يد خفية
رأسمالية الإبادة
ثنائية الطبيعة والثقافة في فلسطين المحتلة
يبدأ فيلم «اليد الخضراء» للفنانة المرئية الفلسطينية جمانة مناع بحوار تلفزيوني من القناة الأولى الإسرائيلية في العام 1979 من أحد حقول الزعتر في فلسطين المحتلة. الحوار مع عائلة من رجال أعمال إسرائيليين يتفاخرون بإنتاج الزعتر وبيعه: «الغذاء الوطني للعرب»، على حد قولهم.
- المذيعة: هل تريد بيع الزعتر للعرب؟
- رجل الأعمال الإبن: بالضبط.
- المذيعة: لقد جمعت بين مزايا الأرض الإسرائيلية والعقلية اليهودية.
- رجل الأعمال الإبن: دعنا نخفّض تكلفة الإنتاج وننافس من خلال بيع زعتر رخيص.
- رجل الأعمال الأب: أكثر من 100 ألف سائح عبر العالم العربي يزورون الضفة الغربية سنوياً، وأفضل هدية يأخذونها معهم هي الزعتر.
- رجل الأعمال الإبن: بعد تجربة العديد من خلطات الزعتر، وبعد أن أتى أبي بخلطات الزعتر من نابلس وجنين نجحنا أخيراً في صناعة خلطة زعتر جيدة. لا يمكن خداع العربي. العربي يعرف جيداً ما هو الزعتر الجيد.
- المذيعة موجهة سؤالها للإبن: بالنسبة لأبوك، الزعتر هو الصهيونية. الزعتر هو العيش المشترك. ما هو الزعتر بالنسبة لك؟
- رجل الأعمال الإبن: ببساطة هو الفخر الوطني.
- المذيعة: يقولون «كوكاكولا هي أميركا»، و«الأوريغانو هو إيطاليا»، هل تريدهم أن يقولوا «الزعتر هو إسرائيل»؟
- رجل الأعمال الإبن: بالضبط، الزعتر هو إسرائيل.
يأتي هذا الحوار التليفزيوني بعد فترة قصيرة من حظر إسرائيل جمع الزعتر والعكوب البريان في العام 1977 بحجة حماية البيئة. يتناول الفيلم تشويه علاقة الفلسطينيين بالبيئة المحيطة بهم بواسطة الاحتلال الذي يسعى للسيطرة على الموارد وتسليعها لصالحه. يظهر الفيلم أيضاً كيف يحاول الاحتلال دائماً - على الرغم من استيلائه على الأرض والموارد - إظهار نفسه وكأنه يملك اليد العليا الأخلاقية، فيبرز حظر جمع الزعتر والعكوب كمظهر من مظاهر سيادة القانون وحماية البيئة، وبالتالي هناك دائماً تلميحاً أن اعتماد بعض الفلسطينيين على الجمع والالتقاط يعكس بدائيتهم وعدم تشبعهم الكافي بمبادئ الحداثة.
المذيعة: يقولون «كوكاكولا هي أميركا»، و«الأوريغانو هو إيطاليا»، هل تريدهم أن يقولوا «الزعتر هو إسرائيل»؟ رجل الأعمال الإبن: بالضبط، الزعتر هو إسرائيل.
من خلال الكثير من الأكروبات الخطابية يصبح كالعادة الضحية المعنفة مثالاً على العنف، والمعتدي مثالاً للسلم. لهذه الألاعيب الخطابية بنية تحتية فلسفية ضاربة الجذور في الفلسفة الأوروبية تفصل بين العقل والطبيعة. يمكن من خلال تفكيك هذه البنية التحتية الفلسفية الربط ما بين قوانين حظر التقاط الزعتر والعكوب في فلسطين المحتلة والإبادة الجماعية الحالية في غزة. هذه البنية التحتية الفلسفية هي التي خلقت المسوغ الأخلاقي لصعود الرأسمالية في أوروبا، وليس الأخلاق البروتستانتية المحبة للعمل والتي تعمل على إعادة استثمار الفوائض الرأسمالية بصيغة منتجة لميلها للتقشّف والتنسّك، كما تجادل النظرية الثقافوية الڤيبرية عن صعود الرأسمالية.
الفصل النظري بين الطبيعة والبشر
في مشهد تحقيق مع رجل فلسطيني مقبوض عليه بتهمة جمع العكوب البري وإيذاء الطبيعة، يقول الرجل:
«أنا جزء من الطبيعة. الطبيعة هي أنا. عندما أذهب إلى الطبيعة، أذهب لأجد نفسي. أنا الطبيعة، فبالتالي لن أؤذي نفسي».
تناول العديد من الباحثين، خاصة في مجال الأنثروبولوجيا، ثنائية الطبيعة/الثقافة عند المجتمعات المحلية. وأكدوا على عدم وجود تفرقة جامدة بينهما، إلا في المجتمعات التي خضعت بشكل كامل للحداثة المدينية، التي دشنها فلسفياً ديكارت حين قام بتثنية الوجود (أي جعله اثنين) إلى عقل غير مادي يمتلكه فقط البشر، في مقابل كل شيء آخر في الوجود. من أبرز هؤلاء المفكرين الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور، الذي يقترح أن نرى العالم كمجموعة من الشبكات والعلاقات المتداخلة بين مختلف الفاعلين دون وجود تراتبية بينهم، في إطار ما أسماه بنظرية الفاعل-الشبكة. أما الأنثروبولوجي الفرنسي فيليب ديسكولا، الذي استوحى هذه الرؤية من دراسته لقبائل الأشوار الأمازونية، فيشدد على أن هذه الثنائيات ليست عالمية. ويؤكد أن العديد من المجتمعات لا ترى انفصالاً واضحاً بين الثقافة والطبيعة، بل ترى تداخلاً وتواصلاً مستمراً بينهما.
فكرة الطبيعة بطورها الحالي هي بنية اجتماعية وذهنية من خلق الحداثة الرأسمالية، بهدف عزل البشر عن البيئة المحيطة بهم مما يسهل عمليات إخضاعها لمصالح التراكم الرأسمالي
يجادل هؤلاء أن فكرة الطبيعة بطورها الحالي هي بنية اجتماعية وذهنية من خلق الحداثة الرأسمالية، بهدف عزل البشر عن البيئة المحيطة بهم مما يسهل عمليات إخضاعها لمصالح التراكم الرأسمالي. باختصار، مفهوم «الطبيعة» وجد لينزع البشر عن بيئتهم معرفياً ومفاهيمياً واقتصادياً وأنطولوجياً. نلاحظ هذا في لغتنا اليومية للتفرقة بين المجالات التي تشهد تدخلاً بشرياً كثيفاً مقابل المجالات التي لا تشهد هذا التدخل، مثل قولنا بوجود طعام «طبيعي» في مقابل طعام «مصنع» مثالاً على ذلك، أو القول بـ«الذهاب إلى الطبيعة» عند الذهاب لغابة أو شاطئ أو حتى منطقة ريفية، وكأننا ومدننا ذات الكثافة البشرية العالية موجودة في مجال ما خارج الطبيعة. لكن لعل المثال الأوضح هو التقسيم الأكاديمي للمجالات المعرفية إلى «علوم طبيعية» ومقابلها «العلوم الإنسانية/الاجتماعية».
روجت الفلسفة الديكارتية بشدة لهذه الثنائية، حيث رأى ديكارت أن كل ما هو خارج العقل البشري ما هو إلا مادة خالية من الروح والإحساس، بما في ذلك الحيوانات من غير البشر التي اعتبرها كائنات ميكانيكية بلا أرواح أو وعي، ولا يختبرون الألم أو المعاناة، وأن البشر فقط هم من يملكون عقلاً غير مادي. كل شيء آخر في الكون، بما في ذلك الحيوانات، مكون من مادة فقط تعمل وفقاً لقوانين صارمة.
يقول الأنثروبولوجي الاقتصادي جيسون هيكل أن خلال عصر التنوير، بررت تلك النظرة الثنائية للوجود تخصيص الأراضي، مما أدى إلى اغتراب الناس عن بيئتهم وتشييئها. ورغم دحضها لاحقاً، استمرت الثنائية مسيطرة على الفلسفة الأوروبية، مسهلة استغلال الموارد، وجادل كانط لاحقاً أنه ليس للإنسان واجبات مباشرة تجاه غير البشر بسبب افتقادهم للعقل، معتبراً إياهم مجرد وسائل لتحقيق غايات الإنسان والتزامنا الأخلاقي تجاههم غير مباشر ويقتصر على تأثير هذا الالتزام على البشر.
الالتقاط كسياسية تحتية
يتتبع فيلم «اليد الخضراء» مجموعة من فلسطينيي الداخل في جبال القدس والخليل الذين يصرون على جمع العكوب والزعتر البري، متحدين بذلك قواعد الاحتلال ورؤيته الأنطولوجية من خلال ممارستهم لمقاومة الحياة اليومية، المسماة أيضاً بالسياسة التحتية (infrapolitics)، والتي يعرفها جيمس سكوت كسياسة تختار عمداً أن تكون غير مرئية، كخيار تكتيكي ولد من الوعي بالوجود في الطرف الأضعف من ميزان قوى ما.
من ضمن الفلسطينيين الذين يتتبعهم الفيلم رجل عجوز يعيش مع رفاقه من الكلاب في منزل حجري بسيط ومنعزل ويلبس ملابس مهلهلة، وكذلك زوجان يعيشان أيضاً في منزل حجري لكنه أكثر فخامة يضعهما في مصاف الطبقة الوسطى، وبرغم تقدمهما في العمر لكنهما يحرصان على استكمال تقليد الالتقاط بهدوء يوحي برغبة صامتة في تصور عدم وجود الاحتلال بقوانينه التي تفصلهم عن أرضهم.
بالنسبة إلى الفلسطينيين الخاضعين لهذا الحظر، قوانين حماية الطبيعة هي مجرد واجهة لعزلهم عن أرضهم وممارساتهم الكفافية، وتسليع البيئة وتوسيع السوق ليشمل كل جوانب وجودهم من عمل وكفاف
من خلال مشاهد التحقيقات العبثية في الفيلم مع كبار السن الذين يلتقطون الزعتر والعكوب البريان، يظهر كيف تحاول إسرائيل أن تظهر نفسها كقوة قانونية عقلانية تسعى إلى تنظيم المجتمع وفقاً لقواعد الحداثة الرأسمالية، فإنتاج الغذاء لا بد أن يحدث بشكل منظم ومسجل وقابل للقياس في الأراضي الزراعية المخصصة لذلك، وللتخصيص هنا معنى مزدوج: التخصيص الوظيفي لمساحة من الأرض تستغل لغرض معين، والتخصيص كتحويل الأرض المشاع لملكية رأسمالية خاصة. يحدث كل هذا بالطبع وفقاً لقوانين وقرارات متجردة في ظاهرها لا تنطق باسم الاحتلال أو مصالح فئة اجتماعية بل باسم الطبيعة ذاتها.
لكن يالطبع يسيطر على زراعة وتجارة العكوب إسرائيليون من اصول يهودية، وفقاً لصاحب مزرعة عكوب إسرائيلية، الذي يؤكد في حوار مع مخرجة الفيلم أن زراعة العكوب الآن مقتصرة على ثلاثة مزارع في كيبوتس اييلت هشاحار (نجمة الصبح) وكيبوتس أشدوت يعقوب. يبرر صاحب المزرعة هذا بسبب ارتفاع كلفة التأمين التي لا يقدر عليها العرب!
الارتباط بالبيئة كشرط مسبق للإبادة
- المتهم: لن أضفي الشرعية على قانونكم. لن أدفع مليماً من الغرامة.
- المحققة: هناك قوانين في هذه البلد. قوانين هيئة الطبيعة والحدائق. رأيك لا يهم.
- المتهم: هذا القانون خراء.
- المحققة: لا يوجد فائدة من الحديث معك.
- المتهم: عن أي حماية تتحدثون؟ هذه الأرض ليست لك ولا هذا النبات.
- المحققة: أحاول أن أساعدك. لديك مخالفات سابقة لجمع العكوب والزعتر في 2002 و2009 و2011.
- المتهم: سيقبض علي أيضاً في 2050 مع أبنائي وأحفادي.
عزل السكان عن الالتقاط أو الزراعة الكفافية يجبرهم على الانخراط المتزايد في المنظومة الرأسمالية كبائعين لقوة عملهم وكمشترين في السوق. بالنسبة إلى الفلسطينيين الخاضعين لهذا الحظر، قوانين حماية الطبيعة هي مجرد واجهة لعزلهم عن أرضهم وممارساتهم الكفافية، وتسليع البيئة وتوسيع السوق ليشمل كل جوانب وجودهم من عمل وكفاف.
تقول سيدة فلسطينية يتم التحقيق معها أيضاً بتهمة جمع الزعتر أن العكوب ليس في خطر لكن هدف الحظر هو أن يذهبوا لشرائه في السوق، وتجادل مع المحققة - مظهرة بذلك تفوق معرفتها المحلية على معرفة «الخبراء» المسيسة - أن الزعتر مثله مثل جميع النباتات قطفه يقويه ولا يضعفه، وأنه منذ تم فرض الحظر على قطفه بحجة حمايته وأصبح الزعتر هزيلاً.
تمثل الطبيعة في هذه الحالة نسقاً منفصلاً عن البشر ، يخضع لتناقض يجعلها مجال للتحكم والاستخراج والتدمير بدون مسؤولية أخلاقية لخلوها من الروح والعقل والوعي، وفي الوقت نفسه يخضعها لـ«الحماية» لأن التزامنا الأخلاقي نحوها ينتهي بحدود تأثير هذا الالتزام على البشر، وبعض أنماط الحماية المنتقاة والقليلة - بالإضافة لكونها غطاء لأهداف أخرى - تعبر عن التزام أخلاقي فقط للحفاظ على تلك «الطبيعة» لتتيح المزيد من الاستغلال، مثل ضرورة إطعام عبد وتوفير وقت راحة له حتى يظل على قيد الحياة لضمان المزيد من استغلاله، أو ضرورة صيانة آلة حتى تظل تعمل بشكل كفؤ لخدمتنا.
خطورة هذه الرؤية للعالم هي امتدادها للبشر التي ترى أنهم أقرب للطبيعة، أي ليسوا بشراً كاملين. حدث هذا مع السكان الأصليين في المستعمرات، ويحدث الآن مع الفلسطينيين. ولهذا لا يستغرب استخدام المسؤولين الإسرائيليين دائما توصيف «حيوانات» لتبرير ما يقومون به من إبادة وتطهير عرقي، مؤكدة رؤية ان الحيوانات من غير البشر كائنات غير عاقلة لا تتألم وإن ظهر ما يشبه الألم فما هو إلا رد فعل ميكانيكي كآلة تتحشرج عند كسرها. تظهر ثنائية البشر العاقل في مقابل الطبيعة غير العاقلة التي تشمل أصناف مختلفة من البشر في واحدة من أقصى وأقسى صورها عند فيلسوف المثالية الأشهر هيغل في مجادلته أن حركة التاريخ لا تشمل أفريقيا. يقول هيغل نصاً في الإشارة لأفريقيا أنها «أرض الطفولة، التي تقع وراء نهار التاريخ الواعي بذاته، مغلفة بعباءة الليل المظلمة [...] النقطة المميزة في الحياة الزنجية هي حقيقة أن الوعي لم يصل بعد إلى تحقيق أي وجود موضوعي جوهري». ولذلك فإن الأفريقي لم يصل إلى مستوى تحقيق كيانه؛ فهو لم يدرك شخصه بعد. الأفريقي، على حد تعبير هيغل، هو «الإنسان الطبيعي في حالته الجامحة والموحشة تماماً».
بسبب كل ما سبق صابني تخبط - ليس لصناع الفيلم ذنباً فيه بل في الواقع يدل على قوة سردية الفيلم - تجاه إظهار الفلسطينيين كأكثر اتصالاً ببيئتهم المباشرة أو «الطبيعة». ففي هذا التوصيف والسردية تحديداً تبريراً لإبادتهم، ولكنه في الوقت نفسه رفض للرؤية الأنطولوجية الكولونيالية عن الثقافة في مواجهة الطبيعة ووجود الذوات غير البيضاء في جانب الطبيعة، والتي دفع العالم الجنوبي ثمنها مرات عديدة من أول النهب الحاد للأرض والاستعباد الحرفي للبشر في عصر الاستعمار الكلاسيكي، إلى استخراج الموارد الجنوبية بلا هوادة في عصر ما بعد الاستعمار، انتهاءً بحرب الإبادة في غزة والتغير المناخي حالياً.