الحرب على المستشفيات
لا شكّ في أن الدكتور همام اللوح هو أحد أبرز وجوه المرحلة الراهنة من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، فهذا الطبيب البالغ من العمر 36 عاماً هو اختصاصي كلى رفض إخلاء مجمّع الشفاء الطبي، شمال القطاع، عندما اقتحمته القوات الإسرائيلية، قائلًا «إذا غادرت، فمن سيعالج مرضاي؟»، في مقابلة أجراها في 31 تشرين الأول/أكتوبر، وأضاف «نحن لسنا حيوانات. نحن نستحق الحصول على الرعاية الصحية المناسبة». بعد أسبوعين من هذه المقابلة، قُتِل همام اللوح مع والده وصهره ووالد زوجته بغارة إسرائيلية.
لم يكن اختيار كلمة «حيوانات» غريباً على أذن المتابع، فقد سبق لوزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أن استخدم هذه اللغة عندما أعلن في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر «الحصار التام» على غزّة، واصفاً سكّانها بـ «الحيوانات البشرية». صحيح أنّه كان من المتوقع أن تردّ إسرائيل بحملة عسكرية عنيفة على الهجوم الذي شنّته حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، غير أنّ هذه الحملة اختلفت اختلافًا جذرياً عن سابقاتها، مستهدفة منطقة يعيش أكثر من 80% من سكانها في الفقر منذ ما قبل «طوفان الأقصى». وتخلّلت هذه الحملة اعتداءات مباشرة على المستشفيات واستهدافاً مُتعمّداً للقطاع الصحي برمّته من خلال القصف، وقتل أفراد الطواقم الطبية واعتقالهم، والقتل المباشر وغير المباشر لآلاف المرضى وحرمانهم جزئياً أو كلّياً من الرعاية الطبية المناسبة، إضافةً إلى تكبيدهم معاناة غير مبرّرة بحرمانهم من الأدوية الأساسية والمياه والغذاء والوقود. كشفت هذه الاعتداءات الوجه الجديد للقمع الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين، ألا وهو التدمير المُمنهج للمؤسّسات التي تبقيهم على قيد الحياة.
الصمت المستهجن
حتى كتابة هذه السطور، وثّقت منظّمة الصحّة العالمية حوالى 500 اعتداء على القطاع الصحّي في الأراضي الفلسطينية المحتلّة في غضون 70 يوماً، بمتوسط سبعة اعتداءات أو أكثر بقليل في اليوم طالت مرافق الرعاية الصحّية وطواقمها وعربات الإسعاف والمرضى والمخازن والمستلزمات الطبية. وكشف اتحاد منظّمات الإغاثة والرعاية الطبّية عن مقتل 283 عاملاً صحّياً حتى الآن، منهم بإطلاق نار مباشر وآخرون بالقصف على المستشفيات. وقد خسرت منظّمة «أطباء بلا حدود» عدداً من أطبائها في هجمات مباشرة استهدفت القوافل والمستشفيات. وتفيد تقارير بأن الطواقم الطبّية الفلسطينية، بمن فيهم الاستشاريون في كبرى مستشفيات غزّة، تعرّضوا للخطف أو الاعتقال على أيدي القوات الإسرائيلية (رصدت مجموعة تُدعى «مرصد العاملين الصحّيين - فلسطين» أكثر من 116 من تلك الحالات).
وثّقت منظّمة الصحّة العالمية حوالى 500 اعتداء على القطاع الصحّي في الأراضي الفلسطينية المحتلّة في غضون 70 يوماً، بمتوسط 7 اعتداءات أو أكثر بقليل في اليوم
يُعد محمد أبو سلمية، مدير مستشفى الشفاء، إحدى أبرز الشخصيات الطبّية التي اعتقلها جيش الاحتلال في 23 تشرين الثاني/نوفمبر في أثناء إخلائه المستشفى مع قافلة تابعة لمنظّمة الصحّة العالمية (التي ما زال أفرادها محتجزين). وفي مقال له نُشِر في موقع «ذا لانسيت» بعد أيام من اعتقاله، ناشد أبو سلمية المجتمع الطبّي الدولي بـ«إدانة الاعتداءات بحقّ العاملين الطبيين». غير أنّ العديد من الصحف والجمعيات الطبّية الأميركية البارزة تحفّظت على الاستجابة لهذه المناشدات. وعندما التأمت الجمعية الطبّية الأميركية في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، أُحبِطت محاولتها للخروج بدعوة إلى وقف إطلاق النار وحماية المدنيين والعاملين في القطاع الطبّي. ولكن في العام 2022، لم تبدِ الجمعية أي تحفّظات عندما طالبت صراحةً بوقف فوري لإطلاق النار في أوكرانيا، وقال رئيس الجمعية آنذاك «تستنكر الجمعية الطبّية الأميركية القتل العبثي الذي تمارسه القوات الروسية بحق الشعب الأوكراني. إنّ الأوكرانيين الذين ينجون من هذه الاعتداءات غير المبرّرة سيصاحبهم تأثيرها النفسي والمعنوي والجسدي لسنوات طويلة». وعلى الرغم من أن الجمعية أصدرت بياناً في 9 تشرين الثاني/نوفمبر قالت فيه إنّها «تؤيد المساعي الرامية إلى إيصال المساعدات الإنسانية والمستلزمات الطبّية إلى أولئك الذين يعيشون أزمة إنسانية» (نلاحظ هنا استخدام «أولئك» للدلالة على مجهولين)، لم يأتِ هذا البيان على ذكر «الكارثة الصحّية العامة» الوشيكة في غزّة، والتي كانت منظّمة الصحّة العالمية تحذّر منها.
ولعلّ الصمت الأكثر استهجاناً جاء من الجمعية الأميركية للطبّ النفسي والأكاديمية الأميركية لطبّ نفس الأطفال والمراهقين. سارعت الاثنتان إلى إصدار بيانين في تشرين الأول/أكتوبر أدانتا فيهما «الاعتداءات والهجمات الإرهابية الأخيرة التي وقعت في إسرائيل»، لكنّهما لزمتا الصمت إزاء الصدمات النفسية الهائلة التي خلّفتها عقود من الاحتلال على أطفال غزّة ومراهقيها، ناهيك عن القصف العشوائي الحالي. كيف لنا أن نفسّر هذا التناقض من دون أن ننسبه إلى ازدواجية المعايير؟
لكن بعض المنظّمات ارتقى إلى مستوى الحدث، فقد بادرت «الجمعية الأميركية للصحّة العمومية»، وهي جمعية الصحّة العمومية الأكبر والأعرق في الولايات المتّحدة، إلى الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزّة بتاريخ 15 تشرين الثاني/نوفمبر. بدورها طالبت منظّمة «أطباء بلا حدود» ومنظّمات غير حكومية أخرى، مثل «أطباء لحقوق الإنسان» الإسرائيلية بوقف العمليات العسكرية. إلى ذلك، اتخذت «الجمعية الأميركية لعلم النفس» موقفاً أكثر توازناً، قالت فيه إنّ «من حق كلّ الأفراد العيش بمنأى عن الخوف والعنف لينعموا بالصحّة النفسية والرفاه».
ولكن في ظل غياب مبادرة يصطفّ خلفها المجتمع الطبّي على نطاق واسع، لن تلقَ هذه الدعوات آذاناً صاغية. إنّ تدمير القطاع الصحّي في غزّة يُنذر بتقويض اتفاقيات جنيف الواقعة في صميم القانون الدولي، والتي تهدف إلى حماية أرواح المدنيين ومرافقهم الحيوية، كالمدارس والمستشفيات. وأمام الاستخفاف الإسرائيلي الخطير بهذه القوانين، يمكن للكوادر الطبّية أن تلعب دوراً حاسماً في فضح المخطّط الإسرائيلي لتحويل غزّة إلى مكان غير قابل للعيش.
«مناطق موت»
لم تسلم مستشفيات غزّة الرئيسة، والتي يتركّز معظمها في شمال القطاع، من اعتداءات الجيش الإسرائيلي وقصفه العشوائي حتى قبل انطلاق عمليّته البرّية في 27 تشرين الأول/أكتوبر، بما في ذلك الاستخدام المتعمّد لقذائف الفوسفور الأبيض المدفعية. والفوسفور الأبيض مادّة محرّمة دولياً تتسبّب بحروق جلدية مروّعة تصعب معالجتها أو مداواتها في مناطق النزاع، ويطال ضررها أعضاء الجسم الحيوية، وتترك إصابات بدنية وصدمات نفسية مدى الحياة، ناهيك عن أنّ هذه المادة تؤدّي إلى اندلاع حرائق واسعة.
ما تقوم به إسرائيل هو جزء من استراتيجية أوسع: القضاء المُمنهج على نظام الرعاية الصحّية في غزّة
بدأ جيش الاحتلال بإنذار مستشفيات غزّة الرئيسة، بما فيها الشفاء (وهي أكبر مستشفى ومخيم للاجئين)، لإجلائها على الفور. واستنكر تيدروس غيبريسوس، مدير منظّمة الصحة العالمية، مراراً التحذيرات الإسرائيلية مُشدّداً على استحالة إخلاء المستشفيات من دون تعريض حياة آلاف المرضى للخطر، بما فيهم عدد كبير من الحالات الحرجة. ترقّب العالم لأيام ظهور أدلة تُثبت المزاعم الإسرائيلية بأن حماس تستخدم مجمّع الشفاء الطبي غطاءً لإخفاء أنفاقها و«مركز قيادتها». بموازاة ذلك، أقدمت حكومة نتنياهو، وهي المتسلّحة بدعم الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي، على هجوم أدانته منظّمة الصحة العالمية قائلةً إنّه «مرفوض تماماً»، فيما استنكرته المنظّمات الإنسانية الكبرى كلّها واصفةً إيّاه بأنّه «مخالفة للقانون الدولي الإنساني والقوانين والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان». هذه العملية العسكرية التي لم يستغرق تخطيطها أكثر من أيام قليلة تخلّلها تقدّم للدبّابات وقصف وإخلاء قسري من دون توفير ممرّات آمنة أو عربات إسعاف لآلاف المرضى واللاجئين الذين احتموا بالمستشفى.
أملت إدارة بايدن أن تكون العملية «محدّدة الأهداف» و«دقيقة»، لكن تبيّن لاحقاً أنّها لم تكن كذلك. بعد محاولات عدّة فاشلة، عجز الجيش الإسرائيلي عن تقديم الأدلّة التي كان يروّج لها، فلم يعثر إلّا على بعض الأسلحة وبعض الأنفاق التي لا تخدم أغراض عسكرية واضحة. وبالطبع، لم يعثر على مركز قيادة.
هذه الكارثة التي حلّت بمجمّع الشفاء خلّفت في أعقابها دماراً وبؤساً وعدداً كبيراً من الضحايا، ما دفع بعثة الصحة العالمية إلى وصف المستشفى الأكبر في غزة بـ «منطقة موت». وذُهل أعضاء البعثة بما رأته أعينهم: مقبرة جماعية عند مدخل المستشفى، وبقاء 25 عاملاً صحياً للاعتناء بـ 291 مريضاً في حالات حرجة، بينهم خدّجٌ في «حالات حرجة للغاية»، فضلاً عن عدم وجود أي مياه أو غذاء أو لوازم طبّية أو وقود. وكانت جروح المرضى متقيّحة في ظل النقص الحادّ في المضادات الحيوية. لقد أُجبِرَ حوالى 2,500 مريض، بينهم الكثير من الجرحى والمُصابين ممّن بُتِرت أعضاؤهم، على إجلاء المستشفى والتوجّه جنوباً وسط مشهد يشبه نهاية العالم بما فيه من شوارع مُدمّرة بالكامل وجثث متعفّنة متناثرة على الطرقات. حتى الآن، لم يتعافَ المستشفى من هذه الفاجعة، فقد وصفته بعثةٌ زارته في كانون الأول/ديسمبر بـ «حمام دم» و«مستشفى يحتاج إنعاشاً».
بدا من الواضح أنّ تعطيل مستشفى الشفاء لم يحقق أي هدف عسكري ضد حماس، وهذا ما يُحيلنا إلى فكرة أنّ ما تقوم به إسرائيل هو جزء من استراتيجية أوسع: القضاء المُمنهج على نظام الرعاية الصحية في غزة. لم يكن هذا الاعتداء حادثةً معزولة، ففي تشرين الثاني/نوفمبر، أُجبر مستشفى الرنتيسي التخصّصي للأطفال على الإخلاء في ظروف كارثية تحت وطأة القصف العنيف، علماً أنّه المركز الطبّي الوحيد في غزّة الذي يضمّ قسماً لسرطان الأطفال. وعلى مقربة منه، دمّرت إسرائيل مستشفى الطبّ النفسي الوحيد في غزّة في ذروة الحاجة إلى خدمات الدعم النفسي الاجتماعي وخدمات الصحّة النفسية. أمّا المستشفى التركي الفلسطيني، وهو الوحيد المتخصّص بأمراض السرطان، فنفد الوقود لديه وخرج من الخدمة. ولم يسلم المستشفى الدولي للعيون الذي سوّاه القصف بالأرض. وبحسب منظّمة الصحّة العالمية، قتلت غارة إسرائيلية على المستشفى الإندونيسي عشرات المرضى ومرافقيهم، فضلاً عن إصابة العشرات. وعندما استهدف أحد الصواريخ الطابق الرابع من المستشفى مباشرةً، تعطّلت ألواح الطاقة الشمسية التي تزوّده بالكهرباء. ولم يكتفِ الاحتلال بذلك، بل عمدت قوّاته إلى إطلاق النار على المرضى واستجوابهم والتعرّض لأحد الممرّضين بالضرب. وفي مشهدية تحمل رمزية مقلقة، دمّر جيش الاحتلال في 25 تشرين الأول/أكتوبر مركز إعادة تأهيل المعوّقين.
في 12 كانون الأول/ديسمبر، فُرض حصار على مستشفى كمال عدوان، علماً أنّه كان المستشفى الأخير الذي يعمل في شمال القطاع. دام الحصار أياماً عدّة قبل أن يتعرّض للقصف. كما تم تجريف باحته الداخلية حيث يُعتقد أنّ العشرات دُفنوا أحياءً تحت الركام. وعمدت القوات الصهيونية إلى تجريد أفراد الطاقم الطبّي من ملابسهم واعتقالهم (لا يزال مدير المستشفى أحمد الكحلوت معتقلاً حتى الآن).
أدّى العدوان الإسرائيلي الغاشم إلى إخراج أكثر من 70% من مستشفيات غزّة من الخدمة وفقاً لتقارير منظّمة الصحّة العالمية. بدورها، وصفت الأمم المتحدة الوضع الصحي الحالي بـ «منطقة كوارث إنسانية». وحتى كتابة هذا المقال، قُتل ما يزيد على 20 ألف فلسطيني (من دون احتساب آلاف الجثث التي لا تزال تحت الأنقاض) وأصيب أكثر من 50 ألف شخص. وهذه الأرقام التي يُرجح أنّها أقلّ التقديرات، وفقاً لمسؤولين أميركيين، تشمل ما يزيد على 10 آلاف طفل و4 آلاف امرأة، أي ما يعادل نحو 70% من العدد الإجمالي للضحايا. وبحسب منظّمة «أنقذوا الأطفال» غير الحكومية، تجاوز عدد الأطفال الذين قُتلوا في غزة إجمالي العدد السنوي للأطفال ضحايا الصراعات المختلفة عبر العالم في كل سنة من السنوات الثلاث الماضية. بصورة عامة، أُصيب الآلاف إصابات بالغة وهُجِّر أكثر من 1.8 مليون شخص، فيما تفتقر آلاف النساء الحوامل إلى الرعاية المناسبة، وحياة عشرات الخُدّج معرّضة للخطر، ناهيك عن آلاف المرضى المزمنين الذين يعانون نقصاً حادّاً في الأدوية الأساسية والمعدّات المُنقذة للحياة.
الأوبئة كسلاح إبادة
في ظلّ غياب مُسكِّنات الألم وحتى الضوء أحياناً، كشف عدد من الجرّاحين أنّهم أجروا عمليات مرعبة اضطروا خلالها إلى بتر أطراف الأطفال وتضميد الحروق بلا تخدير، واللجوء إلى الخل لعدم توفّر المطهّرات، واستخدام ضوء شاشات هواتفهم للرؤية، والكيتامين لتخدير المرضى قبل إجراء العمليات عليهم. كلّ هذه الظروف جرّدت مبدأين رئيسين من مبادئ الطبّ الحديث من أي معنى، وهنا نقصد «معيار الرعاية» (أي الإجراءات المتعارف عليها التي ينبغي لكل طبيب اتّباعها عند معالجة المرضى بشروط محددة) و«استمرارية الرعاية» (أي إمكانية متابعة المرضى).
ضحايا القصف الإسرائيلي للمستشفيات يشملون الآن أطفالاً يتعافون من عمليات بتر أعضاء تسبّبت بها ضربات سابقة
في 19 كانون الأول/ديسمبر، أعلن مسؤولون من الأمم المتحدة أنّ مستشفى ناصر، وهي كبرى المستشفيات التي لا تزال تعمل في غزة، تعرّضت للقصف مرّتين في خلال اليومين السابقين، الأمر الذي دفع هذا المرفق الصحي الذي بالكاد يعمل إلى شفير التوقف التام. وبحسب أحد الناطقين الأمميّين، بات ضحايا القصف الإسرائيلي للمستشفيات يشملون الآن أطفالاً يتعافون من عمليات بتر أعضاء تسبّبت بها ضربات سابقة.
بلغ الوضع مرحلة خطيرة للغاية دفعت منظّمة «أطباء بلا حدود» إلى التخلّي عن حيادها السياسي المعتاد والدعوة إلى وقف لإطلاق النار. ووصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطوني غوتيريش الوضع في غزة بأنه «كارثة إنسانية هائلة». ويزداد المشهد مأساوية عندما ندرك أنّ سكان غزّة معرّضون لأمراض فتّاكة وسريعة الانتشار في ظلّ الضرر اللاحق بالبنى التحتية للمياه والصرف الصحي، واكتظاظ أماكن الإيواء، وبقاء الجثث تحت الأنقاض من دون دفنها، وتدهور شروط النظافة، وتضاؤل إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحّية المناسبة. شهدت الأسابيع الأخيرة ارتفاعاً كبيراً لعدد أمراض الجهاز الهضمي والأمراض المعدية (السحايا وجدري الماء والتهاب الكبد أ) حدّ أنّ الإسرائيليين باتوا الآن يخشون الكوليرا على صحتهم وصحة أسراهم. وحذّرت منظّمة الصحة العالمية من أنّ الأمراض وغياب الرعاية الصحية يهدّدان حياة سكان غزة أكثر من القصف.
يكشف لنا التاريخ مناسبات عدّة لجأ فيها المستعمرون إلى استخدام الأمراض المعدية كالجدري والطاعون سلاحاً لإبادة الشعوب الأصلية، الأمر الذي ما زلنا نشهده حتى اليوم بوصفه استراتيجية حرب، وقد وجد فيه بعض المسؤولين الإسرائيليين وسيلة للإبادة الجماعية في غزة. ففي تشرين الثاني/نوفمبر، أيّد وزير المالية الصهيوني بتسلئيل سموتريتش خطاب الإبادة الذي عبّر عنه الجنرال الصهيوني المتقاعد غيورا آيلاند في مقال كتبه لصحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية دعا فيه إلى التسبّب في انتشار الأوبئة كطريقة لتحقيق أهداف إسرائيل في حملتها الحالية. ولعلّ انهيار نظام الرعاية الصحية خير دليل على أنّ هذا المخطّط يجري على قدم وساق في غزة.
تقول أنييس كالامار، الأمينة العامة لمنظّمة العفو الدولية، إنّ «ما يحدث في غزة هو سلسلة من الانتهاكات للقانون الدولي... لم نشهد نظيراً لها منذ الحرب العالمية الثانية»، سواء أكانت هذه الممارسات قريبة من الإبادة الجماعية أم تشكل بالفعل إبادة جماعية، بحسب آراء مؤرّخين وحقوقيين بارزين، لا يسعنا أن نرى فيها إلّا جزءاً من حملة أوسع لتهجير سكان غزة وجعلها غير قابلة للعيش.
قبل أكثر من عقد من الزمن، دَعَت مجموعة مكوّنة من 50 منظّمة دولية، بما فيها منظمة الصحّة العالمية وهيومن رايتس ووتش وأوكسفام، إسرائيل لرفع حصارها غير القانوني وغير الإنساني عن غزّة، ولكن من دون نتيجة. وفي مداخلة في العام 2010 أمام مجلس العموم، وصف رئيس الوزراء البريطاني جيمس كاميرون غزة بأنها «سجن في الهواء الطلق». وكان نزلاء هذا السجن البالغ عددهم وقتذاك 1.6 مليون مدني يُبقَون على قيد الحياة من خلال نظام غذائي بحد أدنى من السعرات الحرارية تحسبه سلطات الاحتلال بدقة وصرامة ليتسبّب في سوء التغذية، إنّما من دون أن يتحوّل إلى مجاعة صريحة. والعمليات الأخيرة في إطار هذا الحصار الطويل على غزّة، خصوصاً قرار قطع المياه والوقود والأدوية والغذاء بموازاة القصف العنيف والعشوائي، إنّما تزيد الوضع سوءاً. إنّ تجويع المدنيين كإحدى تكتيكات الحرب يُعدّ جريمة محرّمة بموجب اتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وفي أعقاب القصف الذي طال آخر مطاحن القمح العاملة في غزة وتقييد الوصول إلى المساعدات الإنسانية، تحذّر الأمم المتحدة من أنّ عمليات التدمير المتعمّدة هذه «تهدّد استمرارية حياة الفلسطينيين في غزة وتجعلها مستحيلة». ولكنّها أيضاً تشير إلى أنّ إسرائيل انتهجت تكتيك الحرب ذاته الذي انتهجته دول مارقة كسوريا وروسيا. وعلى غرار أي دولة مارقة أخرى، لم تتردّد إسرائيل في تجاهل القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقيات جنيف، وهي أساس القانون الدولي الإنساني، التي تنظّم سلوك الأطراف في النزاعات المسلّحة، والأهم من ذلك أنّها تهدف إلى الحدّ من تبعات هذه النزاعات.
حماية المرافق الصحية
شكّلت المذبحة التي أسفرت عنها معركة سولفرينو في العام 1859 الدافع لانعقاد مؤتمر في جنيف، وضع آنذاك حجر الأساس لاتفاقية جنيف الأولى وتأسيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر. عُرفت الاتفاقية الأولى رسمياً بـ «اتفاقية جنيف لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلّحة في الميدان»، وكان الغرض منها إلزام المتحاربين بإعلان المستشفيات الميدانية والمجذمات (مستشفيات المصابين بالجذام) مناطق مُحيّدة في أوقات الحرب، إضافة إلى توفير الحماية ذاتها للفرق الطبّية العسكرية، والمساعدين المتطوّعين، والجنود المصابين. ومن أجل تعيين الأشخاص والأشياء الخاضعة للحماية، يجب على الحكومات اختيار رمز معروف ومميز هو الصليب الأحمر، أو الهلال الأحمر في البلدان ذات الغالبية المسلمة (الذي اعتُمد نزولاً عند طلب السلطنة العثمانية).
سكان غزّة معرّضون لأمراض فتّاكة وسريعة الانتشار في ظلّ الضرر اللاحق بالبنى التحتية للمياه والصرف الصحي، واكتظاظ أماكن الإيواء، وبقاء الجثث تحت الأنقاض من دون دفنها
تضمنّت اتفاقية جنيف الأولى أحكاماً تتعلّق بالمستشفيات العسكرية وليس المدنية منها. ففي ذاك الوقت، كانت الحروب تُخاض في ساحات المعركة بين الجيوش. ولكن بعد اختراع الطائرات، بدأت المستشفيات العسكرية والمدنية تتعرّض للاستهداف بوتيرة أعلى وبشراسة أكبر. وفي خلال الحرب العالمية الأولى، قصفت ألمانيا مستشفيات لندن وردّت عليها بريطانيا العظمى بالمثل. وفي منتصف الثلاثينيات، تعرّض عدد كبير من المستشفيات التابعة للصليب الأحمر والهلال الأحمر التي كانت تعتني بالجنود الإثيوبيين المرضى والمصابين للقصف بطائرات سلاح الجو التابع لموسوليني. وعلى الرغم من أنّ اتفاقية لاهاي لعام 1907 تضمّنت بعض الأحكام التي تنص على حماية المستشفيات المدنية، لم تُذكَر المسألة صراحةً إلّا في اتفاقية جنيف الرابعة التي أُقرّت بنودها في العام 1949. وجدير بالذكر أنّ ما مهّد الطريق أمام التشريعات الدولية بشأن حماية البنى التحتية المدنية، بما فيها المستشفيات، كان سلسلة من الأحداث المأساوية كقصف الحلفاء العشوائي للمستشفيات الألمانية إبّان الحرب العالمية الثانية، وإلقاء الولايات المتّحدة قنابل حارقة (نابالم) على طوكيو، وإلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي.
تنصّ اتفاقية جنيف الأولى بما لا يقبل الشك على وجوب حماية الوحدات والمنشآت الطبية إلّا إذا «استُخدمت، خروجاً على واجباتها الإنسانية، في أعمال تضر بالعدو». والمادّة 15 من الاتفاقية الرابعة تحديداً تُصنّف المستشفيات «مناطق مُحيّدة بقصد حماية الأشخاص التالين من أخطار القتال من دون أي تمييز: (أ) الجرحى والمرضى من المقاتلين وغير المقاتلين؛ (ب) الأشخاص المدنيين الذين لا يشتركون في الأعمال العدائية ولا يقومون بأي عمل له طابع عسكري أثناء إقامتهم في هذه المناطق». ولكن على الرغم من التعديلات الإضافية التي أُدخِلت على الاتفاقية الرابعة، استمرّت التعدّيات على «حيادية» المستشفيات وحرمتها، ما دفع إلى إقرار بروتوكولين إضافيين في 1977 بهدف تعزيز سُبُل حماية المدنيين ومن هم بحاجة للرعاية الطبّية.
وحتى لو استُخدمت المستشفيات لأغراض عسكرية، فثمة قواعد يجب اتّباعها. بحسب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، من واجب مطلق النار تقديم أدلة قبل الشروع في ذلك، فضلاً عن وجوب «اتخاذ الاحتياطات اللازمة، بما في ذلك التحذيرات الفعّالة، التي تراعي قدرة المرضى والطاقم الطبّي وغيرهم من المدنيين على الإخلاء بأمان». لم تتقيّد إسرائيل بأي من ذلك عندما هاجمت مجمّع الشفاء وغيره من المستشفيات.
هل عدنا إلى الوراء؟
إنّ أي تأييد أو تشجيع مُسبق لضرب المرافق الصحّية المدنية بشكل عشوائي، كما رأينا في الرسالة المفتوحة المقلقة التي وقّعها 100 طبيب إسرائيلي دعماً لقصف المستشفيات على اعتبار أنّها «أوكار للإرهاب»، يُمثّل رجوعاً إلى الوضع السائد عشية الحرب العالمية الثانية عندما كانت «شريعة الأخذ بالثأر» القاعدة بدلاً من حقوق الإنسان. وإنّ دعم الأطباء للعنف بحق المدنيين لهو مخالفة لمبدأ «الحياد الطبي» وينمّ عن ازدراء لقَسَم أبقراط بـ «عدم الأذية».
يكشف لنا التاريخ مناسبات عدّة لجأ فيها المستعمرون إلى استخدام الأمراض المعدية كالجدري والطاعون سلاحاً لإبادة الشعوب الأصلية، الأمر الذي ما زلنا نشهده حتى اليوم بوصفه استراتيجية حرب
في العام 1998، أسّس نظام روما الأساسي، الذي اعتُمد وصودق عليه في العام 2002، المحكمة الجنائية الدولية ومنحها سلطة دائمة لمحاكمة الأفراد المتورّطين بجرائم دولية، بما فيها الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم العدوان. تنصّ المادة الثامنة صراحةً على أنّ «المستشفيات وأماكن تجمّع المرضى والجرحى» مبانٍ لا يجوز توجيه هجمات ضدها عمداً. وتهدف المحكمة الجنائية الدولية إلى المساعدة في وضع حد لإفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب. ومن بين أبرز الدول التي لم تصادق على نظام روما الأساسي الولايات المتّحدة الأميركية وروسيا والهند والصين وإيران وإسرائيل. غير أنّ فلسطين طرف في نظام روما، ما يعني أنه يجوز للمدعي العام للمحكمة التحقيق في الجرائم الواقعة ضمن اختصاص المحكمة. وتجدر الإشارة إلى أنّ إسرائيل والولايات المتحدة وقّعتا على اتفاقيات جنيف كلّها.
يُشكّل الهجوم الذي شنّته حماس وأوقع مئات القتلى من المدنيين وأدّى إلى أسر 240 شخصاً وحالات اغتصاب مزعومة انتهاكاً لاتفاقيات جنيف، وقد تعهّد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بمحاسبة كلّ من حماس وإسرائيل. غير أنّه أغفل الطبيعة المنهجية وغير المسبوقة لاعتداءات إسرائيل على المستشفيات والعاملين الصحّيين. ويبقى أن نترقّب ما إذا كان ستخضع هذه الجرائم للتحقيق في محاكم القانون الدولي.
تندرج مثل هذه الجرائم في سياق نمط أوسع. صحيح أنّ إسرائيل تجاوزت البلدان الأخرى من حيث حجم هجماتها على المرافق الصحية وكثافتها وفتكها، فإنها ليست المعتدي الوحيد. في السنوات الأخيرة، اشتدّت الهجمات على هذه المرافق في جميع أنحاء العالم من حيث الحجم والكثافة. وفي فترة 2021-2022 وحدها، وقع حوالى 2,500 هجوم مؤكّد على مرافق الرعاية الصحية، وفقاً لمنظّمة الصحة العالمية، بزيادة قدرها 25 مرّة عن فترة 2015-2016. من المتوقّع أن يشهد هذا العام أعلى عدد مُسجّل على الإطلاق من هذه الهجمات منذ أن بدأت المنظّمة في جمع البيانات في العام 2014. ولعلّ أكثر ما يبعث على القلق هو أن المستشفيات والبنية التحتية للرعاية الصحّية تتعرّض لهجمات متزايدة هدفها ترهيب السكّان المدنيين وإحباطهم. لم تعد مرافق الرعاية الصحّية الآن «مُحيّدة»، لا بل أصبحت أيضاً أهدافاً للأغراض العسكرية الاستراتيجية، وربما الأكثر إثارة للدهشة أن أنقاضها تُستخدم لردع أي عمل من أعمال المقاومة أو التمرّد المدني.
قبل فترة طويلة من القصف الروسي الذي استهدف مرافق الرعاية الصحية في أوكرانيا في العام 2022، أفادت منظّمة «أطباء بلا حدود» مراراً بتقارير عن استهداف عياداتها ومستشفياتها بشكل متعمّد في أفغانستان وسوريا وغزة واليمن. وقد أتقن النظام السوري وحليفه الروسي هجماتهما الوحشية على الأطباء والمستشفيات والعيادات، ما أدّى إلى قتل العاملين الصحّيين وتدمير المرافق الصحية وسحقها كوسيلة لمعاقبة المدنيين وردعهم. وعلى الرغم من أنّ روسيا كانت الأشد فتكاً، فإذا قارنّا عدد الهجمات على مرافق الرعاية الصحية نسبةً لعدد السكان، نستنتج أنّ إسرائيل تفوّقت بأشواط على سائر البلدان الأخرى. وما ينبغي أن نلتفت إليه أكثر من أي شيء آخر هو مدى شيوع استخدام المستشفيات كسلاح - في ظل صمت الجمعيات الطبّية المهنية - وكيف أُسيء استخدام الطب كتقنيات «ليس للموت وحسب، بل للموت البشع والمبكر» وفق توصيف الطبيب النفسي روبرت جاي ليفتون لآثار الأسلحة النووية.
لقد حان الوقت لإجراء تقييم نقدي لفشل اتفاقيات جنيف في حماية المدنيين ومرافقهم الحيوية، وخصوصاً المستشفيات. ما الذي يفسّر هذا التحوّل من زمن كانت فيه قواعد القانون تحظى بدرجة من الاحترام، وهو ما ميّز حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى زمن تفلّت العالم فيه بالكامل من هذه القواعد؟
ما نشهده اليوم ليس إلّا خيانة أخرى: هذه المرّة من جانب من يمكن أن نسمِّيهم الكتبة الطبّيين، الذين ينبغي أن ينصب التزامهم في المقام الأول على «فن الشفاء»
يبدو أن هناك ثلاثة عوامل مترابطة تفسر هذا الاتجاه. الأول اشتداد الأسلحة الحديثة فتكاً. والثاني تنامي انعدام المساواة بين الأرواح، فبعضها يُعتبر ذا قيمة ويستحق الإنقاذ والحماية بأي ثمن، وبعضها الآخر يُعامل معاملةً وضيعة تسوّغ الاستغناء عنها بثمن بخس. لقد فضحت النزاعات الأخيرة في فلسطين المحتلة، وسوريا، والعراق، والسودان، واليمن، وأوكرانيا، وخصوصاً جائحة كوفيد-19، أوجه التفاوت الكبيرة في الطريقة التي تُقيّم أرواح الناس على أساسها. وأخيراً، يتمثل العامل الثالث في النظام العالمي الجديد (أو بالأحرى الفوضى العالمية) عقب أحداث 11 أيلول/سبتمبر بحيث أعادت عبارة «القوة فوق الحق» تشكيل العلاقات الدولية وخلقت عالماً تُطبّق فيه سيادة القانون الدولي على بعض البلدان، ولكن ليس كلّها.
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تخلّى العديد من المثقفين البارزين عن القيم العالمية وآثروا المصالح الحزبية. أطلق الفيلسوف الفرنسي جوليان بيندا على هذا التخلي اسم «خيانة الكتبة»، بحيث تشير كلمة «الكتبة» هنا إلى تعريف القرون الوسطى للكاتب أو أحد أعضاء النخبة المثقفة. وقال إنهم أصبحوا أيديولوجيين، وتخلّوا عن دورهم كمفكّرين مستقلّين ومدافعين عن القيم العالمية السامية. وما نشهده اليوم ليس إلّا خيانة أخرى: هذه المرّة من جانب من يمكن أن نسمِّيهم الكتبة الطبّيين، الذين ينبغي أن ينصب التزامهم في المقام الأول على «فن الشفاء». وفي أوقات الأزمات هذه، يتعيّن على الأطباء أن يرفضوا أن تعميهم الأيديولوجية والحزبية. ومن الأفضل لأولئك الذين ظلوا صامتين في وجه الدمار الذي لحق بالحياة البشرية في غزّة أن يتذكّروا مبدأ أبقراط الأساسي: «أن أستخدم مقدرتي لمساعدة المرضى حسب إمكاني وحكمي».
نُشِر هذا المقال للمرّة الأولى في Boston Review في 20 كانون الأول/ديسمبر 2023.