
السياسة باعتبارها تطويراً عقارياً
تحويل قطاع غزة إلى أرض بلا مالك
أنطولوجيا العقارات التي يتبناها ترامب ليست فريدة من نوعها تماماً. ويمكن القول إنها تُمثِّل النهاية المتطرفة لاستمرارية التطهير العرقي لفلسطين وتفتيت الأراضي الفلسطينية، الذي بدأ في عام 1948، واشتد بشكل كبير بعد توقيع «اتفاقيات أوسلو».
لا يمكن فصل الإبادة الجماعية والإبادة البيئية في غزة عن التصاميم المتعلقة بحقول الغاز قبالة ساحل غزة، والتي اعتبرها بعض المحللين أيضاً بمثابة شيء مُشتهىً من قِبَل ترامب والولايات المتحدة.
قبيل فوز ترامب الرئاسي الأول في عام 2016، أشار فريدريك جيمسون في كتابه «اليوتوبيا الأميركية» إلى أن «كل السياسة اليوم تدور حول العقارات». وفي إشارة صريحة إلى فلسطين، طرح جيمسون اقتراحاً مفاده أن السياسة ما بعد الحداثية «هي في الأساس مسألة استيلاء على الأراضي، على نطاق محلي وعالمي». وقد كانت فرضية جيمسون صحيحة بما فيه الكفاية خلال الصعود الأولي لترامب، قطب العقارات الجشع، ويتم التحقق منها اليوم بشكل أكبر في أكثر الأشكال شناعة فيما تشير إليه «النيويورك تايمز» - التي «تغسل» بجديَّة كل إهانة تُلحَق بالشعب الفلسطيني - بـ«خطة تنمية غزة». وفي مناسبات عديدة، وبشكل خاص خلال الزيارة الرسمية لرئيس الوزراء الإسرائيلي، مجرم الحرب المطلوب بنيامين نتنياهو، كرَّر ترامب فكرة نقل سكان قطاع غزة بالكامل إلى دول أخرى، خاصَّة الأردن ومصر، قبل إزالة أنقاض الإبادة وتحويل المنطقة إلى «ريفييرا الشرق الأوسط».
أجاب المسؤول الكبير في «حماس» أسامة حمدان باحتداد بأن «تصريحات ترامب حول غزة تكشف عن طبيعة العقلية الأميركية ونظرتها العقارية للأوطان... تُغذِّي تصريحات ترامب الفوضى، وإذا كان يريد توسيع إسرائيل، فعليه أن يفعل ذلك في بلده». بل إن بعض أعضاء «حلف شمال الأطلسي» اعترضوا: فقد صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن «الإجابة الصحيحة ليست عملية عقارية»، بينما أعلن رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز أن «أي معاملة عقارية لا يمكن أن تُخفي الشر والعار والجرائم ضد الإنسانية التي شهدتها غزة في الأعوام الأخيرة».
تشبيه السلطة السيادية (المطلقة) بسلطة مالك العقار شكَّلت التصورات السياسية للفلاسفة السياسيين الأوروبيين من هوبز إلى لوك، ومن الإسبان إلى البريطانيين، وكان هذا التشبيه أساس النظام الاستعماري الحديث
حتى بالنسبة إلى أولئك الذين اعتادوا منذ فترة طويلة على السخافات والبذاءات التي تتدفق بلا انقطاع من رئيس الولايات المتحدة، فإن الشر المركب والابتذال المتمثلان في فكرة بناء منتجعات على مقابر جماعية يُحيِّران العقل. وبعد عقود من عرقلة المطالبات الفلسطينية بتقرير المصير وأحكام القانون الدولي ضد الفصل العنصري وضم الأراضي والنقل القسري للسكان والتطهير العرقي، تَحول تواطؤ الولايات المتحدة في الإبادة الجماعية الإسرائيلية في عهد إدارة بايدن-هاريس الآن إلى تخلصٍ كاملٍ ليس فقط من «النظام الدولي القائم على القواعد» المتبقي ولكن أيضاً من فكرة مطالبات السيادة التي تربط الدول والأقاليم والسكان.
رُبِطَت السيادة والملكية ببعضهما البعض في الفكر السياسي الحديث منذ القرن السادس عشر على الأقل. وطبيعة السلطة السيادية باعتبارها «إمبريوم» (imperium) (السلطة التنفيذية العُليا) في علاقتها بالـ«دومينيوم» (dominium) (المِلكية المطلقة)، ومسألة المدى الذي يمكن فيه للسَيِّد أن يتدخَّل في حقوق ملكية رعاياه، رَفَدَت النظريات الرئيسة للدولة؛ فتشبيه السلطة السيادية (المطلقة) بسلطة مالك العقار شكَّلت التصورات السياسية للفلاسفة السياسيين الأوروبيين من هوبز إلى لوك، ومن الإسبان إلى البريطانيين، وكان هذا التشبيه أساس النظام الاستعماري الحديث. وأصبحت السيادة كـ«إمبريوم» هي الأساس للاستحواذ الاستعماري على أراضي السكان الأصليين وتحويل الأرض إلى ملكية (دومينيوم).
أصبحت الملكية في شكلها العقاري المالي تهيمن على الاقتصادات النيوليبرالية. وتجد أيديولوجيا العقارات الآن تعبيراً جيوسياسياً مباشراً، حيث تُشكِّل قوالب السلطة التي يمارسها ترامب وحاشيته. وفي حين كانت الولايات المتحدة، منذ بداياتها كمستعمرة استيطانية، ما أطلق عليه المؤرخ آلان غرير «شكلاً احتكارياً لشراء العقارات»، في امتدادٍ منطقيٍ للميل الإمبريالي البريطاني للعمل «كمُلَّاك عقاريين مُحسِّنين» (على حد تعبير راناجيت غوها)، فإن مقاربة ترامب للسيطرة من دون هيمنة متجذِّرة بشكل أضيق في العقلية الأساسية لمطور العقارات: الاستحواذ على الممتلكات، أو بشكل أكثر دقة «المواقع» (المُقتلعة من تاريخها)، وتطويرها ثم تأجيرها أو استئجارها أو بيعها بهدف وحيد هو الربح.
يدعو الرئيس الأميركي الجميع إلى تَبنِّي رؤيته التطويرية العقارية، أو ما قد نطلق عليه مصطلح أنطولوجيته العقارية، كبديل للقانون الدولي
تاريخياً، تضمَّنت سرقة أراضي السكان الأصليين مجموعة كاملة من التقنيات القانونية - الحروب القانونية، باختصار - بما في ذلك المسوحات الهندسية، ورسم الخرائط، وعقود الملكية، وفي بعض الحالات المعاهدات (التي وُقِّعَت بسوء نية استعمارية)، وفي حالات أخرى، عقود البيع. وأُطِّر كل هذا كجزء من مهمة حضارية للتَّحسين. تتخلَّى أيديولوجيا الإمبراطورية العقارية - سواء كانت شخصية أو وطنية - عن هذه السردية التشريعية. وبدلاً من ذلك، تُروِّج لدافع الرِّبح الواضح والصريح كذريعة للعنف المتمثل في إزالة الأحياء العشوائية، والتدهور المنظَّم، والتحديث الحَضَري، والأمولة. وعلى الرغم من أن «الحروب الحَضَرية»، كما حللتها المهندسة المعمارية والمخططة البرازيلية راكيل رولنيك، ظاهرة عالمية، فإن الطريقة التي تدفع بها جانباً المبررات المعتادة للسياسة الخارجية والدبلوماسية والقانون الدولي تمثل خِسَّةً جديدة للتصاميم النيوإمبريالية الأميركية - وإن كان قد تمَّ التمرُّن عليها على نطاق واسع في نهب العراق وتقسيمه. لكن في حين نفذت «سلطة الائتلاف المؤقتة» بقيادة بول بريمر عقيدة الصدمة النيوليبرالية من خلال شكل من أشكال الخصخصة الدستورية، فإن النهب هنا أقل توسُّطاً: استيلاء، ببساطة.
قبل ستة أعوام، أطلق صهر ترامب جاريد كوشنر خطته لفلسطين والتي جاءت بعنوان «السلام من أجل الرخاء». ورفضها مُعلِّقون باعتبارها ليست أكثر من كُتيب دعاية عقاري. وبعد عام، دُمِجَت في «خطة ترامب للسلام»، المعروفة أيضاً بـ«صفقة القرن»، والتي سعت إلى توحيد الجزء الأكبر من الأراضي التي استولت عليها إسرائيل من خلال المستوطنين في الضفة الغربية مع إنشاء «بانتوستان» فلسطيني تابع ومُجزَّأة تماماً و«منزوع السلاح» - أي، في الأساس، تجميد «عملية أوسلو» عند أدنى مستوياتها مع تحييد أي قدرات فلسطينية للحكم الذاتي أو الدفاع عن النفس. وفي شباط/فبراير من العام الماضي، بينما كانت إسرائيل تستهدف وتقتل عشرات المدنيين على أساس يومي، طرح كوشنر، في «كلية هارفارد للحكم»، فكرة تهجير المدنيين مؤقتاً من غزة بينما «تُنظِّف» إسرائيل القطاع بهدف تطوير «ممتلكاته البحرية القيمة للغاية». (لم يكن اقتراح كوشنر المرتبط بنقل سكان غزة إلى موقع في النقب مصمماً على الإطلاق لكسب ود المستوطنين الفاشيين الثيوقراطيين في حكومة نتنياهو).
تعكس تصريحات ترامب الأخيرة إعلانات صهره، لكنها تشير أيضاً إلى تحوُّل إلى منطقٍ يبدو فيه التعبير الشفهي الفارغ عن الشرعية فائضاً عن الحاجة. يدعو الرئيس الأميركي الجميع إلى تَبنِّي رؤيته التطويرية العقارية، أو ما قد نطلق عليه مصطلح أنطولوجيته العقارية، كبديل للقانون الدولي. وفي حديثه إلى مراسلين على متن طائرته الرئاسية (حيث كشف أيضاً عن خريطته لـ«خليج أميركا»)، قال ترامب عن قطاع غزة: «فَكِّروا فيه كموقع عقاري كبير. ستمتلكه الولايات المتحدة وسنعمل ببطء شديد - إذْ لسنا في عجلة من أمرنا - على تطويره وإحلال الاستقرار في الشرق الأوسط». من خلال الحديث عن «الأخذ» و«الامتلاك» و«الشراء» - من دون تحديد «مِن مَن؟» - اقترح ترامب أيضاً أن إعادة البناء قد تنطوي على نوع من التأجير. (قد نعطيه لدول أخرى في الشرق الأوسط لبناء أقسام منه»).
تبدو هذه النسخة المعاصرة من الغزو الإمبراطوري خالية من أي فكر سياسي حول الحكم، أو الحكم القانوني، أو السلطة، أو حتى «مسألة السكان الأصليين» كما كانت الأمور لتُطرَح في عصر الإمبراطورية
وفي مقابلة لاحقة على قناة «فوكس نيوز» مع بريت باير، أكد أن هذا الاستحواذ على قطاع غزة من شأنه أن يلغي أي حق في العودة لسكانه الفلسطينيين. وفي هذه المقابلة أيضاً، بدا أن ترامب قد نقل ملكية المنطقة من حكومة الولايات المتحدة إلى نفسه: «سنبني مجتمعات آمنة، بعيداً قليلاً عن مكانهم، حيث يوجد كل هذا الخطر. وفي غضون ذلك، سأمتلك هذه الأرض. فكروا في الأمر باعتبارها تطويراً عقارياً للمستقبل. ستكون قطعة أرض جميلة. ولن يتم إنفاق أموال كبيرة عليها».
إن عدم اليقين بشأن ما إذا كان ترامب، الذي يبدو هنا وكأنه تناسخ صارخ للملك ليوبولد الثاني، سيمتلك غزة شخصياً أم لا يشير إلى قطيعة راديكالية مع فكرة أن صاحب منصب الرئيس لا ينبغي أن يُثرى شخصياً أثناء وجوده في منصبه، ويجعل المخاوف بشأن «صراعات المصالح»، التي ابتليت بها ولايته الأولى، تبدو ساذجة بشكل مؤثِّر بالمقارنة. تبدو هذه النسخة المعاصرة من الغزو الإمبراطوري خالية من أي فكر سياسي حول الحكم، أو الحكم القانوني، أو السلطة، أو حتى «مسألة السكان الأصليين» كما كانت الأمور لتُطرَح في عصر الإمبراطورية. هنا، من المفترض أن يختفي الفلسطينيون بالطريقة نفسها التي يختفي بها السكان من مبنى «يُفرَّغ» كجزء من عملية انحدار مدروس.
في الواقع، في حين أن الحكومة الإسرائيلية مُتحمِّسة للغاية بشأن هذا النقل السكاني الكامل الذي صادقت عليه الولايات المتحدة، بما يتماشى مع الفانتازيات الصهيونية الراسخة منذ فترة طويلة، فمن الواضح أيضاً أن الأمر في ذهن ترامب مُجرَّد عملية إزالة على نطاق أوسع لأحياء عشوائية. وما يؤخذ إلى أقصى حدوده المنطقية في هذه الحالة ليس غزواً من خلال حروب قانونية، بل شكل من أشكال التجريد/الترحيل الإبادي، كما لو كانت الولايات المتحدة ليست متواطئة بالفعل تماماً في قتل عشرات الآلاف ومحو معظم البيئة المبنية في غزة، فضلاً عن البنية الأساسية للحياة الجماعية، من المستشفيات إلى الصرف الصحي.
وفي حين تستخدم إسرائيل منذ فترة طويلة قوانين تخطيط استخدام الأراضي والهجمات العسكرية والامتيازات العسكرية لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، فإن خطة ترامب تُمثِّل تحولاً من الاستحواذ على الأراضي لتحقيق ضرورات الدولة ذات السيادة إلى الاستيلاء الواضح والبسيط على الأراضي من أجل الربح. وهذا لا ينفي أن الاستعمار كان دائماً يتعلق بالتراكم والاستخراج والاستغلال، وقد شمل مراراً الجهات الفاعلة الخاصة والشركات. لكن الأمر يستحق تسجيل تحوُّل في ممارسة وصورة السلطة السيادية والإمبريالية، والاستعداد للاستغناء عن الفهم القانوني للأرض والدولة القومية والعلاقات الدولية الذي سادَ - مهما كان ضعيفاً أو منافقاً - لفترة طويلة جداً.
حويل قطاع غزة إلى أرض بلا مالك وهي أداة قانونية حاسمة في ترسانة المستعمِر - قد تجاوز أيضاً السوابق التاريخية من خلال نشر التكنولوجيا العسكرية المعاصرة
في حديث إلى جانب العاهل الأردني الملك عبد الله في البيت الأبيض، رفع ترامب الرهانات، وأشارا إلى أن هذا التطور لم يعد يتطلب شراءً أو معاملة مسبقة: «لن نضطر إلى الشراء، بل سنحصل على غزة. فليس علينا الشراء. لا يوجد شيء يمكن شراؤه». ويبدو أن تحويل قطاع غزة إلى أرض بلا مالك (terra nullius) - وهي أداة قانونية حاسمة في ترسانة المستعمِر - قد تجاوز أيضاً السوابق التاريخية من خلال نشر التكنولوجيا العسكرية المعاصرة. لقد ألحقت إسرائيل مثل هذا الدمار العنيف بالأرض وطبقاتها التحتية - ما تشير إليه «فورنسيك أركيتكتشر» بـ«تحويل الأرض» - إذْ لم يتغيَّر سطح الأرض فحسب، بل قرون التاريخ البشري والبيئي التي تكمن تحتها.
كان المقصود من حجم الدمار جَعْل قطاع غزة غير صالح للسُّكنى. لكن الأمر يتجاوز السوابق التاريخية المعتادة للاستيطان الاستعماري المتمثلة في تحويل الأرض إلى «خراب» من خلال تدمير الحياة الأصلية بطرق تجعل الأرض طَيِّعة لاستيلاء المستوطنين (على الرغم من أن الوضع يُذكِّرنا بقوة بما أطلق عليه جون لووالين «إيكولوجيا الدمار» في سياق حرب الولايات المتحدة ضد فيتنام). وبصرف النظر عن الخطاب التوراتي للانتقام، فقد استغل الجيش الإسرائيلي نفسه أيضاً منطق إنتاج الفضاء باعتباره عقاراً؛ فقد استخدم خرائط تم إنشاؤها في الأصل في سبعينيات القرن العشرين لتقسيم أراضي غزة إلى قطع أرض للاستيطان اليهودي. والغرض الجديد من ذلك هو إرشاد الفلسطينيين إلى الأماكن التي يجب إخلاؤها والذهاب إلى «مناطق آمنة» مزعومة - والتي هي في الواقع مواقع قتل، كما تكشف «فورنسيك أركيتكتشر» في تقريرها «عنفٌ إنسانيٌ: إساءة استخدام إسرائيل للتدابير الوقائية».
في كانون الأول/ديسمبر 2023، أنتجت شركة عقارات إسرائيلية ملصقاً ركَّبَت فيه مخططات منزلية عائلية حديثة على صورة فوتوغرافية لقطاع غزة المدمَّر، وكان الملصق مصحوباً بشعار: «استيقظ! لم يعد امتلاك منزل على الشاطئ بالحلم. فهو الآن بسعر مُخفَّض جداً». في كانون الثاني/يناير 2024، نظَّمت جمعية المستوطنين الإسرائيليين «نحالا»، بقيادة دانييلا فايس، مؤتمراً تحت عنوان «الاستيطان يجلب الأمن»، داعيةً صراحةً إلى «نقل» سكان غزة الفلسطينيين وإعادة توطين اليهود. وقد حضر المؤتمر ما يقرب من ثلث حكومة نتنياهو، وتضمَّن خرائط تدعو المشاركين إلى «تعالوا لبناء منازلكم في غزة»، وتقسيم القطاع إلى مستوطنات وأحياء جديدة، بأسماء عبرية. (الشجاعية، الحي الذي ينحدر منه الشهيد الشاعر رفعت العرعير، على سبيل المثال، سيعاد تسميته تكريماً لجنود «جيش الدفاع الإسرائيلي» الذين قاتلوا في غزة). وفي الوقت نفسه، أقيمت معارض عقارية لبيع عقارات في الأراضي المحتلة في جميع أنحاء الولايات المتحدة وكندا، وكانت بمثابة نقطة اشتعال مهمة بالنسبة إلى حركة التضامن مع فلسطين.
وبالتالي فإن أنطولوجيا العقارات التي يتبناها ترامب ليست فريدة من نوعها تماماً. ويمكن القول إنها تُمثِّل النهاية المتطرفة لاستمرارية التطهير العرقي لفلسطين وتفتيت الأراضي الفلسطينية، الذي بدأ في عام 1948، لكنه اشتد بشكل كبير بعد توقيع «اتفاقيات أوسلو». قُطِّعَت الضفة الغربية إلى مناطق (أ)، و(ب)، و(ج) - ظاهرياً تحت درجات متصاعدة من السيطرة الإسرائيلية من (أ) إلى (ج)، ولكن بحكم الأمر الواقع تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة في جميع المناطق (مع افتقار السلطة الفلسطينية إلى أي شيء يقترب من السيادة على الأراضي الفلسطينية غير المتجاورِة، ومع إدارة إسرائيل المباشرة لـ 61٪ من الضفة الغربية). لكن هذا الانقسام لم يُعرقِل السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، خاصة تطوير العقارات، في المنطقة (أ) التي يفترض أنها تحت سيطرة الفلسطينيين، كما هو مُفصَّل في كتاب كريم ربيع «فلسطين تقيم حفلاً والعالم كله مدعو».
تنضم فانتازيا يارفين الديستوبيَّة حول «شركة غزة ذات المسؤولية المحدودة» إلى رؤية ترامب العقارية لتخلقا مفهوماً للسيادة مخصخصاً وشركاتيَّاً بالكامل و«يخرج» من معايير القانون الدولي أو السياسة الديمقراطية
وفي المستوطنات غير القانونية، نجد إسرائيليين لا يناسبون بالضرورة الصورة النمطية للمتعصبين الدينيين الذين يوجدون عادةً في البؤر الحدودية («شباب التلال»)، بل هم في كثير من الأحيان أسر شابة لا تستطيع شراء عقارات في تل أبيب بسبب ارتفاع الأسعار. وعلى نحو مماثل، كان ما يسمى «غلاف غزة» يقود مرة أخرى عمليات شراء المنازل في إسرائيل بعد أشهر فقط من 7 تشرين الأول/أكتوبر. وفي مختلف أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة، نرى نوعاً معيناً من تطوير العقارات يزدهر في غياب السلامة الإقليمية والسلطة السياسية السيادية. ولا يتعزز هذا فقط من خلال العنف المستمر المتمثل في التهجير والسلب والهدم، بل وأيضاً من خلال الاستيلاء على الموارد الفلسطينية: أي طبقة المياه الجوفية. وكما لاحظ العديد من المعلقين، لا يمكن فصل الإبادة الجماعية والإبادة البيئية في غزة عن التصاميم المتعلقة بحقول الغاز قبالة ساحل غزة، والتي اعتبرها بعض المحللين أيضاً بمثابة شيء مُشتهىً من قِبَل ترامب والولايات المتحدة.
وبين بعض المشجعين لترامب، قوبلت «خطة تطوير غزة» بحماسة. فقد ردد المدوِّن اليميني المتطرف كيرتس يارفين - الذي يستشهد به أمثال بيتر ثيل، وستيف بانون، وج. د. فانس باعتباره مصدر تأثير، والذي نشرت «النيويورك تايمز» مؤخَّراً «بروفايل» عنه - اقتراح ترامب، ودمجه في الخيال التكنولوجي «الليبرتاري» المناهض للديمقراطية، أو ما أطلق عليه كوين سلوبوديان «رأسمالية الانهيار». تنضم فانتازيا يارفين الديستوبيَّة حول «شركة غزة ذات المسؤولية المحدودة» إلى رؤية ترامب العقارية لتخلقا مفهوماً للسيادة مخصخصاً وشركاتيَّاً بالكامل و«يخرج» من معايير القانون الدولي أو السياسة الديمقراطية - على غرار نموذج، على سبيل المثال، «بروسبيرا»، «المدينة المستقلة» في هندوراس التي يمولها رأسماليون مغامرون، من بينهم ثيل، وبالاجي سرينيفاسان، ومارك أندريسن.
بالنسبة إلى يارفين، فإن الشرط المسبق لتحويل غزة إلى «أول شركة سيادية تنضم إلى الأمم المتحدة» ليس مجرد ترحيل شعبها ولكن محو حقوقهم في ملكية الأرض. فكما يعلن:
«غزة، من دون سكانها (والأهم من ذلك، من دون المتاهة المعقَّدة لسندات ملكية الأراضي التي تعود إلى العصر العثماني)، تساوي أكثر بكثير من غزة بسكانها، حتى بالنسبة إلى سكانها. نتحدث هنا عن 140 ميلاً مربعاً من الأراضي المطلة على البحر المتوسط، والخالية من سندات الملكية، والتي تم هدم أبنيتها وإزالة الألغام منها بتكلفة ربما تصل إلى 10 مليارات دولار. ومن شأن هذه الأرض أن تصبح أول مدينة مستقلة مدعومة بشرعية الولايات المتحدة: شركة غزة ذات المسؤولية المحدودة، ورمز سهمها في البورصة هو: GAZA».
بالنسبة إلى يارفين، فإن الشرط المسبق لتحويل غزة إلى «أول شركة سيادية تنضم إلى الأمم المتحدة» ليس مجرد ترحيل شعبها ولكن محو حقوقهم في ملكية الأرض
وفي إطار شخصيته المُهَندَسة كمُتَصيِّد على وسائل التواصل الاجتماعي يستفز «الليبراليين»، وهو ما يزيد الطين بلة، يقترح يارفين أن يدير «الطرح العام الأولي» لهذا «العَرْض» آدم نيومان، الملياردير الإسرائيلي الأميركي الذي شارك في تأسيس شركة «وي ورك». وبالنسبة إلى يارفين، فإن رؤيته ورؤية ترامب تتمتعان بفضيلة تبني حقيقة مفادها أن «التاريخ البشري الطبيعي» يعيد تأكيد نفسه الآن في شفق النظام الليبرالي. وفي جوهر ذلك يكمن الاقتراح القائل بأن «الحرب هي كُتلة نشأة جميع السندات العقارية». (كتلة النشأة (genesis block) هي الكتلة الأولى في سلسلة الكتل (blockchain)، والتي هي قاعدة بيانات المعاملات الموجودة في أساس العملات المشفرة).
تصطفُّ مقترحات ترامب بشأن غزة إلى جانب جهوده لإجبار الدنماركيين على «بيع» غرينلاند أو البنميين على «إعادة» القناة، ما يبرز صياغة أكثر خشونة ومُعاملاتيَّة بشكل علاني للتفوق الدولي الأميركي. إنه المنطق نفسه الذي يحكم مطالبات الولايات المتحدة بـ 50٪ من عائدات المعادن الأرضية النادرة الأوكرانية و«حقها في الرفض الأول لشراء المعادن القابلة للتصدير»، كما هو منصوص عليه في عقد محتمل صاغه محامون خاصون. لطالما كان إبراز السلطة العسكرية الأميركية مصحوباً بالنهب والابتزاز من أجل الحماية، لكن الجدير بالذكر هو أن الرذيلة الأميركية لم تعد تشعر بالحاجة إلى تقديم أي مجاملات للفضائل الدولية.
التراجع عن فظاظة السياسة العالمية باعتبارها تنمية عقارية مع التوق إلى «النظام الدولي القائم على القواعد» - رد الفعل التلقائي لنخب الوسط السياسي الدولية ذاتها التي هَيَّأت العالم لترامب وأمثاله - يُعَدُّ ممارسةً عديمة الجدوى
هذه «الإمبريوم»، التي تحركها «الدومينيوم» بشكل متزايد، لا تعرف ماذا تفعل بـ«الأركانا» (arcana) (الأسرار). ويبدو أنها تحب أن تكون دولتها سطحية بشكل عدواني، وليست «عميقة». ومدى قدرة الإبراز العالمي للسلطة الأميركية - التي تعتمد عليها ثروات الولايات المتحدة الاقتصادية إلى حد كبير - على الصمود في مواجهة هذا التحول بعيداً عن الهيمنة لَهُوَ أحد الألغاز العديدة التي نواجهها. ومن الواضح أن التراجع عن فظاظة السياسة العالمية باعتبارها تنمية عقارية مع التوق إلى «النظام الدولي القائم على القواعد» - رد الفعل التلقائي لنخب الوسط السياسي الدولية ذاتها التي هَيَّأت العالم لترامب وأمثاله - يُعَدُّ ممارسةً عديمة الجدوى.
نُشِر هذا المقال في Protean Magazine في 27 شباط/فبراير 2025، وتُرجم إلى العربية ونُشر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الكاتب.