عمّال العالم ضدّ الإبادة مع فلسطين
تصعد الحركة الطالبية الأميركية المتضامنة مع فلسطين بخطوات واثقة، ومن الجامعات الأميركية تنتقل إلى كندا وأوروبا لتنضمّ إلى الحركة العالمية التي سبقتها في رفض الإبادة الجماعية وتحدّي التواطؤ العالمي، ومذكّرة بحراك العام 1968، وحركة مناهضة حرب فيتنام.
تتوالى المواقف العمّالية الداعمة للحقّ الفلسطيني والرافضة للعدوان الإسرائيلي منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ففي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أعلنت 17 نقابة عمّالية في إسبانيا انحيازها للقضية الفلسطينية، مُعتبرة أن فلسطين ليست قضية خاسرة، ودعت في بيان لها الحكومة الإسبانية إلى قطع العلاقات مع إسرائيل، ومقاطعتها وفرض عقوبات عليها. ورفض البيان نفسه وصم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، معتبراً إياها حقاً مشروعاً.
اللافت أن التحرّكات العمّالية المتضامنة مع فلسطين ضدّ حرب الإبادة لا تتناسب بالضرورة مع درجة الارتباط بالقضية الفلسطينية أو الانحياز لفلسطين، ولكنها تتناسب أكثر مع هامش الحرّية المُتاح للحركة أصلاً
فاق التضامن العمّالي مع فلسطين في أميركا كلّ التوقعات. في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أعلن اتحادات عمّال البريد الأميركي (APWU)، وعمّال السيارات (UAW)، وعمّال الكهرباء والراديو والآلات الأميركية (UE)، عن رفض العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة وتضامنها مع الفلسطينيين. واللافت أن قيادة اتحاد عمّال السيارات اعتبرت أن الموقف من حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، هو الامتداد الطبيعي لموقف الاتحاد من الفاشية وموقفه من الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وحرب الكونترا في نيكارغوا، وجميعها تندرج تحت بند الدفاع عن العدالة. ولم يقتصر التضامن العمّالي على الولايات المتحدة، فقد أصدرت 150 نقابة عمّالية في الأميركيتين بيانات تضامنية مع فلسطين تطالب بوقف الإبادة وتؤيّد حق الشعب الفلسطيني.
لم يقتصر التضامن العمّالي مع فلسطين ورفض حرب الإبادة على إعلان المواقف. ظهرت أنشطة فعّالة للحركة العمّالية والنقابية ضد حرب الإبادة، منها إعلان الاتحاد الدولي للنقل (ITF) عن تأسيس صندوق التضامن مع فلسطين، الذي من شأنه أن يعمل بالتعاون مع النقابات الفلسطينية «لتوصيل الإمدادات الأساسية المنقذة للأرواح لأشقائنا في غزّة من خلال المنظمات الإنسانية المعروفة»، بحسب بيان الاتحاد الصادر في 2 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. وفي إنكلترا، انضمّ نقابيون وعمّال من مختلف القطاعات للاحتجاجات أمام شركات الأسلحة في المملكة المتّحدة بسبب مشاركتها في مدّ إسرائيل بالأسلحة.
قد يكون تضامن عمّال الموانئ والنقل هو التضامن العمّالي الأكثر فاعلية واتصالاً بطبيعة الحركة العمّالية وآلياتها، إذ دعت نقابات عمّال النقل البلجيكية أعضاءها إلى عدم التعامل مع السفن والطائرات ومختلف وسائل الشحن والنقل التي تحمِّل معدّات عسكرية إلى إسرائيل. وبالفعل شهدت عمليات النقل والشحن إلى إسرائيل احتجاجات ومقاطعات عمّالية في العديد من موانئ العالم، مثل ميناء برشلونة في إسبانيا، وميناء أوكلاند في الولايات المتحدة، وموانئ السويد وجنوب أفريقيا وكندا وبلجيكا والهند وغيرها من الموانئ، وكذلك المطارات التي رفض عمّالها المشاركة في شحن أو تفريغ السفن والطائرات المحمّلة بالأسلحة إلى إسرائيل. ويعد بيان اتحاد عمّال النقل الأسباني أكثر شمولاً بقوله: «لقد قررنا عدم السماح بأي عمليات شحن لمعدّات عسكرية في موانئنا، لغرض وحيد، وهو حماية المدنيين في أي منطقة كانت، فليس هناك ما يبرّر التضحية بالمدنيين».
واللافت أن التحرّكات العمّالية المتضامنة مع فلسطين ضدّ حرب الإبادة لا تتناسب بالضرورة مع درجة الارتباط بالقضية الفلسطينية أو الانحياز لفلسطين، ولكنها تتناسب أكثر مع هامش الحرّية المُتاح للحركة أصلاً. ومن المفارقات أن دول مثل مصر والأردن تربطها بإسرائيل علاقات تبادل تجاري في مجالات مختلفة، ولكنها لم تشهد تحركات عمّالية مماثلة لما شهدته دول أبعد جغرافياً، مثل أسبانيا وبلجيكا، على الرغم من أن مستوى العداء الشعبي للجرائم الصهيونية في كلّ من مصر والأردن أعلى، لكن القدرة على التعبير عن ذلك العداء أقل بكثير في ظل القبضة الأمنية المحكمة. في الواقع، أعلنت نقابات عمّالية مختلفة في مصر والأردن والعديد من البلدان العربية عن موقفها الداعم لفلسطين، لكن القدرة على ترجمة تلك المواقف إلى حركة على الأرض حدّتها السياسات الأمنية الصارمة. على سبيل المثال، توجّه وفد نسائي محدود يضمّ أقل من 30 سيدة إلى مقر تابع للأمم المتحدة في مصر تنديداً بتخاذل المؤسسة الدولية ومنظّماتها المعنية أمام الجرائم التي ترتكب في حق نساء غزة والسودان، وكاد أن يقبض على أكثر من نصفهم.
تاريخ الحركات العمّالية في مصر
للحركة العمّالية والنقابية المصرية تاريخ في دعم قضايا التحرّر الوطني، نظراً لنشأتها في مطلع القرن العشرين وتأثرها بسياقات التحرّر الوطني التي طبعت تلك الفترة.
في العام 1947، اعترض العمّال المصريون مرور السفينة الحربية الهولندية «فولندام» في قناة السويس للتوجه نحو سواحل إندونيسيا والمشاركة في قمع حركة التحرّر الوطني هناك
في العام 1947، توجّهت السفينة الحربية الهولندية «فولندام» نحو سواحل إندونيسيا للمشاركة في قمع حركة التحرّر الوطني الإندونيسية، ومرّت عبر قناة السويس حيث اعترضتها النقابات العمّالية المصرية ونقابات الصيّادين والموانئ، وتحوّل مرورها في القناة إلى كابوس. منع العمّال رسو السفينة أو ربطها بأي أرصفة على الموانئ منذ لحظة دخولها إلى القناة وحتى خروجها منها، كما منع العمّال وصول المواد التموينية والوقود والمياه إلى السفينة، واعترض الصيّادون مراكب التموين التي حاولت الوصول إلى السفينة.
كانت مصر وقتها تحت الاحتلال البريطاني، وكانت الحركة العمّالية المصرية رافداً رئيساً وشريكاً فاعلاً في حركة التحرّر الوطني المصرية. ولم تتوقف عن التضامن مع حركات التحرّر الوطني في الدول المستعمرة. وبعد تلك الفترة بعقود، بقيت روح التضامن راسخة في الحركة العمّالية المصرية. في مطلع العام 2009، أعلن عمّال شركة السويس للأسمدة الإضراب عن العمل لاشتباههم في تصدير شحنة من إنتاج الشركة إلى إسرائيل التي كانت تقصف قطاع غزّة في حينها، واعترض العمّال الشركة، وأغلقوا بواباتها باللحام مانعين بذلك دخول الشاحنات وخروجها.
كانت الحركة العمّالية المصرية أيضاً ساحة رئيسة للأنشطة الداعمة لفلسطين. في العام 2000، تشكّلت لجان لدعم انتفاضة الأقصى في العديد من المصانع والشركات، ومن ضمنها اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة التي ضمّت في صفوفها العديد من القيادات العمّالية والنقابية. وقد سبق ذلك مطالب العمّال المتعلّقة بتحسين الأجور وظروف العمل.
انحياز دائم لقيم التحرّر والعدالة
إن التضامن العمّالي العالمي مع فلسطين، ومناهضة الوحشية الإسرائيلية أمر يتفق بشكل عام مع تاريخ الحركة العمّالية العالمية المنحازة دائماً لقيم التحرّر والعدالة.
يحيي التضامن العمّالي مع فلسطين ضدّ جرائم الإبادة الصهيونية التقاليد النضالية للطبقة العاملة العالمية، التي لم تكن الحروب الاستعمارية ولا الجرائم العنصرية في أي وقت من تاريخها بعيدة من أهداف نضالها
ظهر التضامن العمّالي الأممي ضدّ الحروب والسياسات الاستعمارية مبكراً، وارتبط بظهور الحركة العمالية والنقابية نفسها، التي في جوهرها هي حركة تضامنية. شهدت الحرب العالمية الأولى في العام 1914 حراكاً مناهضاً للحرب الاستعمارية في سياتل، إذ أصدر مجلس العمل المركزي، الذي كان يمثّل 25 ألف عاملاً، قراراً مناهضاً للحرب في اليوم التالي لإعلان القتال، وحذّر من أن «الخسارة الفادحة في الأرواح التي سوف تنجم عنها، سوف تقع بقوة ساحقة على الطبقة العاملة وحدها، بينما يبقى الملوك والرأسماليون والأرستقراطيون في أمان»، واعتبر أن أعداء العمّال ليسوا عمّال الأمم الأخرى، بل الطبقة المستغلة في كلّ أمة.
أدّت الطبقة العاملة العالمية دوراً بارزاً في مناهضة الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، واستمر النضال العمّالي ضد سياسة الولايات المتحدة الاستعمارية بعد الغزو بسنوات، إذ احتفل عمّال الاتحاد الدولي للموانئ والمستودعات بأول أيار/مايو 2008 بالإضراب على أرصفة الساحل الغربي الأميركي، ما أدّى إلى شلّ التجارة الأميركية في المحيط الهادئ، مطالبين بالانسحاب الأميركي من العراق وأفغانستان ووضع حدّ للسياسة الاستعمارية الأميركية.
يحيي التضامن العمّالي مع فلسطين ضدّ جرائم الإبادة الصهيونية التقاليد النضالية للطبقة العاملة العالمية، التي لم تكن الحروب الاستعمارية ولا الجرائم العنصرية في أي وقت من تاريخها بعيدة من أهداف نضالها. ومع كل تحرك عمّالي في العالم داعم لفلسطين ومناهض لجرائم الإبادة تكتسب الطبقة العاملة العالمية وعياً أكبر بذاتها وتناقضها مع الطبقة المستغلة العابرة لكلّ الأمم.