معاينة gaza

الإبادة تقضي على كلّ وهم

  • لا يسعى الفلسطينيون إلى التنافس على وضع الضحية. فمقاومتهم التي دامت قرناً من الزمان قائمة على وجه التحديد لأنهم يسعون إلى العيش بحرية، وليس البقاء محاصرين في دور الضحايا الدائمين.

  • العالم ليس مفهوماً مجرداً يتكوّن من قوى عالمية؛ بل هو شعوب هذا العالم. وقد انفتح صدع ثان في العام الماضي - إلى جانب الانقسام بين «الشمال العالمي» و«الجنوب العالمي» - بين الناس وحكوماتهم.

اعتمد جان أميري - وهذا هو الاسم المستعار للكاتب النمساوي اليهودي هانز حاييم ماير - بقوّة على تجاربه الشخصية كعضو في حركة المقاومة ضدّ الاحتلال النازي لبلجيكا. وبعد أن أسرَه «الغستابو» الألماني، وعذّبه، ثم سجنه في معسكرات الاعتقال، أصبحت أدبياته وفلسفته متأثّرة بشكل عميق بالفظائع التي تحمّلها. وفي عمله الرائد «عند حدود العقل»، كتب أميري:

«لا أعرف ما إذا كان الشخص الذي يتعرّض للضرب على يد الشرطة يفقد كرامته الإنسانية. ومع ذلك، فأنا على يقين من أنه مع أول ضربة تنزل عليه، يفقد شيئاً قد نسميه، ربما مؤقّتاً، «الثقة في العالم». وأحد عناصر الثقة في العالم هو اليقين بأن الشخص الآخر، بسبب العقود الاجتماعية المكتوبة أو غير المكتوبة، سيوفّر لي الحماية - أو، بعبارة أدقّ، سيحترم وجودي الفيزيقي، ومعه أيضاً وجودي الميتافيزيقي. إن حدود جسدي هي أيضاً حدود ذاتي. يحميني سطح بشرتي من العالم الخارجي. وإذا كان لي أن أثق، لابد أن أشعر على هذا السطح بما أريد أن أشعر به فقط».

وفي وصفه لتجربته مع التعذيب على أيدي «الغستابو»، يتوسّع أميري في الحديث عن المَزْق الذي أحدثته هذه التجربة في علاقته بالعالم:

«تتفكّك الثقة في العالم، التي انهارت جزئياً بالفعل مع الضربة الأولى، تماماً تحت التعذيب ولا يمكن استعادتها أبداً. وتبقى تجربة الإنسان كـ«عدو للإنسان» لدى المعذّب كتراكم للرعب. وتحجب إمكانية رؤية عالم قد يسود فيه مبدأ الأمل».

لم يسبق أن كان الصّدع بين «الشمال العالمي» و«الجنوب العالمي» واضحاً إلى هذا الحد ولا يمكن إنكاره

وبعد الحرب، انتقل أميري إلى بروكسل وغيّر اسمه لينأى بنفسه عن الثقافة الألمانية. وفي 17 تشرين الأول/أكتوبر 1978، انتحر.

في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، عندما بدأت الإبادة الجماعية في غزة، انتابني شعور لا يُشبه أي شعور سابق لي كفلسطينية. نشأ بداخلي شعور عميق بالاغتراب عن العالم: شعور بأنني إنسان يمكن الاستغناء عنه، وأن العالم على استعداد للتضحية بي، وإعطائي ظهره بلا مبالاة. شعرت بحاجة مُلِحّة للانسحاب من الأماكن العامة، وأحسست بخوف لا قاع له من أن نُترَك وحدنا لنتحمّل أو نهلك.

إن علاقتنا بالعالم، كشعب، لم تكن قط موضوعاً رئيساً للاستكشاف أو التأمّل في تاريخ القضية الفلسطينية، الذي يمتدّ الآن على مدى قرن من الزمان. ولم تكن قط انشغالاً أنطولوجياً أو معضلة سياسية، على النقيض من أعمال الكثير من الكتاب اليهود، مثل أميري ـ الذي اقتبست منه للتو ـ أو أدورنو وآرنت وليفيناس.

تأمّلت: ما الذي تفجّر بداخلي/بداخلنا حتى أصبح سؤال علاقتنا بالعالم سؤالاً مُلِحّاً؟ هناك إجابة فورية وواضحة: تتكشّف هذه الإبادة الجماعية في وضح النهار، وتُبث على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع لكل من يرغب في مشاهدتها. ثم هناك الشعور الدائم المُلازِم بأن شعبنا يُمحى من على وجه الأرض، لحظة بلحظة.

والآن، وقد مضى بعض الوقت، أعتقد أن الأزمة تنطوي أيضاً على بُعد سياسي أعمق. إنه التأمّل في معنى العيش في العالم والانتماء إليه. ولقد تفاقم هذا الشعور بالشك والاغتراب جزئياً بسبب حقيقة أنني كنت في برلين في ذلك الوقت. ففي ظل الحظر الذي فرضته الشرطة على المظاهرات في المدينة، والحصار شبه الكامل في منطقة نويكولن، والمضايقات والهجمات التي يتعرّض لها أولئك الذين يرتدون الكوفية الفلسطينية، والتصريحات العنصرية من جانب الساسة الألمان، والقصف المتواصل لغزة، اضطررنا إلى اللجوء إلى أماكننا الخاصة، وتُرِكنا لنشهد تدمير شعبنا في عُزلة.

حاولت الدولة الألمانية، المتجسّدة في قوات الشرطة المسلّحة تسليحاً كاملاً - ودعوني هنا أستعير كلمات أميري - حجب رؤيتنا لعالم يكمن فيه الأمل. وسعت إلى وقايتنا من التضامن والتعاطف والألم المشترك الذي قد يشعر به آخرون إلى جانبنا. ووقاية نفسها من مواجهة آلامنا أيضاً.

منذ تلك اللحظة وحتى الآن، مرّ عام كامل على مواصلة الدولة الألمانية- بساستها وأحزابها ومؤسساتها وأكاديميتها وصحافتها- لفشلها في الاعتراف بالفلسطينيين كبشر كاملي البشرية يستحقون ليس فقط الشفقة والمساعدة الإنسانية، بل وأيضاً الحقوق السياسية والتضامن الحقيقي. فالتضامن، في نهاية المطاف، قوة سياسية.

ماذا يعني أن يتكلم الفلسطيني عن حياة الآخرين في وقتٍ تستطيع فيه آلة الاحتلال أن تقضي على حياتنا من دون أي عواقب، في أي لحظة، منذ أكثر من قرن من الزمان؟

بدلاً من ذلك، بذلت وسائل الإعلام والنخب الأكاديمية والسياسية كل ما في وسعها لمنع الفلسطينيين من الوصول إلى الجمهور الألماني الأوسع، من خلال الأكاذيب والتشويه والتشهير بالأصوات الفلسطينية وحلفائها. لماذا؟ لأنه ليس من الصعب التعاطف مع أولئك الذين سُرِقَت أرضهم، وسجنوا، وتحولوا بين عشية وضحاها إلى لاجئين.

وينبع الافتقار إلى التعاطف مباشرةً من جهد مُتعمَّد لقمع الأصوات الفلسطينية، من خلال التلاعب القسري بالخطاب والعنف السياسي. ولكن دعوني أكون واضحة: لم يبتعد العالم كُليَّةً عن معاناتنا؛ بل إن العالم الغربي وحده هو الذي فعل ذلك. وفي القيام بذلك، وجد نفسه معزولاً أيضاً.

لم يسبق أن كان الصّدع بين «الشمال العالمي» و«الجنوب العالمي» واضحاً إلى هذا الحد ولا يمكن إنكاره.

في تشرين الأول/أكتوبر 2023، دُعي الفلسطينيون إلى استوديوهات وسائل الإعلام الغربية - إن دُعيوا على الإطلاق - فقط ليُطرح عليهم سؤال مُتَّقِد واحد: «هل تدين؟». وعلى الرغم من الاستهزاء بهذا السؤال، وتحليله، وفضحه كما ينبغي على أنه عنصري بطبيعته، فمن المهم أن ندرك أنه سؤال غربي بامتياز. فإذا تتبعنا مسار التاريخ الاستعماري الأوروبي، وهيمنته، وعطشه الإمبراطوري، نجد أن جوهر هذا التاريخ يتلخَّص في هاتين الكلمتين.

لا تفترض إدانة العنف فقط الإرادة وسُلطة الاختيار والفعل- والتي يمكن إثباتها، نظرياً، حتى في أحلَك المواقف- بل وأيضاً القدرة على حماية حياة المرء. لكن، بعيداً عن الأداء المسرحي الذي يُقدِّمه أساتدة ما يُسمَّى بالطهارة الأخلاقية، ماذا يعني أن يتكلم الفلسطيني عن حياة الآخرين في وقتٍ تستطيع فيه آلة الاحتلال أن تقضي على حياتنا من دون أي عواقب، في أي لحظة، منذ أكثر من قرن من الزمان؟

لكي يُعترَف بك كضحية، يجب أن تمتلك تاريخاً. ومع ذلك، في ألمانيا، يُحرم الفلسطينيون من الحق في التاريخ

بعبارة أخرى، لكي يدين، يجب أن يكون الشخص قادراً أولاً على العيش وعلى حماية حياته، فضلاً عن حياة الآخرين. هل يستطيع هذا الشخص، المحروم من الحقوق والإرادة والاستقلالية، أن يجد طريقة لحماية نفسه والآخرين؟ وهل يستطيع الفلسطيني أن يرى حقيقة كونه على قيد الحياة على أنها أي شيء آخر غير معجزة وامتياز؟ ليس بالمعنى الروحي، بل في واقع البقاء على قيد الحياة المادي العميق المحفور في العظام؟

إن هذه الإيماءات الشريرة من العنف الخطابي من جانب أوروبا، وقاعدتها الخارجية في الشرق الأوسط- إسرائيل- هي بمثابة تشويه للجثث بعد انتهاء عملية القتل. لقد شهدنا هذا مرات عديدة على مدى العام الماضي حتى أن الخط الفاصل بين الحياة والموت أصبح غير قابل للتمييز.

وبُغية فك المزيد من خيوط الهيمنة الخطابية الأوروبية والتناقضات: بعد بضعة أشهر من الإبادة الجماعية، بدأت وزيرة الخارجية الألمانية تدعو إلى وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، واصفة الوضع بأنه كارثة إنسانية، وهو كذلك بالفعل. ولكن في الذِّهنيَّة الألمانية، لا يتأهَّل الفلسطيني للغة الوصفية والتوجيهية للضحية.

وهذا يمثل مفارقة. فالفلسطيني، بالتالي، في حاجة إلى المساعدة ولكنه، في الوقت نفسه، محروم من المكانة الأخلاقية التي تصاحب عادة الضحية. ويجب حرمانه من الأبعاد التاريخية والعاطفية والنفسية التي تأتي مع هذا الاعتراف. وذلك لأن هذا الاعتراف يُمنح بشكل انتقائي وفقاً للمعايير الأوروبية. وهذه المعايير، بدورها، تتشكل من خلال السرديات السياسية والتاريخية الراسخة.

تحتل الضحية مكانة عُليا في اللاهوت المسيحي وقد انتقلت هذه المكانة إلى الثقافة العلمانية الحديثة. فالهوس المسيحي بالمعاناة، والذي بلغ ذروته في صلب المسيح، ينظر إلى الألم باعتباره شيئاً تخليصيَّاً. وبالتوازي مع ذلك، تتجلى هذه الفكرة في العصر الحديث في مفهوم الضحية من حيث هو إنعامٌ للقوة والسلطة الأخلاقية.

ولكن الدولة الألمانية لا تريد منح هذه السلطة الأخلاقية للفلسطينيين. أولاً، لأن وجود الضحية يعني وجود الجاني. وفي ألمانيا، لا يمكن لإسرائيل أن تكون الجاني. بدلاً من ذلك، وفي تثبيتٍ مُعقَّدٍ للماضي، تُواصِل ألمانيا احتكار دور الجاني، خاصة عندما ترتبط هويتها بإسرائيل. وهذا التثبيت يضخ التفوق الأخلاقي في الدولة الألمانية، ويحافظ على سردية لا يمكن فيها إلا لألمانيا أن تتحمَّل مثل هذا الذنب التاريخي.

إن الفلسطينيين يمثلون مَزْقاً في التاريخ نفسه. فعندما تُرفَض سرديتهم التاريخية أو تخضع للتجزئة، فإن حقائقهم وهوياتهم المادية تواجه الشيء نفسه

ثانياً، تأتي الضحية مصحوبة بثقل التاريخ. فلكي يُعترَف بك كضحية، يجب أن تمتلك تاريخاً. ومع ذلك، في ألمانيا، يُحرم الفلسطينيون من الحق في التاريخ. هنا، أمُيِّز بين «التاريخ» و«الحق في أن يكون لك تاريخ». يشمل الأخير الحق في السرد، ومشاركة الخبرات، وأن تُسمَع ويُعترَف بك. ومع ذلك، إذا استمعت بعناية إلى الخطاب الناشئ في ألمانيا، خاصة في العام الماضي، فسوف تلاحظ أن السرديات التاريخية ليست موزعة بالتساوي.

في الحقيقة، التاريخ الوحيد الذي يتكرَّر باستمرار في الحاضر هو النكبة الفلسطينية. ومع ذلك، لا يُعترَف بنكبة الماضي ولا بالإرث المتواصل لهذه النكبة في السياق الألماني، أو على نطاق أوسع، داخل العالم الغربي. ونتيجة لهذا، فإن الفلسطينيين يمثلون مَزْقاً في التاريخ نفسه. فعندما تُرفَض سرديتهم التاريخية أو تخضع للتجزئة، فإن حقائقهم وهوياتهم المادية تواجه الشيء نفسه.

بعبارة أخرى، إذا حُرِمَ الفلسطينيون من ملكية الحقائق الملموسة - مثل أرضهم ومنازلهم - فإنهم يُحرمون أيضاً من الحق في استدعاء معاناتهم العاطفية والنفسية. إن الصدمة النفسية متجذرة في الأحداث التاريخية. وإذا لم يُعتَرَف بالشخص كذات تاريخية، فلا يحق له أيضاً تجسيد ثمن تلك الأحداث. وبالتالي، تُخرَس وتُلاحَق مناقشات الصدمة النفسية، والصدمة النفسية التي توارثتها الأجيال، والتعويضات، والمصالحة، ووضع حَدٍّ للمذبحة المستمرة ضد الفلسطينيين.

قد يفسر البعض الوضع في فلسطين من خلال عدسة ضحيتين، جانبين متساويين. لكن ليس هناك ضحيتان. هناك ضحية واحدة فقط: الشعب الفلسطيني. هذا القَول لا يقلل من قيمة الحياة البشرية، بغض النظر عن الجنسية أو الدين أو الهوية. بل إنه بمثابة تصحيح ضروري للتشوهات التاريخية والسرديات الراسخة التي تديم المعاناة.

لا تُقاس الضحية فقط بالموت، ولا بعواطف مثل الخوف أو الحسرة. ومساواتها بالموت وحده يُعَد عيباً أخلاقياً وخطراً سياسياً. تُعرَّف الضحية من خلال بِنى السلطة والمسؤولية. وبالنسبة إلى شعب عاش بسلام على أرضه لقرون، إلى جانب أقلية يهودية وآخرين، فمن الظلم أن نحمله المسؤولية عن طموحات حركة قومية سعت إلى الاستيلاء على أرضه بالتعاون مع القوى الاستعمارية الأوروبية.

هناك جيل جديد ناشئ يدرك بشكل متزايد حقائق الاستعمار والإمبريالية وكيف تعمل هذه القوى على تشديد السيطرة وجني الأرباح

وللتوضيح، لا يسعى الفلسطينيون إلى التنافس على وضع الضحية. فمقاومتهم التي دامت قرناً من الزمان قائمة على وجه التحديد لأنهم يسعون إلى العيش بحرية، وليس البقاء محاصرين في دور الضحايا الدائمين. أدرك جان أميري أنه ضحية، لكن مقاومته نشأت من الرغبة في تجاوز ذلك. سعى إلى أن يكون فاعلاً سياسياً، وليس مجرد يهودي مُعرَّف بالاضطهاد. أراد أن يختار أن يكون مناهضاً للنازية، بدلاً من أن يُختزل في دور عدو النازيين فقط بسبب هويته أو عرقه أو دينه. بالنسبة إلى أميري، فإن كونه يهودياً عنى «الشعور بمأساة الأمس كقمع داخلي». ومن أجل تحرير نفسه من هذا العبء، كان عليه أن يُحوِّله. وعلى حد تعبيره، «فإن الشخص الذي حُطَّ من كرامته، المهدد بالموت، يقنع المجتمع بكرامته من خلال أخذ مصيره بين يديه والثورة عليه».

وعلى نحو مماثل، رفض الشعب الفلسطيني منذ فترة طويلة السردية المفروضة بشأن الضحية، ورأى فيها إهانة وإذلالاً عميقين. فبالنسبة إليه، لا تنبع سلطته الأخلاقية من دور ميتافيزيقي أو متأصل كضحية، بل من عدالة نضاله التي لا يمكن إنكارها. وكان أحد الإنجازات العظيمة لحركة التحرير الفلسطينية هو بالضبط هذا: تسييس الشتات الفلسطيني، وضمان تحول اللاجئين النازحين من ماضي فلسطين إلى أفراد متمكنين وفاعلين سياسيين نَشِطين يشكلون الحاضر والمستقبل.

وماذا الآن؟

في هذه الأثناء، يناقش التلفزيون الإسرائيلي السائد علانية ما إذا كان الاغتصاب يمكن أن يكون أداة فعالة ضد الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، يقتحم المستوطنون المسلحون القرى الفلسطينية في الضفة الغربية تحت حماية الجيش، ويدمرون المدارس والمزارع وسبل العيش، ويشعلون النار في المنازل. ويدعم هذا العنف وزراء الحكومة الإسرائيلية. وفي الأسبوعين الماضيين، واصلت إسرائيل قصف غزة، ووسعت هجماتها إلى لبنان والعراق واليمن وسوريا وإيران. ويُهدي الجنود الإسرائيليين قنابلهم - التي تدمر مجمعات سكنية بأكملها - إلى أطفالهم، في حين ترقص الجماهير الإسرائيلية على الأغاني التي تحتفل بموت العرب.

ومرة ​​أخرى، يقف نتنياهو في الأمم المتحدة، ويعرض خريطة لإسرائيل تمتد من النهر إلى البحر. وفي خضم هذا العنف البغيض وإنكار إنسانية الفلسطينيين وسبل عيشهم، ينطلق صحافي ألماني مثل نيزك. يسأل ناشطاً فلسطينياً عما إذا كان يعترف بدولة إسرائيل. يقابل العنف المادي الوحشي للاستعمار باستمرار بتشتيتات بلاغية، حيث يتم استخدام اللغة والخطاب كأسلحة ضد المضطهدين.

ولكي نكون واضحين، من النهر إلى البحر، هناك دولة قومية أثنية واحدة - دولة مارقة تستخدم الإرهاب المميت ضد السكان المدنيين للحفاظ على هيمنتها وتفوقها. ومع ذلك، تستعد الدولة الألمانية، من ناحية، لإرسال غواصة أخرى إلى إسرائيل، بينما تنشر من ناحية أخرى قناصة على أسطح المنازل لمراقبة المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في الشوارع هذا الأسبوع. ولكن هل هناك أي احتجاج شعبي؟ لا نسمع شيئاً.

في حين تنجح النخبة الألمانية إلى حد كبير في منع التعاطف والتضامن مع القضية الفلسطينية، فإن العالم يرى خلاف ذلك. فليس الفلسطينيون هم المنبوذون من المجتمع الدولي - بل إسرائيل وحلفاؤها. ومؤخراً، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يطالب إسرائيل «بإنهاء وجودها غير القانوني من دون تأخير» في الأراضي الفلسطينية المحتلة في غضون 12 شهراً. وقد مُرِّر القرار بأغلبية 124 دولة مؤيدة، و14 دولة معارضة، و43 دولة مُمتنعة عن التصويت.

لم يسبق أن كان الوقوف مع قضية عادلة بهذه التكلفة الباهظة، ومع ذلك لم يسبق أن كان الوقوف مع قضية عادلة عزيزاً وحميماً على الملايين كما هو الحال مع القضية الفلسطينية في هذا القرن

ومع ذلك، هناك حقائق لا تستطيع إسرائيل ولا ألمانيا محوها. فقد أصبحت كلمة «النكبة» خلال العام الماضي أكثر رواجاً من أي وقت مضى، حيث صارت بمثابة نقطة مرجعية تاريخية محورية كلما ناقشنا فلسطين وإسرائيل. وهناك جيل جديد ناشئ يدرك بشكل متزايد حقائق الاستعمار والإمبريالية وكيف تعمل هذه القوى على تشديد السيطرة وجني الأرباح. ولم يعد أحد يعتقد أن دعم ألمانيا الثابت لإسرائيل متجذر في الشعور بالذنب؛ بل إن الدافع وراءه هو العنصرية وكراهية الأجانب وكراهية الإسلام والرغبة في الحفاظ على نفوذها الإمبراطوري وتوسيعه في النظام العالمي.

وفي واقع الأمر، تساعدنا ألمانيا في إعادة تعريف العنصرية ذاتها. فالعنصرية، من بين أمور أخرى، هي شعور انتقائي بالذنب. إنها رفض الشعور بالذنب تجاه اليهود المناهضين للصهيونية، الذين يحتجون بالآلاف ضد الإبادة الجماعية، والإعراب عن الذنب تجاه دعاة الحرب الذين يعتزمون الآن إشعال المنطقة. لقد انتهى عصر التحرُّر من الأوهام - فالإبادة الجماعية تقضي على كل وهم. والسؤال الآن هو: ماذا ستفعل بهذا الوضوح والوعي الجديدين؟

بالنسبة إلى الفلسطينيين، العالم ليس مفهوماً مجرداً يتكوَّن من قوى عالمية؛ بل هو شعوب هذا العالم. وقد انفتح صدع ثان في العام الماضي - إلى جانب الانقسام بين «الشمال العالمي» و«الجنوب العالمي» - بين الناس وحكوماتهم. وأصبحت الادعاءات الكاذبة بالديمقراطية، وهشاشة التماسك المجتمعي، وتآكل الأنظمة القانونية في الدول الكبرى، واضحة للغاية. وعندما يسأل عبودي، وهو أحد مستخدمي «إنستغرام» المشهورين من غزة والذي نجا من الإبادة الجماعية المستمرة ولا يزال في الجزء الشمالي من القطاع، في مقاطع الفيديو التي ينشرها، «وين العالم؟»، فإنه لا يتحدث عن النظام العالمي المجرد فحسب، بل يتحدث أيضاً عن الشعوب. وفي اللغة العربية، تحمل كلمة «عالم» هذا المعنى المزدوج.

لم يسبق أن كان الوقوف مع قضية عادلة بهذه التكلفة الباهظة، ومع ذلك لم يسبق أن كان الوقوف مع قضية عادلة عزيزاً وحميماً على الملايين كما هو الحال مع القضية الفلسطينية في هذا القرن. وأولئك الذين يقفون مع فلسطين اليوم يدركون أن ذلك قد يكلفهم - علاقات ووظائف ومناصب عامة وحتى الأذى الجسدي أو العاطفي. ومع ذلك، فإنهم يواصلون، مدركين أن هذه القضية هي المفتاح لكشف الفساد المتجذر بعمق في العالم. وعندما يقول الناس «فلسطين ستحررنا جميعاً»، فهم يعرفون تماماً ما يقولون.

نُشِر هذا المقال في Verso في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، تُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع صفر بموافقة من الكاتبة.