ديڤيد هارڤي: الأزمات هي من سمات العصر النيوليبرالي

ما معنى أن نكون اشتراكيين اليوم؟ يصيغ ديڤيد هارڤي جواباً كثيفاً: «يعني أن نكون مُدركين تماماً لجميع الطرق التي يُهيمن بها رأس المال على جميع جوانب الحياة اليومية والثقافة، وأن نضغط من أجل حرِّية بديلة، حيث يمكننا المناقشة والتفكير بأمور مختلفة جذرياً عمّا يطرحه رأس المال على الطاولة».
في هذه المقابلة، يتحدَّث ديڤيد هارڤي مع موقع «صفر» عن مسائل النيوليبرالية والتحوُّلات العالمية التي نشهدها، والأزمات الرأسمالية، والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، والاشتراكية.

ديڤيد هارڤي أستاذ الأنثروبولوجيا والجغرافيا في مركز الدراسات العليا في جامعة مدينة نيويورك، وأحد المنظِّرين الرائدين في مجال الدراسات الحضرية، أمضى أكثر من 50 عاماً في تدريس «رأس المال» لكارل ماركس، وطوَّر مفهوم «التراكم عن طريق التجريد من الملكيَّة»، وعمل على علاقة رأس المال بالحيِّز الزمكاني والمدينية. لديه كتب وأبحاث ومقالات كثيرة حول الجغرافيا والنظرية الاجتماعية، والجغرافيا الثقافية، والاقتصاد السياسي الحضري والتحضُّر، والفلسفات البيئية، والعدالة الاجتماعية، والنيوليبرالية، فضلاً عن مساهماته الواسعة في شرح الماركسية وتطوير مفاهيمها وأدواتها.

النيوليبرالية حيّة ولكنها فقدت شرعيَّتها

أود البدء بمسألة كثيراً ما تُناقش الآن في العديد من المجالات. ثمّة من يُحاجج بأننا نشهد نهاية الحقبة النيوليبرالية، التي استمرّت أربعين عاماً، وتخلّلها تحوّلات في جميع أنحاء العالم وعلى جميع المستويات؛ هناك قوى صاعدة وقوى أخرى تتراجع، ويتحدّث كثيرون عن عودتنا إلى عالمٍ مُتعدِّد الأقطاب وزمن التكتلات التجارية. كيف تقرأ المرحلة الراهنة؟

بدأت الحقبة النيوليبرالية بأزمة في مراكز التراكم الرأسمالي آنذاك، أي في الولايات المتّحدة وأوروبا. وكانت أزمة ثروة يتمّ استخراجها من الأثرياء، إذ رأينا عمليَّات إعادة توزيع للثروة في تلك البلدان نحو الطبقات الدنيا. لكن في خلال سبعينيات القرن الماضي، قال الأغنياء: كفى! وغيَّروا سياساتهم بالكامل، وأوجدوا التبرير النظري لها، من اقتصاديات جانب العرض إلى نظرية التقشّف، والتي عنت التقشّف للعمّال والشيوعية للأغنياء. حدث الكثير من الاضطرابات في السبعينيات، ما سمح بإجراء هذا المنعطف النيوليبرالي الذي حظي بموافقة الناس. لكن رأس المال يتحرّك دائماً ويتغيّر على نحو دراماتيكي. ففي السبعينيات، كانت الطبقة الحاكمة في الدول الرأسمالية المتقدّمة مؤلّفة من الشركات الاحتكارية الكبيرة وشركات صناعة السيّارات والصلب والمموِّلين، أمّا الآن فلدينا أشخاص مثل جيف بيزوس أو إيلون ماسك. 

عندما كتبت كتاباً عن النيوليبرالية في العام 2005، أشرت إلى أن النيوليبرالية لا يمكن أن تستمرّ من دون أن تصبح استبداديةً ومعسكرةً وقمعيةً. وهذا ما نراه يحدثلكن ما يصحّ بشأن النيوليبرالية أنها لطالما كانت مشروعاً سياسياً لاستخراج الثروة والاستحواذ عليها وتركيزها لدى فئة الـ1% أو الـ10% الأغنى. وهذا المشروع حيٌّ ومستمرٌّ ولم ينتهِ. كلّ ما في الأمر أنه لم يعد يمتلك الشرعية، وهذا ما يدركه الجميع. هناك تحوّلات كبيرة في ديناميكيَّات رأس المال، وإنّما هناك أمران ثابتان: أولاً، تخفيض حصّة الأجور من مجمل الدخل القومي إلى مستويات أدنى وأدنى. وهذا ما يحدث بالفعل. تستمرّ الأجور بالانخفاض في كلّ مكان في العالم تقريباً. وثانياً، إضعاف الطبقة العاملة عبر خلق وظائف محفوفة بالمخاطر وسريعة الزوال. إذن، العالم الذي عشت فيه في العام 1960 انتهى، في السابق كان يعمل الفرد في وظيفة واحدة منذ سنّ الثلاثين وصولاً إلى سنّ الستين. أما حالياً فيحصل على أربع أو خمس وظائف، وغالباً ما تكون محفوفة بالمخاطر، ويتعيّن عليه الاهتمام بحياته التقاعدية والرعاية الصحّية. لقد أصبحت أوضاع العمّال أكثر تقلُّباً. 

النيوليبرالية، كما نختبرها اليوم، غيّرت مواقعها. على سبيل المثال، في خلال فترة وباء كورونا، ضخّ الكثير من الأموال العامَّة في النظام، وذهب معظمها إلى الطبقات العليا، ممّا أدّى إلى زيادة عدد المليارديريين الذين تضاعفت ثرواتهم ثلاث وأربع مرّات. لذا، فإن زيادة تركيز الثروة والسلطة في الطبقات العليا لا تزال موجودة. كلّ ما في الأمر أنهم يفعلون ذلك بشكل مختلف تماماً. عندما كتبت كتاباً عن النيوليبرالية في العام 2005، أشرت إلى أن النيوليبرالية لا يمكن أن تستمرّ من دون أن تصبح استبداديةً ومعسكرةً وقمعيةً. وهذا ما نراه يحدث.

الصين حمت بقية العالم من الإفلاس

بالحديث عن الأزمات، بدأت أزمة الركود في العام 2008 في «المركز»، أي في الولايات المتّحدة الأميركية، ثمّ انتقلت إلى بلدان أخرى في أوروبا وآسيا. حالياً، نشهد ظاهرة من الأزمات المُتعدِّدة، في كثير من البلدان حول العالم: في آسيا، مثل سريلانكا ولبنان، وفي أفريقيا مثل مصر، وفي أميركا اللاتينية، فهل يزيد ذلك من احتمالية الحديث عن نوع من الربط بين هذه الأزمات؟

من الأمور التي حصلت بعد السبعينيات هو نقل كمّيات كبيرة من الأموال من دول الخليج النفطية إلى البنوك الاستثمارية الأميركية، ومن ثمّ إلى جميع أنحاء العالم عبر إقراضها. فتشكّلت أزمة ديون في الثمانينيات. الآن نشهد أزمة ديون مُماثلة في غانا وسريلانكا والعديد من البلدان المدينة. أزمات الديون تحصل طوال الوقت، ولكن في السابق بقيت جميعها محلّية. لقد أبقتها السلطة السياسية محلّية، ولذلك تمكّنت الولايات المتّحدة من التحدّث قبل بضع سنوات عن حقبة «الاعتدال الكبير»، لأنها كانت في حالة جيّدة فيما العديد من البلدان الأخرى تمرُّ في أزمات خطيرة وتحاول حلّ أزمات ديونها. عانت المكسيك من أزمة ديون لمرّتين، وكذلك بلدان جنوب شرق آسيا في العام 1997، واستمرّت أميركا اللاتينية في الدخول في الأزمات والخروج منها. من سمات العصر النيوليبرالي أن الأزمات كانت تنفجر باستمرار وفي كلّ مكان. ما كان مميزاً في العامين 2000 و2001 هو أن الأزمة بدأت تؤثِّر على الولايات المتّحدة حتّى قبل أحداث 11 أيلول/ سبتمبر. شهد سوق الأسهم تصحيحاً كبيراً، وانفجرت «فقّاعة الدوت كوم»، وكانت أوضاع الولايات المتّحدة صعبة. خرجت الولايات المتّحدة من الأزمة من خلال الاستثمار في العقارات والتصنيع والطفرات العقارية. لكن في العام 2008 انهارت فقّاعة السوق العقارية وتحوّلت إلى أزمة عالمية عن عمد. بعبارة أخرى، واجهت الولايات المتّحدة أزمة، وكان من المُمكن احتواؤها داخل الولايات المتّحدة، لكن ما فعلته السلطات هو السماح لمصرف «ليمان براذرز» بالإفلاس ممّا أدّى إلى عولمة الأزمة. وبدلاً من أن تعاني الولايات المتّحدة وحدها كان على الجميع التضحية، فرأينا إفلاس بلديات في النرويج مثلاً، وواجهت المصارف الأوروبية مشاكل. 

باتت الكثير من البلدان تتطلّع إلى الصين، وما نشهده اليوم من محاولات حشر الصين سببه أن العديد من البلدان تتعاون معهاالمكان الوحيد الذي لم تنتقل إليه أزمة 2008 كان الصين، التي استطاعت تفاديها من خلال توسّعها الخاص. حدثت طفرة استثمارات ضخمة في الصين، سواء في البنية التحتية أو شبكات السكك الحديدية عالية السرعة أو الإسكان أو بناء المدن الجديدة. استطاعت الصين حماية بقية العالم من الإفلاس بسبب كمّية الطلب التي جاءت منها. على سبيل المثال، لم تتأثّر تشيلي وأستراليا بالأزمة لأنها كانت تصدّر المواد الخام إلى الصين. وهكذا شهدنا واقعاً مزودجاً؛ بالتوازي مع أزمة خطيرة في الولايات المتّحدة ومحاولتها الخروج منها، غيّرت الصين كلّ طريقة العمل وكرّست نفسها كبديل عن الولايات المتّحدة، وباتت الكثير من البلدان تتطلّع إلى الصين، وما نشهده اليوم من محاولات حشر الصين سببه أن العديد من البلدان تتعاون معها.

الأزمة بدأت في الاقتصاد الحقيقي

يشار إلى الأزمة عادةً بوصفها صدمة خارجية للرأسمالية. في المقابل يتحدّث كارل ماركس عن التناقضات الداخلية والأزمة المتأصّلة في الرأسمالية نفسها، فيما يشير جوزيف شومبيتر إلى «التدمير الخلّاق». كيف تنظر إلى الأزمة؟

لا شكّ أن هناك أزمات تأتي من الخارج، مثل أزمة كورونا أو حتّى أزمة تغيّر المناخ، فعلى الرغم من أن هذه الأزمات هي من نتاج الرأسمالية، لكنّها ليست داخلية وفق منطق رأس المال نفسه. لذلك كان ماركس مُهتماً بالأزمات الداخلية ومصادرها.  بعد العام 1971، عندما خرجت الولايات المتّحدة عن معيار الذهب، أصبحت حركة رأس المال تمكّنه من التدفّق بسهولة في جميع أنحاء العالم. فأصبح السؤال عمّا هو الشكل الأساسي للقيمة. أصبح الدولار عامل الاستقرار الكبير، وباتت الولايات المتّحدة تسيطر على عامل الاستقرار هذا، وتستمدّ من هذه الوضعيَّة جزءاً كبيراً من قوّتها، ممّا أدّى إلى خلق كلّ هذه الأزمات في كلّ مكان، لأن الناس كانوا يخسرون المال ويقترضون الأموال.

في كلّ مرة واجهت الرأسمالية صعوبات، قامت البنوك المركزية بخلق المزيد من النقدهكذا أصبحت قوّة البنوك المركزية في الثمانينيَّات أكبر ممّا كانت عليه في الخمسينيات والستينيات. وأصبح لدينا نظام دولي تلعب فيه البنوك المركزية دوراً كبيراً ومهماً للغاية. وبالتالي، في كلّ مرة واجهت الرأسمالية صعوبات، قامت البنوك المركزية بخلق المزيد من النقد. لذلك إذا نظرت إلى الرسم البياني للعرض النقدي العالمي بعد العام 1980 فسوف تجده تصاعدياً، وهو ما عنى أيضاً أن الأزمة المقبلة سوف تكون أزمة مالية. لكن الغريب أننا دخلنا في العام 2008 بأزمة في قطاع الإسكان في الولايات المتّحدة، وخرجنا منها في المقابل من خلال بناء المساكن في الصين. لكن كلاهما يتطلّب التمويل. تمويل الرهن العقاري في الولايات المتّحدة الأميركية وتمويل عمليّات الاستثمار الواسعة في الصين. لذا في كلا المكانين، تجد فجأة هذه الزيادة المذهلة في الأمولة. يتحدّث الجميع عن أزمة 2008 بوصفها أزمة مالية في حين يتجاهلون أنها بدأت في الاقتصاد الحقيقي في قطاع الإسكان، أمّا الخروج من الأزمة أو تجنُّبها كما في حالة الصين فقد كان أيضاً في الاقتصاد الحقيقي عبر الاستثمار في البنى التحتية وقطاع الإسكان.

يديرون عملة الاحتياط ويطبعون الدولارات بجنون

ينتشر حديث في الولايات المتّحدة وخارجها عن الدَّْين الحكومي الأميركي، الذي بلغ 120% من الناتج المحلّي الإجمالي. ما هي الوظائف التي يؤدّيها الدَّيْن؟ وكيف تستفيد الولايات المتّحدة منه؟

كانت الولايات المتّحدة تعتقد أنها بانضمامها إلى لعبة النيوليبرالية سوف تحقّق فوائض ضخمة، وأنها لن تكون مدينةً أبداً. لقد أخطأ الأميركيون في التقدير، لذلك قاموا بتلك الانعطافة في السبعينيات والثمانينيات، وبدأوا في عولمة أسواق رأس المال. كانوا يفترضون أن قوة الاقتصاد الأميركي مُستمدّة من تفوّق البنية الصناعية الأميركية الذي يضمن لها تقدّماً وتفوّقاً كبيرين في حسابات ميزان المدفوعات الدولية وهيكليّته. لكن ذلك لم يحدث. في الستينيات، كانت صناعة السيّارات احتكارية، ثمّ قامت الولايات المتحدة بعولمة كلّ شي، وبحلول الثمانينيات، أصبحت صناعة السيّارات الألمانية موجودة بشكلٍ كبير، وكذلك صناعة السيّارات اليابانية والكورية.

قد يكون هناك تفكير في الولايات المتّحدة يقضي بترك التضخّم يرتفع لأن ذلك سوف يخفّض قيمة الديونلم تتخيّل الولايات المتّحدة أن ذلك قد يحدث. اعتقدت أنها متفوّقة، وأن تفوّقها سوف يستمرّ. لكنها كانت متفوّقة في الستينيات فحسب بسبب الضوابط على رأس المال. لاحقاً بدأت تعاني من المشكلات فيما شركات السيّارات الأوروبية واليابانية والكورية الجنوبية تعمل بشكل جيّد. أعتقد أن الولايات المتّحدة ارتكبت خطآً لأن مخطّطي السياسات العامّة في السبعينيات لم يتخيّلوا أنّها ستنتهي مع كلّ هذه الديون الضخمة. واليوم باتت هذه مشكلة كبيرة. لأنهم يديرون عملة الاحتياط ويطبعون الدولارات بجنون، وإحدى الطرق التي يمكن من خلالها خفض قيمة الديون هي حدوث تضخّم كبير. لذلك قد يكون هناك تفكير في الولايات المتّحدة يقضي بترك التضخّم يرتفع لأن ذلك سوف يخفّض قيمة الديون.

البنية الطبقية تمنع (أحياناً) التطوّر الكامل لرأس المال

دعنا ننتقل من الاقتصادات الصناعية إلى الاقتصادات والبلدان غير الصناعية بالكامل، أو لديها طبقة عاملة صناعية ضعيفة جداً، وهو أمر تترتّب عنه تبعات مختلفة على العديد من المستويات. قد تسمع أحياناً أشخاصاً يتحدّثون عن عدم وجود رأسمالية في هذه الاقتصادات أو أن الطريق إلى التنمية والتقدُّم هو «بناء الرأسمالية» من الصفر. وبالتالي لا يوجد صراع طبقي ولا يوجد قيمة زائدة يتمّ إنتاجها. ما رأيك في ذلك؟

سوف أتعامل مع السؤال بشكلٍ مختلف. لقد شهدنا تراجعاً كبيراً في التصنيع في الولايات المتّحدة وأوروبا، وباتت الطبقة العاملة الصناعية الآن موجودة في أماكن مثل بنغلاديش والصين. كان يُعتقد - وكانت هذه الحال بالفعل - أن التصنيع يعني تركيز ثروة كبيرة. لكني لا أعتقد أن بنغلاديش، على سبيل المثال، بلدٌ غني جدّاً، على الرغم من أنها بلد صناعي. لذا فإن التصنيع لا يؤدّي دائماً إلى تركيز هائل للثروة كما كان عليه الحال في نظام مانشستر الذي تحدّث عنه ماركس. في ظروف أخرى، تجد أن البنية الطبقية تمنع التطوّر الكامل لرأس المال. يتحدّث كلايد وودز عن «التنمية المحبوسة»، التي نجد أمثلة عنها في كلّ مكان بسبب قوة ملّاك الأراضي أو التجّار أو أصحاب الموارد والريعيّيين، بشكل يمنع التطوّر الكامل للرأسمالية الصناعية.

يشكّل لبنان حالة مثيرة للاهتمام لما يُسمّى برأس المال الريعي. لقد دُمِّر البلد مرَّتين، وفي خلال مراحل إعادة إعماره قام الريعيّون بالسطو على موارد الإعمارخذ اليمن مثالاً، من الواضح أن البنية الطبقية، وما فيها من بنى عشائرية وقبائلية، لا تشكّل عاملاً مُساعداً. لذلك يجب النظر أولاً وقبل كلّ شيء، إلى طبيعة البنية الطبقية ومن ثمّ الانتقال إلى نوع الاقتصاد المُمكن فيها. هناك الكثير من الأمثلة على التنمية المحبوسة، حتّى داخل الولايات المتّحدة. مثلاً لديك بورتوريكو التي تشكّل حالة واضحة عن التنمية المحبوسة، فهي حاولت القيام بالتصنيع ولكنّه سرعان ما توقّف بعدما أوقفت الولايات المتّحدة دعمها. هناك أيضاً آثار الحروب، وهناك ما يُسمى رأس المال الريعي، حيث يشكّل لبنان حالة مثيرة للاهتمام لما يُسمّى برأس المال الريعي. لقد دُمِّر البلد مرَّتين، وفي خلال مراحل إعادة إعماره قام الريعيّون بالسطو على موارد الإعمار. 

الاستحواذ على الثروة المُختزنة في الأصول

هذه مقدِّمة مثالية لسؤالي التالي. تتحدّث عن مفهوم «التراكم بالتجريد» وأن الاستغلال لا يحدث في المصانع فحسب، أو حيث يتمّ إنتاج فائض القيمة والسلع، بل يحدث أيضاً في الميادين التي يتحقّق فيها فائض القيمة، أي حيث يتمّ استهلاك السلع. يشكّل لبنان مثالاً مناسباً على التراكم بالتجريد. هل يمكنك التوسّع في الحديث عن هذا المفهوم؟

يبدو التراكم بالتجريد أكثر بروزاً في خلال الفترة النيوليبرالية، وذلك من خلال خصخصة الأصول العامَّة التي تتيح إمكانية أن يصبح شخص ما مُحتكراً وأن يستحوذ على فائض القيمة. على سبيل المثال، سيطر كارلوس سليم على قطاع الاتصالات في المكسيك. يستخدم الناس الاتصالات بشكلٍ قليل، ولكن إذا فرضت الضرائب عليها وسُعِّرت بالشكل المناسب، فستحصل على القليل من كلّ شخص إنّما باستهلاكٍ واسع النطاق من أعداد كبيرة من المستخدمين. إنه استخراج للثروة، بكمّيات صغيرة، من جيوب الناس. وهذا ما يحدث في الكثير من الأماكن. وبذلك بتنا نرى أكثر فأكثر أن مزيداً من أصحاب الملايين في العالم يصبحون من أصحاب المليارات، لأنَّهم يستخرجون الثروة بدلاً من صنعها.

هناك المزيد من أصحاب الملايين في العالم يصبحون من أصحاب المليارات، لأنَّهم يستخرجون الثروة بدلاً من صنعهاأيضاً في الولايات المتّحدة هناك حوالي 7 أو 8 ملايين أسرة فقدت منازلها واستحوذت عليها شركة «بلاكستون» بفعل أزمة 2008، فهي استدانت من البنوك واشترت عقارات ومنازل بأقل من قيمها الفعلية وأصبحت واحدة من أكبر الشركات وأكبر ملّاك العقارات في العالم. لقد فقد السكان السود حوالي 70% أو 80% من ثرواتهم التي كانت مُختزنة في منازلهم التي حصلت «بلاكستون» عليها. إنها عملية نقل واستخراج للثروة من السكّان السود المُهمَّشين وغير الأثرياء والسكّان من أصل إسباني والنساء المعيلات لأسرهن لصالح «بلاكستون». أمّا البنوك التي باعت «بلاكستون» الرهون العقارية بأسعارٍ زهيدة للغاية، فقد جاءت الحكومة وغطَّت الفرق. لم تكن عمليّة إصلاح إنّما في الحقيقة أقرب إلى الابتزاز والاحتيال. وانتهى الأمر بأن يصبح ستيفن شوارزمان واحداً من أغنى الناس في العالم في غضون عامين أو ثلاثة أعوام. هذه عمليّة التراكم بالتجريد. وهي تختلف عن التراكم الأولي الذي يتعلّق بخلق طبقة عاملة عن طريق تجريدها من ممتلكاتها ودفعها إلى خارج أرضها. ففي العام 2008 كان هناك طبقة عاملة مُشكّلة بالفعل وتعمل بالفعل، لكن ما جرى هو الاستحواذ على الثروة المُختزنة في الأصول. 

نظام الائتمان ليس شكلاً طفيلياً

يؤدِّي نظام الائتمان وظيفة مُحدّدة للرأسمالي، فهو كمن يختزل الوقت، فالرأسمالي لا يريد الانتظار في خلال الوقت الفاصل بين إنتاج فائض القيمة وبين تحقّقها من أجل أن يستأنف عملية الإنتاج. أيضاً النقد هو مطلوبات على العمل المستقبلي أو الجديد، إذ يقول ماركس «كلّ رأسمالي حينما يكتسب قيمة جديدة فهو يتملّك بذلك مطالبة بالعمل المستقبلي، وعن طريق استيلائه على العمل الحالي يكون فعلياً في الوقت نفسه قد استولى على العمل المستقبلي». يقدّم لبنان مثالاً على ذلك، لا يقوم الدائنين باستخراج الثروة والاستيلاء على عمل الناس الذين يعيشون حالياً فحسب، لا بل هم يستحوذون من الآن على عمل أطفالهم وأحفادهم وعملهم المستقبلي. ما رأيك في هذا؟

من الأمور التي أعتقد أن ماركس أوضحها بشكل جيّد هو أن نظام الائتمان ليس شكلاً طفيلياً، ولو أن بإمكانه أن يتّخذ أشكالاً طفيلية، إذ من الضروري لديناميكيّات رأس المال أن يكون لديك نظام ائتمان يمكنه التعامل مع استثمارات رأس المال الثابت طويلة الأجل، وتمويل قطاعات الإسكان على مدى 30 عاماً. ولذلك فإنه يلعب دوراً مهماً، وأعتقد أنه من المهمّ التأكيد على بعض الجوانب الإيجابية لنظام الائتمان، لأن ذلك يضفي شرعية على بعض الأمور التي تستمرّ. لدى ماركس عبارة رائعة عن كيفية حدوث ذلك في باريس في الإمبراطورية الثانية حيث يصف أخوين مصرفيين في تلك المرحلة بأنهما يتمتّعان بالشخصية المُبهجة المُتمثّلة في المحتال والربح.

يقول منظِّرو رأس المال إن المصارف يجب أن تكون مِرفقاً عاماً. ولكن يتضح بعد ذلك أن المصدر الحقيقي لأرباح المصارف هو عمليّات الدمج والاستحواذالربح هنا يُعبِّر عن فكرة استشراف ما يجب أن يكون عليه العمل المستقبلي، وهذا يدعم الحجّة التي قدمتَها، ومن ثمّ تجد أن هناك مطلوبات على العمل المستقبلي لدرجة أنه بات يرزح تحت عبء مديونية عالية. ومسألة قروض الطلّاب في الولايات المتّحدة هي المثال الكلاسيكي على ذلك، إذ يترتّب على الناس الالتزام وقضاء السنوات العشر أو الخمس عشرة الأولى من حياتهم في سوق العمل لسداد ديونهم فقط. في بعض الأحيان يقول منظِّرو رأس المال إن المصارف يجب أن تكون مِرفقاً عاماً. ولكن يتضح بعد ذلك أن المصدر الحقيقي لأرباح المصارف هو عمليّات الدمج والاستحواذ. إنَّهم لا يحصلون على الكثير من الأرباح من خدمات التجزئة المصرفية، بل الجزء الكبير يأتي من عمليَّات الدمج والاستحواذ والألاعيب المُماثلة.

كيفية استخدام التكنولوجيا هي ما يهمُّ

دعنا ننتقل للحديث عن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. يتحدَّث ماركس في الغروندريسة عن الأتمتة والتشغيل الآلي ودور الآلات والدور السائد لرأس المال الثابت، وبالفعل نرى اليوم أن الممتلكات الشخصية للناس يتمّ تحويلها إلى رأسمال. مثلاً يتم تحويل سيّارات الناس إلى رأس مال مع شركات مثل «أوبر» و«ليفت»، ويتمّ تحويل منازل الناس إلى رأسمال مع شركات مثل Airbnb، وأيضاً مع التحوّل إلى العمل عن بعد والعمل من المنزل. ما الذي يعنيه ذلك فيما يتعلّق بآليات تراكم رأس المال والرأسمالية اليوم؟

هذا مثير للاهتمام. لنأخذ شركة Airbnb على سبيل المثال. قد يبدو الأمر مفيداً للأفراد ومُساعداً لهم في البداية، قبل أن تتحوّل إلى شركة كبيرة. وعندما تصبح شركة كبيرة، فإن الأشخاص الذين يؤجّرون ملكيّاتهم يفقدون فعلياً جزءاً كبيراً من أصولهم. والأمر نفسه ينطبق على حالة أوبر. قد يكون الأمر مفيداً لمشغِّل صغير وقد يساعده ذلك، لكن الأمر يتحوّل تدريجياً لصالح رأس المال الكبير، وإلى رسملة العملية. هذه إحدى الأمور المدهشة التي تحصل في لحظتنا الحالية. من المستحيل تقريباً لأي شخص أن يفعل أي شيء من دون أن يتم الاستحواذ عليه وتجريده منه في مرحلة ما. ولهذا السبب أعود مرّة أخرى إلى «التراكم بالتجريد من الملكيّة»، لأن ما تفعله في الواقع هو جلب كل تلك الملكيّات وتنظيمها. قد يبدو الأمر أن هناك شخص ما يستأجر الغرفة الخلفية لبضعة أسابيع، لكنّه في الحقيقة ليس بهذه البساطة. الآن لدينا مدنٌ مضيفة مثل برشلونة وهناك صراع للسيطرة عليها. وهذا ما تدور حوله الأمور.

يُرجّح استخدام التكنولوجيا لتدمير القوى الطبقية إذ تركت مُتاحة لرأس المال، وبالتالي جعل العمّال أكثر تهميشاً وهم أكثر قابلية للاستبدال والتخلّص منهمفي الغروندريسة يقول ماركس إن «تحويل عمليّة الإنتاج من مجرّد عمليّة بسيطة للعمل إلى عملية علميّة تتسم بسمة رأس المال الثابت وعلى النقيض من العمل الحيّ». من هنا، نرى المزيد من الاستبدال، إن صحَّ التعبير، بين العمل ورأس المال الثابت أي الآلات وغيرها، خصوصاً الآن مع الذكاء الاصطناعي والآفاق التي يفتحها. ما هو تأثير هذه التكنولوجيات على الطبقة العاملة - والناس عموماً - لناحية إفقادها المهارات وغير ذلك؟

السؤال المهمّ المُفترض طرحه ليس حول التكنولوجيا نفسها وإنّما حول كيفية استخدامها؛ كيف سوف يستخدم رأس المال الذكاء الاصطناعي؟ وفي المقابل، كيف يمكن للاشتراكي استخدام هذا الذكاء الاصطناعي؟ بهذه الطريقة، يمكن إدراك درجة تحكّم رأس المال في استخدام هذه التكنولوجيّات وكيفيّة استخدامها لتحقيق المنفعة الرأسمالية. في حين أن الاشتراكي لن يستخدم هذه التكنولوجيا إلّا من أجل المنفعة الاجتماعية ولغايات اشتراكية. يمكن تقديم الإجابة من التجربة التاريخية؛ بالنظر إلى نموذج الأتمتة وما تبقى منها في الصناعة، يُرجّح استخدام التكنولوجيا لتدمير القوى الطبقية إذ تركت مُتاحة لرأس المال، وبالتالي جعل العمّال أكثر تهميشاً وهم أكثر قابلية للاستبدال والتخلّص منهم، في مقابل تمكين الطبقة الرأسمالية أكثر ومراكمة المزيد من الثروة على حساب أكثرية السكّان. لكن في مقابل ذلك، يأتي الاستخدام الاجتماعي لهذه التكنولوجيّات. ولا شكّ أن بعضاً من الطبقة الوسطى سوف يعارضون استخدامها لسحق العمّال أكثر ممّا سحقتهم الممارسات النيوليبرالية، لكن السؤال الأهمّ هو في كيفيّة استخدامها كإشتراكيين. وأعتقد أن الإجابة تفترض استخدامها على النحو الذي يزيد من وقت الفراغ. هناك تعليق لماركس حول ذلك، يقول: «عندما تنظر إلى هذه الأشياء فإنها توفّر الكثير من وقت الفراغ. المسألة هي أن رأس المال يحوِّل الوقت المُتاح للعمّال إلى فائض قيمة». هذا ما يرغب في القيام به وهذا ما سوف يفعله. في حين أنك في مجتمع اشتراكي، ترغب في أن يمتلك الناس المزيد من وقت الفراغ ليفعلوا ما يسعدهم.
 

ما يفترض أن تفسِّره نظرية قيمة العمل

مع تراجع دور العمل وازدياد الأتمتة والتشغيل الآلي، يمكن لأحد ما القول إن «نظرية قيمة العمل» نفسها مُهدّدة، في حين ستكون فيه قوّة الطبقة الرأسمالية بمنأى عن الخطر مع التحوّل بالقيمة أكثر فأكثر من العمل إلى رأس المال؟

إذا كانت نظرية قيمة العمل تتعلّق ببساطة بقيمة شيء أو خدمة ما، فحينها يمكنك القول أن كل هذا سوف يختفي لأن مدخلات العمل ستكون صفرية. ولكنني أعتقد أن نظرية قيمة العمل هي أبعد من ذلك. إنها تتعلّق بحياة العمّال ونوعية حياتهم. ففي نهاية المطاف، ما يفترض أن تفسِّره نظرية قيمة العمل هو الأسباب التي تجعل من الأشخاص المُنخرطين في صناعة هذه السلع يحصلون على فائدة قليلة منه. سوف يبدو حينها أن لديك فكرة مختلفة عن نظرية قيمة العمل، وأعتقد أن هذا ما كان ماركس يعمل من أجله. 

تعقيباً على إحدى النقاط التي أثرتها، يقول ماركس: «مثلما يخلق رأس المال من جهة فائض العمل، فإن فائض العمل في الوقت نفسه هو الشرط الضروري لوجود رأس المال»، ويقول إن «عملية تنمية الثروة بأسرها تتعلّق فعلاً بخلق الوقت المُتاح». فيما تُعلّق على ذلك بالقول إن «ماركس يشيد بوقت الفراغ للجميع باعتباره المقياس الحقيقي لمدى تقدّمنا نحو الاشتراكية». وهذا ينقل النقاش إلى البُعد الأساسي و«جوهر» القضية بعيداً من النقاش حول المسائل النقدية والآلات وما إلى ذلك.

أتخيّل أنه يمكننا أن نفكّر بنمط من التجمّعات والتعاونيات الجماعية، حيث يتمّ التحكّم بأجور جميع العمّاللدى ماركس تعليق رائع يقول فيه إن عالم الحرَّية يبدأ عندما يتمّ تجاوز عالم الضرورة. لذلك إذا تمكّنا من أتمتة عالم الضرورة بحيث نقضي فقط ساعتين أو ثلاث ساعات في الأسبوع للقيام بالأمور التي يتعيّن علينا القيام بها من أجل الحصول على كلّ شيء، سوف يكون باقي وقتنا ملكاً لنا. لكن كما ترى هذا أمر أخلاقي وغريب للغاية. في الأنثروبولوجيا، نجد أن هناك مجموعات اجتماعية تعمل لمدة ثلاث ساعات تقريباً في اليوم، وبعد الانتهاء يجلسون ويتحدّثون ويتواصلون اجتماعياً. لكن جاء الرأسمالي الصناعي الغربي وقال إن هذا مستحيل، هؤلاء الأشخاص كسولون جداً ومريعون للغاية ومن غير الأخلاقي أن يفعلوا ذلك، لذلك نجد أشخاصاً يعملون الآن لمدة ثمانين ساعة في الأسبوع، ولديهم وظيفتين أو عليهم الحصول على وظيفتين، من أجل تأمين دخل كافٍ للبقاء على قيد الحياة.

معنى أن تكون اشتراكياً

تقول إن الاشتراكية يجب أن تُبنى من بقايا ما لدينا الآن. إذا أردنا أن يمتلك الجميع هواتف محمولة في مجتمع اشتراكي، كيف ننظّم تقسيم العمل بطريقة تجعل العمل المطلوب لإنتاجها مُرضياً وليس استغلالياً؟ وماذا تقصد بالعمل غير الاستغلالي؟

ما أعنيه ببساطة أن لا يكون هناك رأسمالي يصادر القيمة الفائضة. أتخيّل أنه يمكننا أن نفكّر بنمط من التجمّعات والتعاونيات الجماعية، حيث يتمّ التحكّم بأجور جميع العمّال، وأن لا تزيد الفروقات بين الأعلى أجراً والأقل أجراً عن نسبة 3 إلى 1، بدلاً من النسبة التي نراها حالياً في الشركات الكبيرة والتي تصل إلى 350 أو 400. من الواضح أنه سيكون لدينا عالم مُعقّد إذا أردنا امتلاك أجهزة كمبيوتر وهواتف محمولة وأشياء من هذا القبيل، وربما نحتاج إلى الحفاظ على هياكل الإنتاج سليمة، لكن معدّلات ونسب الأجور والتعويض يجب أن تبدو مختلفة للغاية، وكذلك التقديمات الجانبية، ويجب أن تكون خدمات الرعاية الصحِّية والوصول إلى السكن وجميع هذه الخدمات مضمونة للجميع بالتساوي.

سؤالي الأخير، ماذا يعني أن تكون اشتراكياً في العام 2023؟

أن نكون اشتراكيين يعني أن نكون مُدركين تماماً لجميع تلك الطرق التي يُهيمن بها رأس المال على جميع جوانب الحياة اليومية والثقافة، وأن نضغط من أجل حرِّية بديلة، حيث يمكننا المناقشة والتفكير بأمور مختلفة جذرياً عمّا يطرحه رأس المال على الطاولة.