لولا فسحة الأمل
أن يحلّ الأول من أيار/مايو بينما يقبع عددٌ من العمّال في السجون بسبب نشاط عمّالي أو نقابي، لا يُعدّ من السمات الجيّدة التي قد ترافق حلول عيد العمّال. فحبس العمّال على خلفية الاحتجاج أو المطالبة بتحسين الأوضاع أو النشاط النقابي ليس أمراً جديداً، ولكن هذا ما يحصل مع العديد من العمّال في مصر، إذ يستمرّ لليوم حبس عاملين من شركة غزل المحلّة على خلفية إضراب الشركة الأخير، وأحد عمّال مرفق الإسعاف وعامل من شركة شرق الدلتا للنقل على خلفية نشاطهم النقابي.
والحقيقة أن العام العمّالي من أيار/مايو 2023 إلى أيار/مايو 2024، لا يحمل تحوّلات جوهرية في أوضاع العمّال والحركة العمّالية، ولا يمكن اعتبار أياً من الأحداث العمّالية في خلال هذا العام حدثاً مركزياً، ومع ذلك يمكن النظر إلى الأحداث العمّالية في خلال العام المنصرم كمقدّمات لتغيّرات محتملة في واقع الحركة العمّالية وأوضاع العمّال.
ضمور في الحراك العمّالي
بحسب التقرير السنوي لمنصّة العدالة الاجتماعية، شهد العام 2022 نحو 65 احتجاجاً عمّالياً، بينما رصد تقرير العام 2023 (والذي لم ينشر بعد) 35 احتجاجاً عمّالياً فقط، ما يشير إلى استمرار المنحنى الهبوطي لنشاط الحركة العمّالية.
ويبدو واضحاً من البيانات أن الحركة العمّالية اتخذت منحى هبوطياً منذ العام 2017، والواقع أن التراجع في الحركة العمّالية بدأ قبل العام 2017، واللافت أيضاً في هذا التراجع الحاد للحركة العمّالية، أن فترة التراجع كانت هي نفسها الفترة التي شهدت أكبر تدهور في مستويات المعيشة نتيجة الأزمة الاقتصادية. والواضح أن أكبر تراجع في الحركة العمّالية شهده العام 2023، وهو العام الذي لم يشهد سوى 35 احتجاجاً عمّالياً فقط، بينما شهد العام نفسه أعلى معدّلات تضخّم.تجدر الإشارة هنا إلى أكثر من ملاحظة. أول تلك الملاحظات أن الفترة من كانون الثاني/يناير 2024 وحتى بداية أيار/مايو 2024، لم تدخل بعد حيّز الرصد، وهي الفترة التي شهدت سلسلة من الإضرابات العمّالية المطالبة برفع الحدّ الأدنى للأجور في القطاع الخاص من 3,500 جنيه شهرياً إلى 6,000 جنيه شهرياً أسوة بالعاملين في الحكومة والقطاع العام، وقد يعني حصر تلك الاحتجاجات تغيّر مؤشّر الحركة العمّالية من الهبوط إلى الصعود. والملاحظة الثانية أن الضعف الكمّي للاحتجاجات العمّالية يقابله تغيّرات نوعية هامّة. على الرغم من العدد المحدود للاحتجاجات العمّالية، الذي قد لا يتناسب مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها العمّال، حملت بعض الاحتجاجات دلالات هامّة.
تغيّرات في الحركة العمّالية
من تلك الاحتجاجات، إضرابات الصحافيين في ثلاث من المؤسّسات الصحافية، وهي إضراب الصحافيين في مكتب بي بي سي القاهرة، وإضراب الصحافيين في مكتب رويترز بالقاهرة، وإضراب الصحافيين في جريدة الوفد. وقد ارتبطت الإضرابات الثلاثة بأوضاع الأجور والمطالبة بتحسينها، والأهم أن نقابة الصحافيين أدّت دوراً هاماً في دعم الإضرابات الثلاثة ومساندتها، وكانت ممثلة للصحافيين في التفاوض مع ممثلي أصحاب العمل.
تشير احتجاجات الصحافيين في تلك المؤسّسات إلى مدى التدهور في الأوضاع المعيشية، والذي طال شرائح اجتماعية لطالما اعتبر وضعها متميّزاً، ومنهم بالطبع الصحافيون، وخصوصاً صحافيو الوكالات الأجنبية.
اللافت أيضاً هو الدور الذي أدّته نقابة الصحافيين في دعم ومساندة إضرابات الصحافيين، وهو أمر نادر بين النقابات المهنية، فلم تؤدِّ نقابة الصحافيين دوراً واضحاً من قبل في الإضرابات، ومن بين النقابات المهنية لم تقم نقابة بدور قيادي في الإضرابات التي ترفع مطالب اقتصادية سوى نقابة الأطباء.
وبالطبع أدّت انتخابات نقابة الصحافيين في الربع الأول من العام 2023 دوراً في ذلك، إذ فازت المعارضة بغالبية مقاعد مجلس النقابة فضلاً عن فوزها بمقعد النقيب. كانت نتيجة الانتخابات نفسها تعبيراً عن المزاج الغاضب وسط الصحافيين والأوضاع التي وصلوا إليها.
ومثلما شهد العام العمالي المنصرم دخول لاعبين جدد إلى ساحة النضال العمالي، شهد أيضاً عودة لاعب قديم إلى ساحة الحركة العمّالية. فقد شهد الأسبوع الأخير من شباط/فبراير الماضي إضراب عمّال غزل المحلّة للمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور من 3,500 جنيه شهرياً إلى 6,000 جنيه شهرياً أسوة بالعاملين بالحكومة. وإضراب عمال شركة غزل المحلة، التي تضمّ 16 ألف عامل في شباط/ فبراير الماضي هو الأول منذ العام 2017، وتُعدّ شركة غزل المحلة أحد أهم مراكز الثقل في الحركة العمّالية المصرية، وعادة ما تكون تحرّكاتها مُحفّزاً لتحرّكات أخرى في الأوساط العمّالية، وهو ما حدث بالفعل عقب إضراب غزل المحلّة، فقد أضرب عمّال شركة الضفائر الكهربائية ليوني، وعمّال شركة مياه الشرب، وشركة الزيوت بأسيوط، وشركة الإسكندرية للإنشاءات، وشركة النيل للطرق والكباري.
لا يعد ذلك حصراً كاملاً للاحتجاجات التي تلت إضراب المحلة، ولكن اللافت أن كل تلك الاحتجاجات طالبت برفع الحد الأدنى للأجور، في تأثير واضح لإضراب المحلة.
اتحاد عمّال مستقل
المتغيّر الثاني الذي يمكن التوقّف عنده، هو الإعلان عن تأسيس اتحاد عمّال مستقل عن التنظيم النقابي الرسمي التابع للسلطة، باسم «اتحاد تضامن النقابات العمّالية». ضمّ الاتحاد الجديد في تأسيسه 21 نقابة بالإضافة إلى نقابة عامة تضمّ 25 نقابة.
وبغض النظر عن حجم الاتحاد الجديد وقدرته، فإن إعلان استمرار الحركة العمّالية في الدفاع عن حقّها في تنظيم نقابي مستقل عن السلطة خطوة هامة في حد ذاتها.
لقد انطلقت حركة النقابات المستقلّة قبل ثورة يناير، واكتسبت دفعات قوية عقب الثورة، وتمكّنت بالفعل من فرض وجودها على الساحة. ولكن منذ 2013 بدأت النقابات المستقلة تتراجع تحت تضييق وحصار الدولة. واختارت الحكومة أن تكون الانتخابات النقابية الأخيرة، والتي أجريت في صيف 2022 هي شهادة وفاة النقابات المستقلة من خلال السيطرة على الانتخابات واستبعاد النقابات المستقلة عبر الإجراءات البيروقراطية أو القيود الأمنية.
هكذا تأتي أهمية محاولة تأسيس تنظيم نقابي مستقل عقب سنوات من مساعي السلطة للقضاء على فكرة استقلال النقابات، واستعادة السيطرة للتنظيم الرسمي الموالي لها، وأيا كان مسار تطوّر تجربة الاتحاد الجديد، فمجرد المحاولة تعني أن محاولات القضاء على فكرة استقلال النقابة لم تفلح، حتى لو نجحت السلطة في السيطرة على النقابات المستقلّة في مرحلة تراجع الحركة العمّالية، فإن استمرار القناعة باستقلال النقابات تجعل استعادتها في مراحل صعود الحركة النقابية ممكنة أكثر.
رفع الحد الأدنى للأجور بأقل من ارتفاع التضخم
المتغير الثالث في الواقع العمّالي في العام المنصرم هو قضية الحد الأدنى للأجور، والتي ظلت لسنوات قضية رئيسية للحركة العمّالية.
من أيار/مايو 2023 إلى أيار/مايو 2024 شهد الحد الأدنى للأجور تطوراً هاماً. بدأ العام 2023 بينما الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص 2,400 جنيه شهرياً فقط، وتقرّر رفعه في كانون الثاني/يناير 2023 إلى 2,700 جنيه شهرياً للعاملين بالقطاع الخاص. وفي تموز/ يوليو 2023، تم رفع الحد الأدنى لأجور العاملين بالقطاع الخاص إلى 3,000 جنيه شهرياً، ثم في تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى 3,500 للعاملين بالقطاع الخاص على أن يبدأ التطبيق من مطلع 2024. وأخيراً صدر قرار من المجلس القومي للأجور في نيسان/أبريل الماضي برفع الحد الأدنى لأجور القطاع الخاص إلى 6,000 جنيه أيضاً على أن يبدأ التطبيق من أيار/مايو المقبل.
معنى هذا أن الحد الأدنى للأجور ارتفع بنسبة تتجاوز 100% خلال عام واحد. كما أن الزيادة الأخيرة للحد الأدنى للأجور ساوت أخيراً بين العمّال في القطاع الخاص والعمّال لدى الحكومة حيث كان الحد الأدنى لأجور العاملين لدى الحكومة أعلى دائماً من القطاع الخاص.
يمكن بالطبع انتقاد قرارات رفع الحد الأدنى للأجور من زاوية عدم تناسبها مع معدلات التضخم القياسية، ومن زاوية معوقات تطبيق تلك القرارات على عمال القطاع الخاص، كذلك السلبيات التي شابت قرار رفع الحد الأدنى للأجور إلى 6,000 جنيه، والتي تتمثل في استثناء الشركات الصغيرة التي يقل عدد عمّالها عن 10 عمّال، وعن احتساب الحد الأدنى للأجور على جميع عناصر المرتب واحتساب حصة صاحب العمل من التأمينات الاجتماعية ضمنها، ما يعني أن الأجر الفعلي سيكون أقل من 6,000 جنيه. كذلك فتح القرار الباب أمام طلب أصحاب الأعمال الاستثناء من التطبيق لظروف المنشآت الاقتصادية، وعلى الرغم من كل تلك السلبيات فإن قرار رفع الحد الأدنى للأجور الأخير سيعني وضع هدف واضح وقانوني أمام الحركة العمالية.
القرار الذي صدر في نيسان/ أبريل، سيبدأ تطبيقه في أيار/ مايو، أي أن الأجور المستحقة في نهاية آيار/ مايو وبداية حزيران/ يونيو، يجب أن ينطبق عليها قرار الحد الأدنى للأجور. هذا هو التوقع الذي خلقه القرار، وهذا ما سيحاول الكثير من أصحاب الأعمال التهرّب من تطبيقه، بصيغ مختلفة، والحقيقة أن أكثر ما يدفع الاحتجاجات العمّالية هو إحباط التوقعات.
لقد خلقت المتغيّرات الاقتصادية التي حدثت منذ بداية آذار/مارس، والتي تمثلت في تدفقات دولارية كبيرة، سواء من مشروع رأس الحكمة أو الاتفاق مع صندوق النقد والبنك الدوليين، أو من الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي، توقّعات لدى الطبقات الفقيرة والطبقة العاملة بأن انفراج الأزمة بات وشيكاً وتحسن الأوضاع المعيشية ممكن الآن، خصوصاً بعد قرارات الحماية الاجتماعية وقرار رفع الحد الأدنى للأجور والتعهّدات بخفض الأسعار. وعدم تحقق بعض من تلك التوقعات مع صرف رواتب شهر أيار/مايو لن يكون من دون رد فعل من العمّال.
ربما لم يشهد العام من أيار/مايو 2023 إلى أيار/مايو 2024 أحداث عمّالية كبيرة، ولكن مع عودة مراكز عمالية كبيرة بحجم غزل المحلة إلى الإضراب، ومع انضمام شرائح جديدة مثل الصحافيين والمهندسين إلى الاحتجاجات الاقتصادية، ومع عودة طموحات الحركة العمالية للاستقلال النقابي، ومع رفع مستوى توقعات العمال بتحسن الأوضاع ودعم تلك التوقعات بقرارات رسمية، فإن ذلك العام سيكون تمهيداً لعيد العمّال المقبل، إذا لم يحصل العمّال على ما توقّعوه.