Preview الإبادة الجماعية في غزة

كارثة صحية في غزّة: قتل الناجين أيضاً

انهار القطاع الصحّي في قطاع غزّة بشكل كامل، وفق إعلان وزارة الصحّة في قطاع غزّة يوم الثلاثاء في 24 تشرين الأول/ أكتوبر. حتى الآن، أسفرت الغارات الإسرائيلية عن إخراج  12 مستشفى من العمل و32 مركزاً صحّياً وتدمير أكثر من 15 سيّارة إسعاف وقتل 65 عاملاً طبّياً. في الأيام الأخيرة، وُثّقت عمليّات جراحيّة أُجريت من دون بنج أو على أضواء الهواتف بسبب انقطاع الكهرباء، فيما يهدّد النفاد الكامل للمحروقات في غضون 48 ساعة بالوفاة الفورية للمرضى على أجهزة التنفّس الاصطناعي وحديثي الولادة في الحاضنات. وأجبر شحّ المعدّات الطبّية والأدوية الأطباء في قطاع غزّة للجوء إلى أساليب الطبّ البدائي واستعمال الخل لتطهير جروح مُصابة بالتهاب الزائفة (Pseudomonas). ويهدّد انقطاع المعدّات اللازمة لغسيل الكلى بالموت الوشيك لنحو 1,022 مريضاً في غزّة يعانون من فشل الكلى.

ارتفاع هائل في التهابات الرئة مثل الكوفيد والإنفلونزا، والتهابات الأمعاء جراء التسمّم، والجرب خصوصاً عند الأطفال الذين لا يتمتعون بمناعة قويّة

قد يظن البعض أن هذه ذروة الكارثة الصحّية، لكن إذا أُمعِن النظر في الواقع الذي تخلقه حرب الإبادة الجماعية والحصار المُطبق، يستنتج أن الأسوأ لم يأتِ بعد. فحتى لو نجا طفل في غزّة من الموت بأطنان القنابل التي ترميها إسرائيل عليه، فهو معرّض لمخاطر الجوع والعطش وتفشّي الأمراض من دون أن يكون هناك أي إمكانية لمساعدته أو علاجه. تتصرّف دولة الاحتلال كما لو أنها لا تريد أن ينجو أحد من الفلسطينيين، تريد إبادتهم فعلياً، وهي تخلق الشروط اللازمة لذلك.

الإغاثة الغائبة

لا تزال كمّىة المساعدات التي سمحت سلطات الاحتلال بدخولها إلى قطاع غزّة ضئيلة جداً. حتى 24 تشرين الأول/أكتوبر، أي بعد 18 يوماً على بدء أعنف الغارات الجوّية على غزّة، سُمِح بدخول 54 شاحنة إغاثة فقط. وصفت الأمم المتّحدة هذه الكمّية «بقطرة في المحيط»، ولا يمكن مقارنتها بنحو 130 شاحنة كانت تدخل يومياً إلى القطاع قبل الحرب. يقدّر برنامج الغذاء العالمي حاجات غزّة الإنسانية بما لا يقل عن 465 شاحنة يومياً بعد ما خلّفته الغارات الجوّية والحصار المحكم من دمارٍ وارتفاع في حاجات الفلسطينيين الأساسيّة، ولا سيما الوقود الذي بات يشكّل شريان الحياة للمحاصرين مع  نفاد الكميات الضئيلة التي كانت تشغّل المولدات الكهربائية في المستشفيات.

المساكن المدمّرة

أحصى المجلس النروجي للاجئين تدمير أو تضرّر 43% من كلّ الوحدات السكنية في قطاع غزّة، ما دفع 1.4 مليون من سكان غزّة إلى النزوح داخلياً، ولا سيما من مناطق الشمال إلى الجنوب، بحيث وصل عدد المقيمين في الغرفة الواحدة إلى 70 شخصاً بحسب أوكسفام. تفاقمت حالة الاكتظاظ السكّاني في بقعة جغرافية كانت أصلًا من أكثر المناطق اكتظاظاً في العالم. يصعب على الناس في الأماكن المكتظة الحفاظ على معايير النظافة والوقاية من الأمراض المعدية. وتتفاقم هذه الصعوبات مع شحّ المياه وأدوات التنظيف والأدوية. وقد بدأت تداعيات الاكتظاظ المفرط بالظهور، بحسب أطباء على الأرض، إذ لوحظ ارتفاع هائل في التهابات الرئة مثل الكوفيد والإنفلونزا، والتهابات الأمعاء جراء التسمّم، والجرب خصوصاً عند الأطفال الذين لا يتمتعون بمناعة قويّة. 

المياه الملوّثة

يعدّ الوصول إلى مصدر مياه سليم من أهم الشروط للحفاظ على النظافة والصحّة العامة. فغالباً ما تشهد المجتمعات المنكوبة بالكوارث البيئية والبشرية انتشار جوائح أمراض جرثومية، وأهمّها الكوليرا. حدّدت منظمّة الصحّة العالمية أن على الفرد أن يحصل على كميّة مياه عذبة تتراوح بين 50 و100 ليتر يومياً لتلبية المتطلبات الصحية الأساسية، فيما يحصل الفرد في غزّة اليوم على أقل من 3 ليترات يومياً فقط. 

تشكّل المياه المالحة خطراً صحيّاً بحيث تفاقم حالات الجفاف وتسبب تعطّلاً في الكلى خصوصاً عند الأطفال والنساء الحوامل

بحسب الأمم المتّحدة، أدّى انقطاع التيّار الكهربائي والغارات الجويّة إلى إغلاق 65 محطّة ضخّ مياه الصرف الصحّي ولجأ سكّان غزّة إلى شرب المياه المالحة من الآبار الزراعية. تشكّل المياه المالحة خطراً صحيّاً بحيث تفاقم حالات الجفاف وتسبب تعطّلاً في الكلى خصوصاً عند الأطفال والنساء الحوامل. وتُعتبر هذه المصادر ملوّثة، وقد أحصي حالات من الجدري المائي والإسهال الناجم عن استهلاك هذه المياه في غزّة. وسوف يفاقم هذا الوضع من تفشّي الجوائح وحالات الوفاة في قطاع غزّة حتى بعد انتهاء العدوان. وسوف يتطلّب احتواء هذه الجوائح استثمارات في البنى التحتيّة المائية التي سبق أن ماطلت سلطات الاحتلال في إعطاء موافقتها عليها في العام 2016 ومنعت إدخال قطع غيار لها في العام 2022.

مخلّفات الحرب الكيميائية

يتباهى جيش الاحتلال الاسرائيلي أنه أكثر جيشٍ نباتي في العالم، ولكن مخلّفات حروبه على البيئة في غزّة كارثية. ترجّح التقديرات أن إسرائيل ألقت ما يساوي 12 ألف طن من المواد المتفجّرة على قطاع غزّة منذ بداية عدوانها. تتنوّع طبيعة هذه المواد المتفجّرة بين قنابل الفوسفور الأبيض التي تصل حرارتها إلى 1,200 درجة مئوية وتسبّب حروقاً بالغة تصل إلى العظم وتلوّث الأراضي الزراعية، وقد وُثّق استعمالها في غارات على غزّة ولبنان في العاشر والحادي عشر من تشرين الأول/أكتوبر الحالي. والقنابل العنقوديّة التي استخدمتها إسرائيل في حربها على لبنان في العام 2006 التي تبقى مخلّفاتها في الأرض لتنفجر بعد سنوات وتتسبّب بحالات بتر وقتل بعد انتهاء العدوان، وقد سبق أن وصّفت الأمم المتّحدة استخدام هذه القنابل في لبنان بالعمل «غير الأخلاقي». وقنابل اليورانيوم المنضّب التي تصل حرارتها إلى 600 درجة مئويّة، وتتبعثر في الهواء والأرض والمياه، وتصدر إشعاعات مُسرطنة، وتصل مدّة حياة هذه المواد المشعّة إلى 4.5 مليار سنة، وتسبب تشوّهات خلقيّة وسرطانات عند الأطفال، وقد سبق أن وثّق الاتحاد الأوروبي استعمال إسرائيل لليورانيوم المنضّب على غزّة مرّات عدّة وخصوصاً في عدوانها على القطاع في العام 2014.

يشكّل حجم العدوان كارثة بشرية في لحظة وقوع القذائف على الناس في غزّة، وكارثة بيئية بشرية طويلة المدى ما بعد العدوان، تتطلّب عزل مناطق بأكملها ونزع التربة وقتل النباتات والحيوانات عليها ووضعها في مستوعبات معزولة بعيدة عن البشر، كما فعلت الولايات المتّحدة في الكويت بعد أن ألقت قنابل اليورانيوم المنضّب في العام 1991.

الجثث تحت الركام

أودى العدوان الأخير بحياة 6,546 فلسطينياً حتّى 25 تشرين الأول/أكتوبر، ويرجّح أن أكثر من 1,000 شخص ما زالوا تحت ركام منازلهم، وترتفع حصيلة الوفيّات أكثر فأكثر مع اشتداد وحشيّة العدوان يومياً. فاقت الوفيات قدرة المشارح الاستعابية، فلجأ الأطباء إلى استعمال شاحنات البوظة لتبريد الجثث، ثمّ لم تعد كمية الأكفان المتوفرة كافية، وأخيراً بدأ طمر جثث الفلسطينيين في مدافن جماعية. 

ترجّح التقديرات أن إسرائيل ألقت ما يساوي 12 ألف طن من المواد المتفجّرة على قطاع غزّة منذ بداية عدوانها

تترافق فظاعة المشاهد المنقولة بترقب كوارث صحية مستقبلية. يفيد العديد من ناقلي الأخبار في غزّة أن رائحة تحلّل الجثث تفوح في كل أنحاء القطاع، وارتفع عدد الطفيليات والحشرات. وهذا يشكّل خطراً صحيّاً داهماً على الأحياء. تحلّل الجثث يفرز مواد كيميائية وجراثيم معدية تترسّب في المياه والتربة وتسبّب جوائح مثل السلّ والكلوستريديوم والسالمونيلا والشيجيلا. فليس عن عبث أن أول التنظيمات المُدنية اقتضت بوضع المدافن خارج حدود المدينة وأن أساليب الحرب البدائية كانت (ولا تزال) تستخدم الجثث لتلويث مصادر المياه والحقول.

مبتورو الأطراف

لا تكتفي آلة الحرب الإسرائيلية بحصد حياة الفلسطينيين، بل تعمل على تدمير حياة من نجا من الموت. أحصى مركز الأطراف الصناعية وشلل الأطفال 1,765 شخصاً مبتوري الأطراف في غزّة في العام 2021، وسوف تتعاظم هذه الأرقام حكماً نتيجة الحرب الحالية. تجدر الإشارة هنا إلى صعوبة معالجة البتر عند الأطفال كون العلاج والأطراف الصناعية المكلفة عليها أن تواكب نموّ الطفل. ويفاقم البتر حالات الفقر والبؤس لدى الأسر مع انخفاض عدد الأفراد القادرين على العمل وانشغال الأفراد العاملين بالاعتناء بذويهم وتأمين أكلاف متزايدة للعلاجات العديدة المطلوبة. بحسب مركز جونز هوبكنز لأبحاث وسياسات الإصابات يرتّب البتر كلفة رعاية صحّية مدى الحياة تصل إلى 509,275 دولار للفرد الواحد في الولايات المتحدة. يضاف إلى حالات البتر، آلاف الإصابات والشظايا والحروق والتشوّهات والأوجاع المزمنة التي يصعب إحصاؤها وتعيق حياة المصابين مدى حياتهم.

الأضرار النفسية

تُرتّب الحروب أضراراً على الصحة النفسية أكثر من المخلّفات المرئية التي تتركها على أجساد ضحاياها. أدان تقرير أعدّه «أنقذوا الأطفال» في العام 2022 الحصار على غزّة الذي خلّف تداعيات كارثية على الصحة النفسية عند المقيمين في القطاع والأطفال خصوصاً. ورأى التقرير أن 80% من الأطفال في غزّة يعانون من اضطرابات عاطفية، و84% ومن الذعر، و80% من التوتّر، و77% من الاكتئاب. عدا أن نصف الأولاد في غزّة فكّروا في الانتحار و60% منهم يؤذون أنفسهم. تنعكس هذه الاضطرابات النفسية على حياة الأطفال اليومية، وقد أفاد 59% من أهالي أو مقدمي الرعاية للأطفال عن معاناة الأطفال من صعوبات في الكلام والتواصل، بالإضافة إلى ارتفاع حالات الصمت التفاعلي المؤقّت، وهي من عوارض الصدمة والتعذيب. أمّا الراشدين، فيعاني 96% منهم من الاكتئاب والقلق النفسي. جُمعت كل هذه الإحصاءات قبل شنّ إسرائيل حربها الحالية على غزّة. ولا يمكن تصوّر ما سوف تكون حالة الأفراد الذين سوف ينجون من حرب إبادة جماعية، لكنهم سوف يحتاجون حكماً إلى علاجات نفسية مكثّفة. يتطلّب العلاج النفسي سنوات عديدة ويرتّب أيضاً أكلافاً باهظة. لكنّ تبقى القاعدة الأولى لعلاج المرضى الذين يعانون من الصدمات والتعذيب أن يُبعد المريض عن مصدر الأذية، وهذا لن يتأمّن إلا بوقف فوري لإطلاق النار وفكّ الحصار عن غزّة وإنهاء نظام الفصل العنصري والاحتلال في فلسطين.