Preview الأونروا وفلسطين

«الأونروا» مستهدفة في حرب الإبادة الجماعية

حتى الآن، قررت 9 دول، من ضمنهم الولايات المتّحدة وبريطانيا وألمانيا، تعليق تمويلها «الأونروا»، ما عدّ بمثابة تحدّي للقرار الابتدائي الذي أصدرته محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل يوم الجمعة الماضي. صحيح أن اتخاذ القرار بعد يومٍ واحدٍ من صدور قرار المحكمة لافتٌ في توقيته، ويُشكّل من دون شكّ إمعاناً في تحويل غزّة إلى مكانٍ غير قابل للعيش بما يسهّل الإبادة الجماعية الذي حذّرت منه المحكمة، إلّا أنه في واقع الأمر مسعى إسرائيلي قديم من أجل القضاء على القضية الفلسطينية التي يُعدُّ «حق العودة» أحد شرايينها الأساسية، و«الأونروا» إحدى ضماناته، ولو شكلياً.

الحرب على الأونروا

ماذا في القرار؟ 

يوم السبت الماضي، علّقت 9 دول مساهماتها الطوعية في تمويل ميزانية وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا)، على خلفية مزاعم أطلقتها دولة الاحتلال تفيد بأن بعضَ موظّفي الوكالة متورّطون في الهجمات التي شنّتها حركة حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. 

وكما عادتها، فشلت إسرائيل حتّى الساعة في تقديم أية أدلّة واقعية وموضوعية على مزاعمها، وقال المتحدّث باسم الحكومة الإسرائيلية إيلون ليفى لرويترز إن «المعلومات الاستخباراتية التي دفعت الولايات المتّحدة إلى قطع تمويلها لم يتم رفع السرّية عنها بعد، ولكن إسرائيل ستقدّم إحاطة وافية عنها في خلال الأسبوع الجاري». ولم تقدّم اسرائيل أية تفاصيل عن خلفية هذه المزاعم، باستثناء ما قاله مارك ريجيف، أحد كبار مستشاري رئيس الوزراء الإسرائيلي، لـ«بي بي سي» عن إن «إحدى الرهائن التي أُطلِق سراحها أفادت إنها كانت مُحتجزة في منزل شخص يعمل لدى الأونروا». لكن في معرض ردّه على تعليق الدول مساهماتها لصالح «الأونروا»، أشار الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش إلى أن «12 موظفاً (من أصل أكثر من 30,548 موظّف يعملون لدى الأونروا) مشتبه بتورطهم، وقد تم التعرّف إلى 9 منهم وجرى إنهاء عقود عملهم فوراً، فيما تأكّدت وفاة واحد منهم، وجاري البحث عن هوية الاثنين الآخرين». 

هذه الخطوة التي اتخذتها الولايات المتّحدة وبريطانيا وألمانيا وأستراليا وكندا وفنلندا وسويسرا وإيطاليا وهولندا، تعني عملياً قطع نحو 45% من مجمل إيرادات الأونروا، التي تعاني ميزانيّتها من عجز بالأساس. ففي العام 2023، كانت الوكالة تعاني من فجوة تمويلية بنسبة 29% من مجمل حاجاتها، وبنتيجة هذا القرار سوف يرتفع هذا العجز إلى 61%، مما يهدّد بتوقف عملياتها ووضع نحو 5,7 ملايين لاجئ فلسطيني يعتمدون على مساعداتها في خطر، ثلثهم موجودون في قطاع غزة. 

كانت الوكالة تعاني من فجوة تمويلية بنسبة 29% من مجمل حاجاتها، وبنتيجة هذا القرار سوف يرتفع هذا العجز إلى 61% ما يهدّد بوضع نحو 5,7 ملايين لاجئ  في خطر، ثلثهم موجودون في قطاع غزة

يأتي هذا التدبير على الرغم من تحرّك الوكالة واتخاذها قراراً يقضي «بفصل هؤلاء الموظّفين فوراً وفتح تحقيق للكشف عن حقيقة هذه المزاعم»، وقد اعتبر المفوّض العام للوكالة، فيليب لازاريني، تعليق التمويل «تهديداً لعمل الوكالة الإنساني في أرجاء المنطقة كلها، بما في ذلك قطاع غزة حيث يعتمد أكثر من مليوني إنسان على المساعدات التي تقدّمها الوكالة منذ بداية الحرب من أجل البقاء على قيد الحياة». ووصف لازاريني القرار بـ«العقاب الجماعي»، مشيراً إلى أنه «لأمر صادم أن نرى تعليق تمويل الوكالة كردّ فعل على الادعاءات ضدّ مجموعة صغيرة من الموظّفين، خصوصاً بالنظر إلى الإجراء الفوري الذي اتخذته الأونروا والمتمثّل في إنهاء عقودهم والطلب بإجراء تحقيق مستقلّ وشفّاف». 

تبعات القرار

لا يمكن تفسير هذا العقاب الجماعي سوى أنه محاولة إضافية للقضاء على أي مساعدة قد يحصل عليها الفلسطينيون في غزّة التي تتعرّض لحرب إبادة جماعية بمشاركة دولية منذ أكثر من ثلاثة أشهر. وهذا العقاب ينسحب أيضاً على الفلسطينيين المقيمين في الضفّة الغربية واللاجئين في سوريا والأردن ولبنان، الذين يعتمدون على الأونروا بشكل أساسي للحصول على حاجاتهم، ما يجعله متماشياً مع هدف إسرائيل الأساسي بتطهير الفلسطينيين عرقياً والقضاء على وجودهم، أينما حلّوا. 

يقول أنطونيو غوتيريس بأن تعليق تمويل الأونروا، سوف يؤدّي إلى نفاذ الأموال اللازمة لتلبية جميع احتياجات الفلسطينيين الذين شرّدتهم الحرب بحلول شباط/فبراير المقبل. ويفيد المراقبون وعمّال الإغاثة أن الاستمرار في إعاقة تدفّق المساعدات والغذاء والدواء إلى الإقليم سوف يؤدّي إلى زيادة الوفيات الناجمة عن الأمراض ويجعل المجاعة أمراً حتمياً.

تؤدّي «الأونروا» دوراً مهماً لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين منذ نحو 75 عاماً. فهي تأسّست في 8 كانون الأول/ديسمبر 1949 بموجب قرار الأمم المتّحدة رقم 302، بعد النكبة وقيام دولة إسرائيل، من أجل تقديم خدمات التعليم والرعاية الصحّية والإغاثة والخدمات الاجتماعية والتمويل الصغير للاجئين الفلسطينيين المسجّلين في غزة والضفّة الغربية والأردن وسوريا ولبنان، بالإضافة إلى تحسين البنية التحتية والمخيّمات وحماية حقوق اللاجئين بموجب القانون الدولي إلى حين تنفيذ حق العودة المنصوص عنه في القرار رقم 194. 

بدأت «الأونروا» أعمالها في الأول من أيار/مايو 1950. وكان يفترض أن تقدم خدماتها لمدة سنة، إلا أن ولايتها جدّدت مراراً وتكراراً بسبب الفشل في حلّ هذه القضية، وآخرها كان في كانون الأول/ديسمبر 2020 حتى حزيران/يونيو 2026. وتعد «الأونروا» حالياً واحدة من أكبر برامج الأمم المتّحدة، وهي الوكالة الوحيدة التي تقدّم مساعدتها مباشرة لنحو 5,7 مليون لاجئ من فلسطين. وعلى أية حال، لا يستفيد جميع اللاجئين المسجّلين من خدمات الوكالة بسبب انتقال العديد منهم إلى خارج مناطق عمليّات الأونروا.  

لا يمكن تفسير هذا العقاب الجماعي سوى أنه محاولة إضافية للقضاء على أي مساعدة قد يحصل عليها الفلسطينيون في غزّة أو أينما حلّوا

تموّل الأونروا بشكل كامل تقريباً من المساهمات الطوعية للحكومات. وتحصل على دعم محدود للغاية من الميزانية العادية للأمم المتّحدة لتغطية التكاليف الإدارية حصراً. في العام 2023، مثّلت مساهمات الحكومات نحو 90% من إيرادات الوكالة التي بلغ مجموعها نحو 739 مليون دولار، فيما قدّرت حاجاتها بنحو 1,05 مليار دولار.  لطالما شكّلت هذه البنية التمويلية غير المستقرّة مصدر خطر على استمرارية أعمال «الأونروا» لإغاثة الفلسطينيين، ومصدراً للي ذراعهم وتطويعهم. ومع ذلك، تبقى الوكالة مصدراً أساسياً لتأمين حاجاتهم في فلسطين المحتلّة أو البلدان المجاورة التي قد يؤدّي قطعها إلى تهديد حياتهم وسبل عيشهم.  

لماذا تريد إسرائيل القضاء على الأونروا؟

هذه ليست المرة الأولى التي تهاجم فيها دولة الاحتلال «الأونروا» وتحاول التخلّص منها. فقد سبق أن زعمت اكتشافها أنفاقاً تابعة لحماس تحت مدارس للأونروا، كما وجّهت اتهامات للعديد من موظّفي الوكالة بانتمائهم إلى حماس. وأيضاً زعمت تخزين صواريخ لحماس في مدارس الأونروا، وزعمت أن تلك المدارس تعيّن أيضاً ممثلاً لحماس لتجنيد الطلاب في الكتلة الإسلامية، وهي المجموعة الطالبية التابعة لحماس. واستخدمت هذه الحجج مراراً للدعوة إلى إغلاق «الأونروا» واستبدالها بمفوضّية الأمم المتحدة لشوؤن اللاجئين.

لطالما شكّل القضاء على «الأونروا» هدفاً أساسياً لإسرائيل، كونها تعتمد التعريف الذي اعتمدته الأمم المتحدة في العام 1952 للاجئين الفلسطينيين، بأنهم «كلّ من كان يعيش في فلسطين في خلال الفترة الممتدة بين الأول من حزيران/يونيو 1946 و15 أيار/مايو 1948، وخسر منزله وسبل عيشه» في خلال حرب التطهير العرقي التي خاضتها العصابات الصهيونية، وكذلك يعتبر لاجئاً فلسطينياً «المتحدّر من آباء مستوفين هذا التعريف». ويضاف إلى ذلك أن «الأونروا»، خلافاً للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، ليست مفوّضية إعادة توطين ولا تملك أية سلطة للبحث عن حلول دائمة للاجئين، بل هي مكلفة من الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقديم الخدمات للاجئي فلسطين في أقاليم عملياتها الخمسة، إلى حين عودتهم الى بلدهم بموجب تنفيذ القرار 194. 

لطالما شكّل القضاء على «الأونروا» هدفاً أساسياً لإسرائيل، كونها تعتمد التعريف الذي اعتمدته الأمم المتحدة في العام 1952 للاجئين الفلسطينيين والذي يضمن حق عودتهم كما أنها ليست مفوّضية إعادة توطين

وفي حين تعتبر دولة الاحتلال هذا التعريف «فضفاضاً»، عبّر العديد من المسؤولين الإسرائيليين عن نوايا التخلّص من الوكالة في العديد من المناسبات. في العام 2018، قال رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو بأن «الأونروا» تعمل على «إدامة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وإبقاء سردية حق العودة قائمة. ولم يبقَ سوى 20 ألف لاجئ فلسطيني من الذين نزحوا من منازلهم في العام 1948، لكن الأونروا تستمر بتسجيل الذين لم يولدوا في فلسطين ويقيمون في بلدان أخرى كلاجئين. وهذا بذاته يقضي على إسرائيل، ويجب استبدالها بمفوضية اللاجئين». وفي أعقاب المزاعم الأخيرة، دعا وزير خارجية دولة الاحتلال، يسرائيل كاتس، إلى وجوب استبدال «الأونروا» ما أن يتوقف القتال في قطاع غزّة. وقال في تغريدة على منصة إكس «يجب استبدال الأونروا بوكالات مكرّسة للسلام والتنمية والحقيقيين».

ليست المرة الأولى ولا الطريقة الوحيدة

منذ بداية الحرب، كانت «الأونروا» ومنشآتها من الأهداف الرئيسية لعمليات جيش الاحتلال، فحتّى 24 كانون الثاني 2024، قتلت إسرائيل 152 من أصل 13,400 عاملاً لدى الأونروا في قطاع غزّة، وتستهدف بشكل مباشر ويومي المدارس التابعة لها التي يقيم فيها حالياً نحو 1.9 مليون نازح. وبالفعل تمّ الإبلاغ عن 253 حادثة أثرت على مباني الأونروا وعلى الأشخاص الموجودين داخلها منذ بدء الحرب. كما أصيبت 70 منشأة تابعة للأونروا إصابة مباشرة بالإضافة إلى 71 منشأة مختلفة تابعة للأونروا أصيبت بأضرار جانبية.

هذه ليست المرّة الأولى، التي تستخدم فيها الدول الغربية «الأونروا» لتنفيذ سياسة «الجزرة والعصا» من أجل دفع الفلسطينيين للتخلّي عن قضيتهم المحقّة

أيضاً هذه ليست المرّة الأولى، التي تستخدم فيها الدول الغربية «الأونروا» لتنفيذ سياسة «الجزرة والعصا» من أجل دفع الفلسطينيين للتخلّي عن قضيتهم المحقّة. ففي العام 2018، علّق ترامب صرف مبلغ 120 مليون دولار كان مقرراً مسبقاً للأونروا، رداً على تصويت مجلس الأمن ضدّ قرار الولايات المتحدة باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، وإلى حين موافقة الفلسطينيين على العودة إلى طاولة المفاوضات، وقال ترامب في حينها «ليست باكستان فقط هي التي ندفع لها مليارات الدولارات من دون مقابل. على سبيل المثال، نحن ندفع للفلسطينيين مئات الملايين من الدولارات سنوياً ولا ننال أي تقدير أو احترام. إنهم لا يريدون حتى التفاوض على معاهدة سلام طال انتظارها مع إسرائيل. بما أن الفلسطينيين لم يعودوا مستعدين للحديث عن السلام، فلماذا يجب أن ندفع لهم هذه المدفوعات الضخمة؟».

وأيضاً عمدت الدول المطبّعة مع إسرائيل إلى تخفيض تمويلها المخصص للأونروا. إذ تراجع تمويل الإمارات من 12,8 مليون دولار في العام 2017 إلى مليون دولار في العام 2020، وفي العام 2023 لم تتبرّع بأي مبلغ. أما البحرين فقد انخفض تمويلها إلى 50 ألف دولار في العام 2022، وفي العام الماضي لم تتبرّع بأي مبلغ.