Preview الضمان الاجتماعي

سياق تاريخي للسياسات الرعناء
تفليس الضمان الاجتماعي

تُظهر بيانات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي انخفاضاً كبيراً في عدد المضمونين الذين ما زالوا يطلبون الاستفادة من تقديمات فرع المرض والأمومة، أو ما يُسمّى الضمان الصحّي. فوفق هذه البيانات تقدّم في العام 2022 نحو 211 ألف مستفيد فقط بالمقارنة مع أكثر من 976 ألف مستفيد قبل الانهيار الكبير في العام 2019، أي بانخفاض نسبته أكثر من -78%. 

يعكس هذا الانخفاض في عدد المستفيدين من تقديمات الضمان الصحّي مدى التدهور الخطير الذي أصاب نظام الحماية الاجتماعية الوحيد للعمّال والعاملات في القطاع الخاص في لبنان. فالطريقة التي واجهت بها الحكومة ومجلس إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وإدارته انهيار العملة وإفلاس المصارف قضت بسحق القيمة الشرائية للتقديمات الصحّية والتعويضات العائلية وتعويضات نهاية الخدمة، وعدم اتخاذ أي سياسة لحماية هذا النظام في الوقت الذي يحتاج إليه المضمونين أكثر من أي وقت، إذ انهارت أجورهم الحقيقية وخسروا مدّخراتهم البسيطة… وفي هذا الوقت العصيب، فقدوا التغطية الصحّية الهزيلة التي كانوا يحصلون عليها، وفقدوا أيضاً قيمة تعويضاتهم التي كانت السند لهم عندما يحتاجون إليها.

تشير بيانات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي إلى أن الطلب على تقديمات فرع المرض والأمومة خارج المستشفى، مثل المعاينات في العيادات والفحوص المخبرية والحصول على الأدوية، انخفض من أكثر من 628 ألف طلب قبل العام 2019 إلى نحو 97 ألف طلب، أي بانخفاض نسبته 84.8%. فيما انخفض الطلب على العناية في المستشفى من نحو 350 ألف طلب إلى 114 طلب، أي ما نسبته 67.7%. 

افلاس الضمان الاجتماعي

من الواضح أن هذه المقارنة لا تعكس انخفاضاً في الأمراض والحوادث التي يتعرّض لها المستفيدون من تقديمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. فما حصل في السنوات الماضية في ظل الانهيار النقدي هو ببساطة أن قيمة هذه التقديمات لم تعد مُجدية لبذل عناء التقدّم للاستفادة منها. فمقدّمو الخدمات (المستشفيات، الأطباء، المختبرات، تجّار الدواء… إلخ) رفعوا أسعارهم ودولروها بما يتجاوز كثيراً الأسعار التي يحدّدها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ويسدّد مساهماته على أساسها. وطالبوا المستفيدين من تقديمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تسديد الفارق بين الأسعار، وبعضهم توقّف عن استقبالهم أصلاً. في حين أن الصندوق لا يسدِّد مساهماته في فواتير الخدمات خارج المستشفى إلا بعد وقت طويل وعناء كثير، وبالتالي كان التضخّم كفيلاً بجعل قيمتها عند استحقاقها أدنى بكثير من كلفة تقديم هذه الفواتير إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وانتظار تسديدها، وهذا ما يبرر نسبة الانخفاض الأعلى في الطلب على التقديمات خارج المستشفى من الطلب على الاستشفاء، وتكاد الطلبات على التقديمات بنوعيها تقتصر على بعض الأعمال الإستشفائية والأمراض المزمنة التي بقيت مساهمات الضمان في فواتيرها مجزية ولو قليلاً.

سياسة التخلّي عن المضمونين

قبل الانهيار في العام 2019، كان المضمونين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يحصلون على تغطية صحيّة في المستشفيات وخارجها، هم ومن على عاتقهم، تصل إلى 90% من قيمة الفاتورة الإستشفائية، بالإضافة إلى استرداد نسبة 85% من فاتورة الدواء والمختبرات ومعاينات الأطباء. طبعاً، لم تكن الأمور تسير على ما يرام، ففرع ضمان المرض والأمومة في الصندوق كان يعاني من عجز مالي مزمن ويغرف من أموال فرع تعويضات نهاية الخدمة للمضمونين لسدّ عجزه، ولم تكن تغطية الضمان لا كافية ولا مقبولة، في بلد أكثر من نصف سكّانه لا يحصلون على أي تغطية صحّية. ولكن حتى هذا النذر اليسير من تقديمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي انتهى أمره بعد الانهيار في العام 2019، وكما في مجالات كثيرة، تركت الدولة المضمونين فريسة التضخّم يواجهون وحدهم مخاطر المرض وكلفة الطبابة والاستشفاء والدواء الباهظة جداً قياساً إلى قيمة أجورهم المنهارة.

ففيما خسرت الليرة أكثر من 98% من قيمتها في السنوات الأربع الماضية، بقيت محاسبة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتعرفاته من دون أي  تصحيح فعلي، ما يعني أن القيمة الحقيقية لواردات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومدفوعاته انخفضت بقيمة انخفاض الليرة نفسها. وما عدا بعض الأعمال الإستشفائية القليلة وأدوية الأمراض المزمنة ومرضى غسيل الكلى لم يعد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يؤمن أي تغطية فعلية للمضمونين. على سبيل المثال، لو افترضنا أن مشتركاً في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وصل رصيده المستحق في فرع تعويضات نهاية الخدمة بعد 20 سنة من العمل إلى 35 مليون ليرة، وهو مبلغ كان يساوي في العام 2019 أكثر من 23 ألف دولار، ولم يعد يساوي اليوم سوى أقل من 400 دولار، وقيمة هذا التعويض اليوم بعد 20 سنة عمل هي أدنى من قيمة الحد الأدنى للأجور لشهر واحد قبل أربع سنوات. وهذا ينسحب على قيمة تقديمات صندوق المرض والأمومة والتعويضات العائلية. لقد تأخّر الصندوق كثيراً بتعديل التعرفات (الأسعار) وهي لا تزال قاصرة، كما تأخّر في تعديل قيمة الكسب الخاضع للاشتراكات لتعويض الخسارة في الإيرادات، وهذا التعديل لا يزال أدنى من الزيادات التي لحقت بالأجور تحت مسميات عدّة ومتشعبة. وهذا كان بمثابة «سياسة» وليست عجزاً أو قصوراً، فبدلاً من منح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الأولوية وتمكينه من توسيع تغطيته في ظل الانهيار الجارف اجتماعياً، جرى حرمان المضمونين من الحماية البسيطة التي كانت مؤمنة لهم، لأن الخيار الأول كان يقضي بالضرورة تعديلات كبيرة جداً على مستويات كثيرة، ولا سيما على مستوى التمويل، فالمحافظة على تغطية الضمان الاجتماعي، حتى بالمستوى الرديء الذي كانت عليه قبل الانهيار، كان يتطلّب أولاً حماية أموال الضمان الموظّفة في ودائع مصرفية وسندات خزينة.

الطريقة التي واجهت بها الحكومة ومجلس إدارة الضمان الاجتماعي وإدارته انهيار العملة وإفلاس المصارف قضت بسحق القيمة الشرائية للتقديمات الصحّية والتعويضات العائلية وتعويضات نهاية الخدمة، وعدم اتخاذ أي سياسة لحماية هذا النظام

هذا الانخفاض في عدد المضمونين الذين لجأوا إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي للحصول على التغطية الصحّية، يعكس انهيار تقديمات الصندوق، ولكنه يعكس أيضاً تاريخاً طويلاً من تدهور أوضاع الصندوق وتفاقم عجوزاته المالية والإدارية وتضخّم أكلافه بما يتجاوز قدرته التمويلية. فالصندوق الذي كان يُفترض أن يؤمّن التغطية لجميع السكان على مراحل، لم يتجاوز مرحلته الأولى منذ أكثر من 60 عاماً، وهو لم يعد يشمل في تغطيته سوى نسبة ضئيلة جداً من العاملين بأجر، إذ تفيد البيانات المحدّثة لمسح القوى العاملة (2022) أن أكثر من 60% من الأجراء في لبنان باتوا في عداد العمالة اللانظامية، وأن 29.6% من القوى العاملة في لبنان هم في عداد البطالة. وهذا يعني، أنه حتى قبل الانهيار في العام 2019، كانت السياسات المعتمدة تقوّض الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتقلّص تغطيته إلى نسبة ضئيلة من العمّال والعاملات في القطاع الخاص النظامي 

يمكن رصد مجموعة من السياسات التي جرى اتباعها في المراحل السابقة بوصفها من العوامل أو الأسباب التي قادت إلى إفلاس صندوق الضمان، حتى قبل الانهيار، ووسّعت عجزه المالي، وأفقدته القدرة على توسيع وتطوير تغطيته وتقديماته. 

تخفيض مساهمة القطاع الخاص

يقوم نظام الضمان الاجتماعي في لبنان على تمويل التقديمات والتعويضات عبر الاشتراكات التي يسدّدها الأجراء وأصحاب عملهم، بالإضافة إلى مساهمة الدولة بنسبة 25% من كلفة تقديمات فرع المرض والأمومة وفق المادة 73 من قانون الضمان. وتشكّل الاشتراكات، المورد الرئيس للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. 

يُعتبر نظام الاشتراكات سيء وغير عادل، فهو يحرم من التغطية كل من هو خارج العمل ويعجز عن تسديد قيمة الاشتراكات، ويشجّع على عدم التصريح عن الأجراء للتهرّب من تسديد هذه الاشتراكات، التي تبلغ حالياً 9% من الكسب الخاضع للاشتراكات في فرع ضمان المرض والأمومة، وهذه النسبة موزّعة بين 3% على عاتق المضمون و7% على عاتق صاحب عمله. بالإضافة إلى 6% على عاتق صاحب العمل في فرع التعويضات العائلية، و8.5% في فرع تعويضات نهاية الخدمة. 

قبل العام 2001، كانت نسب الاشتراكات أعلى، وكانت محاسبة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي غير المدقّقة وغير الشاملة (وبالتالي غير الصحيحة) تُظهر فوائض مالية «وهمية» في مختلف صناديق الضمان. هذه الفوائض كانت الحجّة التي استند إليها رئيس الحكومة آنذاك، رفيق الحريري، الذي صرّح في العام 2000 من أمام قصر الإليزيه بعد فوزه مجدّداً في الانتخابات النيابية أن «اشتراكات المؤسّسات في الضمان الاجتماعي هي أحدى المعوّقات الأساسية للاستثمار» مؤكداً على «أن هذا الموقف تتبنّاه كل القوى السياسية الأساسية الممثلة في مجلس النواب، والممثلة كذلك في مجلس الوزراء». وتحت عناوين حرية الاستثمارات وتوفير البيئة المناسبة لها، إضافة إلى مزاعم تحقيق فوائض مالية في الصندوق، تم تمرير قرار تخفيض نسب الاشتراكات، وبالتالي ضرب أحد أهم موارد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الماليّة: الاشتراكات.

افلاس الضمان الاجتماعي

يشير الرئيس التنفيذي في مؤسّسة البحوث والدراسات كمال حمدان إلى أن هذه الفوائض لم تكن تستند إلى معطيات إحصائية دقيقة، لأن حسابات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي كانت مبنية على أساس التدفق النقدي، من دون التأكد من تاريخ تحقّق النفقة. وبالفعل تحوّلت الفوائض في مختلف فروع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والبالغة 159,798 مليار ليرة في العام 2000، إلى عجز بقيمة 155,680 مليار ليرة في العام 2001 بعد إقرار المرسوم رقم 5102 الذي خفّض اشتراك فرع التقديمات العائلية من 10% إلى 6%، والمرسوم رقم 5101 الذي خفض اشتراكات فرع المرض والأمومة إلى من 15% إلى 9%.

هذه السرعة في التحوّل من فائض يتجاوز الـ159 مليار ليرة إلى عجز كبير يتجاوز الـ155 مليار ليرة في أقل من سنة، يؤكّد على وهم الفائض الذي كان في حقيقة الأمر ديوناً مستحقّة على الصندوق، فعلى سبيل المثال ازدادت نفقات التقديمات في فرع المرض والأمومة بنسبة 42.7% بعد قرار تصفية المعاملات المتأخّرة التي تعود إلى فترة التسعينيات.

وعلى الرغم من أن حمدان يعتبر أن معالم الأزمة بدأت مع تخفيض الاشتراكات نتيجة تقدير متسرّع بوجود فائض، إلا أنه يشير إلى أن العجز، خصوصاً في فرع المرض والأمومة، يعود إلى عامل هيكلي يرتبط ببنية السوق الاحتكارية التي يتحكّم بها موردو المستلزمات الطبيّة والاستشفائية والأدوية، وبنسبة معيّنة إلى حلقة ضيّقة من الأطباء، ما يكرّس بنية إنفاق ذات كلفة مرتفعة. 

بالمحصلة، ساهم تخفيض الاشتراكات وبنية السوق الاحتكارية في تعزيز العجز المالي لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وتركّزت المعاناة في صندوق المرض والأمومة الذي يغطّي تكاليف الاستشفاء المرتفعة في لبنان، اذ بلغ العجز في هذا الصندوق نحو 2,068 ألف مليار ليرة في العام 2018.

وعلى الرغم من أن العجز لم يكن ظرفياً وإنّما تكرّر سنوياً من العام 2001 حتى اليوم، فإن الحكومة ومجلس إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لم يتخذا أي إجراء، بل عمدت إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي إلى مخالفة القانون بمد يدها إلى فرع تعويضات نهاية الخدمة المتراكمة لصالح المضمونين لتمويل العجز، وجاء الانهيار النقدي والتضخّم ليقضي على القيمة الشرائية لديون فرع تعويضات نهاية الخدمة المترتبة لصالح فرع ضمان المرض والأمومة، وكان المضمونين هم الخاسرين في كل الأحوال.

الدولة تصادر أموال الضمان

بعد أن قلّصت الدولة مصادر تمويل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي من القطاع الخاص، تمنّعت عن سداد المستحقات المتوجبة عليها لصالح الصندوق. وبحسب بيانات الصندوق، تخلّفت الدولة عن سداد مساهمتها بنسبة 25% في صندوق المرض والأمومة، ومساهماتها في اشتراكات السائقين العموميين والمالكين والمخاتير والمتقاعدين منذ العام 2015 حتى العام 2020 باستثناء دفعة واحدة في العام 2016 بقيمة 70 مليار ليرة، ثم سدّدت في خلال الأعوام الممتدّة بين 2020 و2023 على 4 دفعات مبلغاً قيمته 3,389 مليار ليرة. وتبلغ الديون المتبقيّة على الدولة لغاية 31/12/2023، بحسب الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، نحو 4,267 مليار ليرة. وهذه الديون كانت تساوي نحو 2.8 مليار دولار قبل الانهيار، ولم تعد تساوي اليوم سوى أقل من 48 مليون دولار بسبب انهيار العملة.

يُعتبر نظام الاشتراكات سيء وغير عادل، فهو يحرم من التغطية كل من هو خارج العمل ويعجز عن تسديد قيمة الاشتراكات، ويشجّع على عدم التصريح عن الأجراء للتهرّب من تسديد هذه الاشتراكات

لم تكتفِ الدولة بالتخلّي عن واجباتها القانونية إزاء الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، سواء بصفتها دولة تساهم في التغطية الصحية أو بصفتها صاحب عمل يسدّد الاشتراكات عن الأجراء لديه، إذ عمدت في الوقت نفسه إلى حرمان الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي خلافاً للقانون من تنويع محفظة توظيفاته للأموال لديه وتوزيع المخاطر. ويؤكّد الاقتصادي شربل نحاس، في ورقة بحثية نشرها في العام 2003 تحت عنوان «دراسة أولية لنتائج مؤتمر باريس 2» أن دخل الفوائد شكّلت جزءاً حاسماً في إيرادات الصندوق، ولكن المصرف المركزي منع الصندوق من تنويع استثماراته وتحويلها إلى الدولار. ومن ناحية أخرى، ألزمت وزارة المالية الضمان بشراء سندات خزينة بمليار دولار مقابل صفر فائدة، خلافاً للقانون.

وبحسب عضو مجلس إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فضل الله الشريف، فإن اللجنة المالية أوصت في 2012 بتحويل أموال الضمان إلى عملة صعبة بحد أقصى يصل إلى 20% من هذه الأموال، أي ما يوازي 16 ألف مليار ليرة. وعلى الرغم من موافقة مجلس الإدارة على القرار وتصديقه من سلطة الوصاية، إلا أنه لم يجرِ تحويل أي مبلغ إلا بعد الأزمة في العام 2019، حيث تم تحويل جزء بسيط يوازي 3 إلى 4% فقط من هذه الأموال إلى الدولار الأميركي، وهذا يفسّر جانباً مهماً من الأسباب التي أدّت إلى انهيار تقديمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فوراً بالتزامن مع انهيار العملة وفقدان أموال الصندوق قيمتها الشرائية.

تبيّن هذه الإجراءات كيف وضعت الدولة يدها على أموال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، لاسيما من خلال السماح لمصرف لبنان بالتحكّم بها بما يخدم السياسات النقدية، وفي الوقت نفسه حرمان الصندوق من القدرة على حماية أموال العمّال والعاملات من أي أزمات.

وبحسب كمال حمدان، توفّر للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على الدوام سيولة فائضة في فرع تعويضات نهاية الخدمة، وكان حريّاً باللجنة المالية المعنية داخل الصندوق بإدارة واستثمار هذه السيولة الفائضة، أن تعمل على الاستفادة من الاستقلالية النسبية الكبيرة الممنوحة لها قانوناً كي تقوم بتنويع توظيف هذه السيولة، في الأصول الثابتة داخل لبنان وخارجه، وفي مروحة من العملات وأسواق المال الأجنبية. وكان من شأن ذلك الحفاظ بصلابة وفعالية أكبر على القيمة الفعلية لمدّخرات المضمونين والمضمونات. ولكن للأسف خضعت إدارة الضمان واللجنة المالية فيه لتدخّلات السلطة السياسية والقوى المتنفّذة، واستثمرت معظم تدفّقات السيولة في سندات الخزينة اللبنانية وودائع في المصارف المحلّية الخاضعة للخطر السيادي اللبناني، مع الاشارة الى أن هذه التدخلات كانت محكومة بهواجس وموجبات المضيّ في دعم سياسة التثبيت النقدي التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة.

سمة اللانظامية الطاغية

يلجأ أصحاب العمل إلى التهرّب من التصريح عن عمالهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أو إلى تخفيض قيمة أجورهم المصرّح عنها. هذا التهرب قوّض دائماً الموارد المالية للصندوق، وساهم بتوسيع اللامساواة، سواء بين العمّال المضمونين والعمّال غير المضمونين، أو بين المؤسّسات النظامية وغير النظامية.

يعدّ هذا الشكل من التهرّب، بالإضافة إلى التهرّب الضريبي والإفلات من العقاب، من سمات الاقتصاد السياسي اللبناني، وعامل رئيس في انهيار الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، إذ تمثّل الاشتراكات التي يسدّدها الأجراء المضمونين وأصحاب عملهم مصدر الدخل الأساس للصندوق.

ساهم تخفيض الاشتراكات وبنية السوق الاحتكارية في تعزيز العجز المالي لدى الضمان الاجتماعي، وتركّزت المعاناة في صندوق المرض والأمومة الذي يغطّي تكاليف الاستشفاء المرتفعة في لبنان

ينص قانون الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على شموله لجميع العمّال والعاملات في القطاع الخاص، مع بعض الاستثناءات غير المبرّرة اجتماعياً لفئات عدّة من الأجراء. ولكن نسبة العمالة اللانظامية في لبنان وصلت إلى 54.9% في العام 2019. وارتفعت هذه النسبة في ظل الانهيار حتى وصلت إلى 62.4%، وفق تحديث مسح القوى العاملة، الذي أجرته منظّمة العمل الدولية وإدارة الإحصاء المركزي في العام 2022، وبالتالي لم يكن قانون الضمان مطبقاً في أي يوم من الأيام الماضية، فضلاً عن أن نظام الاشتراكات كان بذاته محفّزاً على التهرّب في ظل ضعف الرقابة والمساءلة.

إذا أضفنا إلى العمال غير النظاميين ما نسبته 29.6% من المعطلّين عن العمل بحسب مسح القوى العاملة (تحديث 2022)، يتبيّن أن كتلة تتصل الى 90% من القوى العاملة غير مُنتسبة إلى الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، ولا أي جهة ضامنة أخرى في القطاع العام (تعاونية موظّفي الدولة، الأسلاك العسكرية والأمنية، وصناديق التعاضد، والصناديق المهنية)، أي أن 10.7% فقط من القوى العاملة تشارك في تمويل أنظمة الضمان النظامية وتستفيد منها على علّاتها. وهذا قوّض موارد الصندوق المالية وقوّض تغطيته وجعله جزءاً من نظام للحماية الاجتماعية مُشتت ومشرذم وغير عادل وغير كفوء ومكلف جداً.

لا ينحصر الأمر بعدم التصريح عن العمّال والعاملات لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بل أن معظم المصرّح عنهم لا يجري التصريح عن قيمة أجورهم الفعلية، اذ يبلغ متوسط الأجور المصرّح عنه للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي حالياً نحو 19.5 مليون ليرة، أي ما يوازي 217 دولار أميركياً بأسعار اليوم.

هذا العدد المحدود من المشتركين، بالإضافة إلى متوسط الأجر المنخفض جداً، لا يوفر إشتراكات كافية لتغطية تقديمات صحّية لنحو 1,273,097 شخصاً يشكلون مجموع المستفيدين من تقديمات الصندوق (المضمونون ومن هم على عاتقهم)، فضلاً عن تعويضات نهاية الخدمة والتقديمات العائلية. 

بُنيت السردية الأكثر انتشاراً عن أسباب تراجع القدرة المالية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على هذا التهرّب من التصريح عن العمّال وأجورهم، وتعتبر هذه السردية أنه لو كان أصحاب العمل يصرّحون عن عمّالهم وبأجورهم الحقيقية لكان الضمان بـ«ألف خير». وعلى الرغم من أهمّية التصريح عن العمّال ودفع الاشتراكات، تتجنّب هذه السردية النقاش بالسياسات الاقتصادية التي توفر البيئة المناسبة لتنامي هذا النوع من العمل غير النظامي. بالإضافة إلى أن السياسات المتبعة أسفرت عن إضعاف قدرة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على الرقابة، إذ أن قرار وقف التوظيف أدّى إلى شغور 1,154 وظيفة في الضمان الاجتماعي، وفق المسح الذي أجراه مجلس الخدمة المدنية في العام 2022، ويشمل الشغور وظائف أجهزة الرقابة والتفتيش واللجنة الفنية لدى الضمان.

تكرار السياسات نفسها

جاءت الإجراءات التي قادت إلى تدمير الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على إثر الأزمة الاقتصادية نهاية التسعينيات، وها هي الحكومة تكرّر السياسات نفسها على إثر الانهيار في العام 2019. فردّها على أزمة التسعينيات كان عبر تمرير تخفيض الاشتراكات في العام 2000، أمّا ردّها اليوم فكان عبر المادة 37 من قانون موازنة العام 2022 التي وضعت أسس استبدال الأجر بالمساعدات الاجتماعية النقدية والعينية، وبالتالي عدم إخضاع هذه المساعدات لاشتراكات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ما أدّى إلى حرمان الصندوق من إيرادات إضافية تصبّ في مختلف الفروع.

ولم تكتفِ السلطات بتحويل الأجر إلى مساعدة اجتماعية، لتوفر على أصحاب العمل المساهمة في تكاليف الحماية الاجتماعية، وتحميل العمّال عبء الأزمة. بل قرّرت أن أجور العمّال ومدّخراتهم في صناديق الضمان ليست ديوناً ممتازة ولا تتمتع بأي أولوية.