عودة العمل إلى ماضيه الأسود
قد لا يكون العنوان جديداً، ولا شكّ سبقت قراءته في كثير من المقالات والدراسات والتقارير والأخبار. ولكن ما ورد سابقاً فيه شيء من المبالغة إذا ما قورن مع واقع اليوم، إن لم نقل أن فيه طمسٌ لحقائق وإشاعة ليأس. فالأوضاع التي يعيشها عمّال وعاملات لبنان راهناً، لم يشهدوا لها مثيلاً في تاريخهم الحديث. والحال لم يكن دائماً على حالته الحالية، إنّما كان لهم حقوق اكتسبوها بالدم وبمواجهات عنيفة وكثيرة، لم تتوقّف حتى في خلال الحرب الأهلية.
تروي المحطّات الماضية سيرة طويلة من النضال العمّالي، أسفر عن إقرار قانون العمل في العام 1946 وتثبيت حقّ العمّال والعاملات في لبنان في تأسيس النقابات، ومن ثمّ حقّهم بالضمان الاجتماعي في العام 1963، وبحدّ أدنى للأجور في العام 1967، وبالحماية من الصرف التعسّفي في العام 1974، وبتصحيح أجورهم لتواكب غلاء المعيشة في العام 1981... وأضيف إلى ذلك، توقيع 42 اتفاقية مع منظّمة العمل الدولية؛ 64% منها (أي 27 اتفاقية) في العامين 1962 و1977 وحدهما تحت ضغط المطالبات العمّالية.
بلغت حصّة الأجور من ناتج العمل 58% عشية الحرب الأهلية أمّا اليوم فقد وصلت إلى 15%، وذلك إن دلّ فعلى ضعف وضعية العمّال في موازين القوى القائمة، والذي ينعكس عجزاً في استحواذهم على حصّة أكبر من قيمة ما ينتجونه
من الثابت أن غالبية المُكتسبات العمّالية في لبنان تحقّقت في «فترات النضال»، ومن ثمّ تآكلت تدريجياً بعد نهاية الحرب الأهلية كنتيجة مباشرة لضعف العمل النقابي والنضال العمّالي، قبل أن تدمّر بالكامل في أعقاب الانهيار النقدي والاقتصادي في العام 2019، الذي أعاد العمل إلى ماضٍ أسود ساد قبل نحو 8 عقود، حين كانت علاقات العمل مُتحرّرة من أية قيود. تكفي الإشارة إلى أن حصّة الأجور من ناتج العمل بلغت 58% عشية الحرب الأهلية وفق حسابات الأستاذ في الجامعة اللبنانية أنيس أبي فرح، أمّا اليوم فقد وصلت إلى 15% بحسابات الاقتصادي كمال حمدان. وذلك إن دلّ فعلى ضعف وضعية العمّال في موازين القوى القائمة، والذي ينعكس عجزاً في استحواذهم على حصّة أكبر من قيمة ما ينتجونه، وهو ما يزيد استغلالهم ويسمح لصاحب رأس العمل بمراكمة المزيد من الأرباح والثروات من جنى تعبهم.
يبيّن «مسح القوى العاملة لعام 2022»، الذي أعدّته إدارة الإحصاء المركزي مع منظّمة العمل الدولية، أن القوى العاملة في لبنان تقلّصت من 49% إلى 43% بين عامي 2018 و2022، وارتفع معدّل البطالة 3 أضعاف في خلال الفترة نفسها ووصل إلى 30%، وبلغ 48% لدى فئة الشباب. وأيضاً ارتفعت العمالة اللانظامية المُجرّدة من أية حماية قانونية من 54.9% إلى 62.4%، وتآكلت الحماية الاجتماعية والتغطية الصحّية المؤمّنة عبر الصناديق الضامنة، وانخفضت الأجور بشكل حادّ مع انهيار العملة. تقول «مبادرة سياسة الغد» إن أقل من 3% من القوى العاملة فقط كان يجني أكثر من 1,000 دولار شهرياً في العام 2022، بالمقارنة مع 42% في العام 2018، فيما أكثر من نصف القوى العاملة يعيش على دخل يقلّ عن 200 دولار شهرياً.
طبعاً ليس المقصود الإيحاء بأن الماضي الغابر كان مثالياً، بل على العكس. فعلى الرغم من التنظيم والنضال العمّالي الذي شهده لبنان، بقي عمّاله وعاملاته محرومين من العديد من الحقوق العمّالية الأساسية، ومارس أصحاب الرساميل صراعاً طبقياً شرساً للحفاظ على امتيازاتهم ومكاسبهم الاجتماعية ومصالحهم الاقتصادية وتفوّقهم الطبقي. ولعل أبرز معاركهم وأهمّها هي تقويض الحقّ في حرّية العمل النقابي. بالنسبة لأصحاب رأس المال يُعدّ التنظيم العمّالي أخطر ما قد يواجهونه من العمّال ولا بدّ من كسره. وبالفعل، أقرّ قانون العمل في العام 1946 بحقّ العمّال في تأسيس نقابات عمّالية والانضمام إليها تحت ضغط المظاهرات وعلى الرغم من المحاولات الكثيرة التي خاضها من يصطلح على تسميتهم بـ «أبطال الاستقلال» لتقويضها في البرلمان، لكنه في الوقت نفسه ترك ثغرة في القانون جعلت ذلك الحقّ خاضعاً للترخيص المُسبق من وزارة العمل من أجل تثبيت شرعيّة النقابات العمّالية، وهو ما سمح فعلياً بمحاصرتها وتقويضها. ولاحقاً فشلت كلّ محاولات تعديل القانون وإقرار انضمام لبنان إلى اتفاقية منظّمة العمل الدولية رقم 87 التي تكفل حرّية التنظيم النقابي من دون الحاجة إلى موافقة مُسبقة من السلطات. أيضاً حارب أصحاب رأس المال للإبقاء على نظام الكفالة العنصري والطبقي والاستعبادي الذي تخضع له العاملات في الخدمة المنزلية والعمال غير اللبنانيين عموماً، وهو الذي يحرم ما بين 14% إلى 20% من القوى العاملة في لبنان من حماية قانون العمل وضماناته، وحاربوا سلسلة الرتب والرواتب وجمّدوا أجور العاملين في القطاع العام لأكثر من 19عاماً (1998-2017)، وتصدّوا لإقرار ضمان الشيخوخة والتغطية الصحّية الشاملة، وتوسيع الضمان الاجتماعي وتطويره. وتطول اللائحة....
مسار تدحرج المُكتسبات والحقوق والحمايات العمّالية في لبنان ثابتٌ وقديم، وقد بدأ مع انتهاء الحرب اللبنانية وتأسيس نظام الطائف، الذي كانت أولى «إنجازاته» ضرب الحركة النقابية وتفتيتها والسطو على الاتحاد العمّالي العام، فيما أتت الأزمة الحالية على ما تبقى من حمايات قانونية واجتماعية.
62.4% من عمّال وعاملات لبنان محرومون من حماية قانون العمل
تنصّ المادة الثامنة من قانون العمل اللبناني على أن «جميع أرباب العمل والأجراء يخضعون لأحكام هذا القانون (...) وكذلك المؤسّسات بمختلف فروعها التجارية والصناعية وملحقاتها وأنواعها الوطنية والأجنبية سواء كانت عامة أو خاصة، علمانية أو دينية، بما فيها مؤسّسات التعليم الوطنية والأجنبية والمؤسّسات الخيرية، كما تخضع له الشركات الأجنبية التي لها مركز تجاري أو فرع أو وكالة في البلاد»، ويُستثنى من أحكام هذا القانون وفق المادة السابعة منه «الخدم في بيوت الأفراد، والنقابات الزراعية التي لا علاقة لها بالتجارة والصناعة، والمؤسّسات التي لا يشتغل فيها إلا أعضاء العائلة تحت إدارة الأب أو الأم أو الوصي، والإدارات الحكومية والهيئات البلدية فيما يتعلّق بالمستخدمين والأجراء والمياومين والمؤقتين».
ثلثيا العاملين في لبنان مصنّفون حالياً ضمن العمالة اللانظامية، أي أنهم غير مشمولين بحماية قانون العمل. صحيحٌ أن اللانظامية هي من السمات البنيوية في سوق العمل اللبنانية، لكنها آخذة بالارتفاع ووصلت إلى مستويات غير مشهودة سابقاً
يقول وزير العمل السابق وأمين عام «حركة مواطنون ومواطنات في دولة»، شربل نحّاس، في ندوة قديمة إن قانون العمل اللبناني صدر في فترة «جلاء الجيوش الفرنسية عن لبنان، ولكنّه تأثّر كثيراً بتغيّرات الحكم في فرنسا ومجيء الشيوعيون والديغوليون إلى السلطة. ولولا تلك التغيّرات لما كان صدر بالأساس. فهو أقرّ لإقامة توازن بين الملكية الفردية كحقّ دستوري مُنِح لرأس المال وبين مفهومي العمل والإنتاج كفعل تكاملي بين أصحاب الرساميل والعمّال». وبحسب المحامي والمناضل الحقوقي نزار صاغية فإن «قانون العمل هو الحماية التي تمنحها الدولة للطرف الأضعف في علاقة العمل أي العامل، من أجل إعادة التوازن لهذه العلاقة، وتثبيت حقوق العمّال والحدّ من أشكال التعاقد الحرّة في العمل».
مع ذلك، نحو ثلثيْ العاملين في لبنان مصنّفين حالياً ضمن العمالة اللانظامية، أي أنهم غير مشمولين بحماية قانون العمل. صحيحٌ أن اللانظامية هي من السمات البنيوية في سوق العمل اللبنانية، لكنها آخذة بالارتفاع ووصلت إلى مستويات غير مشهودة سابقاً، إذ ارتفعت من 54.9% في العام 2019 إلى 62.4% في العام 2022 بحسب إدارة الإحصاء المركزي. تبلغ القوى العاملة في لبنان نحو 1,77 مليون شخص بحسب البنك الدولي، من ضمنها 81% (1,43 مليون شخص) يعملون في القطاع الخاص وفق إدارة الإحصاء المركزي، فيما 28.5% منهم فقط مُصرّح عنهم للصندوق الوطني الاجتماعي.
الحد الأدنى للأجر أقل من خطّ الفقر
تقول المادة 44 من قانون العمل «يجب أن يكون الحدّ الأدنى من الأجر كافياً ليسدّ حاجات الأجير الضرورية وحاجات عائلته على أن يؤخذ بالاعتبار نوع العمل ويجب أن لا يقلّ عن الحد الأدنى الرسمي»، فيما تشير المادة 46 إلى أنه «يُعاد النظر في تحديد الأجر الأدنى كلّما دعت الظروف الاقتصادية إلى ذلك».
ما يحصل منذ الانهيار يفوق كلّ ما حصل في السابق، ويتعرّض العاملون والعاملات بأجر لأكبر هجوم طبقي يستهدف مستوى معيشتهم، فيما يفتقدون لأي تنظيم لتحسين أجورهم وتحصينها
في آذار/مارس الماضي، حدّد مجلس الوزراء الحد الأدنى للأجور بـ 18 مليون ليرة لبنانية، وهو ما يوازي نحو 202 دولار تقريباً، ما يعني أنه لم يعد يساوي سوى 45% تقريباً من قيمته (450 دولار) في الفترة الممتدّة بين عامي 2012 و2019، كما أنه يساوي دخلاً بقيمة 1,7 دولار في اليوم للأجير وأسرته، وهو أقل من خط الفقر المدقع، ولا يكفي لسدّ حاجاتهم الأساسية حتى. ويترافق هذا التخفيض لقيمة الحدّ الأدنى للأجور بالدولار مع ظاهرة التضخّم بالدولار، ما يعني أن القدرة الشرائية للحد الأدنى المقدّر بنحو 202 دولار هي اليوم أقل بكثير عمّا كانت عليه قبل انتشار وباء كوفيد-19 وانفجار الأزمة الاقتصادية، وعمّا كانت عليه منذ آخر رفع للأجور في القطاع الخاص في العام 2012. الأجور تتآكل سنوياً، ووفق إدارة الإحصاء المركزي، ارتفع معدّل التضخّم بين نهاية العام 2013 وآذار/مارس 2024 بنحو 4,729%، بينما لم تُرفع القيمة الاسمية للحد الأدنى للأجر سوى بنسبة 2,667%. علماً أنه بقي مُجمّداً لمدّة 10 سنوات من العام 2012 وحتى نيسان/أبريل 2022، إذ ارتفع من 675 ألف ليرة إلى 2 مليون ليرة، ومن ثمّ رفع إلى 9 ملايين ليرة في نيسان/أبريل 2023، وإلى 18 مليون في آذار/مارس الماضي.
من الواضح أن قيمة الأجور الحقيقية انهارت إلى مستويات غير مسبوقة، وتقهقر الأجر الوسطي أيضاً. بحسب الأجور المُصرّح عنها للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بلغ الأجر الوسطي في نهاية العام 2023 نحو 19,5 مليون ليرة أي أنه اقترب من الحدّ الأدنى للأجور، وتراجع من 1300 دولار في العام 2018 (وفق الأجور المصرح عنها للضمان) إلى 219 دولاراً فقط (على سعر الصرف الحالي).
ومن المعروف أن الأجر هو ما يربط العامل بالمؤسّسة، فهو ليس مجرّد بند ضمن بنود الأكلاف في الميزانية بل دين ممتاز مترتّب عليها لصالح العاملين، وهو خاضع لاشتراكات الضمان والتأمين والتقديمات للعامل وأسرته، وواجب على الحكومة سنوياً أن تعيد النظر بالحدّ الأدنى وكيفية تطبيق مؤشر الغلاء على الأجور. ومن المعروف أيضاً إن خرق القانون هو سمة طاغية، لكن ما يحصل منذ الانهيار يفوق كلّ ما حصل في السابق، ويتعرّض العاملون والعاملات بأجر لأكبر هجوم طبقي يستهدف مستوى معيشتهم، فيما يفتقدون لأي تنظيم أو قوّة تفاوضية لتحسين أجورهم وتحصينها. تكفي الإشارة إلى أن النقاشات الأولية لرفع الحدّ الأدنى للأجور انطلقت من مبلغ 50 مليون ليرة قبل أن يوافق الاتحاد العمّالي العام على 18 مليون فقط (أي 36% من القيمة الأولية المقترحة).
الحماية من الصرف توازي صفراً
نُظِّمت إضرابات كثيرة واستشهد عمّال في لبنان لضمان ديمومة الوظيفة. ففي العام 1975، وبعد مظاهرات طويلة ومواجهات دامية مع القوى الأمنية القمعية في معمل «غندور»، انتصر العاملون والعاملات في لبنان لحقّهم بمنع صرفهم تعسّفياً أو جماعياً من دون أي تعويضات كما جرت العادة. وتمّ تعديل المادة 50 من قانون العمل التي حكمت بتعويض صاحب العمل للأجير عن أي صرف تعسّفي بما لا يقل عن بدل إجرة شهرين وما لا يزيد عن 12 شهراً.
بحسب أرقام إدارة الإحصاء المركزي ومنظّمة العمل الدولية تمّ فقدان نحو 26.1% من الوظائف منذ بداية العام 2019 وحتى العام 2022، وهو ما يتجاوز 450 ألف وظيفة
وضعت هذه المادة في حينها حدّاً للترهيب الذي يمارسه أصحاب العمل ضدّ العمّال وضدّ حقوقهم الدستورية والقانونية بالعمل والأجر اللائق الذي يفترض أن يكفيهم لسدّ حاجاتهم وحاجات أسرهم.
يقول المحامي نزار صاغية إنه «جرى التفريط بهذا المكسب منذ نهاية الحرب الأهلية، ومن أهم الأسباب الكامنة وراء ذلك هو ضعف المواجهة العمّالية، وصولاً إلى التفريط بها بالكامل بعد انهيار الدولة في العام 2019».
فبحسب أرقام إدارة الإحصاء المركزي ومنظّمة العمل الدولية تمّ فقدان نحو 26.1% من الوظائف منذ بداية العام 2019 وحتى العام 2022، وهو ما يتجاوز 450 ألف وظيفة. لا توجد أرقام دقيقة لحالات الصرف التعسّفي أو الصرف الجماعي، باستثناء بعض الإحصاءات وعمليات الرصد المتفرّقة وغير المنظّمة والمُنتظمة. تقول الإحصاءات القليلة الموجودة أنه جرى طرد نحو 160 ألف عامل في الشهرين الأخيرين من العام 2019 تحت ذريعة إفلاس المؤسّسات والشركات نتيجة الأزمة الاقتصادية، وجرى ذلك من دون تقديم أي بيانات تؤكّد صحّة الإفلاس المزعوم. كما جرى رصد العديد من حالات الصرف الجماعية في السنوات اللاحقة للأزمة بحجّة الظروف الاقتصادية.
يأتي ذلك فيما مجالس العمل التحكيمية، التي يفترض أن تبت بنزاعات العمل وأن تحمي حقوق العمّال، مُعطّلة ولم تصدر حكماً واحداً في الدعاوى المقدّمة أمامها بسبب إضراب مفوّضي الحكومة الممتدّ منذ سنة، والذين تعدّ مطالعتهم شرطاً جوهرياً لإصدار الأحكام. في السنوات السابقة للأزمة، كانت الشكوى الأساسية من عمل هذه المحاكم تكمن بطول فترة إصدار الأحكام التي تتراوح بين 3 سنوات في محاكم بيروت كمعدّل وسطي و4 سنوات في محاكم جبل لبنان، وانخفاض معدّل البت في أساس النزاع وانسحابة على 31% منها فقط، نتيجة التراجع عن الدعاوى أو شطب الجزء الأكبر منها. أمّا اليوم فهذه المحاكم مُعطّلة بالكامل.
يقول صاغية إن «مجالس العمل التحكيمية على علّاتها وضعف الحماية التي تقدّمها كانت تشكّل حماية ما للعمّال والعاملات. وفي النهاية كانت تصدر أحكامها وأيضاً بمعزل عن نوعية تلك الأحكام. أمّا اليوم فهي غائبة بالكامل كنتيجة مباشرة لانهيار الدولة من جهة وتراجع ثقة العمّال بهذه الحماية من جهة ثانية. وفي كل يوم يمرّ من دون البتّ بهذه الدعاوى يخسر العمّال قيمة التعويض الذي قد تحكم به المحكمة لصالحهم نظراً لعدم احتسابه ليأخذ بالحسبان انهيار العملة». ويتابع صاغية «لو كان التعطيل قائماً في المحاكم الأخرى لعلت صرخة نقابة المحامين، لكن بما أن التعطيل هو في محاكم العمل المفترض أن تحمي العمّال الذين يرافع عنهم المحامون في المكاتب الصغيرة، فإن الضغط يغيب على أهمّية هذا الملف الحقوقي لأن المكاتب الكبيرة ذات الثقل الأكبر في النقابة عادة ما تكون محامية الشركات».
في الواقع، تراجع عدد الدعاوى المقدّمة أمام مجالس العمل التحكيمية منذ العام 2020 على الرغم من ارتفاع حالات الطرد. وبحسب الأرقام التي حصلت عليها المفكرة القانونية من محاكم العمل في بيروت وجبل لبنان، يتبيّن أن عدد الدعاوى انخفض من 2,286 دعوى في العام 2017 إلى 594 دعوى في العام الماضي، وهو انخفاض بنسبة 74%، علماً أن الرقم الأعلى سُجِّل في العام 2019 وبلغ 2,945 دعوى.
لا تغطية صحّية ولا تعويض نهاية خدمة
يحمل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي كل «عورات» قانون العمل فهو يشمل الملحوظين به فقط ويستثنى المستثنون منه، وكذلك العاطلين عن العمل والعمّال المياومين والموسميين والعاملين على حسابهم. لكن على علّاته، كان الضمان الاجتماعي يوفّر التغطية الصحّية ويمنح تقديمات اجتماعية وتعويضات نهاية الخدمة لما لا يقل عن ثلث القوى العاملة في لبنان. لكن بحكم الأزمة النقدية وانهيار العملة المحلّية في العام 2019 وما تبعها من أزمة اقتصادية وتضخّم ودولرة لكلفة الاستشفاء وأسعار الأدوية، بات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عاجزاً عن تغطية كلفة استشفاء المستفيدين من تقديماته وعلاج الأمراض المُزمنة وتأمين كلفة أدويتهم.
لا يتجاوز تعويض نهاية الخدمة 250 دولاراً، ما يعني أن قيمة هذا التعويض بعد سنوات من العمل هي أدنى من الحدّ الأدنى للأجور لشهر واحد قبل أربع سنوات
وبالفعل، تُظهر بيانات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي انخفاضاً حاداً في عدد المضمونين الذين ما زالوا يطلبون الاستفادة من تقديمات فرع المرض والأمومة أو ما يعرف بالضمان الصحّي. في العام 2022، تقدّم نحو 211 ألف مستفيد للحصول على الضمان الصحّي بالمقارنة مع أكثر من 976 ألف مستفيد قبل العام 2019، بانخفاض بنسبة 78%. أمّا بالنسبة للطلب على تقديمات فرع المرض والأمومة خارج المستشفى، مثل المعاينات في العيادات والفحوص المخبرية والحصول على الأدوية، فقد انخفض عدد الطلبات من أكثر من 628 ألف طلب 2019 إلى نحو 97 ألف طلب بين عامي 2019 و2022، أي بانخفاض نسبته 84.8%. وانخفض أيضاً الطلب على العناية في المستشفيات من نحو 350 ألف طلب إلى 114 طلب في خلال الفترة نفسها، أي ما نسبته 67.7%.
في السنوات الثلاث الأولى للانهيار، بقيت تعريفات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على حالها، ولم يجرِ تعديلها لتواكب انهيار العملة ودولرة كلفة الطبابة والاستشفاء نظراً لضآلة الموارد التي بقيت مُتاحة للصندوق لأسباب مختلفة منها مرتبط بانهيار العملة نفسها وتراجع قيمة هذه الموارد المقيّمة بالليرة ومنها مرتبط بتفشّي العمالة اللانظامية وعدم دفع أصحاب العمل لاشتراكات المضمونين، وكذلك تمنّع الدولة عن دفع حصّتها للضمان... وهذا ما يفسِّر تراجع عدد المستفيدين من الضمان الصحّي في هذه السنوات. وعلى الرغم من تعديل هذه التعريفات مؤخّراً، ورفع الحد الأدنى للأجور الذي يفترض أن يزيد قيمة الاشتراكات بالضمان وبالتالي موارده المالية، فهي لا تزال أدنى من نسبة الانهيار الحاصل في قيمتها قبل الأزمة، وكذلك أدنى من كلفة الطبابة الحالية، وبالتالي هي قاصرة عن تأمين التغطية الصحية للعمّال الذين ترِكوا من دون أي حماية فعلية في ظل أسوأ أزمة اقتصادية يمرّ بها لبنان في تاريخه الحديث.
لا تقتصر الحماية المفترضة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على التأمين الصحّي، بل تشمل تعويضات نهاية الخدمة. أيضاً، تنطوي هذه الحماية المفترضة على العديد من المساوئ، وقد أقرّت في العام 1963 مع اعتراف بمساوئها وعلى افتراض أنها مؤقتة، وذلك لعدم تأخير إطلاق مشروع الضمان الاجتماعي لحين إقرار نظام تقاعد يضمن شيخوخة العمّال وتغطيتهم الصحية بعد انتهاء خدمتهم. طبعاً أيٌ من ذلك لم يحصل على مدار 60 عاماً، وحورب بشدّة من أصحاب الرساميل وأيضاً من الأحزاب الطائفية التي استخدمت الحمايات الاجتماعية كمصدر لاكتساب شرعية وشراء الولاءات. مع ذلك، كان تعويض نهاية الخدمة «المسخ» يؤمِّن بعضاً من الحماية للعمّال بعد تقاعدهم. أما اليوم فقد تبخّرت هذه الحماية الهزيلة بالأساس. في العام 2018، كان المعدّل الوسطي لتعويض نهاية الخدمة لكلّ مضمون في الضمان الاجتماعي يساوي نحو 22,5 مليون ليرة، أو 15 ألف دولار في حينها. أما اليوم فلا يتجاوز هذا التعويض 250 دولاراً. ما يعني أن قيمة هذا التعويض بعد سنوات من العمل هي أدنى من الحدّ الأدنى للأجور لشهر واحد قبل أربع سنوات.