
عمّال تحت إدارة الخوارزمية
يجتاح اقتصاد العمل الحرّ (Gig Economy) العالم بسرعة غير مسبوقة، ويوظّف ما بين 150 مليون و430 مليون شخص وفق تقديرات البنك الدولي، أي قرابة 12% من القوة العاملة عالمياً. تَعِد التطبيقات الذكية بجعل العمل أكثر مرونة وحريّة، لكنها تسلب العمّال أبسط ضمانات الأمان. يتكشّف مأزق حقيقي في أساس هذا النظام: سوق هائل بلا حماية، وطبقة عمّال معلّقة بين وعود التكنولوجيا وأنياب الاستغلال الرقمي.
تكشف بيانات تقرير American Opportunity Survey الصادر عن ماكينزي في العام 2022 عن تحوّل كبير في بنية سوق العمل الأميركي، إذ يعرّف 36% من الأميركيين العاملين أنفسهم «عمّالاً مستقلّين»، أي ما يعادل 58 مليون شخص. يمارس هؤلاء مجموعة واسعة من الأنشطة، من قيادة سيارات الأجرة والتوصيل إلى التدريس المؤقت والتصميم والكتابة والعمل التقني. يرتفع هذا الرقم بشكل مطرد بعدما كان لا يتجاوز 27% في العام 2016، ما يؤشر إلى انفجار قطاع العمل الحرّ في خلال سنوات قليلة. يُظهر التقرير أن ربع العمّال المستقلين تقريباً يلجأون إلى هذا النمط بسبب الضرورة لتأمين حاجات أسرهم، بينما يبحث آخرون عن المرونة أو الاستقلالية أو حتى شغف شخصي بالعمل المستقل. في المقابل، تواجه هذه الشريحة صعوبات متزايدة في الحصول على تأمين صحّي أو دخل ثابت أو حماية اجتماعية، ما يدفع كثيرين منهم للقلق المستمر حيال استقرارهم المالي وفرصهم في المستقبل.
تقدّم منصات مثل «أوبر» و«دوردش» و«فايفر» نموذجاً يُغري بفكرة الحرية والدخل المرن وسهولة الدخول إلى سوق العمل، فتُظهر للعاملين صورة جذابة عن الاستقلالية وإمكانية اختيار الوقت والمهمة التي تناسبهم. يرتبط العامل بالمنصّة من خلال تطبيق بسيط، لكنه يجد نفسه خاضعاً لمنظومة رقمية تحدّد كل تفصيل في يومه العملي. تفرض المنصّات نظاماً صارماً عبر خوارزميات تتحكّم بتوزيع المهام وتحديد الأجور ومراقبة الأداء بشكل لحظي، وتعتمد على تقييمات الزبائن كأداة ضغط إضافية لضبط سلوك العامل وضمان أعلى درجات الامتثال. تظهر نتائج دراسة لـ«هيومن رايتس ووتش» أجريت في العام 2024 على 127 عاملاً في تكساس أن متوسط الأجر الفعلي لهؤلاء العاملين لم يتجاوز 5.12 دولارات في الساعة بعد خصم النفقات، أي أقل بنسبة 30% من الحد الأدنى الفيدرالي للأجور وأبعد بنسبة 70% من مستوى الأجر المعيشي.
يواجه العامل في اقتصاد المنصات عبئاً مالياً متزايداً نتيجة اضطراره لتأمين كافة أدوات العمل من ماله الخاص. تشير بيانات «ماكينزي» إلى أن العاملين المستقلين غالباً ما يتحمّلون نفقات غير معوّضة تتعلّق بسياراتهم أو معدات التوصيل أو أجهزة الحاسوب والبرمجيات، بالإضافة إلى تكاليف الصيانة المستمرة والمصاريف التشغيلية اليومية التي تتراكم مع الوقت. تشمل هذه الأعباء استبدال الأدوات أو تحديثها بشكل دوري لتلبية متطلبات المنصّة والمعايير التقنية المتغيرة. تظهر نتائج الدراسة أن هذه النفقات تقلل من الدخل الصافي للعامل، إذ تتركز جميع تكاليف الأعطال والتحديثات وأدوات العمل الأساسية على كاهل الفرد المستقل. تفرض هذه البنية التزامات مالية دائمة وتجبر العامل على ضخّ استثمارات جديدة في عمله مع كل تطور أو تغيير تفرضه المنصّة، من دون أي ضمان لاستمرارية الأرباح أو استقرار الدخل.
في الجانب الآخر من السلسلة، تسجّل الشركات الكبرى أرباحاً قياسية. بلغت إيرادات «أوبر» في العام 2024 حوالي 44 مليار دولار، وحققت صافي أرباح اقترب من 10 مليارات دولار في عام واحد، مع ارتفاع القيمة السوقية إلى أكثر من 169 مليار دولار. تزداد أرباح المنصات مع توسع النشاط وانتقال مزيد من القطاعات (من النقل إلى التوصيل مروراً بالخدمات التقنية والتعليمية) إلى العمل الحر الرقمي. كل ذلك يحدث بينما يتحمّل العامل وحده كل المخاطر: إذا انخفض الطلب، أو تعطلّت سيارته، أو تعرض لتقييم سلبي، فلا أحد يغطي خسارته أو يعوّضه عن أيام التوقف.
خطاب «النجاح الفردي» حجة أساسية تستخدمها المنصات. تروّج لفكرة أن من يعمل أكثر سينجح ويحقّق دخلاً مرتفعاً، فيما تظهر التجربة أن النجاح المؤقت نادر والدخل يتآكل باستمرار مع تزايد المنافسة وكثرة العرض. تذهب بعض المنصّات أبعد من ذلك، فتلقي باللوم على الضرائب أو السياسات العامة، وتزعم أن الدولة تقضم أرباح العاملين، ما يولّد مشاعر عدائية تجاه فكرة إعادة التوزيع والتضامن الاجتماعي، ويضعف الثقة بأي نظام حماية جماعية.
في الولايات المتحدة، تظهر دراسة «ماكينزي» أن نسبة العاملين في اقتصاد العمل الحرّ الذين يحصلون على أي شكل من أشكال التأمين الصحي لا تتجاوز 32%. هذا يعني أن غالبية العاملين عبر المنصات الرقمية يفتقدون الحماية الصحية والاجتماعية، فلا يحصلون على دعم في حالات الإصابة أو المرض أو فقدان العمل، بخلاف الموظفين الدائمين الذين يحصل نصفهم تقريباً على تأمين صحي من جهات عملهم أو النقابات.
تصمّم المنصات بنيتها الداخلية بشكل يُعزز المنافسة بين العمّال بدل التعاون. يحصل العامل الذي يقبل بأقل الأجور أو أقسى الشروط على الأفضلية في توزيع المهام. تظهر أرقام تقرير «هيومن رايتس ووتش» أن حوالي 75% من العاملين في بعض الولايات الأميركية واجهوا صعوبات في دفع تكاليف السكن في خلال السنة الماضية، فيما اضطر 35% منهم إلى الاستدانة أو بيع ممتلكاتهم لتغطية نفقات طارئة بسيطة بقيمة 400 دولار فقط، و67% عانوا من أجل شراء الطعام في العام الماضي. تزرع هذه الهشاشة خوفاً دائماً، ما يدفع العمال لقبول أي شروط، ويجعل فكرة الإضراب الجماعي أو التنظيم النقابي أقرب للمستحيل، لأن أي عامل يتوقف عن العمل يخسر دخله فوراً من دون ضمانات.
تسهم هذه البيئة في تفكيك الوعي الطبقي والتضامن الاجتماعي بين العمال. تفرض أنظمة المراقبة والتقييمات الفورية على كل عامل التركيز على تحسين وضعه الفردي من دون التفكير في المصلحة الجماعية أو المطالبة بالحقوق. تنتشر العزلة في الحياة العملية وتصل إلى الجانب النفسي، إذ يشعر كثير من العاملين بعدم الأمان والضغط الدائم وصعوبة التخطيط للمستقبل.
يكشف اقتصاد المنصات عن تحوّل جوهري في شكل العمل والإنتاج والعلاقة بين العامل ورأس المال. يقف العامل في هذا النظام رهينة لقواعد تقنية يضعها طرف غائب ويعدّلها في أي لحظة. يُطلب منه أن يكون مرناً، سريع الاستجابة، على استعداد دائم لتحمّل أي خسارة. في المقابل، تجني الشركات أرباحاً ضخمة من دون أن تلتزم بأي مسؤولية اجتماعية حقيقية.
تؤشر الأرقام والمعطيات إلى ولادة طبقة إقطاعية رقمية تديرها خوارزميات لا تُبقي للعامل سوى موقع التابع في معادلة بلا شراكة. تنتج المنصات فضاءً اقتصادياً تحكمه أنظمة رياضية مغلقة، تُختزل كل علاقة عمل إلى معاملة رقمية تعيد إنتاج سلطة المنصة، وتتحوّل البيانات الشخصية وسلوك الأفراد إلى رأسمال يدور خارج منطق السوق التقليدي. لم يعد الاستغلال بحاجة إلى مدير أو قرار مركزي؛ تكفيه خوارزمية تعمل بصمت لتوزيع العمل حول العالم وفق مصلحة المنصة وحدها.