة لنفسها كلّ مذبحة ارتُكبت، بما في ذلك مذبحة دير ياسين الشنيعة في 9 نيسان/أبريل، على أنّها ردّ فعل على عمل فلسطيني: لربما كان إلقاء الحجارة على حافلة أو مهاجمة مستوطنة يهودية، لكنها كان يجب أن تُقَدّم محلياً وخارجياً كشيء لا يأتي من فراغ، بل كدفاع عن النفس. والحقّ أن هذا هو السبب في تسمية الجيش الإسرائيلي «قوات الدفاع الإسرائيلية». لكن كونه مشروعاً استعمارياً استيطانياً، منعه من الاعتماد طوال الوقت على «الانتقام».

بدأت القوات الصهيونية عمليات التطهير العرقي في خلال النكبة في شباط/فبراير 1948، ولمدة شهر قُدِّمت جميع هذه العمليات على أنها انتقام من المعارضة الفلسطينية لخطّة التقسيم التي أصدرتها الأمم المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 1947. وفي 10 آذار/مارس 1948، توقّفت القيادة الصهيونية عن الكلام على الانتقام وتبنّت خطة كبرى للتطهير العرقي في فلسطين. ومنذ آذار/مارس 1948 وحتى نهاية العام 1948، كان التطهير العرقي في فلسطين، وما أدّى إليه من طرد نصف سكّان فلسطين وتدمير نصف قراها ونزع الطابع العربي عن معظم بلداتها، جزءاً من خطّة رئيسة منهجية ومتعمّدة للتطهير العرقي.

بالمثل، فقد تخلّت إسرائيل عن الحاجة إلى تبرير أفعالها بعد احتلال الضفّة الغربية وقطاع غزّة في حزيران/يونيو 1967، حين أرادت تغيير الواقع جذرياً أو الانخراط في عملية تطهير عرقي واسعة النطاق.

نشهد اليوم نموذجاً مماثلاً. فقد قُدّمت الممارسات الإسرائيلية في البداية على أنها ردّ انتقامي على عملية «طوفان الأقصى»، لكنها تحوّلت الآن إلى الحرب المسمّاة «السيوف الحديدية» والتي تهدف إلى إعادة غزة إلى السيطرة الإسرائيلية المباشرة، لكنها تلجأ إلى التطهير العرقي لشعبها من خلال حملة إبادة جماعية.

والسؤال الكبير هو: لماذا وقع السياسيون والصحافيون والأكاديميون في الغرب في الفخّ نفسه الذي وقعوا فيه في العام 1948؟ وكيف يمكنهم حتى اليوم أن يصدّقوا فكرة أن إسرائيل تدافع عن نفسها في قطاع غزّة؟ أي أن ما تفعله هو ردّ فعل على أفعال 7 تشرين الأول/أكتوبر؟

لعلهم لا يقعون في الفخّ. لعلهم على علم بأن ما تفعله إسرائيل في غزّة هو استخدام السابع من تشرين الأول/أكتوبر كذريعة.

في كلتا الحالتين، حتى الآن، ساعد ادّعاء الإسرائيليين ذريعة ما، في كلّ مرة يعتدون فيها على الفلسطينيين، في الحفاظ على درع الحصانة الذي سمح لإسرائيل بمواصلة سياساتها الإجرامية من دون خوف من أي ردّ فعل ذي معنى من المجتمع الدولي. وقد ساعدت هذه الذريعة في إبراز صورة إسرائيل كجزء من العالم الديمقراطي والغربي، ما جعلها في منأى عن أي إدانة وعقوبات. وخطاب الدفاع والانتقام هذا برمّته مهم بالنسبة لدرع الحصانة الذي تحظى به إسرائيل من حكومات الشمال العالمي.

تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم هو رسالة صريحة تُنقَل إلى اليهود الإسرائيليين من خلال نظامهم التعليمي ونظام تنشئتهم الاجتماعية في الجيش ووسائل الإعلام والخطاب السياسي لإكمال الإبادة

لكن إسرائيل تتخلّى اليوم أيضاً، مع استمرار عمليتها، عن الذريعة، كما فعلت في العام 1948، وهذا ما يجعل حتى أعظم مؤيديها يجدون صعوبة في تأييد سياساتها. 

بلغ حجم الدمار، وعمليات القتل الجماعي، والإبادة الجماعية في غزّة مستوى يجعل الإسرائيليين يجدون صعوبة متزايدة في إقناع حتّى أنفسهم بأن ما يفعلونه هو في الواقع دفاع عن النفس أو رد فعل. ولذلك، قد يجد المزيد والمزيد من البشر في المستقبل صعوبة في قبول هذا التفسير الإسرائيلي للإبادة الجماعية في غزة.

بات من الواضح بالنسبة إلى معظم البشر أن المطلوب هو سياق وليس ذريعة. ويبدو من الجلي، تاريخياً وأيديولوجياً، أنّ السابع من تشرين الأول/أكتوبر يوظّف كذريعة لاستكمال ما عجزت الحركة الصهيونية عن إكماله في العام 1948.

في العام 1948، استغلّت الحركة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية مجموعة معيّنة من الظروف التاريخية التي كتبتُ عنها بالتفصيل في كتابي «التطهير العرقي في فلسطين»، وذلك بهدف طرد نصف سكّان فلسطين. وكما ذكرنا، فقد دمّروا في هذه العملية نصف القرى الفلسطينية، وهدموا معظم البلدات، ومع ذلك بقي نصف الفلسطينيين داخل فلسطين. وواصل الفلسطينيون الذين تحوّلوا إلى لاجئين خارج حدود فلسطين مقاومتهم الفلسطينية، ولذلك لم يتحقّق الهدف الاستعماري الاستيطاني المتمثل في القضاء على السكّان الأصليين، ومنذ العام 1948 إلى اليوم استخدمت إسرائيل على نحو تدريجي كل قوّتها لمواصلة القضاء على السكّان الأصليين.

لا ينطوي القضاء على السكّان الأصليين من البداية إلى النهاية على عملية عسكرية فحسب، يمكنك في خلالها احتلال مكان ما وذبح شعبه أو طردهم. بل يجب أن يكون الأمر مبرّراً أو يتوقّف، والسبيل للقيام بذلك هو نزع متواصل لإنسانية أولئك الذين تنوي القضاء عليهم. لا يمكنك أن تقتل البشر على نطاق واسع أو أن تبيدهم إن لم تنزع إنسانيتهم. ولذلك، فإن تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم هو رسالة صريحة وضمنية تُنقَل إلى اليهود الإسرائيليين من خلال نظامهم التعليمي ونظام تنشئتهم الاجتماعية في الجيش ووسائل الإعلام والخطاب السياسي. ولا بدّ من نقل هذه الرسالة والحفاظ عليها إذا ما أُريد إكمال الإبادة.

لهذا، نحن نشهد محاولة جديدة وحشية على نحو خاص لاستكمال الإبادة. ومع ذلك، فإن الأمر ليس ميؤوساً منه. في الواقع، من المفارقة أنّ هذا التدمير اللاإنساني لغزّة يكشف هو ذاته عن فشل المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. قد يبدو هذا سخيفاً، لأنني أصف صراعاً بين حركة مقاومة صغيرة، حركة التحرّر الفلسطينية، ودولة قوية ذات آلة عسكرية وبنية تحتية أيديولوجية لا ينصبّ تركيزها سوى على تدمير السكّان الأصليين أو الشعب الفلسطيني. وليس لحركة التحرّر هذه حلف قوي خلفها، في حين تحظى الدولة التي تواجهها بحلف قوي من الولايات المتحدة إلى الشركات المتعدّدة الجنسيات، وشركات أمن الصناعة العسكرية، ووسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية الرئيسة. نحن نتحدث عن شيء يكاد يبدو ميؤوساً منه ومحبطاً لأننا أمام هذه الحصانة الدولية لسياسات الإبادة التي بدأت منذ المراحل الأولى للصهيونية وحتى اليوم. ربما يبدو هذا أسوأ فصل في المحاولة الإسرائيلية دفع سياسات الإبادة إلى مستوى جديد، وإلى جهد أكثر تركيزاً لقتل آلاف الأشخاص في فترة قصيرة من الزمن كما لم يجرؤ الإسرائيليون أن يفعلوا من قبل.

كيف يمكن لهذه اللحظة، إذاً، أن تكون لحظة أمل أيضاً؟ أولاً وقبل كل شيء، هذا النوع من الكيان السياسي، أو من الدولة التي يتعيّن عليها الاستمرار في تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم لتبرير إبادتهم، هو أساس هشّ للغاية إذا ما نظرنا إلى المستقبل.

كان هذا الضعف البنيوي واضحاً بالفعل قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، وجزء من هذا الضعف هو حقيقة أنه إذا ما ألغينا مشروع الإبادة، لن يبقى سوى أقلّ القليل مما يوحّد مجموعة البشر الذين يعرِّفون أنفسهم على أنهم الأمة اليهودية في إسرائيل.

حتى النكبة الكارثية، لا تقارن بما نراه الآن وما سنراه في الأشهر القليلة المقبلة. نحن، كما أخمِّن، في الأشهر الثلاثة الأولى من فترة ستمتدّ لسنتين وستشهد أسوأ أنواع الفظائع التي يمكن أن تلحقها إسرائيل بالفلسطينيين

إذا استثنينا ضرورة قتال الفلسطينيين وإبادتهم، يتبقّى أمامنا معسكران يهوديان متحاربان، سبق أن رأيناهما يتقاتلان فعلياً في شوارع تل أبيب والقدس حتى 6 تشرين الأول/أكتوبر 2023. إذ شهدنا مظاهرات ضخمة قام بها اليهود العلمانيين، أو من يصفون أنفسهم باليهود العلمانيين - ومعظمهم من أصل أوروبي - ويعتقدون أنه من الممكن إنشاء دولة ديمقراطية تعدّدية مع الإبقاء على الاحتلال والتمييز العنصري تجاه الفلسطينيين داخل إسرائيل، في مواجهة نوع جديد مسياني من الصهيونية تطوّر في المستوطنات اليهودية في الضفّة الغربية، وهو ما أطلقتُ عليه دولة يهودا التي ظهرت فجأة بين أوساطنا، معتقدين أنّ لديهم الآن طريقة لخلق نوع من الثيوقراطية الصهيونية من دون أي اعتبار للديمقراطية، ومؤمنين أنّ تلك هي الرؤية الوحيدة لدولة يهودية مستقبلية.

ليس ثمّة شيء مشترك بين هاتين الرؤيتين سوى أمرٌ واحد: وهو أنّ كلا المعسكرين لا يهتمّان بالفلسطينيين، ويرى أصحابهما أنّ بقاء إسرائيل مقرون باستمرار سياسات الإبادة تجاه الفلسطينيين. لا يبدو هذا منطقياً. ومن شأنه أن يتداعى وينفجر من الداخل لسبب أنّه لا يمكنك أن تحافظ على تماسك دولة ومجتمع في القرن الحادي والعشرين على أساس أن شعورهما المشترك بالانتماء هو جزء من مشروع إبادة جماعية. يمكن أن يكون الأمر على هذا النحو بالتأكيد بالنسبة للبعض، لكنّه ليس كذلك بالنسبة للجميع.

لقد سبق أن رأينا قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر كيف يفكّر الإسرائيليون، من أصحاب الفرص في أجزاء أخرى من العالم نظراً إلى جنسيتهم المزدوجة ومهنهم وقدراتهم المالية، في نقل أموالهم وأنفسهم خارج دولة إسرائيل. ما سيتبقى بعد ذلك هو مجتمع ضعيف اقتصادياً، يقوده هذا النوع من الالتحام بين صهيونية مسيانية وأخرى عنصرية ذات سياسات إبادية تجاه الفلسطينيين. نعم، سيكون ميزان القوى في البداية في جانب الإبادة، وليس في جانب ضحايا الإبادة، لكن ميزان القوى ليس محلياً فحسب، بل إقليمياً ودولياً أيضاً، وكلما كانت السياسات الإبادية أكثر قمعاً (ومن البشع أن نقول ذلك لكنه صحيح) كلما قلّت قدرة أصحابها على التستر عليها باعتبارها «رداً» أو «انتقاماً»، وكلّما زاد النظر إليها على أنها سياسة إبادة جماعية وحشية. ولذلك، من غير المرجّح أن تستمر الحصانة التي تحظى بها إسرائيل اليوم في المستقبل.

هكذا، أجد حقاً أنّ ما نشهده في هذه اللحظة حالكة الظلمة، وهي كذلك لأن تصفية الفلسطينيين انتقلت إلى مستوى جديد، هو أمر غير مسبوق. ومن حيث الخطاب الذي تستخدمه إسرائيل، وكثافة سياسات الإبادة وهدفها، لم يسبق أن كان هناك فترة كهذه في التاريخ، فهذه مرحلة جديدة من الوحشية ضد الفلسطينيين. حتى النكبة التي كانت كارثة عصيّة حتى على التصوّر، لا تقارن بما نراه الآن وما سنراه في الأشهر القليلة المقبلة. نحن، كما أخمن، في الأشهر الثلاثة الأولى من فترة ستمتدّ لسنتين وستشهد أسوأ أنواع الفظائع التي يمكن أن تلحقها إسرائيل بالفلسطينيين.

لكن حتى في هذه اللحظة المظلمة، علينا أن نفهم أن المشاريع الاستعمارية الاستيطانية التي تتداعى تستخدم دائماً أسوأ أنواع الوسائل في محاولتها إنقاذ مشروعها. حدث هذا في جنوب أفريقيا وجنوب فيتنام. لا أقول هذا من باب التمنّي، ولا أقول هذا بوصفي ناشطاً سياسياً: بل أقوله كباحث في شؤون إسرائيل وفلسطين بكل الثقة في مؤهلاتي العلمية. أقول، على أساس تفحّص مهني يرتكز على الوقائع، إننا نشهد نهاية المشروع الصهيوني، ولا شكّ في ذلك.

لقد وصل هذا المشروع التاريخي إلى نهايته وهي نهاية عنيفة: عادة ما تنهار مشاريع كهذه بعنف، ما يجعل اللحظة خطرة للغاية بالنسبة إلى ضحايا هذا المشروع، والضحايا هم دائماً الفلسطينيون مع اليهود، لأن اليهود أيضاً هم ضحايا الصهيونية. وهكذا فإن عملية الانهيار ليست لحظة أمل فحسب، بل هي أيضاً الفجر الذي سينبثق بعد الظلام، وهي الضوء في آخر النفق.

لكن الانهيار على هذا النحو ينتج عنه فراغ. يظهر الفراغ فجأة؛ مثل جدار يتآكل ببطء بسبب الصدوع فيه، ثم ينهار بغتةً. ولا بد لنا من أن نكون مستعدين لانهيارات كهذه، أو لاختفاء دولة، أو لتفكّك مشروع استعماري استيطاني. لقد رأينا ما حدث في العالم العربي، حيث لم يحل محل الفوضى التي أنتجها الفراغ أي مشروع بنّاء وبديل؛ وفي مثل هذه الحالة تستمر الفوضى.

هناك أمر واحد واضح، وهو أن من يفكّر في البديل للدولة الصهيونية عليه ألا يبحث في أوروبا أو الغرب عن نماذج تحل محل الدولة المنهارة. هناك نماذج محلّية أفضل بكثير وهي إرث من الماضي القريب والأبعد للمشرق (شرق البحر الأبيض المتوسط) والعالم العربي ككلّ. تتمتع الفترة العثمانية الطويلة بمثل هذه النماذج والموروثات التي يمكن أن تساعدنا في أخذ أفكار من الماضي للنظر إلى المستقبل.

يمكن لهذه النماذج أن تساعدنا في بناء مجتمع مختلف تماماً يحترم الهويات الجماعية فضلاً عن الحقوق الفردية، ويُبنى من الصفر كنوع لنموذج جديد يستفيد من التعلّم من أخطاء تفكيك الاستعمار في أجزاء كثيرة من العالم، بما في ذلك العالم العربي وأفريقيا. ونأمل أن يؤدي ذلك إلى خلق كيان سياسي من نوع مختلف يكون ذا تأثير كبير وإيجابي على العالم العربي ككل.

نشر هذا المقال على موقع «لجنة حقوق الإنسان الإسلامية» في الأول من شباط/فبراير 2024.