كمال حمدان: رأس المال يُعزِّز هوامش ربحه على حساب كلّ المجتمع

في كل مرّة تتحرّك فيها فئات عاملة للمطالبة بتصحيح أجورها، سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص، تنطلق حملات مُضادة لإقناع الناس أن هذه المطالب تضرّ بهم. ترتكز هذه الحملات المُمنهجة إلى سرديات تتحدّث عن علاقة سببية بين طبع العملة وزيادة الأجور من جهة وانهيار سعر الصرف والتضخّم من جهة أخرى. ويتمّ الخلط بين خلق النقد الذي مارسته البنوك على مدار عقود من خلال الديون الاستهلاكية وغير الاستهلاكية من أجل زيادة أرباحها، وبين طبع العملة للضرورات الاجتماعية والاقتصادية.

يردّ الاقتصادي كمال حمدان على ذلك بالقول: «إن هناك سوءٌ في التشخيص يدفع باتجاه إجراءات ومعالجات تفيد القلّة، فيما يتحمّل وزرها الشرائح الأوسع». تختصر هذه العبارة النتائج التي آلت إليها أوضاع اللبنانيين، والتي تتكرَّر دائماً في تاريخهم المُعاصر وإن بأشكال مختلفة وبحدّة متفاوتة.

غالباً ما تُبنى هذه السرديّات على نظريّات ووصفات مُنتشرة أينما كان، كأن هذه النظريّات والوصفات تقنية، مُحايدة، وتصلح لكلّ زمانٍ ومكانٍ، أو أنها لا تنطوي على «أيديولوجيّات» يؤدّي تطبيقها إلى تبدية مصالح على مصالح أخرى، ممّا يفضي إلى نتائج تتكرّر أينما كان، وتؤدّي إلى استغلال شرائح واسعة وحرمانها من الاستقرار وتجريدها من الثروة ووسائل العيش الكريم، في حين أن القلّة تزداد ثراءً وتحظى بالمزيد من الامتيازات والدعم، إذ تكفي الإشارة إلى تضخّم ثروات أصحاب المليارات 19 ضعفاً في خلال ثلاثة عقود، في مقابل ارتفاع عدد الفقراء، وتوقّع ازدياد أعدادهم أكثر وأكثر.

في هذه المقابلة نحاول تفكيك هذه السرديَّات في محاولة لفهمها بأبعادها النظرية والتاريخية والكمّية، وفهم المصالح الكامنة وراءها. 

التضخّم سببه تحكّم القلّة والاحتكارات لا الأجور

سوف أبدأ من سردية غالباً ما تتردّد، وهي ليست مُرتبطة فقط بالأزمة التي نعيشها اليوم، بل تتكرّر مع كلّ حديث عن زيادة الأجور. هناك دائماً من يقول أن رفع الأجور يُسبّب التضخّم، وقد يدفع إلى المطالبة بزيادة الأجور مُجدداً ليرتفع التضخّم مجدّداً، وهكذا دواليك، فندخل في دوّامة لا تنتهي من التضخّم. إذا أخذنا السياق اللبناني هل نحن في قلب دوّامة مماثلة؟ وهل يمكننا القول إن رفع الأجور يرفع التضخم؟

تعايش لبنان في تاريخه الحديث مع مسألة التضخّم ومحاولة الأجور الدائمة للحاق به. في بداية السبعينيات، حصلت موجة تضخُّمية في لبنان، وقد تزامنت مع الركود التضخّمي في أوروبا والولايات المتّحدة في مرحلة انتقال العالم الرأسمالي من نظام بريتون وودز، أو نظام الكينزية، إلى نظام النيوليبرالية وتطبيقات نظرية جانب العرض وتراجع دور الدولة، وكان تضخّم الأسعار في تلك الفترة سبّاقاً على الأجور. ثمّ بدأت الحرب الأهلية اللبنانية، وطوال تلك الفترة وصولاً إلى مطلع التسعينيات كانت القوّة الشرائية للأجر تفقد نصف قيمتها في كلّ سنة بالمقارنة مع السنة السابقة. وبعد سريان اتفاق الطائف، جرت محاولة لشراء ودِّ الناس، عبر إدخال جزءٍ من الميليشيات إلى الدولة وإعطاء زيادات كبيرة على الأجور للتعويض عن جزءٍ من خسائر القوّة الشرائية للأجر نتيجة الارتفاعات المُتتالية بالأسعار منذ السبعينيات، ولا سيّما في الثمانينيات ومطلع التسعينيات. واستمرّت هذه العلاقة بين الأسعار والأجور حتّى العام 1996 وهي السنة نفسها التي أعُلِنت فيها سياسة التثبيت النقدي.

في العام 2008، أعطيت زيادة بقيمة 200 ألف على الأجور، ومن ثمّ أعطيت زيادة في العام 2012 في القطاعين العام والخاص، وقد عوّضت كلتاهما عن نصف الخسارة التي كانت واقعة بالقدرة الشرائية. والجدير بالملاحظة هنا أنه بين العامين 1996 و2012، وفيما كان سعر الدولار ثابتاً تجاه الليرة، ارتفعت الأسعار بنسبة 121%. وهذه الوقائع تردّ على هذه السردية لأنّ التضخّم يحصل بمعزل عن الأجور التي كانت مُجمّدة في تلك الفترة، وبمعزل عن الاستيراد، بدليل أن معدّلات التضخّم في الفترة نفسها في الدول التي نستورد منها لم يزيد في المتوسّط عن 0.5 إلى 1.5% سنوياً.

عندما يكون وزن الأجور من مجمل ثمن السلع والمبيعات لا يتجاوز 20%، فحتّى لو زدنا الأجور بنسبة 100% لن يكون أثرها أكثر من 15%ثمّ في العام 2016، وبعد أربع سنوات من المظاهرات والإضرابات وجولات الاحتجاج الشعبي المّتتالية، بدءاً من مظاهرات «الشعب يريد إسقاط النظام»، إلى حراك «هيئة التنسيق النقابية» ومن ثمّ الاحتجاجات التي اندلعت على أثر أزمة النفايات، كان هناك شعور بأن ثمّة حراك ينشأ من خارج الاصطفاف الطائفي، وللأسف لم يستمرّ، فأقرّت عندها سلسلة الرتب والرواتب التي استفاد منها القطاع العام حصراً، والتي قدِّرت بنحو 1.5 مليار دولار وشكّلت نحو 3% من مجمل الناتج المحلي، وقد عوّضت بالإضافة إلى الزيادتين التي سبقتاها عن 90 إلى 100% من القدرة الشرائية المفقودة بمالقارنة مع تضخّم تجاوز 120%. إنّما في العام 2017 أتى التضخّم 3%، وفي العام 2019 الذي شهد بداية الانتفاضة بلغ التضخّم -2%. ما يعني أنّ العلاقة الأوتوماتيكية بين رفع الأجور والتضخّم، أو انعكاس رفع الأجور على الأسعار، أتت دون أي أثر فعلي. أمّا في الفصل الأول من العام 2023 فقد بلغت نسبة ارتفاع التضخّم نحو 260% على أساس سنوي، في حين لم تبدأ بعد تطبيقات وتأثيرات زيادة الأجور، التي لن تعوّض في كلّ الأحوال أكثر من 25% من نسبة الخسارة التي وقعت بالقوّة الشرائية لموظّفي القطاع العام منذ العام 2019، وأقل بكثير بالنسبة لموظفي القطاع الخاص إلّا لبعض الموظّفين الذين يعتبرونهم أرباب العمل أساسيين في تشغيل أعمالهم.

وهنا، لديّ تذكير نظري آخر حول العلاقة بين الأسعار والأجور. إذ أخذنا وزن الأجور من الناتج المحلّي، أو وزنها من ثمن مبيع السلع والخدمات، فقد بلغ نحو 35% في العام 1997 وهو الرقم الرسمي الوحيد الصادر عن إدارة الإحصاء المركزي، أمّا إذا قسنا حصّة الأجور من الإنتاج، أي مجموع القيم المُضافة وهوامش الأرباح، فإنها تنخفض بنسبة الثلث.. ووفقاً للتقديرات المختلفة استمرّت حصّة الأجور بالتراجع، وقد وصلت إلى نحو 20% من الناتج المحلّي عشية الانهيار الكبير، و15% من الإنتاج المحلي. وبالتالي، عندما يكون وزن الأجور من مجمل ثمن السلع والمبيعات لا يتجاوز 20%، فحتّى لو زدنا الأجور بنسبة 100% لن يكون أثرها أكثر من 15%.

لذلك يجب البحث عن أسباب التضخّم في مكانٍ آخر، يجب البحث عنه في الرأسمالية المتوحِّشة، واحتكارات القلّة، وبالانقلاب على الطائف، وتسلُّط السلطة على الدولة، والإفراط بالإنفاق الجاري غير المُنتج، والفساد، والمحاصصة، والزبائنية، والسياسات الضريبية التي يُعدُّ البُعد التصاعدي فيها محدوداً جداً، وأحياناً عكسياً. هناك تكمن أسباب التضخّم وليس في زيادة الأجور. وهذا ما ينطبق أيضاً على تجارب الدول الرأسمالية، حيث كانت تصحيحات الأجور تأتي كردٍّ على التغيّر في بنية تكاليف الإنتاج والارتفاع في معدّلات الربح. فيما يأتي التضخّم نتيجة تحكّم القلة والاحتكارات.

الربط الأوتوماتيكي بين الأسعار وطبع العملة فيه استسهال وتشويه

هناك سرديّة أخرى تقول إنّ طبع العملة وزيادة النقد في التداول هما سبب ارتفاع سعر الصرف وبالتالي التضخّم. بينما تبيِّن الأرقام أن النقد في التداول كان يساوي 3.7 مليار دولار في العام 2019، ويصل اليوم إلى نحو 700 مليون دولار. بمعنى أنّ النقود الموجودة بين يدي الناس تسمح لهم بشراء سلع ومنتجات بقيم أقل بخمس مرّات ممّا كانوا يشترونه سابقاً، وبالتالي إذا كان التضخّم بحسب نظرية العرض هو مدفوعٌ بطلب إضافي على السلع والخدمات، فمن الواضح أن قيمة النقود الموجودة لا تسمح بهكذا طلب إضافي. كيف يمكن تفكيك هذه السردية؟ وهل ينطبق على طبع العملة ما ينطبق على الأجور، بمعنى هل هي ردّ فعل على التضخّم؟

لا شكّ أنّ هناك علاقة سببية ما بين طبع العملة والتضخّم بحسب النظرية الكمّية، فالعملة تمثِّل قيمة معيَّنة لما يُنتج من سلع وخدمات، وعندما تكثر العملة تنخفض قيمتها وتفقد وظائفها كأداة للتبادل وأداة ادخار واداة استثمار. لكن في الحالة اللبنانية الراهنة هناك تفسير تبسيطي للنظرية الكمّية التي تربط مستوى الأسعار بكمّية النقد في التداول، من دون أي تمييز بين مختلف أشكال النقد التي تكوّن الكتلة النقدية، أي العملة الورقية والحسابات الجارية وحسابات الادخار، وإن كانت هذه النقود بالليرة أم بالدولار. ففي حين يجري التركيز على العملة الورقية يجري تجاهل مكوّنات أخرى من الكتلة النقدية مثل الحسابات المصرفية. ما أريد قوله أن هناك ضبابية في احتساب أو إعادة إنتاج هذا المُعطى في السياق اللبناني، وهناك استسهال، لا بل تشويه يمارس من خلال هذا الربط الأوتوماتيكي. والدليل أنه بالرغم من النجاح في تخفيض الكتلة النقدية لم تخفّ الاتجاهات التضخّمية في الفصل الأول من العام 2023 بل استمرّت بالارتفاع، وقد بلغ التضخّم في آذار/ مارس من هذا العام 366% بالمقارنة مع آذار 2022، وسجّل الفصل الأول من هذا العام ارتفاعاً في معدّل التضخّم بنسبة 234% على أساس سنوي.

بالرغم من النجاح في تخفيض الكتلة النقدية لم تخفّ الاتجاهات التضخّمية في الفصل الأول من العام 2023 بل استمرّت بالارتفاع، وقد بلغ التضخّم في آذار/ مارس من هذا العام 366%لماذا التركيز على هذه السرديّة؟ برأيي يأتي التركيز على الموضوع بهذا الشكل لأنه من المواضيع القابلة للتسييس، فهناك من يريد تحميل المسؤوليّة إلى مصرف لبنان لأنه يطبع العملة، وهناك من يريد تحميل المسؤوليّة للذين يضغطون باتجاه تصحيح الأجور. ولكن من الضروري التوضيح أن من يتولّى خلق النقد هو القطاع المصرفي. ومع إفلاس المصارف التغى دورها واختُصرت السياسات العامّة بتعاميم مصرف لبنان، بحيث بدأ يظهر له دور أساسي في خلق النقد وإنّما كجزء من إدارة الأزمة، في ظلّ غياب المقاربة الماكرو اقتصادية التي تتضمّن الإصلاحات المطلوبة ضمن خطّة تعافي، وفي ظل سلطة مُطلقة الصلاحيّات تتولّى ضمن أهداف مُزمَّنة تنفيذ هذه الإصلاحات بكلفتها الكبيرة، مع قبول الناس بتحمُّل هذه الكلفة بموجب توزيعٍ عادلٍ للخسائر لنمرّ إلى برّ الأمان. ولكان كلّ ذلك لا يحصل، لا يوجد خطّة تعافي، ولا كابيتال كونترول، أو مكافحة للاحتكار، أو رفع للحصانات، أو سياسة للاستثمار العام بالمرافق العامّة. لقد باتت معظم تدخّلات الدولة محصورة بالدولار الجمركي ودولار المنصّة، وكميات النقد المتداول، وكلّها تدور حول تدخّلات يقوم بها مصرف لبنان، بما فيها تخفيض سلف الكهرباء وتمويل فاتورة الأجور. مأساتنا تكمن بأنّ من نتوجّه إليهم ليقرُّوا سياسات تُخرجنا من الأزمة هم انفسهم الذين دمّروا البلد، وسطوا على أملاك الناس، وبنوا العلاقات الزبائنية، وأحلَّوا السلطة مكان الدولة لأغراض سياسوية لمجموعات طائفية تشتري عبر المال العام ولاء فئات من طوائفها لتعيد إنتاج نفوذها ونظامها باستمرار.

هناك هجمة من رأس المال على ما تبقى من قدرة شرائية

بحسب السلاسل الزمنية التي عملت عليها تقول أنه منذ منتصف السبعينيات وحتّى منتصف التسعينيات، كان ارتفاع الأسعار أعلى دائماً من إرتفاع الدولار إزاء الليرة، وتقول أيضاً أنه من بعد كلّ موجة انهيار بسعر الصرف، تأتي موجة تضخّمية جارفة. هل بدأت هذه الموجة في واقعنا الحالي خصوصاً أنّنا بدأنا نلمس ارتفاعات كبيرة في الأسعار اعلى من تقلبات سعر الصرف، سواء أسعار الأغذية أو الإيجارات أو النقل أو الخدمات كافة؟

على مدار عشرين عاماً، بين العامين 1977 و1997، وبالمتابعة السنوية لمعدّلات التضخّم وسعر صرف الدولار قبل أن يثبَّت، تبيَن أن هناك 17 سنة - باستثناء 3 سنوات في منتصف الثمانينيات - كانت الزيادة السنوية للأسعار أو الغلاء أعلى بشكلٍ عام من الزيادة السنوية لسعر الدولار تجاه الليرة. لكن في العام 2019، تبيّن أن هذه العلاقة التي كانت موجودة في السبعينيات والثمانينيات والنصف الأول من التسعينيات انعكست. بحيث بلغت الزيادة السنوية في الأسعار في العام 2019 نحو 5% في مقابل 37% للدولار. وفي العام 2020 زادت الأسعار بنسبة 111% والدولار بنحو 302%، أمّا في العام 2021 فقد ارتفعت الأسعار بنسبة 283% والدولار 210%، وكأن هذه العلاقة الرياضية بين الأسعار وتطوّر الدولار التي أثبتت ثباتها على مدى عقدين، بدأت تُستعاد. وبالفعل، في الفصل الأول من العام 2023، ارتفعت الأسعار بنسبة 235% والدولار بنحو 215%.

إذا بدأت معدّلات الغلاء أو زيادة الأسعار تتجاوز سعر الدولار إزاء الليرة، فذلك يعني أن هناك هجمة رهيبة من رأس المال على ما تبقى من قدرة شرائية عند الطبقة الوسطى والطبقة العاملةلقد حصلت نقطة انعطاف في العام 2021 وأخذت تترسّخ في السنتين التاليتين، وهذا ما يجب أن نواكبه، لأن ذلك قد ينطوي على مخاطر كثيرة. فإذا بدأت معدّلات الغلاء أو زيادة الأسعار تتجاوز سعر الدولار إزاء الليرة، فذلك يعني أن هناك هجمة رهيبة من رأس المال على ما تبقى من قدرة شرائية عند الطبقة الوسطى والطبقة العاملة. وهذا أمرٌ منطقي كونه ينسجم مع مصلحة رأس المال. لأن ربح رأس المال يتحقّق في السوق أي في أسعار السلع - أمّا الجانب النقدي المُتعلّق بسعر العملة فقد بات جزءاً جوهرياً من السوق التي يتحقّق فيها معدّل ربح رأس المال - ومعنى ذلك أن رأس المال يُعزِّز هوامش ربحه على حساب كلّ المجتمع. ويحصل ذلك في ظل عدم وجود أي رقابة، وتراجع إيرادات للدولة، وفيما الناتج المحلّي تراجع بنصف قيمته السابقة والبطالة وصلت إلى 35%، وموازنة الدولة لا تشكّل 8% من موازنات ما قبل الانهيار. في ظل هذا الوضع الكارثي، حيث هناك 15 إلى 20% من مجمل المقيمين قادرون على الاستهلاك، فيما 80% يعيشون تحت الفقر الأعلى، و30% تحت خطّ الفقر الأدنى الذي لا يؤمّن حتّى كلفة الأكل، أطلق العنان لحرية رأس المال ليستفيد أكثر وأكثر.

هذه الانعطافة سببها الخفّة والارتجال في التعامل مع دولار المنصّة والدولار الجمركي والسماح بتسعير السلع بالدولار وبيع هذه الإجراءات بالتشديد على قدرة المؤسّسات على المراقبة. لكن من يراقب ماذا ومن؟ هل وزير الاقتصاد هو من يراقب؟ بالنسبة للمُنتج أو الصناعي أو التجاري، عندما يُنظر إلى أكلافهم التشغيلية يتبيّن أنه في ظلّ هذه المرحلة التي يرتفع فيها الدولار باضطراد، سُمح لهم بتسعير سلعهم وخدماتهم بالدولار فيما جزء كبير من أكلافهم مُحرّرة بالليرة، مثل الضرائب والرسوم والإيجارات والأجور والتقديمات الاجتماعية، كما سمح لهم بالتحوّط من أي ارتفاعات مستقبلية في سعر الدولار عبر رفع الأسعار بنسب إضافية إلى السعر الأساسي. وما حصل في الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2023 لم يحصل بتاريخ تطوّر مؤشرات الأسعار في لبنان. وأعود هنا إلى العوامل البنيوية للتضخّم، وهي ميل الربح الرأسمالي إلى التفلُّت من أي عقبات، وإصراره على الاستفادة من انخفاض القوة الشرائية للأجور لكي يُخفِّض تكاليف الإنتاج ويزيد معدّلات ربحه. ويضاف إلى ذلك البنية الاحتكارية التي تسهّل هذه العملية. وقد بيّنتُ في دراسة قديمة أجرتها المؤسّسة مع توفيق كسبار أنه في 300 سوق لبنانية، هناك 3 شركات تسيطر على ثلثي كلّ سوق. لكن لا أحد يدخل إلى هذه الحقيقة الراسخة، إلى الاقتصاد العميق والمُتجذّر منذ عشرات السنين، والمبني لبنة لبنة، بما فيه من مصالح. لا أحد يتكلّم عن ذلك، فيما هو المشكلة الكبيرة. المشكلة الحقيقية هي في الاقتصاد الحقيقي، هناك سوء تشخيص يدفعنا إلى اتخاذ إجراءات تدفع ثمنها الشرائح الأوسع.


كمال حمدان؛ اقتصادي والمدير التنفيذي لمؤسّسة البحوث والاستشارات، وهي المؤسّسة التي واظبت على إصدار مؤشّر شهري لأسعار الاستهلاك في نطاق بيروت الكبرى منذ العام 1977 من دون انقطاع، وبالتالي تشكّل قاعدتها الإحصائية مصدراً مهماً لتحليل التضخّم وأسبابه. ويُعتبر حمدان من الاقتصاديين اللبنانيين القليلين الذين حافظوا على خطاب نقدي للنموذج الاقتصادي في لبنان، وتسلّحوا بالعلم والأفكار والتجارب لدحض السرديّات الشائعة والتصدّي للأيديولوجيا المُهيمنة التي لا تخدم سوى إعادة إنتاج الأوضاع التي يشكو منها سكّان لبنان. له مساهمات كثيرة في السجالات الاقتصادية والسياسية، شارك في إعداد تقارير ودراسات، ونشر كتب ومقالات تتناول الأزمة اللبنانية وقضايا العمّال والأجور والأسعار والفقر وغيرها.