Preview التقشّف في لبنان

كيف نقرأ التقشّف في الموازنة العامّة؟

5956 مليار ليرة هي قيمة الفوائض المالية التي حقّقتها الموازنة في خلال العامين 2021 و2022، بمعنى أن الدولة اللبنانية جبت إيرادات أكثر ممّا أنفقت خلال العامين الماضيين، في ظل سياسات تضخمية وانكماشية متعمّدة،انطوت على رفع الدعم وتحرير الاسعار وتخفيض الاجور الحقيقية وتعطيل الخدمات العامّة.

الفائض المالي والتقشف

في خلال فترة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، طوّر الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز طريقة جديدة للنظر في الإنفاق العام والإنتاج والتضخّم تتناقض مع النظرية الكلاسيكية. فوفقاً لكينز، تقول النظرية الكلاسيكية إن انخفاض الطلب الكلّي في خلال الأزمات يُضعِف الإنتاج وخلق الوظائف اللذين يعجّلان من انخفاض الأسعار والأجور، وهو ما يحثّ المُستثمرين على الاستثمار وتوظيف المزيد من الأشخاص، بما يؤدّي إلى استعادة النمو الاقتصادي. إلّا أن تعمّق الكساد الكبير في حينها واشتداده، دفع بكينز إلى التشكيك بهذه النظرية ودحضها. فقد حاجج بأن الركود يزيد تشاؤم رأس المال الخاص، بحيث لن يرغب المستثمرون في الاستفادة من انخفاض الأجور لتوظيف المزيد من العمّال وإنتاج المزيد من السلع التي لن يتمكّنوا من بيعها بسبب ضعف الطلب، فيفضّلون الانكفاء، وهو ما من شأنه أن يفاقم الضعف الاقتصادي. إنطلاقاً من هذه التحليلات، وضع كينز نظريّته عن الاقتصاد الكلّي، ودعا إلى ضرورة تدخّل الحكومات عند انكفاء الاستثمار الخاص في خلال فترات الضيق الاقتصادي، واتباع سياسة مالية مُعاكسة تقضي بزيادة الإنفاق العام لتعويض التراجع في الاستثمار ومحاربة البطالة، وبالتالي تعزيز الإنفاق الاستهلاكي، ممّا يحقّق الاستقرار في الطلب الكلّي، ولو كلّفها ذلك تسجيل عجوزات في ماليّتها العامّة.

بالفعل، تعتمد العديد من الحكومات السياسات الكينزية في خلال الأزمات. ففي في أعقاب الأزمة المالية العالمية في العام 2008، تدخّلت الحكومة الأميركية للتصدّي للركود وإنقاذ الشركات المُثقلة بالديون في العديد من الصناعات، التي تعتبرها حيوية في الاقتصاد الأميركي، بما فيها البنوك وشركات التأمين وشركات صناعة السيارات. وفي العام 2009، وقّع الرئيس الأميركي على قانونٍ يقضي بإنفاق 831 مليار دولار من أجل إنقاذ الوظائف القائمة وخلق وظائف جديدة، بالإضافة إلى تمويل إعانات البطالة للأسر، والإنفاق على الرعاية الصحية والبنية التحتية والتعليم. أيضاً، في أعقاب جائحة كوفيد-19، أقرّت الحكومة الأميركية مجموعة برامج لإعفاء الشركات والأفراد من بعض الديون وتمديد آجال بعضها، كما ضخّت أموالاً عامّة لتمويل إعانات البطالة للأسر.

لكن الأمور لا تبدو مشابهة في لبنان. فمع بداية الأزمة، جرى تطبيق النظرية الكلاسيكيّة، وفرضت سياسات تقشّفيّة في الموازنة العامّة، ترافقت مع سياسات نقديّة تقييديّة مارسها المصرف المركزي اعتباراً من أوائل العام 2018 عندما أوقف دعم الفوائد على القروض السكنيّة، وقد انعكست هذه السياسات بتراجع عجز الموازنة العامّة من 8 آلاف مليار ليرة في العام 2018 إلى 3,500 مليار في العام 2020، وانكماش الناتج المحلّي  المحلّي بنسبة 1.7% في العام 2018، من ثمّ 7.2% في العام 2019، ونحو 21.4% في العام 2020 بحسب البنك الدولي. ومع اشتداد الأزمة اعتباراً من العام 2020، وانهيار المصارف والعملة المحلّية والتوقّف عن سداد سندات اليوروبوند، أتى الردّ بالمزيد من الإجراءات الانكماشيّة والتضخّمية في السياسات النقديّة والمالية. وبدلاً من تدخّل الدولة عبر الإنفاق العام للتصدّي للانكماش وتحريك نشاط الاقتصاد وخلق الوظائف وتعزيز القدرة الشرائية للسكّان، عمدت الحكومة ومصرف لبنان إلى تحقيق فوائض ماليّة باتباع وصفة كارثيّة عنوانها وقف الدعم المشوّه بالأساس، وتحرير الأسعار، والامتناع عن أي إنفاق عام على زيادة الأجور الحقيقية والخدمات العامّة والحماية الاجتماعية والبنية التحتية. بحيث استمر العجز في التراجع، لا بل تحقّقت فوائض مالية اجمالية في العامين 2021 و2022، بلغت قيمتها نحو 5956 مليار ليرة لبنانية، إذ جبت الخزينة العامّة إيرادات بقيمة 59 ألف مليار ليرة وأنفقت ما قيمته 53 ألف مليار ليرة. وإذا استثنينا الفوائد التي دفعت إلى الدائنين منذ العام 2018، يصل الفائص الأولي التراكمي إلى نحو 12 ألف مليار ليرة لبنانية.

يُعرَّف الفائض المالي الاجمالي بأنه الفارق الإيجابي بين الإيرادات الضريبية وغير الضريبية التي تجبيها الخزينة العامّة والنفقات التي تتكبّدها. بمعنى أنه يعبّر عن الوضعيّة حيث تكون الإيرادات المُحقّقة أعلى من النفقات المصروفة. يعتبر أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية ألبير داغر أن تحقيق فوائض مالية في الموازنات العامّة هو «أحد التوصيات العشر لتوافق واشنطن وركائز الاقتصاد النيوليبرالي، حيث تقوم بضبط إنفاقها العام في مقابل تأمين إيرادات أعلى تسمح بتكوين فوائض دائمة في الموازنة لتغطية كلفة ومدفوعات دينٍ موجود».

في الحالة اللبنانية الراهنة نجحت الحكومة منذ العام 2018 في تخفيض قيمة العجز سنوياً وصولاً إلى تحقيق فوائض مالية في العامين الأخيرين، إلّا أن الأهم من ذلك، بحسب داغر، هو «تراجع القيمة الفعلية لحجم إنفاق الدولة من نحو 17 مليار دولار في العام 2018 إلى نحو مليار دولار في العام 2022. وهو ما يعني تدمير البلد من كلّ النواحي، بدءاً من أجور ورواتب القطاع العام التي انخفضت من 5 مليارات دولار في العام 2018 إلى نحو 300 مليون دولار حالياً، فضلاً عن القضاء على أي قدرة على الاستثمار في البنية التحتية أو المشاريع الاقتصادية أو تقديم الخدمات العامّة»، وهو ما يعتبره دليلاً إضافياً على أن «الحكومة لا تريد الإنفاق نهائياً، لإقناع صندوق النقد بأنها ملتزمة بإملاءاته لجهة ضبط الإنفاق وزيادة الإيرادات لتحقيق فوائض مالية تسمح بالاستمرار بدفع الديون وتحمّل كلفتها. إلّا أن كلّ ذلك يندرج ضمن ما يمكن وصفه بالموازنة التجويعية وسياسة إبادة المجتمع الحالي، ففي حين انخفضت قيمة الأجور الحقيقية على الرغم من كلّ الإضافات الترقيعية التي أضيفت إلى الرواتب مؤخراً ، ففي خلال هذا الشهر انخفض متوسّط الأجور في القطاع العام إلى ما دون المئة دولار وهو ما لا يكفي لتغطية فاتورة الكهرباء. ولا تزال الحكومة تدفع الفوائد المترتبة على الدين الداخلي للبنوك، وأكثر من ذلك رفعت تعرفات الاتصالات والكهرباء والجمارك لزيادة الإيرادات على حساب عيش الناس في شروط حياة غير طبيعية».