سلاح التجويع في غزّة
جميع سكّان قطاع غزّة من دون استثناء، أي حوالى 2,2 مليون نسمة، يعانون من مستويات كارثية مُتفاوتة من انعدام الأمن الغذائي بحسب تقديرات «التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي» (IPC) للفترة الممتدّة بين كانون الأول/ديسمبر 2023 وكانون الثاني/يناير 2024. هذه النسبة من الأشخاص الذين يعانون من انعدامٍ تامٍ في الأمن الغذائي وصولاً إلى اختبار الجوع، هي الأعلى على الإطلاق، ولم تُسجّل في أي منطقة في العالم منذ أن بدأ العمل في هذا التصنيف في العام 2004.
من أصل 601,600 شخص في العالم مُصنّفون في مرحلة الكارثة أو المجاعة، يتبيّن أن 95.8% منهم، أي 576,600 شخص موجودون في قطاع غزّة وحدها
وتشتدّ هذه الكارثة الإنسانية يومياً مع استمرار الحرب الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزّة، والقصف الوحشي، والحصار المطبق، وتقييد وصول المساعدات الإنسانية والغذائية. ففي حين لا يزال هناك نسبة ضئيلة جدّاً من السكّان قادرة، ولو بشكل هامشي ومحدود للغاية، على تأمين الحدّ الأدنى من احتياجاتها الغذائية بحسب تصنيفات المؤشِّر، فهي مع ذلك تعاني من سوء تغذية حادّ، وتندثر تدريجياً، وتنتقل إلى مراحل أشدّ من انعدام الأمن الغذائي وصولاً إلى المجاعة والعوز وحتّى الموت جوعاً.
كيف نقرأ المؤشّر؟
يعتبر «التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي» من أكثر المؤشّرات موثوقية فيما يتعلّق بتوصيف الأمن الغذائي في العالم، وتحليل درجاته وعرض النتائج المُترتبة عن انعدام الأمن الغذائي واشتداده وعدم الاستجابة للحدّ منه. وضع التصنيف في العام 2004، بمبادرة من نحو 23 من أكبر المنظّمات الدولية غير الحكومية ووكالات الأمم المتّحدة المعنية بمكافحة الجوع وسوء التغذية وتعزيز التنمية وإنقاذ الطفولة. يقسّم التصنيف حالات الأمن الغذائي إلى خمس مراحل:
- المرحلة الأولى تعبّر عن وجود أمن غذائي بشكل عام، وفي خلالها تكون أكثر من 80% من الأسر في المنطقة المعاينة قادرة على تلبية حاجاتها الغذائية الأساسية من دون الاضطرار إلى القيام بأي استراتيجيات من أجل تعديل أنماط استهلاكها وتكييفها.
- المرحلة الثانية تعبّر عن حالة من الأمن الغذائي غير المستقرّ أو المُجهد، إذ يضطر ما لا يقل عن 20% من الأسر في منطقة ما من تقليل استهلاكها الغذائي لكن من دون الحاجة إلى الانخراط في استراتيجيات تكيّفية تستنزف أصول المعيشة اللازمة لتأمين الغذاء.
- المرحلة الثالثة تعبّر عن وجود أزمة غذاء حادّة، وفي خلالها يعاني 20% من الأسر على الأقل من ثغرات كبيرة في استهلاك الغذاء، وبالكاد تكون هذه الأسر قادرة على تلبية الحدّ الأدنى من الاحتياجات الغذائية من دون الانخراط في استراتيجيّات تكيّفية تقوم على تصفية أصول المعيشة والمخزونات الغذائية. وفي خلال هذه المرحلة تسجّل هذه الأسر مستويات سوء تغذية حادّ أعلى من المعتاد.
- المرحلة الرابعة تعبّر عن انتقال ما لا يقل عن 20% من الأسر المقيمة في المنطقة المعاينة إلى حالة الطوارئ وحاجتها العاجلة إلى الإغاثة، إذ تعاني هذه الأسر من ثغرات شديدة في استهلاك الغذاء تؤدّي إلى مستويات عالية للغاية من سوء التغذية الحادّ والوفيات المُفرطة، أو تواجه هذه الأسر خسائر جسيمة في أصول المعيشة التي تؤدّي بدورها إلى فجوات في استهلاك الغذاء.
- المرحلة الخامسة والأخيرة هي مرحلة الكارثة أو المجاعة، يواجه في خلالها ما لا يقل عن 20% من الأسر نقصاً كاملاً في الغذاء ويظهر بينها الجوع والموت والعوز، كما تشهد انتشار سوء تغذية حادّ بين الأطفال، ووفيات بسبب الجوع.
جميع سكّان غزّة مهدّدين بالمجاعة
بحسب بيانات «التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي»، للفترة الممتدّة بين كانون الأول/ديسمبر 2023 وكانون الثاني/يناير 2024، فإن 21% من سكّان قطاع غزّة هم في المرحلة الثالثة أي يعانون من أزمة غذائية حادّة، و53% منهم في المرحلة الرابعة ويعانون من سوء تغذية حادّ ويحتاجون إلى إغاثة فورية، فيما 26% من السكّان انتقلوا إلى المرحلة الخامسة من التصنيف وهؤلاء يعانون من نقص كامل في الغذاء إلى درجة الموت جوعاً.
21% من سكّان قطاع غزّة يعانون من أزمة غذائية حادّة، و53% منهم من سوء تغذية حادّ ويحتاجون إلى إغاثة فورية، فيما 26% من السكّان يعانون من نقص كامل في الغذاء إلى درجة الموت جوعاً
وتظهر البيانات التي جمعها التصنيف في خلال فترة الهدنة، التي استمرّت بين 24 تشرين الثاني/نوفمبر والأول من كانون الأول/ديسمبر الماضيين، أن جميع الأسر تقريباً تتخطّى وجباتها الغذائية يومياً، وأن 4 من كلّ 5 أسر فلسطينية في المحافظات الشمالية ونصف الأسر النازحة في المحافظات الجنوبية تقضي أياماً وليالي كاملة من دون تناول الطعام. ويعاني العديد من البالغين من الجوع حتى يتمكّن الأطفال من تناول الطعام، كما تلجأ النسبة الأكبر من المقيمين في المحافظات الشمالية والتي تقدّر أعدادهم بنحو نصف مليون إنسان، والمقيمين في دير البلح وخان يونس أو النازحين إليها إلى تناول الأعشاب التي تنبت في البراري وعلى جوانب الطرقات. فالمساعدات الغذائية التي كانت تدعم أكثر من ثلثي السكّان قبل بدء الحرب، أصبحت الآن غير كافية لتغطية الاحتياجات المُتزايدة بسرعة والمهدِّدة للحياة، لاسيما أن كمّيات السلع، بما في ذلك المواد الغذائية، المسموح بدخولها إلى قطاع غزة لا تتجاوز 15% من مجمل ما كان يدخل إلى القطاع قبل الحرب، كما أنها لا تشمل كلّ السلع التي كانت تسمح إسرائيل بدخولها، وهي في معظمها عبارة عن عبوات مياه وبعض المعلّبات، وفي معظم الأيام لا تصل هذه المساعدات الضئيلة إلّا إلى جزء من سكّان محافظة رفح حيث يتكدّس حالياً الجزء الأكبر من النازحين. أمّا في المحافظات الشمالية ودير البلح وأجزاء من خان يونس، يمنع القصف والمعارك والحصار وتقطيع أوصال القطاع النسبة الأكبر من السكّان المعزولين في تلك المناطق من الوصول إلى المساعدات الإنسانية والخدمات الأساسية مثل الغذاء والمياه والصرف الصحّي والرعاية الصحّية. عدا عن أن استحالة استئناف الأنشطة الاقتصادية بسبب الدمار الهائل الذي ألحقته إسرائيل بالقطاع وتدميرها الأراضي الزراعية، يؤدّي إلى تفاقم الوضع المتردّي للأمن الغذائي في قطاع غزّة.
من أصل 601,600 شخص في العالم مُصنّفون في مرحلة الكارثة أو المجاعة، يتبيّن أن 95.8% منهم، أي 576,600 شخص موجودون في قطاع غزّة وحدها، وهناك 1,170 مليون إنسان فلسطيني يعيش سوء تغذية حادّ، ونحو 478 ألف إنسان يختبرون أقصى حالات انعدام الأمن الغذائي، ما يعني أن نحو 1,7 مليون إنسان يقتربون سريعاً من المجاعة. مع ذلك، لا يعتبر التصنيف أن القطاع يعيش مجاعة، وتكتفي المؤسّسات والمنظّمات الدولية ووكالات الأمم المتّحدة بالتحذير من خطرها. بالنسبة لهذا المؤشر يُفتَرض أن تواجه 20% من الأسر على الأقل نقصاً كاملاً في الغذاء أي أن لا تعثر على عشبة برّية واحدة لتقتات منها كلّ بضعة أيام، وأن يعاني 30% من الأطفال على الأقل من سوء تغذية حادّ، وأن يموت راشدان أو 4 أطفال من بين كلّ 10 آلاف شخص يومياً بسبب الجوع لكي تُعلن المجاعة.
معايير جامدة لتصنيف أحوال البشر في حرب إبادة
إن تشيئ البشر، كما تسليعهم، هو سمة طاغية في الأيديولوجيا النيوليبرالية، وينعكس في البلاغة والخطاب المعتمدين في المؤسّسات الدولية والوكالات الأممية التي تنتهجها، وعبر معظم المؤشّرات والدراسات التي تصدر عنها، بما فيها معايير تصنيف المجاعة، وتعريف خطّ الفقر، وتوصيف رأس المال البشري وغيرها... يعدُّ تطبيق معايير جامدة ومجرّدة فاقعاً بذاته عند التعامل مع بشر، فكيف الحال في خلال حرب إبادة جماعية علنية؟
إن التعامل مع كارثة إنسانية بمنطق المعادلات الحسابية لطالما كان تعاملاً مُجرّداً من الإنسانية ومشاركة ضمنية بالجريمة، لا سيما في حالة المجاعة التي غالباً ما تُعلَن بعد وصولها إلى مستويات لا يمكن الرجوع عنها
يدّعي التصنيف أن البيانات التي جمعها في خلال فترة الهدنة «قابلة للاستخدام لإثراء التحليل وتأكيده»، على الرغم من التنويه لاحقاً بأن «البيئة التي جُمعت المعلومات فيها مُعقّدة للغاية»، واضطرار «لجنة مراجعة المجاعة» التي حلّلت البيانات للتعامل مع «قيود فيما يتعلّق بحجم العينة المدروسة»، عدا عن «عدم توافر أي بيانات حديثة عن مدى انتشار سوء التغذية الحادّ والوفيات الناجمة عن الصدمات»، أي غير المرتبطة بالإصابات المباشرة جرّاء القصف. بالنسبة للتصنيف، تجاوز الوضع الغذائي في غزّة سقفاً واحداً من السقوف الثلاثة المُحدِّدة لتصنيف المجاعة، وهو انعدام الأمن الغذائي الحادّ الذي يصيب حالياً نحو 26% من سكّان قطاع غزّة، في حين أن سقف «سوء التغذية الحادّ لما لا يقل عن 30% من الأطفال غير مؤكّد ولم يتم جمع البيانات الضرورية للتأكّد منه منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي»، على الرغم من إقرارهم بأن «سوء التغذية ينشأ من عدم كفاية الغذاء والتعرّض لفجوات طويلة وشديدة في استهلاك الغذاء»، كما أن معدّل الوفيات بسبب الجوع أو التفاعل بين سوء التغذية والمرض لا يزال محصوراً بحالة واحدة بالنسبة للراشدين من بين كلّ 10 آلاف شخص، بدلاً من حالتين، وبحالتين بدلاً من 4 حالات بين الأطفال لكلّ 10 آلاف شخص.
إن التعامل مع كارثة إنسانية بمنطق المعادلات الحسابية لطالما كان تعاملاً مُجرّداً من الإنسانية ومشاركة ضمنية بالجريمة، لا سيما في حالة المجاعة التي غالباً ما تُعلَن بعد وصولها إلى مستويات لا يمكن الرجوع عنها. وفي حالة غزّة يضاف هذا النهج إلى تقاعس مقصود تمارسه العديد من المنظّمات الدولية بما فيها وكالات الأمم المتّحدة، بما يجعلها شريكة علنية في الإبادة.
تفاخر منظّمتا يونيسيف وبرنامج الأغذية العالمي - وهما شريكتان في «التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي» - عند التعريف عن أعمالهما على موقعهما الإلكتروني، بأن مهامهما تقضي بمكافحة الجوع وحماية الطفولة وعدم السماح باستخدام الجوع كسلاح في أي حرب، وتتحدّثان عن عملهما في العديد من المناطق والدول من أجل منع حصول ذلك. ففي جنوب السودان عمل برنامج الأغذية العالمي على توزيع المساعدات الغذائية برميها جوّاً من المروحيّات، كما انضمّت قوّات حفظ السلام التابعة للأمم المتّحدة إلى هذه الجهود ورافقت العاملين الدوليين في مجال الإغاثة إلى العديد من المناطق لحمايتهم من أعمال العنف عند أداء مهامهم. وفي العام 2018، أصدر مجلس الأمن القرار 2417 الذين «يدين استخدام تجويع المدنيين كسلاح وأسلوب في القتال في حالات النزاع، وكذلك المنع غير القانوني من إيصال المساعدات الإنسانية وحرمان المدنيين من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة». وبالفعل، أدّى انتهاك هذا القرار في جنوب السودان إلى إصدار القرار 2428 الذي فرض حظراً على توريد الأسلحة إليه. أمّا في غزّة فتنعدم كلّ هذه الإجراءات والتدابير، وعلى الرغم من مطالبة وزارة الخارجية الفلسطينية الأمم المتّحدة منذ 26 كانون الأول/ديسمبر الماضي بإعلان المجاعة رسمياً في القطاع، يستمرّ التلكؤ في الضغط من أجل وقف الحرب والإجرام الإسرائيلي، وما يحصل هو أشبه برفع العتب لا يتعدّى إصدار البيانات والتحذيرات، فيما الفلسطينيين في قطاع غزّة يبادون بالمتفجّرات، وبكلّ الأشكال المُتاحة بما فيها التهجير والحصار وقطع الماء والطعام والوقود والإسعاف والرعاية الصحيّة عنهم.