ستيفاني بريزيوسو: هذه هي فاشية القرن الواحد والعشرين

نعيش في مرحلة تشبه مرحلة صعود «الفاشية» إلى السلطة بين الحربين العالميتين. ولكن مع فارق مهمّ عن بداية العشرينيات من القرن الماضي، فقد كان لدى الناس التي تناضل أفق وهو ثورة أكتوبر 1917. أمّا اليوم فلا يوجد أفق مشترك، وإذا لم نستطع رسم هذا الأفق، لن يكون للنضال ضدّ الفاشية أي تأثير. تُعبّر ستيفاني بريزيوسو في مقابلتها مع «موقع صفر» عن شعورها بأنّنا نفقد الفرصة، إذ يوجد غضب طبقي ولكنّه من دون وعي طبقي، وينتهي بتغذية اليمين المتطرّف. بريزيوسو هي أستاذة في التاريخ الدولي في جامعة لوزان. وتركّز أعمالها على الفاشية ومعاداة الفاشية، والذاكرة، والاستخدامات العامّة والسياسية لهذا التاريخ الحافل. مناضلة يسارية، وعضو في البرلمان السويسري حيث تُعدّ الأممية والممثلة الوحيدة لليسار الراديكالي. وتقول إن «فاشية الصعود إلى السلطة، ليست نفسها الفاشية التي ترفع ذراعها، وتسير مشية العسكر، وتدعو إلى قتل كلّ من لا يتفق مع خطّ الحزب… هذا النوع الكاريكاتوري لا يزال موجوداً لليوم، لكنّه ليس الفاشية التي تمسك بزمام السلطة».

ستيفاني بريزيوسو؛ أستاذة في التاريخ الدولي في جامعة لوزان. وتركّز أعمالك على الفاشية ومعاداة الفاشية، والذاكرة، والاستخدامات العامّة والسياسية لهذا التاريخ الحافل. مناضلة يسارية، وعضو في البرلمان السويسري حيث تُعدّ الأممية والممثلة الوحيدة لليسار الراديكالي. 

ثورة مُضادة بلا سيرورة ثورية

تتصاعد الفاشية اليوم في أوروبا وأنحاء مختلفة من العالم، هل يمكن قبل الخوض في هذه المسألة أن نعود إلى تعريفك لها بوصفها «ثورة مُضادة بلا سيرورة ثورية»؟

تملأ تعريفات الفاشية آلاف الصفحات منذ بروزها وحتّى قبل وصولها إلى السلطة. وهي بلا شكّ من الظواهر السياسية التي لا تزال صعبة التعريف حتّى يومنا. لكنّنا الآن أمام فئة كبيرة من الباحثين، ومن ضمنهم المناضلين، مِمَن يوسّعون نطاق التعريف ليشمل أي ظاهرة يمينية الهوى أو مُحافظة أو استبداديّة عدا عن تحويلها إلى وصمة، ممّا يساهم في تخفيف وطأة الفاشية، وغالباً تمييعها وتصعيب إمكانية تحديدها، وإخراجها من نطاق البحث التحليلي بما فيه البحث السياسي.

لا أقول إنّ الفاشية توقّفت عند العام 1945، لست من هذا الرأي، بل أعتقد أنّ جملة عوامل سمحت بوصولها إلى السلطة في إيطاليا في العام 1922، وفي ألمانيا في العام 1933، وحالياً لها خصائصها في حركات اليمين المُتطرّف. وبالتالي، لا ينبغي الاستهانة بها، لكن يجب التنبّه إلى أنّنا نتعامل مع ظاهرة مُختلفة عمّا كانت عليه في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.

أمّا في تعريف الفاشية بما هي «ثورة مُضادة بلا سيرورة ثورية»، فيُعدُّ المفكّر الشيوعي أنطونيو غرامشي أوّل من استخدم هذا التعريف عندما كتب أنّها «ثورة بلا ثورة». وتحدّث مُحلّلون آخرون عن «الثورة المُضادة الوقائية». وكلاهما يُعبّر عن الأمر نفسه، وهو تنظيم الفاشية للقضاء على الحركة العمّالية القوية في نهاية الحرب العالمية الأولى، بعد أن كانت من أقوى الحركات في أوروبا. لكن الصعود الملموس للحركة الفاشية ووصولها إلى السلطة حصل بعد خفوت الحركة العمّالية. إذاً، سواء كانت الفاشية ثورة مُضادة وقائية أو ثورة مضادة بلا سيرورة ثورية، فإنّ صعودها سببه السقوط الذريع للحركة العمّالية، عدا عن الدعم الذي ظفرت به، وإن بشكلٍ مؤقّت، من الطبقات الحاكمة التقليدية.

 

مختلفة عن فاشية الثلاثينيات

تقولين إن الفاشية لم تقف عند العام 1945، وفي الوقت نفسه تشيرين إلى أنّ فاشية اليوم ليست نفسها فاشية النصف الأول من القرن العشرين في أوروبا. فما هو واقع الفاشية اليوم؟ وما هي الدلالات التي تؤشِّر إلى إعادة إحياء الحركات أو شبح الفاشية من جديد؟

هذه الظاهرة مزدوجة. في الواقع، فاشية الصعود إلى السلطة، ليست نفسها الفاشية التي ترفع ذراعها، وتسير مشية العسكر، وتدعو إلى قتل كلّ من لا يتفق مع خطّ الحزب. نحن لسنا أمام هذه الصورة الكاريكاتورية التي اعتدناها مع الحركات الفاشية التي سادت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولو أن هذا النوع الكاريكاتوري لا يزال موجوداً لليوم، لكنّه ليس الفاشية التي تمسك بزمام السلطة. وهذا ما تناوله المفكّر باسوليني في العام 1962 بالتزامن مع التحضير لانقلاب سياسي في إيطاليا. لقد كتب في حينها أنه «لكان من الأسهل لو وصلت الفاشية بزيّها الرسمي الزيتي والهراوات وتحدّثت عن إعادة بناء معسكرات الاعتقال، لكنّنا لا نتعامل مع ذلك النوع».

يُطالعنا إرثٌ من الفاشية التي يجري المطالبة بها صراحة وعلنيّة، وقد تكون الحكومة الإيطالية أكثر من يطالب بها، إذ على الرغم ممّا تصرّح به جورجيا ميلوني، لا يزال اللهب الدال إلى الفاشية شعاراً لحزبها، وهناك بين طاقمها السياسي من يدعون للعودة إلى الفاشية التقليدية مثل رئيس مجلس الشيوخ ورئيس مجلس النواب، عدا أن وجودها بذاته في دهاليز الدولة يغذّي من يحنّون إلى الفاشية، وقد قاموا منذ أسبوعين بضرب طالبين يساريين في فلورنسا. لكن في الوقت نفسه، نحن لا نتعامل مع فاشية موسيليني. نحن أمام ظاهرة أخرى عبّر عنها إنزو ترافرسو بمفهوم «ما بعد الفاشية». فهو يقول إنّنا نتعامل مع إرثٍ من الفاشية، إمّا بالدعوة إليها، أو لأنها لا تزال موجودة في دوائر أحزاب السلطة. ولكن هذه الظواهر لا تزال في مرحلة انتقالية، وتتكيّف مع الحقبة التي تعيش فيها.

لا أقلّل من خطر هذه الظاهرة السياسية الراهنة لمجرّد أنني اعتبرها مختلفة عن فاشية الثلاثينيات، بل أصرّ على عدم قراءة صعودها وتحليلها ربطاً بالنازية أو الحركات القومية الاستبدادية في القرن التاسع عشر، لأن ذلك لن يجعلنا مهيّئين لفهمها وفهم واقعنا الحالي، وبالتالي محاربتها. كلّ ما أخشاه هو الوقوع في الخطأ نفسه الذي ارتكبه مناهضو الفاشية في بداية القرن العشرين عندما لم يدركوا تلك الظاهرة الجديدة في حينها وفشلوا في محاربتها.

 

ما بعد الفاشية

من المفيد العودة إلى مفهوم «ما بعد الفاشية»، ربطاً بأحداث السنة الماضية، ونتائج الانتخابات الإيطالية، والحرب على أوكرانيا، وأزمة الطاقة، والتضخّم، والديون. تقولين في مقالات مُختلفة إن «ما بعد الفاشية» لديها القدرة على استلام الحكم، وهذا ما حصل في إيطاليا، ولسنا بعيدين عن سيناريو مماثل في فرنسا. هل يمكن العودة إلى هذا المفهوم والتوسّع به، خصوصاً أنه يعطي مدّاً جديداً للمجموعات الفاشية الصغيرة، في ظلّ غياب الحركات الفاشية الجماهيرية؟

أعتقد أن هناك أرضيّات مُهيّئة يعمل عليها أشخاص مثل جورجيا ميلوني أو مارين لوبين في فرنسا. وأعتقد، وأرجو أن أكون مخطئة، أن لوبين ليست بعيدة عن الرئاسة الفرنسية وأن تكون الحكومة الفرنسية المقبلة حكومتها. نحن نتعامل مع حركات وأحزاب مُنظّمة على المستوى المحلّي ومتقاطعة مع الناس الذين يصوتون لها. وهذا لافت جداً. فالأحزاب الأكثر تقاطعية على مستوى الفئات الاجتماعية، هي نفسها الأحزاب التي تنظر إلى مناهضي الفاشية كعناصر إرهابية، أو عناصر لا يمكن السيطرة عليهم، أو بوصفهم الخطر الحقيقي الوحيد والفعلي على الديموقراطية. وهي تستخدم ذلك كعنصرٍ رئيسي في برامجها السياسية. 

وأقول مناهضة مناهضي الفاشية لأنّهم يواجهون صعوبة في إعادة مصطلح مناهضة الشيوعية إلى الواجهة، لسبب بسيط أنه لم يعد هنالك الكثير من الشيوعيين. وبما أنهم يواجهون صعوبة في التركيز على مناهضة الحركة العمّالية، ومناهضة الشيوعية، ومناهضة الاشتراكية، يضعون أمامهم مناهضة مناهضي الفاشية لأنها الطريقة التي اعتُمدت لهيكلة الشمولية السوفيتية.الأحزاب الأكثر تقاطعية على مستوى الفئات الاجتماعية، هي نفسها الأحزاب التي تنظر إلى مناهضي الفاشية كعناصر إرهابية، أو عناصر لا يمكن السيطرة عليهم، أو بوصفهم الخطر الحقيقي الوحيد والفعلي على الديموقراطية

هذه أحزاب وحركات شمولية، ويمكن القول كلاسيكية، تحارب جميع أنواع التنوّع وتستند في سياستها على العنصرية وإقصاء كلّ من هو «آخر» سواء في وجهات النظر، أو المعتقدات الدينية، أو لون البشرة، وحتماً في التنظيم السياسي، وحين تصل إلى السلطة تحاول انتزاع قبول السكان لإنفاذ سياسات أكثر قمعية. تبدأ بقمع حفلات الـRave كما فعلت في إيطاليا، لتصل إلى قمع المظاهرات في الجامعات والمدارس والمظاهرات غير المُرخّصة. وبمرور السنين، يتطوّر القمع وصولاً إلى زجّ الناس في السجون. بالتالي، نحن أمام هذه العناصر من اليمين المتحجّر، ولكن إرثها العملي هو إرث الفاشية التاريخي. هذه هي الحالة التي يجب تحديدها، وبالتالي ليس كلّ نظام استبدادي هو فاشية، بينما الفاشية هي حتماً استبدادية.

يقول المؤرِّخ دايفيد برودر إن الفاشية الجديدة قد لا تكون المصطلح الأنسب لأن بالنسبة له لا يوجد أي جديد. بل يتكلّم عن الحركات الفاشية الصغيرة التي رأت أنّ أجنحتها تتمدّد بعد وصول دونالد ترامب إلى السلطة، وتزايد المؤتمرات التي تجمع اليمين القوي مع ميلوني ولوبين وفوكس، بحيث شكّلت نوعاً من الأممية المتطرّفة - إذا جاز التعبير – وهي تجتمع باستمرار وتناقش وبات لديها عناصر أكثر في رأس الدولة. وهذا ما يسمح عملياً لعدد من المجموعات الصغيرة بإعطاء شرعية لنفسها تمكّنها من زيادة صفوفها، والتصرّف على أساس أنه يمكنها الإفلات من العقاب. على سبيل المثال، لفتني في الانتخابات الإيطالية الأخيرة، أن حزبي «فورزا نويفا» و «كاسابوند»، الذين يدّعيان رسمياً الانتساب إلى الفاشية الإيطالية، لم يقدّما لوائح انتخابية، وهذا ما فعلاه في العام 2018. هناك طريقتين لقراءة الأمر، إمّا لاعتبارهما بأنهما ممثّلان من الحزب الأكثر أهمّية، أو لأنهما مسلّمان بأن قاعدتهما الانتخابية سوف تصوّت بكل الأحوال لفراتيللي دي إتاليا، وبالتالي لا فائدة من تقديم لوائح خاصّة بهما. نستنتج أنه هناك مجموعات، قد تتعارض بلحظة معيّنة، ولكنها تتغذّى من بعضها البعض.

لكن في الوقت نفسه، هناك رغبة لدى الحركات ما بعد الفاشية لإظهار قدرتها على الحكم. وهنا يمكن الحديث أكثر عن العلاقات التي تنطلق من هذه الرغبة، إذ أرى أن لدى هذه المجموعات رغبة في كسب جزء كبير من البرجوازية لإظهار قدرتها على الحكم والمحافظة على سلطتها، باعتبار أنها تشكّل «جنودهم على الأرض». كيف يمكن التوسّع في شرح هذه العلاقات؟

لا يتعلّق الأمر بالمحافظة على هذه المجموعات فحسب، إنّما المحافظة على دعم مستقرّ من جزء من السكّان يصوّت لهم. حتى لو كانت الأصوات نسبية، إلّا أن معظمها يشكّل جزءاً، وتعيدنا هذه الحالة إلى الطبقة المتوسّطة الهشّة وغير المستقرّة. إذاً، إنّ فتح مداخل تجاه البورجوازية يجعل هذه المجموعات في حالة تناقض مع جزء من برنامجها السياسي الذي تتوجّه به إلى جزء كبير من قاعدتها الانتخابية الثابتة ولمن يصوّتون لها.

إذا أخذنا حزب الرابطة، وقاعدته الأكبر في الشمال. لقد حصل على أكثر من 33% من الأصوات في الانتخابات الأوروبية ما قبل الأخيرة، وكان الحزب الأول في إيطاليا، ثم تراجع بشكل كبير في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، وذهب جزء من أصواته إلى «فراتيللي دي إيتاليا» في الانتخابات الأخيرة. لكنه حافظ على نواته بفضل بعض السياسات التي اتبعتها، واستمرّ ماتيو سالفيني بالدفاع عنها، ولكنّها أخذت تتقلّص أكثر وأكثر بسبب التناقضات داخل حزب الرابطة في الشمال. قدّمت هذا المثال للإشارة إلى أنّ التناقضات واسعة ومفتوحة. لكن، إذا أخذنا جورجيا ميلوني، وقرأنا ما تقوله «صحافة الأعمال الإيطالية» والصحافة العالمية مثل «فاينانشل تايمز»، فلن نشعر بأي قلق. سنقرأ عن الإعجاب بإدارتها للسياسة الخارجية، ودعمها أوكرانيا، وتموضعها إلى جانب ماكرون، وبالقراءة عن الموازنة التي أقرّتها، سيتبيّن أنها عملت مع ماريو دراغي، الحاكم السابق للمصرف المركزي الأوروبي، وهذا ما عدَّ أمراً ممتازاً من قبل الدوائر النافذة. في النهاية، لن ينتقل عالم الأعمال والمال نحو معسكر آخر أو حزب آخر، طالما هذا الآخر غير موجود. وهذا من الأمور التي يجب التفكير بها، وهو أن اليمين، بما فيه اليمين المحافظ في أوروبا، لا يملك شخصيات سياسية، ولكنّه في كلّ الأحوال موجود في السلطة ويكسب الأصوات.

 

غياب البديل اليساري

لا بدّ من التطرّق إلى غياب البدائل، خصوصاً أنها معدومة حتى لدى اليسار. منذ الأزمة المالية لعام 2008، وأزمة النموذج النيوليبرالي المُهيمن، لم يبرز على اليسار سوى بعض الاستثناءات، مثلاً كوربين مع حزب العمّال البريطاني، وساندرز في الولايات المتّحدة، وبدرجة أقل مولانشون. لكن عموماً هناك غياب للبديل اليساري، بحيث يُحتكر الطيف السياسي من حركات اليمين المتطرّف، والقوميين، والليبراليين الاقتصاديين، والمحافظين، وكأن غياب البديل اليسار يغذّي الحركات ما بعد الفاشية؟

في التعريف نسيت أحد العناصر الأكثر أهمّية في الثورة المضادة، وهو الأزمة العميقة التي تمرّ بها الطبقة الحاكمة من ناحية إجماع أو قبول الناس بها أو حصولها على ثقتهم والشرعية. بالنسبة لمعسكر اليسار الوضع كارثي. فهذه حالة إيطاليا. وأعتقد أن الوضع مماثل في فرنسا. فعلى الرغم من عدم فوز مارين بالرئاسة، إلّا أن حزبها حصل على عدد كبير من مقاعد مجلس النواب. في المقابل، صحيح أنه لا يمكننا الافتراض بالتاريخ، لكن لو أن الحزب الشيوعي لم يترشّح للانتخابات الرئاسية، لكان هناك حظوظ قوية بأن يصل ميلانشون الى الدور الثاني من الانتخابات. وهنا كلّ الخيارات مفتوحة. وإذا أردنا الربط مع الثلاثينيات، لكان ذلك أعطى مدّاً لليسار ومنح خيارات جديدة مثل ما حصل مع قدوم الجبهة الشعبية في فرنسا في العام 1936. على الرغم من أن ذلك لم يحصل، لكن لا يزال هناك الملايين في الشارع في فرنسا يناضلون ضدّ إصلاحات التقاعد، وهناك عدد من الأحزاب والنقابات القادرة على التنظيم وتعبئة الناس. لذلك أنا أقل تشاؤماً. صحيح أنّ اليسار الجذري متشرذم، ولكن في هذه اللحظة من النضال ضدّ الاصلاحات، أو ضدّ الإصلاحات المُضادة للتقاعد، هناك العديد من الناس في الشارع، وهذا يعطيني بعض الأمل.

هذا فيما يخص فرنسا. لكن إذا أخذنا حالات أخرى مثل بريطانيا وإيطاليا فهناك الكابوس. وصول ميلوني إلى الحكم لم يستفز أحداً، كان يمكن لنا تخيّل ملايين من الناس مُعتصمين في الشوارع، لكنّنا لم نرَ شيئاً. لماذا؟ لأنه لا يوجد تنظيم سياسي على يسار اليسار لينظّم الغضب. الغضب يتصاعد، لكنّه غضب طبقي إنّما من دون وعي طبقي كما كانت تقول واندي براون، ولأنه من دون وعي طبقي فلا يمكنه الانتظام ضمن أحزاب وجمعيّات يسارية، فينتهي بتغذية اليمين المتطرّف، وهذا ما يحصل في كلّ مكان. 

لم يجرِ التفكير طوال السنوات الأربعين للنيوليبرالية في ممارساتها من قبل التنظيمات أو المنظّمات السياسية اليسارية أو التي تعتبر نفسها يسارية. أيضاً طبعت هذه السنوات الأربعين ممارسات وقيم داخل الأحزاب والمنظّمات اليسارية زادت من صعوبة الوصول إلى تنظيم مُتماسك يدافع بشكل كبير عن عدد من البرامج والقيم. لقد كتب دانيال بنسعيد عن ذلك، وبيّن الانقسام الاستثنائي داخل المعسكر اليساري حول مصالح مُنغلقة على نفسها، وفي الوقت نفسه غير منسجمة. أما في الجهة المقابلة، كان المعسكر المواجه يظهر على أنه منسجم بشكل استثنائي، ويسير مثل المحدلة الجارفة في مواجهة قوى أصبحت أكثر انقساماً.

 

فقدان الفرصة

ما الذي يمكن اقتراحه أو ما هو المشروع المُناهض للفاشية الذي يجب أن يحمله اليسار؟

أعتقد أننا في مرحلة مشابهة لعامي 1923 و1924 في إيطاليا، حيث لم يكن النظام الفاشي مُمأسساً بشكل جيد، ولكن كان هناك الكثير من القمع الذي يحول دون تنظيم أي شيء. بمعنى أنّنا في مرحلة تتسم بالانطواء وتتطلّب النضال في آنٍ معاً. لذلك علينا أن نبدأ التفكير بالواقع وتحليله بشكل ملموس. يجب الكفّ عن التحريض بالكلمات وبدء العمل، وإلّا سنكون غير قادرين على التأثير في الأوساط الشعبية. أولاً علينا تحليل ما نضعه تحت خانة الفاشية اليوم، ومحاولة فهم ماذا يحصل فعلياً في كل أنحاء العالم تقريباً، من الهند تحت حكم مودي، إلى تركيا تحت حكم أردوغان، إلى إيطاليا في ظل حكم ميلوني. وثانياً علينا أن نعيد التفكير بأفق نضالاتنا. هل هو مناهضة الفاشية نفسها كما ظهرت في منتصف الثلاثينات عند وصولها إلى الحكم في الكثير من البلدان، ممّا استوجب نضالاً شاملاً ضدها، بحيث لم تعد مجرّد معركة ضدّ فاشية اللحظة بل مرادفاً لضرورة الثورة. في الواقع، يجب فهم مناهضة الفاشية لا بكونها لحظة يقظة في وقت معيّن، بل ربطاً بالواقع ورسم نضالاتنا وفقاً لذلك. لكن لديّ الانطباع بأننا لا نعرف ما نريده لأننا فقدنا بعض الأفق. في بداية العشرينيات، بعيوبها وحسناتها، كان لدى الناس التي تناضل أفق وهو ثورة أكتوبر. اليوم، ما هو أفق النضال الذي يمكن ليسار اليسار أن يجتمع عليه عالمياً؟ ما هو هذا الأفق المشترك؟ برأيي إذا لم نتمكّن من إعادة رسم أفق مشتركة، ولدي شعور بأننا نفقد الفرصة، لن يكون للنضال ضد الفاشية أي تأثير.

 

كي لا نمدّ الظاهرة الى أبعد من حدودها

لقد تكلّمت عن الاختلافات، أي أن ما بعد الفاشية الحالية ليست نفسها الحركة الفاشية في العشرينيات والثلاثينيات. يضاف إلى ذلك اختلافات أخرى، مثل امتلاكها القدرة على التأقلم والاندماج أو الدينامية السياسية. على سبيل المثال، هناك العديد من الحركات المصنّفة ضمن اليمين المتطرّف أو الما بعد فاشية وتزعم الدفاع عن حقوق النساء، في حين تاريخياً كان يحصل العكس. فكيف تفسّرين قدرتهم على الاندماج؟

لهذا السبب أقول أننا لسنا أمام فاشية الثلاثينيات. الفاشية تتأقلم في الفترة التي لا تستطيع فيها جمع الأصوات أو عندما تجمع أصوات قليلة. هذه فاشية القرن الواحد والعشرين، وبالتالي نحن لسنا أمام القيم نفسها، ولكن المثير للاهتمام هو الدفاع الخادع عن حقوق النساء، لأن هذا الحزب نفسه يختفي حين يتعلّق الأمر بالدفاع عن حقوق النساء بالأجر المتساوي والإجهاض. لكن حين يتعلّق الأمر بالدفاع عن حقوق النساء ضدّ الأجانب، فيتصدّر الصفوف الأمامية، وفي كل مكان من ضمنها سويسرا. إذاً، هذه الحركات مضطرة لتكييف خطابها حتى لو لم تتغيّر قيمها في العمق. إذاً لدينا هذا التأقلم الواضح في إطار تعريف العدو الجديد، وهو في المعنى العريض العرب والمسلمون وكل الذين يحطّون رحالهم على الشواطئ الإيطالية أو يمرّون عبر اليونان للوصول إلى أوروبا. ثم هناك مسألة أخرى تعود بقوّة وهي متعلّقة بالعنصرية، التي تفصل الفكر المحافظ الكلاسيكي والفكر المحافظ الكاثوليكي، وكلّها تأتي معاً كنتيجة للبصمات التي تركتها الفاشية على هذه النظريات.
 
تاريخياً، تحدثنا بشكل عام عن الحركات الفاشية في أوروبا. لكن منذ بضعة عقود، مع نشوء مراكز جديدة للتراكم الرأسمالي، بات لدينا ظواهر ذكرتيها آنفاً مثل أردوغان في تركيا، ومودي في الهند، وبولسونارو في البرازيل، كيف تعرِّفين هذه الظواهر في إطار ما بعد الفاشية أو اليمين المتطرّف عموماً والتوتاليتاريات، ويمكن أيضاً ذكر أوربان وبوتين ولو أنهما في أوروبا. فهل هذا المصطلح لم يعد محدوداً بسبب التطوّرات الرأسمالية العالمية؟

طبعت هذه السنوات الأربعين ممارسات وقيم داخل الأحزاب والمنظّمات اليسارية زادت من صعوبة الوصول إلى تنظيم مُتماسك يدافع بشكل كبير عن عدد من البرامج والقيم

بالنسبة للذين يعملون على الفاشية من منظور عابر للحدود، يقولون إن هناك عوامل ثقافية وسياسية، وأيضاً سياسة اقتصادية، وسياسة اجتماعية تم نقلها الى أنواع أخرى من الواقع الجغرافي، وتأقلمت وفق هذه الحقائق الجغرافية. وهذا أمر مثير للاهتمام للغاية. لأن هذه النظرية الجديدة - في الواقع ليست جديدة بل عمرها بضع سنوات، ولكن بدأ المؤرّخون بأخذها على محمل الجد راهناً - كانت مرتبطة بضرورة فهم أو مقارنة الفاشية الإيطالية والقومية الاشتراكية الألمانية. يقول بعض المؤرخين إنها ليست نفسها، فيما يعتبر آخرون أن الفاشية الإيطالية ليست فاشية بالأساس. إذن، يبدو أننا نتعامل فعلاً مع انتقالات للسياسات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وقد باتت مفتوحة أكثر ممّا كانت عليه في العشرينيات والثلاثينيات، كون هذه البلدان تعيش في إطار العولمة. الآن، يجب محاولة فهم كيف تأقلمت هذه الظواهر وفق المنطقة الجغرافية التي توجد فيها، والثقافات السياسية التي تندرج ضمنها. يجب حتماً اكتساب المعرفة حول البرازيل في ظل بولسونارو، أو الهند في ظل حكم مودي، والنظر بالصلات مع الديكتاتوريات السابقة، وتحديد نوعها، والبصمات الموروثة من الأنظمة السلطوية والديكتاتوريات السابقة، لمعرفة ما الذي قد يكون اختلط مع الفئات السياسية التي تشبه الفاشية.  برأيي، أهم ما يمكن فعله اليوم هو التحليل، وعدم الاندفاع بالضرورة نحو المقارنة. فالعناصر الديناميكية تتأقلم وفق المرحلة والمنطقة. وقد رأينا ذلك فعلاً، بشكل أو بآخر، في الثلاثينيات من خلال التكيّفات السياسية بين الفاشية الإيطالية، والقومية الإشتراكية، وإسبانيا في عهد فرانكو، والبرتغال في عهد سالازار. يجب فهم طابع الفاشية الديناميكي من دون وضع كل شيء تحت هذا المسار، كي لا نمدّ الظاهرة الى أبعد من حدودها.

ترجمة ماريان غطّاس
تحرير ڤيڤيان عقيقي