Preview التضخّم وتأثيره على فئات الدخل

دحض الفقر بمظاهر الاستهلاك
كيف نقرأ التضخّم في لبنان؟

مهما حاولنا وبذلنا من جهود لتقديم تفسيرات تقنية، ستبقى ظاهرة امتلاء المطاعم والحانات والمسابح وزحمة بعض الطرقات بمثابة اللغز للكثيرين، إذ كيف يُعقل أن تكون معدّلات التضخّم مرتفعة إلى هذا المستوى، والأجور منهارة والفقر عارم، في حين أن الاستهلاك الظاهر الذي تراه العين ويعكسه الإعلام يُعبِّر عن قدرات شرائية عالية وسرعة كبيرة في التكيّف مع ارتفاع أسعار السلع والخدمات.

للأسف، لا توجد أمامنا قاعدة بيانات إحصائية، موثوقة ودورية وتصدر في الأوقات المناسبة، وبالتالي سنواجه أول مصاعب المُحاججة التقنية، ولكن بوسعنا أن نلجأ إلى بعض المعلومات القديمة المُتاحة في محاولة تفكيك هذه الظاهرة وفهمها ببساطة شديدة. 

الاستهلاك انخفض بحدّة

أولاً، ليس صحيحاً أن مستويات الاستهلاك على المستوى الوطني عادت إلى ما كانت عليه قبل الأزمة. يتمّ الاستدلال للقول عكس ذلك بارتفاع فاتورة الاستيراد في العام الماضي إلى نحو 19 مليار دولار، وهو المستوى الذي بلغته في العام 2019 عند انفجار الأزمة.

بلغ استهلاك الأسر من الناتج المحلّي الإجمالي نحو 106%، وبما أن الناتج المحلّي الإجمالي لا يساوي اليوم سوى نصف قيمته في العام 2019، فهذا يعني بالتأكيد أنّ الاستهلاك انخفض بحدّة في السنوات الأربع الماضيةفي الواقع، لا يأخذ هذا الاستدلال بالاعتبار أن الكمّيات المستوردة أقل ولكن أسعارها أعلى بفعل التضخّم في الخارج، وأن المستوردين عمدوا إلى تخزين كمّيات هائلة من البضائع عشيّة تعديل سعر الصرف لاحتساب الرسوم الجمركية، وهذا العمل يُدرُّ أرباحاً فاحشة للتجّار من فروقات سعر الصرف وحده. ليس هذا فحسب، بل إن آخر حسابات قومية صادرة عن إدارة الإحصاء المركزي تعود لسنة 2020، وقد بلغ استهلاك الأسر من الناتج المحلّي الإجمالي نحو 106%، وبما أن الناتج المحلّي الإجمالي لا يساوي اليوم سوى نصف قيمته في العام 2019، فهذا يعني بالتأكيد أنّ الاستهلاك انخفض بحدّة في السنوات الأربع الماضية، وتغيّرت بنيته وهيكليّته ونوعيّته ومصادر إنتاجه.

توسيع التفاوتات

ثانياً، لا شكّ أن معظم أصحاب الأعمال نجحوا في التكيّف مع الأوضاع القائمة، نوّعوا بضائعهم وخدماتهم وعادوا إلى تحقيق أرباحٍ بهوامش أعلى بكثير من هوامش تقلّبات سعر الصرف. هؤلاء يمثّلون نحو 5% من السكّان. وهناك نحو 10% من القوى العاملة في لبنان صرّحت أنها تتقاضى أجورها بعملة أجنبيّة كلّياً أو جزئياً، وفق تحديث مسح القوى العاملة في مطلع العام 2022. وكذلك، هناك نحو 15% من الأسر المقيمة في لبنان تتلقّى دورياً أو بصورة مُتقطعة تحويلات مالية وعينية من أفرادها المهاجرين، وفق المسح نفسه، علماً أن مصادر أخرى ترفع نسبة الأسر المتلقّية للتحويلات إلى نحو 30%، ولكن الجميع يتفقون أن أكثرية الأسر المعنية لا تتلقّى إلّا مبالغ قليلة، على عكس الشائع... ويمكن مواصلة حشد البيانات المُتاحة للتوصّل إلى استنتاج عامّ يفيد أن ما بين ربع السكّان وثلثهم حافظوا على قدرة استهلاكية تفوق الحدّ الأدنى المُتخيّل، أو استعادوها بفعل مواقعهم في السوق والقوى المُسيطرة.

هناك ما لا يقلّ عن مليون نسمة لديهم قدرة استهلاكية مُتفاوتة، وهذا العدد يفوق الطاقة الاستيعابية للمرافق السياحية خارج الفنادق، ولا سيّما أن هذه المرافق باتت مُركّزة في أحياء أو بلدات معيّنةومهما كانت تقديرات السكّان المشمولين بهذه البيانات، فهي تعني أن هناك ما لا يقلّ عن مليون نسمة لديهم قدرة استهلاكية مُتفاوتة، وهذا العدد يفوق الطاقة الاستيعابية للمرافق السياحية خارج الفنادق، ولا سيّما أن هذه المرافق باتت مُركّزة في أحياء أو بلدات معيّنة، وبالتالي لا يعكس ازدحامها حال الأحياء والبلدات الأخرى، ولا سيّما خارج مدن الساحل والشواطئ والجبال القريبة منها.

إعادة تشكيل الطبقات

ثالثاً، تصدر إدارة الإحصاء المركزي شهرياً ما تسمّيه «الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك»، الذي يقيس تطوّر أسعار السلع والخدمات المُستهلكة من الأسر المقيمة في لبنان، من شهرٍ إلى شهر ومن سنةٍ إلى سنة. ولكن هذا المؤشّر، على أهمّيته، لا يعكس اختلاف مُعدّلات التضخّم بين الطبقات، أو بين فئات الدخل المُتفاوتة.

تبيِّن الأرقام القياسية لأسعار الاستهلاك متوسّط ارتفاع الأسعار كلّ سنة، إذ بلغ معدّل التضخّم في العام الماضي على سبيل المثال نحو 171% قياساً إلى قيمة الرقم في نهاية السنة السابقة. وقد بلغ معدّل التضخّم المُتراكم نحو 413.8% في السنوات الأربع بين 2019 و2022. إذا احتسبنا قيمة الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك في نهاية أيار/مايو 2023 قياساً إلى ما كانت قيمته في أيار/مايو 2019 سنصل إلى نتيجة صادمة، إذ ارتفعت أسعار السلّة الاستهلاكية للأسرة في لبنان بنسبة 3,760.3%. أي أن الأسرة التي كانت تنفق قبل 4 سنوات نحو مليون ليرة شهرياً على حاجاتها الاستهلاكية الدورية والمُعتادة، باتت تحتاج اليوم إلى 38 مليوناً و603 آلاف ليرة للإنفاق على الحاجات نفسها، بالكمّيات والنوعيّات نفسها، وهذا المبلغ يعادل نحو 415 دولاراً على سعر صرف 93 ألف ليرة للدولار، وتكفي الإشارة هنا إلى أن متوسّط الأجر المُصرّح عنه للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لم يتجاوز 139 دولاراً في آذار/مارس 2023.

التضخّم يعيد تشكيل هذه الطبقات ويوسّع التفاوتات الكبيرة والمُتعدّدة بينها، وهو ما تشي به بعض التقديرات التي باتت تحصر الطبقات الوسطى بنسبة لا تتجاوز ربع السكّانهذه الأرقام ومقارنتها بعضها ببعض يجب أن لا يربك القراءة والتحليل، فهي تعني أنّ المجتمع اللبناني المقيم خضع لتحوّلات جارفة أعادت تكوين بنيته الطبقية، وبالتالي يمكن تلمّس ملامح تشكّلات طبقيّة اضمحل موقعها في الأزمة، في حين أتاحت الأزمة تقدّم تشكيلات مستفيدة. وبالتالي يجدر فهم مقولة «انهيار الطبقات الوسطى» من منظور هذه البيانات، إن التضخّم يعيد تشكيل هذه الطبقات ويوسّع التفاوتات الكبيرة والمُتعدّدة بينها، وهو ما تشي به بعض التقديرات التي باتت تحصر الطبقات الوسطى بنسبة لا تتجاوز ربع السكّان، بالإضافة إلى نسبة 5% من الأغنياء، وبات ثلاثة أرباع الأسر رازحين تحت ثقل الفقر بالمقياس المُتعدد الأبعاد، أي الذي لا يقتصر على الدخل وإنما على معايير أخرى تخصّ الصحّة والتعليم والسكن والعمل والملكيّة والقدرة على الوصول إلى الخدمات العامّة. 

التضخّم وتأثيره على فئات الدخل

يرتفع معدّل التضخّم كلّما انخفض الدخل

رابعاً، لا يعكس معدّل التضخّم السنوي، ولا الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك، الصورة الكاملة لما يحدث على أرض الواقع. فالبيانات المُتاحة تعتمد متوسّطاً لارتفاع الأسعار مبنياً على سلّة متخيّلة من السلع والخدمات التي تستهلكها أسرة وسطية، من كلّ الجوانب: عدد الأفراد، معدّل الإعالة، مستوى دخلها، نوعية عيشها، وطبيعة احتياجاتها... لذلك، إذا تتبعنا المعلومات المُتاحة عن التفاوتات الواسعة في توزيع الدخل والاستهلاك، يمكن أن نستنتج أن أكثرية سكّان لبنان يعيشون تحت قيمة هذه السلّة المُتخيّلة.

إذا كان مُعدّل التضخّم في العام الماضي بلغ 171% على أساس متوسّط استهلاك الأسرة الوسطية، فهذا يعني أنه بلغ أقل لدى الأسر الغنية وأكثر لدى الأسر الفقيرةأوّل ما يجب لفت النظر إليه، هو أن الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك هو نتيجة حساب متوسّط ارتفاع الأسعار وفق أبواب استهلاك الأسرة: الغذاء، المشروبات الروحية والتبغ، المسكن وخدماته، الأثاث وصيانة المسكن، الصحّة، النقل، الاتصالات، الاستجمام والترفيه، التعليم، مطاعم وفنادق، سلع وخدمات أخرى... ويتم حساب المتوسّط وفقاً لتثقيلات (أوزان) كلّ باب من هذه الأبواب. فمثلاً، تُقدِّر إدارة الإحصاء المركزي وزن باب استهلاك الغذاء مثلاً بنحو 20% من مجمل السلّة الاستهلاكية للأسرة، ولكنّنا نعلم تمام العلم أنّنا كلّما انخفضنا في سلّم الدخل سيزداد وزن الغذاء في سلّة استهلاك الأسرة، ويصل إلى أكثر من ثلاثة أرباع سلّة الأسر الفقيرة جدّاً. وهذا ينطبق على النقل، وعلى المسكن وخدماته، بالإضافة إلى تكاليف الصحّة التي يعجز الفقراء عن تحمّلها، ويغرقون في المزيد من البؤس والديون بسببها.

وبالتالي، إن ارتفاع أسعار أبواب الغذاء والنقل والمسكن بنسب أعلى بكثير من متوسّط ارتفاع أسعار السلة الاستهلاكية يعني أن مُعدّلات التضخّم ليست مُحايدة، إذ سيرتفع المعدّل كلّما انخفضنا على السلّم الطبقي، فإذا كان مُعدّل التضخّم في العام الماضي بلغ 171% على أساس متوسّط استهلاك الأسرة الوسطية، فهذا يعني أنه بلغ أقل لدى الأسر الغنية وأكثر لدى الأسر الفقيرة.

التضخّم وتأثيره على فئات الدخل

أسعار الغذاء والنقل ارتفعت بالدولار والليرة

خامساً، ارتفعت أسعار الغذاء بنسبة مهولة بلغت 17 ألف و260 في المئة، أي أن ما كانت تشتريه الأسرة بألف وخمسمئة ليرة في أيار/مايو 2019، باتت تحتاج إلى 173 ألف و600 ليرة لشراء السلعة الغذائية نفسها، وهذا يعبّر عن ارتفاع ليس بالليرة فحسب بل بالدولار أيضاً، وهو ما يؤثّر على مستوى معيشة أكثرية السكان، الذين يعجزون عن الحصول على المكوّنات الغذائية الضرورية والكافية، بسبب انهيار قدرتهم الشرائية بالتوازي مع ارتفاع أسعار الغذاء بوتيرة ومستوى غير مُبرّرين إلّا من زاوية تعاظم الأرباح التجارية والصناعية. ويمكن الإشارة أيضاً إلى ارتفاع أسعار النقل بنسبة 10 آلاف و158 في المئة، أي أن «السرفيس» الذي كان بألفي ليرة بات بنحو 205 آلاف ليرة، وهذا يمثّل ارتفاع السعر بالدولار كما بالليرة. وهذه التقديرات تبيّن أن معدّلات التضخّم ضمن شرائح الدخل الأدنى قد تكون مضاعفة للمتوسّط العام.

ارتفعت أسعار الغذاء بنسبة مهولة بلغت 17 ألف و260 في المئة، أي أن ما كانت تشتريه الأسرة بألف وخمسمئة ليرة في أيار/مايو 2019، باتت تحتاج إلى 173 ألف و600 ليرة لشراء السلعة الغذائية نفسهاتوضيحات ضدّ الإنكار

طبعاً، لا تقدّم هذه التوضيحات تحليلاً شاملاً للتضخّم، فليس هذا مُبرِّرها، بل مجرّد لفت نظر إلى أن الأزمات، كالتي تحصل في لبنان، لا تزيل الفوارق والتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، وإنما تعيد تشكيلها، وكما هو حاصل في لبنان، فهي توسّعها أكثر بكثير ممّا كانت قائمة. لذلك، لا معنى لدحض الفقر بمظاهر الاستهلاك إلّا في سياق الإنكار المقصود الذي تمارسه القوى السياسية والاقتصادية المُسيطرة وتشيعه وسائل إعلامها.