
تجربة التجويع في غزة
تُحوِّل إسرائيل، بدعم من الولايات المتّحدة، المساعدات الغذائية في غزّة أداة من أدوات الحرب. فمنذ اندلاع العدوان، فرضت إسرائيل قيوداً صارمة على دخول المساعدات، ثم خفّفتها مع صدور تحذيرات من مجاعة، لتعود وتشدّدها مجدداً بعد انحسار الاهتمام العالمي. والآن، ومع بدء تنفيذ آلية جديدة لتوزيع المساعدات وسط بحر من الدم، يبدو أن هذه الخطة تهدد بتكريس الجوع بدلاً من معالجته.
فيما تسعى الوساطات للتوصل إلى وقف دائم لإطلاق نار، تحوّلت خطة المساعدات الأميركية-الإسرائيلية الجديدة إلى جبهة إضافية في الحرب على غزة. فقد أُعلن عن «مؤسسة غزة الإنسانية»، المسجّلة في الولايات المتحدة، في أيار/مايو، لتتجاوز الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية التي لطالما أدارت العمل الإنساني في القطاع. غير أن المدير التنفيذي للمؤسسة استقال قبل أن توزّع وجبة واحدة، مشيراً إلى انتهاكات صارخة للمبادئ الإنسانية. وبعد أيام فقط، تحولت الخطة الأميركية-الإسرائيلية لتوزيع الحصص في أربعة «مراكز محصّنة» إلى فوضى قاتلة، كما كان متوقعاً. فمنذ بدء عمليات المؤسسة، قُتل عشرات الفلسطينيين، الكثير منهم بنيران إسرائيلية، أثناء محاولتهم الوصول إلى نقاط التوزيع، وأُصيب العشرات الآخرون بجروح.
منذ بداية الهجوم الإسرائيلي على غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، فُرضت قيود خانقة على دخول المساعدات. وتبعاً لنمط عام تكرّر ثلاث مرات حتى الآن، فرضت إسرائيل حصاراً شبه تام استمر كل مرّة حوالي 90 يوماً – مرتين في شمال غزة ومرة على القطاع بأكمله. وعندما أصدرت الأمم المتحدة وجهات أخرى تحذيرات من مجاعة وشيكة، كما حدث في آذار/مارس وتشرين الثاني/نوفمبر 2024، خفّفت إسرائيل القيود مؤقتاً لزيادة تدفّق الإمدادات، ثم أعادت تشديدها مع انحسار الزخم الدولي. وفي أيار/مايو، وأمام تحذير جديد من المجاعة بعد إغلاق دام 11 أسبوعاً، فتحت إسرائيل بعض المعابر جزئياً بينما أبقت على غالبية القيود. وإذا استمر هذا النمط، فإن حصاراً جديداً – جزئياً أو كلياً – سيُعاد فرضه مجدداً متى خفت الضغط السياسي.
يعتمد هذا النمط القاسي على تمييز مميت بين التعريفات. ففي مصطلحات الآلية الإنسانية التي تقودها الأمم المتحدة، تُعرَّف «المجاعة» بأنها حدٌّ إحصائي يتطلب الوصول إلى نسبة محدّدة من انعدام الأمن الغذاءي وسوء التغذية والوفيات. أما «التجويع» – وهو تآكل الأعضاء البشرية، وانهيار المناعة، وتراجع الوظائف الإدراكية – فيبدأ قبل بلوغ هذه العتبة. قد يختلف المراقبون حول ما إذا كانت معاناة غزة قد بلغت مستوى المجاعة، لكن أجساد سكانها لا تنتظر البيولوجي. وفقاً لتصنيف مراحل الأمن الغذائي المتكامل، وهو المعيار الذي تستخدمه الأمم المتحدة، يواجه جميع سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون انعداماً في الأمن الغذائي يهدد الحياة؛ وأكثر من نصفهم مصنّفون في المرحلة الرابعة (الطوارئ) ويعيشون على الفتات، بينما يصنّف ربع السكان في المرحلة الخامسة (الكارثة)، حيث يختفي الغذاء وتنهار المجتمعات. وكل دورة جديدة جديدة من الحرمان يتبعها تعافٍ جزئي تضيف ضرراً طويل الأمد، يمتد عبر الأجيال.
يبدو أن العالم يشهد تجربة مروّعة: محاولة لإبقاء سكان غزة تحت عتبة المجاعة إلى أجل غير مسمى، مع استخدام الغذاء كسلاح حرب. وبعد تدمير القدرة المحلية على إنتاج الغذاء، بات التحكّم بالمعابر يعني التحكّم بالبقاء على قيد الحياة ذاته. ومن تموز/يوليو 2024 حتى وقف إطلاق النار في كانون الثاني/يناير 2025، فرضت القيود الإسرائيلية على برنامج الأغذية العالمي الاكتفاء بتوصيل أقل من 1600 سعرة حرارية يومياً للفرد، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى البالغ 2100 سعرة. وتَعِدُ «مؤسسة غزة الإنسانية» برفع المعدّل إلى 1750 سعرة فقط، وتوزيعها في 4 «المراكز المحصّنة» يجب على الفلسطينيين عبور مناطق القتال للوصول إليها. وإذا أدت الفوضى الناتجة إلى إفشال هذا الهدف غير الكافي أصلاً ولم تستطع المؤسسة تقديم المساعدات الكافية، ستقترب غزة من الموت الجماعي الذي حذرت منه لجنة مراجعة المجاعة التابعة لتصنيف مراحل الأمن الغذائي المتكامل.
التجويع كأداة للحكم
لم تكن خطة «مؤسسة غزة الإنسانية» المرة الأولى التي تحسب فيها إسرائيل السعرات الحرارية التي يتناولها سكان غزة. ففي العام 2011، نظرت المحكمة العليا الإسرائيلية في قضية رفعتها منظمة «غيشا» لحقوق الإنسان ضد وزارة الدفاع الإسرائيلية. وكجزء من قرارها، نشرت المحكمة وثيقة بعنوان «الخطوط الحمراء»، أعدّتها وزارة الدفاع، حدّدت فيها الحد الأدنى اللازم لتجنّب سوء التغذية في القطاع بـ2,279 سعرة حرارية يومياً للفرد. أما اليوم، ومن خلال «مؤسسة غزة الإنسانية»، فتخطط إسرائيل لتقديم ما يعادل 75% فقط من هذا الحد الأدنى، إلى سكان أضعف حالاً بكثير.
تهدف «مؤسسة غزة الإنسانية» إلى تقليص ما يقارب 400 نقطة توزيع إغاثية قائمة بنحو 4 «مواقع آمنة»، مع احتمالية التوسع لاحقاً إلى 10 مواقع. ولكن للوصول إلى هذه النقاط، يجب على الفلسطينيين أن يسيروا عشرات الكيلومترات أحياناً، وغالباً عبر مناطق قتال، واجتياز نقاط تفتيش بيومترية. وبعد الحصول على حصصهم، عليهم أن يحملوها بأنفسهم إلى منازلهم. هذه الرحلة منهكة للأصحاء، فكيف بالجوعى أو الجرحى.
يبدو أن العالم يشهد تجربة مروّعة: محاولة لإبقاء سكان غزة تحت عتبة المجاعة إلى أجل غير مسمى، مع استخدام الغذاء كسلاح حرب
تفاخر «مؤسسة غزة الإنسانية» بأنها ستوزّع 300 مليون وجبة في خلال أول 90 يوماً، لكن الحسابات تكشف واقعاً أكثر قتامة. عند تقسيم هذا الرقم على السكان، ينتج ما يعادل 1.6 «وجبة» للفرد. علماً أن المؤسسة لا توضح تعريفها «لـلوجبة»، ويبدو أن الحصة اليومية تتكون من 1,750 سعرة حرارية من الأطعمة غير المطهية، تسلّم لأشخاص لا يملكون المياه النظيفة أو الوقود اللازم للطبخ. وكذلك لا تقدّم آلية «مؤسسة غزة الإنسانية» أي رعاية صحية أو مأوى أو مساعدات أخرى ضرورية للبقاء. لا يشبه الأمر برنامجاً إغاثياً منظّماً بقدر ما هو إلقاء لسلع خام بشكل فوضوي داخل غزة. والتركيز على أعداد «الوجبات» يصرف الانتباه عن الحقيقة: هذه الحصص غير كافية، ولا يمكنها دعم الحياة البشرية، ناهيك عن استعادة الصحة لدى شعب أنهكته أشهر من الحرمان.
في الواقع، تدمج هذه الآلية الجديدة المساعدات الإنسانية ضمن عملية «مركبات جدعون»، وهي الحملة العسكرية التي أطلقتها إسرائيل في أيار/مايو بهدف فرض سيطرة مفتوحة الأمد على غزة. وقد وصف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هدفها بإفراغ المناطق الشمالية التي تنوي إسرائيل «تطهيرها»، مع حشر الفلسطينيين في مناطق «معقمة» تحت سيطرة الجيش جنوباً، في تناقض واضح مع تصريحات «مؤسسة غزة الإنسانية» عن إنشاء مواقع توزيع في شمال غزة. كما أن نقاط التفتيش البيومترية تحوّل طلب الطعام إلى عملية جمع معلومات استخباراتية. وتساهم الحصة الأطعمة المحدودة وغير المطهية والمقدّرة بنحو 1,750 سعرة حرارية، من دون توفير رعاية صحية أو مياه نظيفة، في تهيئة الظروف للتهجير القسري من غزة – وهو ما يسميه نتنياهو بشكل ملطّف «الهجرة الطوعية»، والتي باتت شرطاً معلناً لإنهاء الحرب.
وتُظهر تصريحات المسؤولين الإسرائيليين وداعميهم أنهم يعتبرون تجنّب المجاعة نوعاً من «المسؤولية الدبلوماسية». ففي 19 أيار/مايو، صرّح نتنياهو بأن على إسرائيل أن تقدم «الحد الأدنى من المساعدة» لتجنّب انتشار «صور» عن الجوع والمجاعة في واشنطن، لأنها قد تُهدد الدعم الأميركي لحملتها العسكرية. وسواء بدافع القناعة أو المصلحة السياسية، لا يعتبر رئيس الوزراء وحده التجويع سياسة شرعية ما دامت دون عتبة الغضب الدولي. ففي كانون الثاني/يناير الماضي، أشاد السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل جاك ليو بأن غزة لم «تتجاوز عتبة سوء التغذية والمجاعة»، في تصريح يبدو منفصلاً تماماً عن الواقع الغذائي في القطاع، بل ويتناقض مع تحليلات ممولة من الحكومة الأميركية نفسها.
تقدّم هذه التصريحات الحد الأدنى من تجنّب الموت الجماعي على أنه نجاح إنساني. وهي تتعامل مع تحذيرات المجاعة بوصفها سقفاً يجب البقاء تحته، لا أرضية يجب النهوض فوقها. فعندما اقترب شمال غزة من هذا «السقف» في كانون الأول/ديسمبر 2024، سعت إدارة بايدن إلى قمع تحذير من المجاعة، ما أجبر شبكة الإنذار المبكر من المجاعة، الممولة أميركياً، على سحب تحذيرها في خلال يوم واحد، في أول حالة رقابة معروفة في تاريخها الممتد لأربعين عاماً. وكانت الشبكة قد قالت ما هو بديهي: الحصار المفتوح يؤدي حتماً إلى المجاعة، وهو استنتاج كرّره لاحقاً التصنيف المرحلي للأمن الغذائي بعد 5 أشهر. لكن هذا القول البديهي يتحول إلى مسألة خلافية عندما تتعمّد السياسات إنكاره، وعندما يصبح «النجاح» مرهوناً بعدم تجاوز عتبة المجاعة، لا بطرح السؤال الأهم: لماذا يتضور هذا الشعب جوعاً؟ غزة ليست أول حالة تستغل فيها الحكومات مقاييس المجاعة لتحقيق أهدافها، لكنها تُمثل نموذجاً جديداً في تقويض منظومة الإنذار الإنساني العالمية. لقد أُنشئ التصنيف المرحلي للأمن الغذائي لمنع الكوارث، لكنه يُستخدم في غزة لضبط وتيرة حدوثها.
وفي حين ينفي كبار المسؤولين الإسرائيليين علناً نيتهم تجويع غزة أو وجود مجاعة جماعية فيها، ويعيدون القيود المفروضة على المساعدات إلى «الضرورات العسكرية»، يعترف ضباط في الجيش الإسرائيلي بالواقع في أحاديثهم الخاصة، بينما يُعبّر وزراء بارزون عن تأييدهم الصريح له. فقد قال وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إن «تجويع سكان غزة حتى الموت» سيكون «عادلاً وأخلاقياً» حتى يتم إطلاق سراح آخر الأسرى الإسرائيليين. أما وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير فقال إن «المساعدة الوحيدة التي يجب أن تدخل غزة هي تلك التي تساعد على الهجرة الطوعية»، مشدداً أنه طالما الأسرى محتجزون، «فلن يكون هناك طعام، أو كهرباء، أو أي مساعدة أخرى للعدو». تعكس هذه الأصوات المتطرفة توجهاً واسعاً من الكراهية ضد الفلسطينيين، يرى في معاناة المدنيين أمراً مقبولاً.
النتيجة هي سياسة تجويع محسوبة، لا أثر جانبي. ففي خلال فترات وقف إطلاق النار المؤقتة لتبادل الأسرى، وتحت ضغط دبلوماسي، دخلت مئات الشاحنات إلى غزة يومياً، ما يثبت أن القدرة اللوجستية موجودة عندما تتوافر الإرادة السياسية. وقد أخبر مسؤولون إغاثيون «مجموعة الأزمات الدولية» بأن إسرائيل عدّلت بروتوكولات الأمان لتسهيل دخول الشاحنات، عندما كان تدني عددها يهدّد بانهيار وقف إطلاق النار المؤقت وتعطيل عمليات التبادل. إذاً، لم تكن المشكلة يوماً لوجستية، بل سياسية: كم من الحرمان يخدم أهداف إسرائيل، وكم منه يُعرّضها للخطر على الساحة الدولية.
تجربة لا يمكن أن تدوم
لا يمكن للمعادلة الإسرائيلية، أي الحفاظ على الجوع من دون الوصول إلى المجاعة، أن تدوم إلى الأبد. فمع كل دورة من هذا السياسة، يخرج سكان غزة أضعف. يُخفي التركيز على عتبات السعرات الحرارية انهياراً متزامناً في جوانب أخرى: مياه الشرب الملوثة بمياه الصرف الصحي، والحرّ الشديد الذي يقترب في مخيمات مكتظة، وجهاز مناعي منهك بعد 19 شهراً من الحصار وسط نظام صحي مدمر. وفي هذه الظروف، قد تفتك جائحة واحدة بآلاف الأشخاص قبل أن تُعلن الهيئات المعنية حدوث مجاعة. لم يعد خبراء الصحة العامة يتساءلون هل ستندلع الأمراض، بل متى. لقد تحولت غزة إلى تجربة ميدانية لاختبار النقطة التي تتحول فيها سياسة التجويع المنهجي إلى مجاعة خارجة عن السيطرة.
لم تكن المشكلة يوماً لوجستية، بل سياسية: كم من الحرمان يخدم أهداف إسرائيل، وكم منه يُعرّضها للخطر على الساحة الدوليةتُصرّ إسرائيل على أن القيود المفروضة على المساعدات ضرورية لمنع حماس من الاستيلاء عليها. وبينما يُرجّح أن حماس تجني بعض الإيرادات من المساعدات – وهو سلوك شائع بين سلطات الأمر الواقع في مناطق النزاع – تكشف تدقيقات شاملة أن أقل من 1% فقط من المساعدات تعرضت للسرقة، وهي نسبة أقل بكثير من نظيراتها في مناطق أخرى. وعلى الرغم من القدرات الاستخباراتية التي تفخر بها إسرائيل، لكنها لم تُقدم أي دليل على وجود عمليات نهب ممنهجة. بل أكّد ديفيد ساترفيلد، مبعوث إدارة بايدن الإنساني، أن المسؤولين الإسرائيليين لم يذكروا حتى مزاعم سرقة في خلال إحاطاتهم السرية. وأكدت تقارير من الأمم المتحدة والجيش الإسرائيلي أن النهب المنظّم يتم على يد عصابات مسلحة يشجعها الجيش الإسرائيلي كبديل عن سيطرة حماس. وقال مسؤولون إغاثيون وسكان في غزة لـ«مجموعة الأزمات الدولية» إن عصابة «أبو شباب»، المسلحة والمحميّة إسرائيلياً، كانت الأكثر نهباً للمساعدات منذ بداية الحرب.
إن المنطق الحقيقي أعمق من مجرد الخوف من حماس. مدفوعة بعجزها عن إلحاق هزيمة حاسمة بحماس، تبنّت إسرائيل استراتيجية «حرمان الموارد»، وعاملت غزة كأرض عدو موحدة، حيث يمكن لأي كيس طحين أن يُعتبر دعماً للخصم. وبذلك، يتحول الطعام والوقود والدواء إلى أسلحة بدلاً من كونها احتياجات أساسية. ويظهر هذا المنطق بوضوح في الممارسة. ففي منتصف أيار/مايو، منعت إسرائيل برنامج الأغذية العالمي من توزيع الطعام مباشرة على العائلات، بحجة احتمال استيلاء حماس عليه، وأصرّت على توزيعه عبر المخابز. وكما كان متوقعاً، اجتاحت الحشود الجائعة مواقع التوزيع، ما أدى إلى انهيارها في غضون أيام، ثم نُهبت لاحقاً مستودعات جديدة للبرنامج. النتيجة: عقاب جماعي تلقائي، حيث يصبح تجويع حماس مرادفاً لتجويع غزة.
تعتقد الحكومة الإسرائيلية أن هذه الاستراتيجية تؤتي ثمارها. ففي الإحاطات العسكرية، توصف حماس بأنها «في حالة هلع» وتحت ضغط شديد، ويُبدي المسؤولون ثقة في أن آلية المساعدات الجديدة ستكسر قبضتها على غزة بشكل دائم. ويرون في الحشود التي تتحدّى تهديدات حماس وتصل إلى مواقع التوزيع دليلاً على تراجع سيطرة الحركة.
من المؤكد أن حماس تتعرض لضغوط غير مسبوقة بعد شهور من الحصار والهجمات العسكرية المتصاعدة. لكن الاعتقاد بأن قوتها نابعة من قدرتها على توزيع الطعام هو وهم. يخلط المسؤولون الإسرائيليون بين يأس بيولوجي وتحول سياسي. فالاندفاع نحو الغذاء دليل على غريزة البقاء، لا على تغيير الولاء السياسي.
وقد بدأت العمليات الأولى لـ«مؤسسة غزة الإنسانية» في كشف هذه المغالطات. تشير مقابلات إلى أن المواد الموزعة ظهرت في أسواق غزة – سواء لأن المستفيدين باعوها لتلبية احتياجات أخرى، أو لأن الأقوى استولى عليها عند نقاط التوزيع. وفي بعض الأحيان، عملت مواقع« مؤسسة غزة الإنسانية» بنظام «الأحقية لمن يصل أولاً» ما ترك الإمدادات عرضة للسلب من قبل الجموع. وبدلاً من الوصول إلى الأشد حاجة، غالباً ما تنتهي الحصص في أيدي الأقوى. والمفارقة أن هذه الأسواق تُتيح لحماس فرصاً جديدة لاستخلاص الإيرادات. وهذه نتيجة معاكسة تماماً لهدف النظام المزعوم بمنع استفادة الحركة من المساعدات.
قال مسؤولون إغاثيون وسكان في غزة لـ«مجموعة الأزمات الدولية» إن عصابة «أبو شباب»، المسلحة والمحميّة إسرائيلياً، كانت الأكثر نهباً للمساعدات منذ بداية الحرب
وعلى الرغم من ذلك، ليس من المستغرب أن تنظر حماس إلى هذه الآلية كتهديد. فهي تندّد بالمخازن الغذائية بوصفها بنية تحتية للاحتلال وتطالب بإزالتها، في رد متوقع من أي حركة مسلحة ترى أن خصمها يحوّل الإغاثة إلى أداة استراتيجية. والنتيجة: تنافس قاتل على توزيع الطعام. وهذا ما يحدث بالضبط عندما تفقد الإغاثة حيادها وتُوزّع من مواقع عسكرية. إن دمج العمل الإنساني ضمن حملة عسكرية يضمن أن يتقاتل الطرفان للسيطرة عليه، فيما يبقى المدنيون محاصرين بينهما.
بديل جاهز يُهمل عمداً
تحمل التجارب السابقة دروساً قاسية عمّا يعنيه أن يستهلك الإنسان أقل من 1600 سعرة حرارية يومياً لفترات طويلة. ففي تجربة التجويع الشهيرة التي أُجريت في ولاية مينيسوتا الأميركية بين عامي 1944 و1945، تعرض متطوعون أصحاء لنظام غذائي مشابه، فخسروا الوزن في خلال أسابيع، وتدهورت حالتهم تدريجياً لتشمل ضمور الأعضاء وتراجعاً معرفياً واضطرابات نفسية – وكل ذلك على الرغم من خضوعهم لإشراف طبي. أما الفلسطينيون في غزة، فهم يعانون ظروفاً مماثلة تحت القصف المستمر وبغياب شبه تام لأي رعاية صحية.
ومع ذلك، هناك بديل قابل للتطبيق يتم تجاهله عمداً. ففي 16 أيار/مايو، وبعد مشاورات مكثفة مع وحدة التنسيق المدني في الجيش الإسرائيلي، عرضت الأمم المتحدة خطة شاملة تستجيب للهواجس الأمنية الإسرائيلية: شحنات مشفرة برموز QR، مراقبون أمميون عند كل معبر، شاحنات مزودة بنظام تتبع GPS تسلك طرقاً محدّدة مسبقاً، وتوزيع المساعدات عبر 400 نقطة كانت توفر يومياً 1.3 مليون وجبة ساخنة. وفي مصر والأردن، كانت 160,000 منصة شحن – تعادل نحو 8,900 شاحنة – جاهزة للانطلاق.
في الواقع، تجاوزت الخطة الأممية حتى ما طلبته إسرائيل، إذ تضمنت شاحنات مغلقة لمنع السلب، تدقيقات منزلية، وسلطة استبعاد أي جهة إغاثية يُثبت تورطها في تحويل المساعدات إلى غير مستحقيها. في المقابل، طلبت الأمم المتحدة فقط تحكّماً إنسانياً بالعمليات وضمانات بالتنفيذ: ساعات منتظمة على المعابر، تأمين مرور من الجيش الإسرائيلي، ومراقبين مدرّبين يحلون محل الشرطة المدمرة في غزة. ولكن ما بدا أنه خط أحمر لإسرائيل هو رفض الخطة تسليم بيانات المستفيدين، التي تطلبها تل أبيب لأغراض المراقبة. النتيجة: تجاهل تام للخطة، بلا رد.
تُجاهر «مؤسسة غزة الإنسانية» بما كان يُقال سابقاً ضمناً: الغذاء قوة، وهو اليوم في صلب الخطة العسكرية الإسرائيلية. فمن خلال دمج السيطرة الغذائية في بنية الحرب، تستبدل إسرائيل سياسة الإغلاق الكامل بآلية أكثر تعقيداً: «ممرات إنسانية» تتحكم بحركة المدنيين بما يخدم تكتيكات الميدان، وفحوصات بيومترية تُجيز حرمان أي شخص تُصنفه إسرائيل على أنه تهديد. وبحسب كيفية تعريف العلاقة بـ«حماس»، قد يُحرم عشرات الآلاف – إن لم يكن أكثر – من الحصول على الغذاء.
بقاء غزة مشروط بإنهاء الحرب، وإنهاء سياسة التجويع التي باتت إسرائيل تعتبرها شرطاً للانتصار
لكن استدامة هذه الآلية موضع شك. وبغياب الكفاءة التي تتيحها شبكات الإغاثة الأممية الراسخة، مثل الأمم المتحدة المغيّبة عن المشاركة، تعتمد« مؤسسة غزة الإنسانية» على سوق إسرائيلية بأسعار أعلى. وقد موّلت إسرائيل المشروع حتى الآن، لكن استقالات وانسحابات رفيعة المستوى – مثل انسحاب مجموعة بوسطن الاستشارية الأميركية، التي أنهت مشاركتها وفصلت شريكين لتورطهما في عمل غير مصرح به – تثير تساؤلات حول من سيشرف على المشروع ويموّله وسط أجواء سياسية متوترة ومخاطر قانونية متزايدة. وربما تثبت هذه التكاليف أنها لا تقل استحالة عن حساب السعرات الحرارية.
في هذه الأثناء، ينشغل النقاش العام بعدّ الشاحنات اليومية، في تبادل للاتهامات بين المسؤولين الإسرائيليين الذين يحمّلون الأمم المتحدة المسؤولية عن «الفشل اللوجستي»، وموظفي الأمم المتحدة الذين يشيرون إلى عراقيل إسرائيلية متعمدة. لكن بعد 19 شهراً من الحرب وعقدين من الحصار، لم يعد عدد الشاحنات ولا محتواها هو القضية، بل الاستراتيجية المقصودة للتجويع المدروس التي تركت الفلسطينيين في غزة يواجهون جوعاً قاتلاً. الهدف يجب أن يكون الأمن الغذائي لا تعداد الشحنات، أي إنهاء سياسة التجويع نفسها.
سواء عبر الإغلاق الفجائي أو «المراكز المحصّنة»، يفضح دمج التجويع في العقيدة العسكرية حقيقة عارية: عندما تعترف حكومة بأنها لا تستطيع الانتصار من دون إبقاء ملايين البشر على حافة الموت، لا يمكن أن يكون الحل فنياً أو بيروقراطياً. لا تزال خطة الأمم المتحدة الشاملة جاهزة، ويزداد اعتمادها إلحاحاً مع تعثر جولة جديدة من الدبلوماسية. فبقاء غزة مشروط بإنهاء الحرب، وإنهاء سياسة التجويع التي باتت إسرائيل تعتبرها شرطاً للانتصار.
نُشِر هذا المقال في 6 حزيران/يونيو على موقع مجموعة الأزمات الدولية.