فوّاز طرابلسي: قوّة الدولة اللبنانية في ضعفها إلى حدّ بعيد

تطغى سرديّات مُعيّنة على الخطاب الإعلامي في شأن الأزمة وأسبابها ونتائجها. سرديات مُختلفة، ومتعارضة أحياناً، مشوّقة أو فضائحية في حبكتها. لا يتعلّق الأمر بسرديّات الأزمة اللبنانية المُتفاقمة فحسب، بل نسمع في كلّ مكانٍ وزمان عن «التدخّل السياسي في الاقتصاد»، وبالتالي تتردّد مزاعم عزل الاقتصاد عن السياسة والمجتمع. ونسمع عن «الريع» أو «الاقتصاد الريعي» أو «الدولة الريعية»، وما يستتبع ذلك من مُصطلحات ومفاهيم تحاول القول إنّ الاقتصاد عندنا ليس رأسمالياً كفاية، ولا يوجد إنتاج ولا منافسة، وهذه هي أسباب أزمته. ونسمع عن «الفساد» بوصفه مصدر كلّ الشرور، كما لو أنّ الفساد مجرّد عارض جانبي وليس عاملاً بنيوياً في النظام السياسي الاقتصادي. وكذلك نسمع عن العوامل الخارجية كما لو أنّها المُحدِّد الوحيد، وما يحصل هو مؤامرة خارجية يحيكها الأعداء المتربِّصين... لا يوجد في كلّ هذه السرديات قوى داخلية ولا صراعات داخلية ولا هياكل سيطرة واستغلال ولا اقتصاد.

طبعاً، تطول لائحة السرديات الشائعة. وفي الحالة اللبنانية، يمكن وضع السرديات كلّها تقريباً في جبهات مختلفة في الشكل، ولكنّها مُتفقة في جوهرها على أن الأزمة ظرفية ناتجة عن ظروف وعوامل خارجية، خارجة عن إرادة الفاعلين المحلّيين: من جهة، كلّ الأزمة سببها حصار أميركي-سعودي للنيل من المقاومة، ومن جهة أخرى، كلّ الازمة سببها الاحتلال الإيراني بواسطة حزب الله. ومن جهة ثالثة، كلّ الأزمة سببها «طبقة سياسية فاسدة» تبدّي مصالحها ومصالح رعاتها الخارجيين على مصالح أبناء وبنات البلد.

ما هي الأزمة؟ وكيف نعرّفها؟ وأي دور تلعبه السرديّات الشائعة في طمس حقائقها؟ هذا ما نحاول تفكيكه في هذه المقابلة مع فوّاز طرابلسي، المناضل اليساري العتيق الذي تمتدّ تجربته عميقاً في الزمن وتتسع إلى خارج الحدود الجغرافية للبنان، الكاتب والمؤرِّخ والأستاذ الجامعي، المؤلِّف والمترجم للكثير من الكتب والدراسات والمقالات في الفلسفة والتاريخ والسياسة والطبقات الاجتماعية والحركات الثورية والتحرّرية والمذكّرات والتراث والفنون، ورئيس تحرير مجلّة «بدايات»، وكاتب عمود في موقع «صفر» تحت ترويسة «عكس السير».

«الخورجة»

سؤال: إذا سألنا مجموعة كبيرة من الناس أو حتى «الخبراء» عن أسباب الأزمة في لبنان، سوف يأتي الجواب على الشكل التالي: هناك أفراد تعبوا وادّخروا أموالاً ووضعوها في البنوك، التي وضعتها بدورها لدى البنك المركزي، وهذا الأخير وضعها في الدولة، والدولة «سرقوها الحرامية». هذه هي السردية الأكثر انتشاراً ورسوخاً عن أسباب الأزمة، وتبرز إلى جانبها سردية أخرى تتحدّث عن وجود حصار، والدليل هو وقف الدول الأجنبية دعمها المالي للبنان لتضييق الخناق على قسمٍ من اللبنانيين ممانع ومقاوم. وفي مواجهة هذه السردية هناك طبعاً من يعتبر أنّ لبنان مُحتلّ، أو مخطوف من إيران وحزب الله… من دون أن ننفي وجود فساد أو دور حاسم للعوامل الخارجية في الأزمة اللبنانية، أين الخطأ في هذه السرديات؟

جواب: سوف أبدأ من الرواية الثانية التي تتحدّث عن العقوبات، وهي موجودة فعلاً وتطال فئة من اللبنانيين مُتّهمة دولياً بالإرهاب، لكن الترويج لهذه النظرة ينطلق من إلقاء المسؤولية على الخارج، وقد تفاقمت هذه الطريقة بالتوازي مع بروز جبهة المُمانعة وممثّليها المحلّيين، إذ لا يُنظر إلى لبنان إلّا من خارج ما، يُسمّى الإقليم. وأعتقد أن هذا الموضوع لا يفيد بفهم الأزمة، بل يغطّي على أسبابها. والأفدح أنّ من خلال تصوير إنتفاضة 17 تشرين على أنها من تدبير خارجي، نجحت قيادة حزب الله في إخراج عشرات الألوف من فقراء الشيعة من ساحات الاحتجاج. وهذا يعطي فكرة عن قوّة نفوذ «الخورجة»، وهي الاسم الآخر للذهنية المؤامرتية.

لا يُنظر إلى لبنان إلّا من خارج ما، يُسمّى الإقليم. وأعتقد أن هذا الموضوع لا يفيد بفهم الأزمة، بل يغطّي على أسبابهاأمّا الوجهة التي يتبنّاها القسم الثاني وتختصر السلطة بالفساد، فهي ليست سردية بل تسمية. والتسمية كائن أيديولوجي فعّال لأنه يعطي معنى دائماً وثابتاً وجوهرياً للشيء دونما حاجة إلى إثبات. والأحرى أنه يحوّل المعنى إلى تعريف كما في القواميس. وهكذا تتحوّل آليّات مُعقّدة وسياسات تراكمت عبر عقود من الزمن إلى تهمة أخلاقية تعيب السرقة وتطالب بمحاسبة المسؤولين أو بتنحّيهم من السلطة. 

هذه مقاربة تمنع أي دراسة فعلية لموضوع الفساد وكيفية مكافحته والحدّ منه. والأدهى، أنّ قسماً كبيراً من الاحتجاج ينصبّ على الفساد في الدولة وعلى حساب الدولة. وهذا يغطّي سائر عوامل الأزمة الأخرى والعدد الأكبر من أشكال الاستغلال في العمل والسوق والفوائد على الديون والغلاء والاحتكار والتمييز والنهب والاستحواذ على الأملاك العامّة ونمو الفوارق الطبقية والمناطقية في المجتمع وعلى حساب الأكثرية الشعبية.

يُعرَّف الفساد على أنّه تربّحٌ من خلال المال العام واستغلال السلطة السياسية لبناء مصالح اقتصادية. وأي كلام جدّي يجب أن ينطلق من هنا. يوجد في التشريعات اللبنانية قانون يطالب به الشعب منذ العام 1946 وهو القانون المُسمّى «من أين لك هذا؟». أُقِرّ في العام 1965، وجُدِّد في التسعينيات باسم قانون «الإثراء غير المشروع»، وهو يفرض على كلّ موظّف عام بدءاً من رئيس دائرة إلى رئيس الجمهورية أن يقدِّم تصريحاً بأمواله المنقولة وغير المنقولة عند تسلّم مهامه، يوضع في ظرفٍ مختوم ويودع لدى المجلس الدستوري – والمجلس بالمناسبة ليس مُلزماً بالتصريح عن استلام التصاريح – الذي يضعه بدوره لدى البنك المركزي. وفي حال تجرّأ أحدٌ ما وأقام دعوى على موظّف عام، يُفتح الملف وتُقارن الأموال المُصرّح عنها بالأموال المُكتسبة خلال الوظيفة. أمّا إذا رُدَّت الشكوى بالشكل أو لم يتبيّن أنّ ثمّة دخلاً غير مشروع، فيتوجّب على رافع الشكوى دفع غرامة مالية مُرتفعة. والمفترض هنا أيضاً أنّ ثمّة هيئة تدقّق في أموال الموظّف عند انتهاء مهلة خدمته لمعرفة ما إذا كان جنى أموالاً من خلال الوظيفة. وليس واضحاً بعد ما إذا كانت هيئة قضائية تُمارس صلاحيّاته بغضّ النظر عن وجود شكاوى.

قسم كبير من الاحتجاج ينصبّ على الفساد في الدولة وعلى حساب الدولة، وهذا يغطّي سائر عوامل الأزمة الأخرىوطبعاً لم تقدّم أي دعوى منذ إقرار القانون إلى الآن. لكن المسألة ليست هنا فقط. بل في كيفية التعامل مع هذا القانون من قبل النواب بمن فيهم نواب «التغيير». في انتخابات العام 2018 أعلن عدد من النواب الجُدد أنهم صرّحوا عن أموالهم، أمّا النواب الجُدد المُنبثقين عن انتخابات العام 2022 فلم يتكبّدوا حتّى عناء تقديم بيانات بأموالهم المنقولة وغير المنقولة أو أن يطالبوا زملاءهم بذلك. أمّا الذين نبّهوا على هذا الغياب الفاضح فجاءهم من يعيّرهم بأن المسألة نقطة في بحر. وأنّ ما من شيء سيتغيّر. إذا لم يتغيّر شيء على هذا الصعيد البسيط، فهل سيتغيّر ما هو أعمق وأشمل؟

ثم أنّ القوانين كلّها تُجرِّم الفاسد، الموظّف المرتشي والسياسي المُنتفع من السلطة ومستخدم النفوذ للكسب الشخصي. يوجد في القانون فاسدون ولا يوجد مفسِدون. الفساد هو تلقّي مال لقاء التلاعب على القانون، أو تمرير صفقة خارج الشروط المُتعارف عليها، أو عقد شراكة بين سياسي ورجل أعمال لأخذ تعهّد من تعهّدات الدولة، أو استغلال وزير لمنصبه لشراء قطاع عام جرى تخصيصه (قطاع البريد مثلاً)، أو الاستيلاء بواسطة سلطة المال والسياسة معاً على ملك من أملاك الدولة، أو تفضيل مُتعاقد على آخر لنفوذه السياسي، أو أخذ خوّة سياسية من رجل أعمال لتيسير أعماله أو مساعدته على التهرّب الضريبي أو إلزامه بمنح السياسي حصّة في مؤسّسته، أو الإفادة من معلومة سرّية عن مشروع شقّ طريق لشراء الأراضي المُحيطة بها، إلخ. وهذه كلّها تفترض شراكة ما وعلاقة وتواطأ بين المال والسلطة، بين رجال الأعمال والسياسيين. ومع ذلك المساءلة والمحاسبة والعقاب، إذا حصلت، فإنها تطال الفاسد.

تشير كلّ الدلائل إلى ارتفاع معدّلات الفساد عالمياً خلال العقود الأربعة الماضية من عهد النيوليبرالية، ومن خلال التداخل المُتزايد بين عالم الأعمال وعالم السلطة، وجرّاء «الإصلاحات الهيكلية»، والخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وغيرها. وهي معدّلات تنبئ بها المؤسّسات المالية والتنموية الدولية، لكن عندما يتعلّق الأمر برجال الأعمال، فإنها لا تعترف بتجريم المفسِد بل تدعو إلى تنمية «أخلاقيات البزنس». أمّا باقي الإجراءات فهي من قبيل «داوني بالتي هي الداء»، أي مكافحة الفساد بالمزيد من الإجراءات النيوليبرالية، مثل اعتماد ميزانيات متواضعة تُخفّض فيها البنود الاستثمارية، أو ترشيق جهاز الدولة وصرف الموظّفين، وتلزيم مؤسّسات حكومية للقطاع الخاص، وتخلّي الدولة عن دورها في التوزيع الاجتماعي والخدمات الاجتماعية، ووقف الدعم الحكومي للمواد الغذائية والمحروقات، إلخ.

تنتمي هذه المقاربة إلى تيّار سائد يتذرّع بالاقتصاد السياسي ليمارس مقاربة سياسية للاقتصاد. وهذه عيّنة. فانطلاقاً من الفساد يجري تعريف النظام اللبناني على أنه «نظام طائفي توزيعي» أو أننا نعيش في ظل «نمط إنتاج سياسي» في تعبير آخر. وكلاهما يشير إلى أن السياسي يسرق من مال الدولة للتوزيع على جمهوره بقصد كسب الولاء.

النظام التوزيعي الذي يعمل في ظل الرأسمالية النيوليبرالية وسيطرة الأوليغارشيا الحاكمة، هو نظام التوزيع غير المتكافئ للمداخيل والثرواتهذا النظام التوزيعي يمنح الفاسدين من السياسيين صفة الغيرية وهي ليست لهم. إذ يجري التمثيل على هذه النزعة إمّا باستخدام أموال الفساد للإنفاق على الانتخابات النيابية وإمّا بـ«الصناديق» التي أنشأت بعد الحرب، مثل صندوق الجنوب وصندوق المهجّرين، لتوزيع التعويضات والمساعدات على سكّان مناطق معيّنة من لبنان برعاية قادة سياسيين معينين. أمّا الممارسة العينية للفساد السياسي فتقود إلى بناء مصالح اقتصادية من خلال السلطة وهي ظاهرة تفاقمت بعد الحرب ومع استلام الميليشيات للسلطة. أي أن السياسيين يتربّحون من خلال السلطة للفائدة الشخصية أولاً. وهذا وجه واحد من تكوّن سلطة ما بعد الحرب. إذ دخلت أعداد متزايدة من رجال الأعمال إلى التمثيل السياسي المباشر، بما هم نواب ووزراء ورؤساء حكومة، ممّا زاد نفوذهم في السلطة وسهّل استغلالها خدمة لمصالحهم الاقتصادية. في المقابل، ترسمل سياسيون أو رجال ميليشيات أو قادة حزبيون من خلال استخدام نفوذهم في السلطة لبناء مصالح اقتصادية بوسائل شتّى وارتقوا من موقع اجتماعي-طبقي إلى موقع أرقى.

ولكن شتّان بين هذا النظام التوزيعي «الاقتصادي-السياسي» والنظام التوزيعي الاقتصادي والاجتماعي الفعلي. فهو يشكّل نسبة متواضعة منه، إلّا أنه يغطّي عليه. والنظام التوزيعي الذي يعمل في ظل الرأسمالية النيوليبرالية وسيطرة الأوليغارشيا الحاكمة، هو نظام التوزيع غير المتكافئ للمداخيل والثروات، والموارد والخدمات وفرص العمل والأمل بين اللبنانيين، ونظام البطالة والإفقار - تقدّر نسبة الفقر بنحو ـ80% وما من عالِم اقتصاد يتعجّب من الرقم أو خبير يعالج! - وتهجير الشباب، ونظام النمو المتفاوت بين مدينة وأرياف، ومركز وأطراف، ونظام الفوارق الطبقية التي تزداد اتساعاً. ولا حاجة لمزيد. هذا هو نظام التوزيع الاقتصادي الاجتماعي اللبناني بإدارة السلطة السياسية. وهو نظام تلعب فيه الطوائف دورها بما هي قنوات ثانوية للتوزيع الاجتماعي.

تلفيق الصفة الريعية 

سؤال: من بين السرديات التي طغت أيضاً لتفسير الأزمة وإعطاء الحلول، تبرز ثنائية: الاقتصاد الريعي الذي قضى على الاقتصاد المُنتج، وضرورة التحوّل إلى اقتصاد مُنتج للخروج من الريع. في حين، أن التدقيق بتركيبة الاقتصاد اللبناني عشية الانهيار يتبيّن أن الريع، بالمعنى الاقتصادي، قد يشكّل 20% من مجمل الاقتصاد، أقل قليلاً أو أكثر قليلاً، فيما تستحوذ الصناعة والزراعة على 16% منه، وتذهب الحصّة الأكبر للخدمات، وهي إنتاج خدمي وليس ريعاً. كيف تفكّك هذه السردية؟ وهل الانتقال إلى اقتصاد منتج يمنع حصول أزمات جديدة أو تراكم في الثروة وتجذّر في اللامساواة في ظل نظام اقتصادي نيوليبرالي؟ وهل الريع يعدُّ المشكلة الفعلية التي يعاني منها لبنان؟

جواب: يجب الانطلاق من البداية، خصوصاً أنّ التمثيل المُعتاد على الريع هو بكونه عائدات العاملين اللبنانيين في الخارج، بينما الريع هو ما يُجنَى من السيطرة على المكان أو مداخيل متأتية من دون عمل. في لبنان، ومثل أي بلدٍ منتجٍ، العاملون في الخارج هم جزءٌ من الاقتصاد العائلي. الأسرة هي الخليّة العاملة في الرأسمالية اللبنانية، بدءاً من الإنتاج السوقي العائلي الصغير والمتوسط في الزراعة والحرف، الذي يستعين بعمّالة وافدة أو لا يستعين، وصولاً إلى كبريات الشركات الرأسمالية وشركات الهولدينغ وهذا كلّها تقريباً شركات عائلية. وقد احتسبت في دراستي عن الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان 30 شركة هولدينغ عائلية تسيطر على قمم الاقتصاد في المال والخدمات والعقار.

تحويلات المغتربين والعاملين في الخارج هي نتاج عمل وليست ريوعاً. ولها أدوار ووظائف متعدّدة في سدّ حاجات متنوّعة في الاقتصاد المنزليتحويلات العاملين في الخارج هي ظاهرة موجودة منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، عندما فشلت العامية الشعبية (1821-1861) في رفض توزيع الأراضي على من يفلحها، وترسملت الزراعة وقضت على قسمٍ كبير من الاقتصاد الكفافي. في حينها تمّ التوقّف عن زراعة المحاصيل الغذائية في جبل لبنان، وتمّ التحوّل إلى زراعة شجر التوت لإطعام دود القز مع نمو اقتصاد الحرير الذي يُنتج سلعاً نقدية ينبغي بيعها في السوق والحصول على نقد مقابلها. وهكذا لم يعد الإنتاج المحلّي يُلبّي الحاجات الغذائية المحلّية، وجرى الاعتماد على استيرادها الخارجي. بسبب رسملة الزراعة والتحوّل نحو الاستيراد، بدأت الأسر ترسل أولادها ونساءها إلى الاغتراب للعمل وإرسال الأموال في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وتحوّل قسمٌ من اليد العاملة من الاقتصاد العائلي والمنزلي، وتحديداً النساء والفتيات، إلى يدٍ عاملة مأجورة في معامل الحرير. بدأ سكّان جبل لبنان يستوردون القمح والحبوب من البقاع أو حوران. وهذا ما يُفسِّر الوقع المضاعف للمجاعة على سكّان جبل لبنان، قياساً بسائر مناطق السلطنة العثمانية، خلال الحرب العالمية الأولى.

لذلك، تحويلات المغتربين والعاملين في الخارج هي نتاج عمل وليست ريوعاً. ولها أدوار ووظائف متعدّدة في سدّ حاجات متنوّعة في الاقتصاد المنزلي مثل الإعالة، والتعليم، والاستشفاء، والادخار، والاستثمار في مشاريع متفاوتة الحجم، والإنفاق الاستهلاكي والارتقاء الاجتماعي، إلخ. علماً أنّنا لا نعرف توزيع النسب المئوية بين هذه الاستخدامات.

لكننا هنا أيضاً نعود إلى التعميم. يُعرّف الاقتصاد اللبناني على أنه اقتصاد ريعي بناءً على أنّ تحويلات العاملين في الخارج تشكّل نسبة لا تتعدّى 8 إلى 15% من الناتج الوطني الإجمالي قبل 2019، والقياس هو ثنائية ريعي/إنتاجي. والواقع أن الاقتصاد اللبناني لا هو هذا ولا هو ذاك، إنه اقتصاد يستحوذ فيه قطاع الخدمات على نحو 80% من الناتج الإجمالي ولا يشكّل قطاع الخدمات المالية أكثر من 20% من ذلك القطاع. والأفدح لدى دعاة الثنائية أنهم يتغاضون عن ألف باء الاقتصاد بتغييب المكوّنين الرئيسين للاقتصاد: العمل والربح.

والأفدح أن موضوع ريعية الاقتصاد يُقدَّم على أنه أحد عوامل الأزمة ليُقارن بالصواب الاقتصادي والحلّ «الطبيعي»، وهو الاقتصاد الإنتاجي. ويجرى التغاضي عن حقيقة أن تحويلات العاملين في الخارج تخفِّف من وطأة الأزمة طالما أنها تسدُّ الثغرة بين المستوردات والمُصدرّات وهي من أسباب خروج الدولارات والمديونية.

النزاع على خيارات الاقتصاد اللبناني قديم، بدأ مع تخيّل لبنان بُعيد الحرب العالمية الأولى (الارتقاء من المتصرفية إلى «لبنان الكبير» في ظل الانتداب الفرنسي)، وتحوّل إلى صدام حقيقي بين خيارات مُتباينة مع الاستقلال. وفي الحالتين وُجِد تيّار يدعو إلى توفير مقدار من الاكتفاء الذاتي الزراعي تحت وطأة ذكريات المجاعة - وهي السبب في ضمّ سهليْ البقاع وعكار إلى لبنان الكبير - ودعا اقتصاديون روّاد في تلك المرحلة إلى استغلال ثروة لبنان المائية للريّ وتوليد الكهرباء وبناء السدود، واعتماد الزراعة والصناعة مرتكزاً لاقتصاد وطني مستقل.

الذين يتباكون الآن على الاختلال في ميزان المدفوعات أحرى بهم البدء من تلك السياسات التأسيسية الليبرالية للعهود الاستقلالية الأولى التي غلّبت التجارة والمال والعقار على الزراعة والصناعةلكن هذه الرؤية غرقت في طوفان المديح لـ «المعجزة اللبنانية» وشعار «اللبنانيون تجّار منذ ست آلاف سنة» و«نتاجر مع الآلهة» و«معجزة» بلد يستورد كلّ حاجاته ولا يصدّر شيئاً ويستمرّ مع ذلك في العيش بشكل طبيعي. حينها كانت تحويلات العاملين في الخارج مختلطة إحصائياً بأموال التهريب وتسجّل تحت بند «عائدات غير منظورة!» وقد بدأ لبنان يلعب دوره، كملاذ مالي في ظل قانون السرية المصرفية.

عندما سيطرت الرأسمالية الاستيرادية على السوق المحلّية طُرِدت الصناعة تدريجياً منها وأجبرتها على البحث عن نصيبها في الأسواق الخارجية. ومن ضحايا تلك الفترة تدمير صناعة النسيج. والذين يتباكون الآن على الاختلال في ميزان المدفوعات أحرى بهم البدء من تلك السياسات التأسيسية الليبرالية للعهود الاستقلالية الأولى التي غلّبت التجارة والمال والعقار على الزراعة والصناعة. وقد نظّر لها أمثال ميشال شيحا وطبّقها بواسطة السلطة السياسية  («جمهورية التجّار») كلّ من بشارة الخوري ورياض الصلح وحسين العويني متكافلين متضامنين.1  

وهذه الأوليغارشية من الأسر المالية التجارية ذاتها، وما ارتبط بها من أحزاب وصحف، عارضت الإصلاحات الشهابية، تارة باسم الاقتصاد الحرّ وتارة باسم الأسبقية المسيحية في الحكم، ودوماً باسم العداء للناصرية، ثمّ دمّرت كلّ الأجهزة التنموية والرقابية والمحاسبية التي أنشئت في العهد الشهابي بما فيها الانقلاب في دور المصرف المركزي والمصارف الذي بدأ مع مجيء رفيق الحريري بوكيله المالي في شركة ميريل لينش ووضعه على رأس مصرف لبنان. 

تفسَّر الأزمة بتلفيقات لها علاقة بالقطاع الريعي ربطاً بتوجّه البنوك نحو إقراض الدولة عوضاً عن القطاعين الزراعي والصناعي. إلّا أن ذلك مرتبط بأمولة البنوك ولا علاقة له بالريع. والحال أن تعديل دور المصارف في المضاربة المالية والعقارية والتسليفات التجارية ليكون لها دور في إقراض القطاعات المُنتجة، يستدعي إجراءات وتشريعات تتطلّب تدخّل الدولة مباشرة في التشريع وإصدار المراسيم، أو من خلال سياسات المصرف المركزي، أو أنّها تتطلّب مبادرات من القطاع الخاص. في العادة تنتشر فروع المصارف في الأرياف لاصطياد ودائع من يتلقّى تحويلات مالية خارجية بالدرجة الأولى. وتدعم الدولة ومصرفها المركزي التسليف العقاري بواسطة المصارف، ولا يوجد دعم للتسليف الزراعي والصناعي. وللتذكير: في زمنٍ سابق وجدت مصارف زراعية وصناعية تتخصّص في تسليف القطاعات المُنتجة وقد جرفتها الموجة النيوليبرالية بعد الحرب.

لا يوجد بلد ينمو فيه القطاع الإنتاجي بلا حماية جمركية. تحمي الولايات المتّحدة، أغنى بلد في العالم، قطاع المنسوجات لديها برفع الرسوم الجمركية بوجه الأنسجة الواردة من بنغلاديش، أحد أفقر بلدان العالم. وتحمي قطاع الصلب بالحواجز والرسوم الجمركية بوجه الصلب الأوروبي. أمّا في لبنان، في عهد إعادة الإعمار، فقد أُلغِيت معظم تلك الحمايات الجمركية واستعيض عنها بإعفاء بعض المواد الأولية المُعدّة للصناعة. وتكرّس في المقابل، دور الصناعة التصديري بإنشاء مؤسّسة «إيدال» لدعم الصادرات والتي تكشّف أنها لم تقم بأي إنجاز يذكر.

والأهمّ في مسألة الاقتصاد الإنتاجي هو سيطرة الشبكة التجارية عليه ومنافسة السلع الزراعية المستوردة للسلع المنتجة محلّياً. على سبيل المثال، يُسمح للتجّار في خلال المواسم الزراعية اللبنانية باستيراد المنتجات الزراعية نفسها، بالضدّ من تشريعات تحمي الإنتاج المحلّي وتمنع الاستيراد خلال مواسمه. وممّا يزيد من أكلاف الإنتاج الزراعي هو إلغاء التصنيف الزراعي للأراضي، أو إهمال تطبيقه، وتحوّل الأراضي الزراعية إلى أراضٍ مُخصّصة للبناء، ما يرفع من الكلفة الإجمالية لريع الأرض. وهناك التهريب الذي ينافس الإنتاج المحلّي، وتكاثر عدد الوسطاء، واحتكار وكالات الآلات والأدوات والأدوية الزراعية، وغيرها.

تفسَّر الأزمة بتلفيقات لها علاقة بالقطاع الريعي ربطاً بتوجّه البنوك نحو إقراض الدولة عوضاً عن القطاعين الزراعي والصناعي. إلّا أن ذلك مرتبط بأمولة البنوك ولا علاقة له بالريع

لنضع كل هذا في إطاره. برزت ثنائية ريع/إنتاج لدى المؤسّسات المالية والتنموية الدولية مع العصر النيوليبرالي والاتجاه الجديد للرأسمالية العالمية لتفريع الإنتاج الصناعي ونقل مصانعها إلى دول القارات الثلاث لتفادي قيود وتشريعات العمل في البلدان المتقدّمة بما فيها من ضمان ديمومة العمل وحقوق العمل النقابي والإضراب، والتخلّص من إشتراكات الضمانات الاجتماعية والصحّية وتعويضات البطالة والتقاعد، وهي جميعها مكاسب أُحرِزت بفضل نضالات عمّالية وشعبية ومن ثمار دولة الرفاه التي سادت في معظم دول أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

قبل ذلك، وخلال قسمة العمل الدولية بين بلدان تصدِّر المواد الأولية والزراعية وبلدان تنتج السلع المُصنّعة، والتبادل غير المُتكافىء بينهما، كان الغالب هو مفاهيم التنمية المختلفة. مع النيوليبرالية أزيحت التنمية، على اعتبارها تتطلّب التخطيط الاقتصادي وتدخّل الدولة، وحلّ محلها «النمو» الذي ينتج تلقائياً عن آليّات عمل السوق وتدفّقات الاستثمارات الخارجية المباشرة، بعد تنفيذ «الإصلاحات الهيكلية». وتلقّف خبير دولي ما مقولة جاهزة هي «الدولة الريعية» التي يعلكها الفكر السياسي والاقتصادي منذ الخمسينيات في تعميمه لنموذج الدولة النفطية على مجمل العالم العربي واعتباره تفسيراً لغياب الديمقراطية فيه. وباتت الاقتصاديات العربية ريعية وليس دولها وحسب.

وإذ يثور السؤال عن النموذج المُعتمد لتشجيع نمو القطاعات المُنتجة، لن نلقى غير ذلك الذي انبنى عليه مشروع إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية: مشاريع تشييد أبنية تحتية تحفِّز تدفّقات الاستثمارات الخارجية المباشرة التي سوف توظّف في القطاعات الإنتاجية. حصل ذلك. لكن التدفّقات اتجهت نحو القطاعات الأكثر ادراراً للربح وهي مدنيونية الدولة والمضاربة العقارية والسياحة، وبالنادر نحو القطاعات الإنتاجية. وانسحب قسم كبير من تلك الأموال عندما انخفضت معدّلات الفائدة على سندات الخزينة. وهذا هو القانون الحديدي للرأسمالية. والغريب في الأمر أن ما كان مقترحاً من «أصدقاء لبنان» قبل العام 2019 في «مشروع سيدر» لا يكاد يختلف عن مشروع التسعينيات من القرن الماضي: بنى تحتية بنحو 11 مليار دولار تستدرج استثمارات خارجية مباشرة!

  • 1راجع السجال حول الخيارات الاقتصادية والاجتماعية عند نشوء «لبنان الكبير» وفي خلال عهد الاستقلال الأول في العدد الخاص من مجلة «بدايات» عن مئوية لبنان، 2020؛ ووثائق الاوليغارشية اللبنانية في عهد الاستقلال الأول، «بدايات»، العددان 35 و36.

الدولة موجودة 

سؤال: تقول إحدى السرديات الرائجة لتحديد المسؤوليات عن الأزمة إنّ «الحق على الدولة الفاشلة» إمّا لأنها مخطوفة من زعماء طوائف وأمراء حرب، أو لأنها غير موجودة، أو لأنها فاقدة للمشروع. وفي المقابل يكون الحلّ إمّا بالدولة نفسها عبر استرجاعها من خاطفيها وبنائها على أسس ديمقراطية وعصرية ومدنية والانتقال إلى دولة والقانون، وكأن الدولة وفق هذه المقاربة المثالية هي بمثابة ملاك حارس أو حَكَم يتموضع بين الأخيار والأشرار ليحقّق العدالة، أو بالاستغناء عن الدولة كلّياً إلّا ضمن الوظائف التي تخدم تراكم رأس المال، فالكثير من الوصفات التقنية التي تُعرض على خلفية هذه السردية تطرح قيام سلطة التكنوقراط لإجراء الخصخصة والتقشّف وإعادة الهيكلة.
ما هي الدولة أصلاً؟ وما هو القانون ومن يضعه ومصالح من يخدم؟ وهل يمكن للدولة أن تكون المعبر نحو مجتمع مُستقرّ بمعزل عن البنى المجتمعية نفسها وموازين القوى الموجودة داخل المجتمع؟

جواب: هذه الثنائية قديمة. لطالما اشتهى اللبنانيون الدولة ونبذوها في الوقت نفسه. هذا فصام عريق في الحياة العامّة، ووجهه المعاصر ثنائية بناء الدولة/شيطنة الدولة. يؤجِّل الأوّل الإصلاح والتغيير إلى ما لا نهاية باسم البناء أو يحلم بانقلاب عسكري تكنوقراطي يُكرِّر التجربة الشهابية. والثانية هي الجديد النيوليبرالي الذي يحمّل الدولة والسياسة والسياسيين المسؤولية في كلّ الأزمات، ومنهجه قراءة سياسية للاقتصاد. وقد مرّ علينا مثالين عنها أعلاه: الفساد السياسي حيث يوجد فاسدون بلا مفسدون، وتعريف النظام اللبناني على أنه نظام توزيعي طائفي وسياسي، وهو نظام سياسي يغيّب نظام التوزيع الاقتصادي-الاجتماعي. والأمثلة عديدة على هذه السياسوية: تحميل الاحتكار السياسي المُسمّى «محاصصة» المسؤولية عن الاحتكار الاقتصادي، ونفي وجود طبقات لأنها لا تملك مشروعاً سياسياً، إلخ.

السؤال عن ماهية الدولة شرعي، نظراً لشحّ التشخيص للدولة والمجتمع وكثرة الاختزال والتبسيط والتعميم في آنٍ معاً. يمكن الاكتفاء هنا بالبدء من البداية وتسجيل عدد من نقاط الاستدلال.

لطالما اشتهى اللبنانيون الدولة ونبذوها في الوقت نفسه. هذا فصام عريق في الحياة العامّة، ووجهه المعاصر ثنائية بناء الدولة/شيطنة الدولةفي لبنان دولة، وهي تمارس دورها الأساسي كدولة في الحفاظ على الأمر الواقع بين حكّام ومحكومين لصالح الأولين، وفي إعادة إنتاج مؤسّساتها وقوانينها لسيطرة القلّة على الكثرة وهيمنتها عليها. هذا من جهة. من جهة أخرى، تؤدّي هذه الدولة دورها في الحفاظ على نظام التراتب الطبقي والطائفي والمناطقي وإعادة إنتاجه (الموسّعة) دورياً. يجري ذلك في ظل سيطرة طبقة حاكمة أوليغارشية مكوَّنة من تحالف وتشابك مصالح بين مصرفيين ومستوردين وعقاريين يسيطرون على قمم الاقتصاد وأحزاب سياسية صادرة عن الحرب توظّف قواها العسكرية وطاقتها التعبوية وأيديولوجياتها الطائفية والطبقية في خدمة الحفاظ على النظام بوجهيه الاقتصادي والطائفي.

يتولّى الحكم مؤسّسات جمهورية (برلمان، جهاز تنفيذي رجراج بين رئيس جمهورية ومجلس وزراء، وقضاء) مدعومة بالدستور والقوانين (القمع الصامت) والإعلام (القمع الثرثار) وبالجيش وأجهزة أمن، (القمع الاحتياطي السافر). ومع أنّ الأحزاب الحاكمة تتنافس فيما بينها على السلطة والمال إلّا أنها متضامنة عادة في وجه المحكومين. فحتى لو كانت الطبقة الحاكمة منقسمة وعاجزة عن الفعل الموحّد، فلا قيمة عملية أو استراتيجية لذلك بالنسبة لقضية التغيير، إن لم يكن للمحكومين قوة منظّمة بديلة قادرة على الإفادة من هذا الانقسام وذاك الضعف.

الدولة اللبنانية – بما هي دولة الاقتصاد الحر والنظام الطائفي – ضعيفة أصلاً، والسبب أنها  متخلّية عن وظيفتين أساسيتين من وظائف الدولة الحديثة: تخلّيها عن سيادتها القانونية على الأحوال الشخصيّة (زواج، طلاق، إرث، إلخ.) لصالح 18 مذهباً تطبّق شرائعها على «الأهلين» في محاكمها وأجهزتها القضائية المستقلّة؛ ومتخلية عن دورها الأولي في الحياة الاقتصادية الحديثة بما هي قوة رادعة لمفاعيل السوق على المجتمع، وعن دورها في التنمية والتخطيط الاقتصادي والتوزيع الاجتماعي، إلّا في حدودهما الأدنى. والمعني بعدم تدخّل الدولة في الاقتصاد، في العصر النيوليبرالي، هو أنها تتدخّل في الاقتصاد لتطبيق «الإصلاحات» النيوليبرالية لصالح المُمسكين بالسلطة والمال.

في لبنان دولة، وهي تمارس دورها الأساسي كدولة في الحفاظ على الأمر الواقع بين حكّام ومحكومين لصالح الأولين، وفي إعادة إنتاج مؤسّساتها وقوانينها لسيطرة القلّة على الكثرة وهيمنتها عليها والدولة اللبنانية ضعيفة لسببن إضافيين. السبب الأول هو الاختلال في مراكز السلطة الناتج عن الدستور الجديد والانقلاب عليه الذي توِّج بوصول ميشال عون إلى الرئاسة باسم «الرئيس القوي» والذي أطلق نزاعاً بين مكوِّني السلطة التنفيذية، رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، وأدّى ويؤدّي إلى شلل بفعل قوّة التعطيل التي يملكها الطرفان. وقد زحل مركز السلطة نحو المجلس النيابي، في خلال الأزمة الأخيرة، ومعه زحل مركز الثقل في الدور السياسي لجمعية المصارف وغرف التجارة والصناعة.

والسبب الثاني هو تغوّل الشبكات المافياوية على الدولة والمقصود بها كلّ الممارسات غير الشرعية الكاسرة للقوانين والمانعة للمساءلة والمحاسبة والعقاب بغرض تسهيل مصالح اقتصادية أو الحصول على منافع أو تسهيلات عن طريق كسر قوانين الدولة من طرق تكتلات داخل الدولة ذاتها في مجالات من مثل التهريب، وتبييض الأموال، أو عن طريق كارتيلات النفط والغاز والطحين، وحماية المجرمين، وغيرها.

في خلاصة الأمر، الدولة اللبنانية قوّتها في ضعفها إلى حدّ بعيد. وهذا يفتح المجال واسعاً أمام التأمّل والمزيد من التدقيق فيها وفي آليّاتها والبحث في تناقضاتها وما تثيره من تحدّيات وإمكانات من منظار مصالح الأكثرية الشعبية وتطلّعاتها إلى التغيير

… والمعارضة غير موجودة

سؤال: أمام هذا الواقع، هناك من يعتبر أن الحلّ هو بقلب موازين القوى إنّما من دون تقديم آليّات لكيفية قلب هذه الموازين. كيف تُبنى الموازين أو تقلب لكي يتمكّن الفريق الرابح من السيطرة على الدولة أو استخدامها للتشريع لصالحه أو لصالح الفئات التي يمثّلها؟

جواب: لا يوجد شيء اسمه مشكلة وحلّ. هذا حديث خبراء. حديث المعارضين والعاملين على التغيير هو حديث تحديد الأهداف، وهذا يعني دوماً تعيين أولويات، ورسم المسارات وبناء القوى وتكتيلها والبحث عن الوسائل الأشدّ فاعلية للتنفيذ. هذه تسمّى استراتيجية. وهي تتطلّب الإجابة على أسئلة افتراضية، تُسمّى تكتيكية عادة، من موقع قوى التغيير أبرزها: ما الذي تتيحه الأزمة؟ الهجوم أم الدفاع أم الكمون أم المقاومة؟ ما المُمكن؟ صدّ هجمات؟ أم تخفيف خسائر؟ أم الإصلاح أو إحداث ثغر في النظام تتيح البناء عليها لزيادة المكاسب ورفع الثقة والمعنويات لدى الناس بإمكان تحقيق إنجازات وكسب معارك جديدة؟ إلخ.

لا يوجد شيء اسمه مشكلة وحلّ. هذا حديث خبراء. حديث المعارضين والعاملين على التغيير هو حديث تحديد الأهداف، وهذا يعني دوماً تعيين أولويات، ورسم المسارات وبناء القوى وتكتيلها والبحث عن الوسائل

أمّا عن موازين القوى، فهي تقوم بين «قوى»، وقلب موازين القوى يفترض وجود قوتين أو أكثر. القوة الأولى موجودة. تعرفنا عليها أعلاه. أين القوّة الثانية؟ لذا قلت أن الأسئلة التكتيكية إفتراضية. لم تنجح الانتفاضات الشعبية منذ العام 2011 في بناء معارضة. يتحمّل عدد من الأحزاب والقوى والتنظيمات التي شاركت في قيادة تلك الانتفاضات قسطاً من المسؤولية، في التشخيص والتصوّر والسلوك. أجمعت على شعار واحد ومطلب واحد في انتفاضة 17 تشرين وهو «حكومة انتقالية ذات صلاحيات تشريعية»، في تصوّر إنقلابي يفترض أن النظام قد انتهى والمطلوب تأمين انتقال «سلمي» إلى نظام جديد. حتى أن أحد الأطراف، من فرط نزعته السلمية، أخذ يناشد رئيس الدولة بالتنحّي وتسليم السلطة! إلى هذا يجب أن يضاف لون من الشعبوية الشبابية تُكرِّر عدداً ممّا استوعبته من أيديولوجية المجتمع المدني والتعاليم النيوليبرالية، بعضها منقول عبر الأناركية الفردانية الأميركية، وهذه أبرزها: رفض الأحزاب، الفردانية - أنا القائد، رفض القيادة، شيطنة الدولة. والوسائل: إننا ننتزع ولا نطالب، والتكتيك الأوحد المنسوب إلى الثورات المخملية في أوروبا الشرقية وهو احتلال البرلمان أو ساحته، إلخ.

للعبرة وتقدير كلفة الإصلاح وشروطه وقواه، قبل البحث في قلب موازين القوى وتغيير النظام والاستيلاء على السلطة: هناك أكثر من مليوني فرنسي في الشارع منذ أكثر من شهر بدعوة من تحالف أحزاب شعبية واتحادات نقابية ذات صفة تمثيلية عالية. والهدف واحد: منع البرلمان من رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة. وهذا فعل مقاومة للحفاظ على مكسب اجتماعي وليس فعل تغيير.

أمّا عن موازين القوى، فهي تقوم بين «قوى»، وقلب موازين القوى يفترض وجود قوتين أو أكثر. القوة الأولى موجودة. تعرفنا عليها أعلاه. أين القوّة الثانية؟

الخلاصة: بناء القوة يبدأ بتأسيس الأحزاب وإعادة بناء النقابات العمّالية انطلاقاً من أماكن العمل وخوض معارك إعادة الاعتبار للنقابية الطالبية وتفعيل العمل في النقابات التعليمية والمهنية. هناك منظّمات غير حكومية معظمها مموَّل من دول غربية تعادي الأحزاب، فيما أنظمة البلدان التي تموِّلها أو تستلهم أنظمة الحكم فيها قائمة على ممارسة السلطة وتداولها بين أحزاب سياسية. وهي تبشّر بالتعددية والرأي والرأي الآخر والديمقراطية ولا تمارسها في حياتها الداخلية. لن توجد ديمقراطية ولن يوجد إصلاح أو تغيير من دون حياة حزبية ومن دون نقابات ومن دون الاتكال على الضغط الشعبي المُبادر والخلّاق والمُنظّم.

صراع طبقي من فوق

سؤال: في مقابل سردية تحميل المسؤولية للدولة، تبرز سردية مقابلة تحمّل الناس المسؤولية وتعتبر أن الفشل في هزم السلطة أو تغيير النظام هو حبّ الناس لجلاديهم. وتتكرّر هذه السردية من دعاة التغيير، بشكل رئيسي، عند تحليلهم أسباب فشل الانتفاضة أو الخسارة في الانتخابات. وفي حال حصل تعمّق في التحليل تصبح المشكلة بالطائفية التي تسحق أو تمنع تبلور صراع طبقي. برأيك ما هي العوائق التي تحول دون نشأة صراع طبقى يطغى على الصراع الطائفي؟

جواب: الصراع الطبقي موجود. مثلما الصراع الطائفي موجود. وهو تارة خفي مُستتر وطوراً واضح في الحالتين. لا يطغى الثاني على الأول بالضرورة ودائماً. يمكن للصراعين أن يتعاقبا. دار صراع اجتماعي خلال عقد من الزمن بين 1964 و1974 - ويمكن اعتباره صراعاً حول الخيارات الاقتصادية والاجتماعية، وحول دور الدولة بدأ بعد حرب 1958 - تلى ذلك حرب أهلية ذات طابع طائفي 1975-1990. أعقبها صراع اجتماعي تحت رايات إعادة الإعمار لنقل النظام الاقتصادي من ليبرالي إلى نيوليبرالي، كانت المبادرة فيه للسلطة الجديدة التي تسيطر عليها أحزاب الميليشيات. ومن معالم ذاك الصراع احتواء الحركة النقابية وسيطرة أحزاب السلطة عليها. وعرف لبنان ثلاث انتفاضات شعبية في 2011 و2015 و2019، وكانت الأخيرة ردّ فعل على صراع خاضته الطبقة الحاكمة على مدخرات اللبنانيين ومستوى معيشتهم ومستقبل أولادهم بل على حياتهم ذاتها في انفجار المرفأ.

الصراع الطبقي موجود. مثلما الصراع الطائفي موجود. وهو تارة خفي مُستتر وطوراً واضح في الحالتين. لا يطغى الثاني على الأول بالضرورة ودائماً. يمكن للصراعين أن يتعاقبا

وفي التقاطع والتواشج بين الصراعين، يمكن القول إن الطبقات والشرائح الاجتماعية قد تتوسّل النزاعات الطائفية لتأمين حضورها في السلطة. وهو ما حصل عام 1958 بالنسبة لرجال الأعمال والطبقات المتوسّطة السنّية، وفي الأعوام 1975-1990 بالنسبة لرجال الأعمال والطبقات المتوسّطة الشيعية. ويمكن النظر إلى تلك النزاعات، من منظار الصراعات الطبقية، بالحديث عن توسّل طوائف معيّنة العنف المُسلّح لفرض تمثيلها في السلطة بسبب تصلّب النظام السياسي. 

ينتمي اللبنانيون واللبنانيات إلى ثلاث حلقات أساسية من الانتماء والتضامن: العائلة والطائفة والطبقة. تلعب العائلة دورها دور خليّة التشغيل داخل الطائفية والطبقة. والطبقات جماعات من البشر تتمايز فيما بينها بناءً على علاقاتها بظروف المعيشة والقطاعات الاقتصادية وعلاقات الإنتاج وحصّتها من الثروة الاجتماعية. وهذه جماعات متراتبة يمكن لواحدة منها أن تستغل عمل جماعة أخرى. يستجيب المواطن للاستدعائين الطائفي والطبقي معاً، لكن تغليب أحدهما على الآخر، في وعي الفرد وسلوكه، ينحكم بظروف وعوامل خارجية.

في حالات معيّنة، ينقلب الصراع الاجتماعي الطبقي إلى صراع طائفي، كما في حال سنوات ما قبل حرب 1975. وهو موضوع يستحق المزيد من التنحّر والنقاش والتدقيق. لكن يمكن المجازفة بجواب يقول إن الطائفية هي الحلقة التي ينكسر الاجتماع اللبناني بسهولة أكبر عندها لأنها الحلقة الأقوى. والحلقة الطائفية هي الأقوى لأسباب وعوامل متعدّدة:

أولاً، لأن نظام التمثيل الطائفي أقدم زمنياً من النظام الطبقي. تأسّس في ظل متصرفية جبل لبنان (1861-1915) واستمر وتكرّس منذ ذلك الحين، في حين يصعب الحديث عن بنية طبقية متكاملة قبل تكوّن الكيان اللبناني بعيد الحرب العالمية الأولى وتبلور الاقتصاد الرأسمالي قبل العهود الأولى من الاستقلال.

عرف لبنان ثلاث انتفاضات شعبية في 2011 و2015 و2019، وكانت الأخيرة ردّ فعل على صراع خاضته الطبقة الحاكمة على مدخرات اللبنانيين ومستوى معيشتهم ومستقبل أولادهم بل على حياتهم ذاتها في انفجار المرفأ

ثانياً، لأن الوعي الطائفي أبكر وأرسخ لارتباطه بالهوية الإيمانية والتربية الدينية في البيت والمدرسة.

ثالثاً، لأن النظام الطائفي أبرز وأرسخ في الحياة العامة، ويتحكّم بجوانب بارزة من حياة المواطنات والمواطنين: التعليم، والعمل، والوظيفة، والارتقاء الاجتماعي، والتمثيل السياسي والأحوال الشخصية، إلخ.

رابعاً، لأن مؤسّسات التمثيل الطائفي وخصوصاً الجمعيات والأحزاب أوسع وأشمل وأقوى نفوذاً من المؤسّسات المهنية والنقابية القائمة على أساس طبقي، خصوصاً إذا كنّا نتحدّث عن مؤسّسات وأحزاب ونقابات تمثّل الطبقات الشعبية والطبقات المتوسّطة.

خامساً، لأن الطائفي يغلب على الطبقي في الوعي والسلوك والتعبئة جرّاء الصدّ الذي تواجهه النضالات الاجتماعية والطبقية، ما يسهّل عملية تحوّل الاحتقان الاجتماعي إلى احتقان طائفي.

أخيراً إذا كان هناك صراع اجتماعي لفترة عشر سنوات وأعقبه صراع طائفي، فهذا يعني أنّه يمكن العودة إلى الصراع الاجتماعي. ولكي يكون صراعاً اجتماعيا من تحت لفوق، أي أن يمثّل مصالح وآمال وتطلّعات الأكثرية الشعبية، فهو يتطلّب بناء القوة والقدرة والرؤية ورسم المسار وامتلاك الوسائل.


فواز طرابلسي؛ كاتب ومؤرِّخ وأستاذ جامعي، مؤلِّف ومترجم للكثير من الكتب والدراسات والمقالات في الفلسفة والتاريخ والسياسة والطبقات الاجتماعية والحركات الثورية والتحرّرية والمذكّرات والتراث والفنو. رئيس تحرير مجلّة «بدايات»، وكاتب عمود في موقع «صفر» تحت ترويسة «عكس السير».