Preview أوَّل نوَّار

محاولة نبش أوّل «أوّل أيار» في البلاد

طُلبَ منّي أن أكتب نصّاً «تاريخياً»، أو بالأحرى عن «مفارقة تاريخية» تتعلّق بمناسبة اليوم: أوّل أيار/مايو في لبنان– أو بالأحرى: في ما كان سوف يصبح لبنان، بعد بضع سنوات. وها أنا أكتب هذا النَصّ بالفعل، لكنّ العلّة (الأولى) أنّني لستُ مؤرِّخاً. والعلّة الثانية، أنّ المرجع الذي يُفترَض أنّ يستند إليه النَص لحلّ هذه المفارقة هو كتاب «جذور السنديانة الحمراء» للشيوعي محمّد دكروب. ويشير الأخير بدوره، في مطلع الكتاب، إلى أنّ ما يرد فيه «حكاية، وليس «تاريخاً» [...] لستُ مؤرّخاً، ولكنّني راوي أحداث».1

حلو، قلتُ في نفسي. أكلنا هوا.

أوّل «أوّل أيار» عرفته المنطقة، كي لا أقول لبنان الذي لم يكن، كان في الحقيقة في العام 1907، وليس 1925

لكن الفكرة بسيطة: تأسّس الحزب الشيوعي اللبناني (حزب الشعب آنذاك) في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 1924. وبما أنّ «اليوم المركزي» في عالم هذا الحزب، وهذا الفكر عموماً، هو الأوّل من أيار/مايو، فمن السهل أن يتنبّأ المرء أنَّ أوّل «أوّل أيار» عرفه لبنان كان أوّل «أوّل أيار» بعد تأسيس الحزب، أي: 1 أيار/مايو 1925. فكرة بسيطة للغاية، صح؟

إيه لأ، قال محمد زبيب، متوَقّفاً عند تفصيلٍ يمرّ خلسة في الكتاب المذكور، وهو أنّ أوّل «أوّل أيار» عرفته المنطقة، كي لا أقول لبنان الذي لم يكن، كان في الحقيقة في العام 1907، وليس 1925.

آه صحيح. أهملتُ تفصيلاً: العلّة الثالثة، أنّ السياق الذي عرضتُه للتَو، دارَ قبل أيّامٍ على التاريخ المُرتَقب لنشر هذه المادّة (إن نجحت بإتمامها)، ما يعني ألّا وقتاً كافٍ للتقصّي، أو للبحث «المحترم»، أو حتّى للعودة إلى مصادر أخرى، سوى هذا الكتاب الذي بين يدَي، والصادر عن دار الفارابي في العام 1974، تحديداً لمناسبة العيد الخمسين للحزب الشيوعي اللبناني.

وقد يسأل القارئ: ما الهَمّ؟ ما الهَمّ إن كان أوّل «أوّل أيار» في المنطقة، يعود للعام 1925 أم  للعام 1907؟ والصراحة أنّني لا أملك أي إجابة. ليس في الأمر «هَمٌّ». ولولا أنّني صاحب هذه المادّة، كنتُ لأُجيب، أيضاً بصراحة: لا يهمّ. لكنّي فكّرتُ أنّ فارق التاريخَين قد يعني شيئاً ما. لا بدّ أن يعني شيئاً ما. أقلّه اختلاف الملابس والذوق العام!

كما يُفتَرَض أن يُرافق الفارق التاريخي فارقٌ مكانيّ. فمن «المعلوم» أنّ «أوّل أيّار» في العام 1925، نُظّمَ في قاعة سينما كريستال في بيروت، خلف ساحة البرج، على مدخل سوق النورية. لكنّ تلك القاعة لم تكن موجودة في العام 1907. فأين احتفل شيوعيو تلك السنة؟ والإجابة: على الشاطئ اللبناني. لكنّ الشاطئ اللبناني فسيحٌ، وفي كتاب دكروب حكايتان تتضاربان.

تقول الحكاية الأولى: «على الشاطئ اللبناني، جرى - في العام 1907 - احتفال بعيد «أوّل أيار» (لعلّه أوّل احتفال بهذا العيد العمّالي العالمي جرى فوق أرضٍ عربية). تجمّع عددٌ من الناس. وأُلقيَت بعضاً من الخطب. وصفَّق الحاضرون للخطباء. قيل إنّ المحتفلين كانوا يعلّقون شرائط حمراء على صدورهم. وقيل إنّ مكان الاحتفال قريب من «الضبية»، قرب الشاطئ، وبجانب حاووز ماء. وقيل إنّ المحتفلين غرسوا قرب الحاووز شتلةَ شجرةٍ ما أطلقوا عليها اسم شجرة الحرِّية».2  ولا يرفق دكروب هذه القيل والقال بأي مصدر. ثم يستشهد بعد ذلك بمصادر أخرى تتكلّم عن حفل العام 1907، وعن «الشاطئ اللبناني» بلا تحديدٍ إضافي.

كان هذا الاحفال على شاطئٍ ما، يُرَجَّح أنّه شاطئ الروشة قرب الدالية، لكن يُحتمل أن يكون شاطئ الضبية

ثم تأتي الحكاية الثانية: «في ذلك الزمان، في سنة 1907، والبلدان العثمانية بأسرها رازحة تحت نير الحكم الأوتوقراطي، تئنّ من جور عمّال السلطان عبد الحميد الثاني، كان يعيش في بيروت قبضة من الشبّان المستنيرين [...] أمّا قصّة احتفالهم بأوّل نوَّار فسمعتها من ثلاثة منهم، في مناسبات متباعدة. وجرى ذلك سنة 1907 في محلّة «الروشة» ببيروت، وهي مقفرّة من كل مسكن على رمال الشاطئ، وبعيدة عن عيون الرقباء».3  وينسب دكروب هذا الاقتباس إلى المؤرِّخ يوسف إبراهيم يزبك، وكتابه «حكاية أوّل نوَّار».

إلى هذا الحدّ، وفق المصادر الواردة في الكتاب، نحسم أن:

أولاً؛ أناساً احتفلوا بحَقّ بـ«أوّل أيار» في العام 1907.

ثانياً؛ كان هذا الاحفال على شاطئٍ ما، يُرَجَّح أنّه شاطئ الروشة قرب الدالية، لكن يُحتمل أن يكون شاطئ الضبية.

ثالثاً؛ كان هذا الاحتفال الأوّل بهذه المناسبة «هنا»، ما يجعل احتفال العام 1925 الاحتفال الثاني؛ بل أنّ اقتباساً خجولاً في كتاب دكروب يلمّح إلى إمكانية وجود احتفالات أخرى بين الزمنَين.

«من بين خطباء مهرجان أيار 1925، الكاتب الباحث خيرالله خيرالله [...] ثم قال خيرالله خيرالله إنّ هذا الاحتفال ليس هو أوّل احتفال بعيد أوّل أيار يجري في لبنان! لعلّه الثاني، أو الثالث، لكنّه ليس الأوّل».4

الزمان والمكان، إذاً أيضاً: الأشخاص الذين تحرّكوا في هذَين البعدَين. وإنّ تحديد الأشخاص بالإسم، يقطع الشكّ. في كتابه، واستناداً إلى كتاب يزبك، يعدِّد دكروب بعض خطباء حفل العام 1907: مصطفى الغلاييني (من بيروت)، وفليكس فارس (من صليما)، وداود مجاعص (من الشوير)، وجرجي نقولا باز (من بيروت)؛ والأهم، صلة الوصل بين الزمنين: خيرالله خيرالله (من البترون)، وقد شارك في احتفال العام 1907، وخطب في احتفال العام 1925. وكان هؤلاء الشبّان يشكّلون في ما بينهم، تلك الأيام، حلقة باسم «الشبيبة الحرّة».5

إلى هذا الحدّ، ربّما أكون قد كوّنت إجابةً على السؤال الوارد سابقاً: «ما الهمّ إن كان أوّل «أوّل أيار» في المنطقة، يعود للعام 1925 أم للعام 1907؟». السؤال الآن أوضَح. أقلّه يمكن القول إنّ عمر المشاركين قد تغيّر. فعندما خطب خيرالله خيرالله في احتفال العام 1907، كان عمره 25 عاماً، ولمّا خطب بالاحتفال الثاني، كان يناهز 43 عاماً. لا بدّ أنّ بعضاً من شعره شابَ، هذا إن لم يخسره. لا أعرف شكله صراحةً. وربّما صار يرتدي نظّارة. ولا أعتقد أنّ يدَيه اخشوشنتا أكثر، لكن لا بدّ أنّه حردبَ قليلاً بسبب قعدة المكتب. المهمّ.

تغيّرات أخرى طرأت بين الزمنَين. أقلّه بما يتعلّق بتعريف المناسبة نفسها. 

فإن كان الحديث عن 1 أيار/مايو 1925، قيلَ إنّه «أوّل احتفال عمّالي بتاريخ لبنان»، على أنّ «لبنان» بنسخته التجريبية قد انطلق في العام 1920، تحت الانتداب الفرنسي. 

أمّا لتعريف المناسبة ذاتها، لكنّ المقامة في 1 أيار/مايو 1907، وجبَ القول إنّها «أوّل احتفال عمّالي بتاريخ السلطنة العثمانية». والحقّ أنّ هذا الوصف أفخم بكثير. مش هيك؟ حلوة. هيك إنّه على الدالية الي كانت مسَوّرتها بلدية بيروت، اجتمع ناس واحتفلوا بأوّل عيد عمّال بسلطنة كانت بتحكم مليون أو مليونين كيلومتر مربّع، وبعد 100 سنة وشوي إجا محافظ البلدية يتفرعن على نفس الشطّ. حلو، صح؟

لا بدّ أنّ الأبونا الذي رافق تشييد المزار، استطاع أن يرى من فوق مجموعة يتحلّقون على شاطئ الروشة، متسائلاً: «ليش في ناس لابسين بدلات على شطّ البحر؟ جنّت العالم يا الله». ولو رفع منظاره آنذاك، لكان رأى الشارات الحمراء على صدورهم

لكنّ لا بدّ أنّ هناك مفارقات أخرى. أحياناً أفكّر أنّ المفارقات بين مسألتَين تغلب المتوَقَّع بينهما بكثير. إليكم هذه المفارقة مثلاً: في 1 أيار/مايو 1907 وفي البقعة الجغرافية نفسها، فيما كانت ثلّة من «الشبيبة الحرّة» تحتفل بأوّل عيد عمَّال عالمي في المنطقة، كانت مجموعة أخرى من المواطنين تدشِّن مزار «سيّدة لبنان» على تلّة حريصا. تلّة جبلية تبعد عن شاطئ بيروت 26 كيلومتراً. 

ونظراً لقلّة العمران آنذاك، ونقاء الجوّ ما قبل زمن الموتورات، لا بدّ أنّ الأبونا الذي رافق تشييد المزار، استطاع أن يرى من فوق، من التلّة، مجموعةً من الأشخاص في البعيد، يتحلّقون على شاطئ الروشة، متسائلاً: «ليش في ناس لابسين بدلات على شطّ البحر؟ شو صاير اليوم؟ جنّت العالم يا الله». ولو رفع منظاره آنذاك، لكان الأبونا ليرى الشارات الحمراء على صدورهم. ولا بدّ أنّه رآهم بشكلٍ أوضح بعد، لو افترضنا أنّ الحفل أُقيمَ على شاطئ الضبية.

ومع ذلك، لا بدّ أنّ هناك مفارقات أخرى. هذه مفارقة أخرى: استهواني في كتاب «جذور السنديانة الحمراء» هذا «الانفعاط» بالشمس. يفتتح دكروب الفصل الأوّل بالقول إنّ «شمس أيار تضيء ساحة الشهداء»؛6  وفي المقدّمة، يشرح دكروب هذا القول ليشير إلى تقاطع الحقيقة والمجاز، وليوضح المنهج الذي اعتمده في الكتابة، فيقول:

مثلاً: «شمس أيار تُضيء ساحة الشهداء»… كان هذا يوم أوّل أيار عام 1925. من الطبيعي، في أيار، وفي النهار، أن تكون الشمس في عزّ سطوعها… ولكن، صدفة، قد تمطر السماء! فأصغَيتُ إلى أحاديث آرتين مادويان7  ويوسف إبراهيم يزبك، وكانا من صانعي ذلك اليوم وشهوده، فوردت الشمس كثيراً في أحاديثهم، كواقع في ذلك اليوم، وكرمزٍ أيضاً – فعمد الراوي إلى التأكيد: «شمس أيار تضيء ساحة الشهداء».8

ولأن دكروب يتكمّش بالشمس إلى هذا الحدّ، شمس 1 أيار/مايو 1925 كما الشمس-الرمز، تملّكتني الحشرية، وتساءلت: ماذا لو لم تُشمس؟ كيف كان دكروب ليفتتح كتابه؟ وكيف كان ليفسّر منهجه؟ يعني، كان بدّي حطّ على عينه. وتساءلتُ عن أحوال الطقس، في ما اتّفقنا على أنّه أوّل «أوّل أيار» بالفعل، أي 1 أيار/مايو 1907؛ وإليكم هذه المفارقة: كان شهر أيار/مايو من العام 1907 الشهر الأصقع في القرن العشرين، بل كان أيضاً سادس أصقع ربيع-صيف سُجّل منذ العام 1659. أها! ها هم «الشبيبة الحرّة» يحتفلون بأوّل «أوّل أيار» في المنطقة، لكن أين الشمس التي تُضيء شاطئ الروشة يا دكروب؟ فوق الدكّة، يُقال إنّ الربيع تأخّر في العام 1907، بسبب شدّة البرد. إذاً:

أولاً؛ تسقط المجازات!

ثانياً؛ يبدو أنّ الـClimate change is real منذ ذلك الحين.

ثالثاً؛ قد نحتفل بأوّل أيار/مايو والشمس لا تُضيء ساحة الشهداء.

المهمّ. يمكن سحب المفارقات من فارق الزمنَين إلى ما لا نهاية. مثل أنّ إقامة حفل كهذا في العام 1907، على رمزيّته، يزعزع ولو قليلاً فكرة أنّ الفكر الشيوعي كان بحاجة إلى انتصار ثورة 1917 البلشفية  لـ«تصدير» مناسبات مثل عيد العمّال؛ ويرجّح أنّ تجربة «الثورة» في روسيا في العام 1905 (ولو أنّها فشلت لكنّها) كانت تكفي لفتح جديدٍ ما؛ وأنّ في بلادنا شبيبةً ارتأوا، قبل انتصار الثورة، أن يحتفلوا بالعيد… إلخ.

ولو سأل القارئ: ما الهمّ؟ أقول، لا يهمّ. حشرية فحسب. بل أكثر: ألا تدفع حشرية الباحث عن أوّل «أوّل أيّار»، إلى التفكير بآخر «أوّل أيار»، خصوصاً في «بلادنا»؟

أو مثل التساؤل: هل فعلاً كان الحفل الأوّل في العام 1907، بعد عامَين على تجربة العام 1905 في روسيا؟ أم أنّ المنطقة «هنا» احتفلت بهذا العيد قبل هذا التاريخ، وفي عامٍ أقرب بعد إلى العام 1886، تاريخ «أوّل أيار» عمّال شيكاغو ؟ هل خطب خطباء العام 1907 قبل هذا التاريخ، من دون أن يتسنّى لأحد أرشفة هذه الواقعة؟ لا أحد يعلم.

ولو سأل القارئ: ما الهمّ؟ أقول، لا يهمّ. حشرية فحسب. بل أكثر: ألا تدفع حشرية الباحث عن أوّل «أوّل أيّار»، إلى التفكير بآخر «أوّل أيار»، خصوصاً في «بلادنا»؟ وإلى استخلاص بعض العبر لتفادي مثل هذه المفارقة؟ خصوصاً في العام 2024، أي بعد 100 عامٍ على مساء 24 تشرين الثاني/نوفمبر 1924،9  لمّا اجتمع في منطقة الحدث عدد من الأشخاص، واتّفقوا على تأسيس الحزب؟ هاه، هذه مفارقة أخرى.

ويمكن سحب المفارقات إلى ما لا نهاية… لكنّ أعتقد أنّني إلى هذا الحدّ استطعتُ أن أكتب - كما طُلِبَ منّي - نصّاً «تاريخياً»، أو بالأحرى عن «مفارقة تاريخية» تتعلّق بمناسبة اليوم: «أوّل أيار» في لبنان - أو بالأحرى: في ما كان سوف يصبح لبنان بعد بضع سنوات. لكنّي لستُ مؤرِّخاً، وإنّ هذا النصّ، كما النصّ الذي إليه يستند، هو مجرّد «حكاية، وليس تاريخاً». كانت إذاً مجرّد حكاية، وتُروى كما تُروى الحكايات.

  • 1جذور السنديانة الحمراء، محمد دكروب، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، تشرين الأوّل/أكتوبر 1974، ص. 9.
  • 2المصدر نفسه، ص. 40.
  • 3المصدر نفسه، ص. 41.
  • 4المصدر نفسه، ص. 39.
  • 5المصدر نفسه، ص. 42.
  • 6المصدر نفسه، ص. 20.
  • 7شيوعي لبناني - أرمني، مواليد العام 1904، وصل إلى بيروت في العام 1922. كان على رأس منظّمة «شبيبة سبارتاك» الشيوعية الأرمنية، قبل أن تندمج بحزب الشعب اللبناني، وقبل أن يُنتَخب عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني.
  • 8المصدر نفسه، ص. 11.
  • 9تاريخ تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني.