نقابية النضال الطبقي
- مراجعة لكتاب جو بيرنز «نقابية النضال الطبقي» الذي الذي يقدّم رؤية لنهج ثوري في النضال النقابي، ويدعو إلى إعادة إحياء النضال الطبقي بوصفه مخرجاً من الركود الحالي الذي تعيشه الحركة العمّالية، مع ضرورة إعادة النظر في التنظيم الهرمي للنقابات الذي يقوده رؤساء يسعون إلى التقرّب من أصحاب العمل ومحاباتهم بدلاً من التصدّي لهم.
«الحركة العمّالية اليوم في حالة يُرثى لها، ربّما هي الأسوأ في تاريخها»، بهذه العبارات يلخِّص جو بيرنز الوضع الحالي للحركة العمّالية، مُعتبراً أنّ أحد السُبُل للخروج من هذا المأزق وإعادة بناء الحركة النقابية بوصفها قوّة نضالية فعّالة يتمثّل في إعادة إحياء «نقابية النضال الطبقي»، بحيث تُشكّل النقابات وسيلة نضال مباشرة يقودها العمّال في وجه الطبقة المالكة التي تتعارض مصالحها صراحةً مع مصالح العمّال.
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، شرَّعت النخب الحاكمة ترسانة كاملة من القوانين العمّالية القمعية والأحكام القضائية الجائرة، لتُحاصر بها العمّال وتمنعهم من اللجوء إلى تكتيكاتهم الأكثر فعاليةً، كحملات المقاطعة الثانوية واحتلال أمكنة العمل والإضرابات لتعطيل العمل في منشآتهم. يقترح بيرنز إعادة إحياء تكتيكات النضال الطبقي، داعياً المنظمات العمّالية لإيجاد السبل الكفيلة بإسقاط أوامر المحاكم وكسر الأغلال التي تفرضها القوانين الجائرة. يقدّم الكتاب رؤية واضحة لنهج ثوري، مُلقياً نظرة فاحصة على الاستراتيجيات السائدة في النقابات العمّالية المشابهة لنموذج الاتحاد الأميركي للعمل ومؤتمر المنظّمات الصناعية.
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، شرَّعت النخب الحاكمة ترسانة كاملة من القوانين العمّالية القمعية لتُحاصر بها العمّال وتمنعهم من اللجوء إلى تكتيكاتهم الأكثر فعاليةً، كحملات المقاطعة الثانوية واحتلال أمكنة العمل والإضرابات لتعطيل العمل في منشآتهم
يشرح بيرنز نقابية النضال الطبقي بمقارنتها مع نهجين آخرين؛ النهج الأول هو النقابية التجارية التقليدية والنهج الثاني جديد ويسمِّيه بيرنز «الليبرالية العمّالية». وهذه تُعد تطوّراً عن النقابية التجارية الأقدم، وباتت المهيمنة في أوساط الطبقة البيروقراطية للعديد من النقابات الحالية، وتضمّ رؤساء وموظّفين مدفوعي الأجر. يجسّد الاتحاد الدولي لموظّفي قطاع الخدمات النموذج الأوضح للنهج العمّالي الليبرالي، في الوقت الذي ما زال النهج النقابي التجاري القديم يُهيمن على الصناعات الإنشائية. وقد درجت الليبرالية العمّالية على استخدام خطاب اليسار السياسي «التقدّمي» على الرغم من بنيتها الهرمية التي فشِلت في إنتاج قيادة عمّالية للنضالات.
كانت الممارسات والإيديولوجيا النقابية التجارية لمنظّمة العمل الأميركية قد بلغت مستوى متقدّماً من النضج في حقبة الحرب العالمية الأولى، وفيما يلي أبرز سماتها:
القبول بنظام الأرباح الرأسمالي والمَيل إلى «الشراكة» مع أصحاب العمل.
على الرغم من أنّ رؤساء النقابات كانوا مُنتخبين، برزت نزعة لديهم إلى احتكار صلاحية اتخاذ القرار والخبرة النقابية في السلم البيروقراطي.
«التفاوض الجماعي» من جانب مسؤولين نقابيين مدفوعي الأجر على بنود الامتناع عن الإضراب في عقود العمل.
ممارسات قطاعية ضيِّقة تركّز على النضالات الاقتصادية مع أصحاب عمل منفردين.
غياب أي قنوات مباشرة للعمّال من مختلف القطاعات للتلاقي وتطوير برامج على مستوى الطبقة ككل.
ويركّز بيرنز على الميزتين الأولَيَين.
في المقابل، تنطلق نقابية النضال الطبقي من مبدأ الإقرار بتعارض المصالح بين طبقة العمّال وطبقة الملاك الرأسماليين. وبذلك فإنّ سيطرة «أصحاب المليارات» على مكان العمل والمجتمع تُعدّ غير شرعية. لذا يقوم هذا النهج على الركائز التالية:
رفض برامج أو نماذج «الشراكة بين العمّال والإدارة».
التركيز على المقاومة اليومية للإدارة في مكان العمل والسعي إلى تطوير التنظيم الداخلي.
اعتبار الاتفاقات مع أصحاب العمل «هدنات» مؤقّتة في النضال الطبقي.
تولّي العمّال قيادة النضالات.
في مقارنته بين الليبرالية العمّالية في العقود الأخيرة والشكل الأقدم من النقابية التجارية، يلاحظ بيرنز نزعة قوية لدى الأولى نحو العمل السياسي القائم على الانتخاب. ففي ظل التنوّع الكبير الذي تتميّز به القوى العاملة اليوم، باتت الليبرالية العمّالية تتخذ مواقف أكثر تقدّمية تجاه القضايا الاجتماعية، كمناهضة العنصرية والدفاع عن حقوق المثليين.
صحيحٌ أنّ الليبراليين العمّاليين قد يلجأون أحياناً إلى تكتيكات تصادمية لإجبار أصحاب العمل على التفاوض، إلا أنهم يقلِّلون من أهمّية الكفاح العمّالي. وهم يسعون إلى تخفيف حدّة النزاع مع أصحاب العمل تفادياً للقطيعة بين رؤساء النقابات والإدارة. وقد ارتبطت الليبرالية العمّالية بالإضرابات «الدعائية»، ومن الأمثلة على ذلك اعتصام حضرتُه في أحد متاجر «وول مارت» وشارك فيه ناشطون من منظّمات عدّة، فيما ظلّ عمّال المتجر يزاولون عملهم كالمعتاد. وكان هذا الاعتصام بدعوةٍ من منظّمة غير ربحية تعمل مع الفرع الخامس من الاتحاد الدولي لعمّال التجارة والغذاء (UFCW) الخاضع لإدارة الموظّفين. تتناسب الطبيعة التنظيمية لهذا الاعتصام مع الطابع الهرمي السائد في الفرع الخامس. وبحسب المحادثات التي أجريتها مع بعض عمّال السوبرماركت، تبيّن لي أنّ النقابة لا تحظى بأي تمثيل يُذكر في أماكن العمل الواقعة ضمن النطاق الجغرافي للفرع الخامس.
تحاول الليبرالية العمّالية إيجاد حلول لمشاكل العمّال من خلال السياسات العامة، كرفع الحدّ الأدنى للأجور، أو من خلال حشد التأييد من الساسة. وتركّز بشكل أكبر على إيكال مهمّة إدارة النزاعات لرؤساء النقابات مقارنةً بالنقابية التجارية، والأهم من كل ذلك أنّها تتجاهل النزاعات اليومية على السلطة في مكان العمل. وفي ظل هيمنة الليبرالية العمّالية، تفقد النقابات طابعها الديمقراطي بدرجة أكبر من النقابات التجارية.
استراتيجية النضال الطبقي وتكتيكاته
يجادل جو بيرنز بأنّ إعادة إحياء الحراك العمّالي تتطلّب العودة إلى التكتيكات النضالية التي غابت عن الساحة لسنوات والتي قد تستدعي خرق القانون. فالإضراب لا يكون فعّالاً إلّا بإغلاق مكان العمل تماماً، وقطع إمداداته، ومنع صاحب العمل من تشغيل العمّال غير الملتزمين بالإضراب. والعمّال المعتصمون خارج مكان العمل معرّضون للعنف على أيدي معارضي الإضراب أو الحرّاس الخاصّين أو الشرطة. ولعلّ ميزة احتلال مكان العمل تكمن في أنّه لا يعرّض العمّال للعنف بصورة مباشرة. وقد اعتُمد تكتيك الاعتصامات الحاشدة في مناسبات سابقة للتغلّب على الحرّاس أو القوى الأخرى الموكلة إليها مهمّة فضّ الاعتصام. ولكن أصحاب العمل هذه الأيام يستطيعون بسهولة استصدار أوامر قضائية ضدّ الاعتصامات الكبرى، كما أنّ احتلال أمكنة العمل يُعتبر عملاً غير قانوني. ومن التكتيكات الفعّالة الأخرى الضغط على المؤسّسات التي تستخدم منتجات شركة مُضرِبة، كالاعتصام أمام مطعم يستخدم بياضات من مصبغة تجارية تشهد إضراباً. غير أنّ هذا الشكل من الاعتصام سوف يُعدّ «إضراباً ثانوياً» غير قانوني. مع ذلك، إذا عَمَدت مجموعة بيئية إلى التظاهر أمام مطعم احتجاجاً على الأساليب المتبعة في صيد أسماكه، سوف يُصنّف ذلك في خانة الأنشطة المحمية بموجب التعديل الدستوري الأول.
تنطلق نقابية النضال الطبقي من مبدأ الإقرار بتعارض المصالح بين طبقة العمّال وطبقة الملاك الرأسماليين. وبذلك فإنّ سيطرة «أصحاب المليارات» على مكان العمل والمجتمع تُعدّ غير شرعية
كلّ هذا يعني أنّ الحركة العمّالية بحاجة إلى تثقيف جماعي بشأن الأفكار التي تفضح مدى الإجحاف في قوانين العمل. ويُسهِم تثقيف العمّال المناضلين في تمكينهم من تحدّي الشرعية التي تفرضها الطبقات القامعة فرضاً على الطبقة العمّالية، وإذكاء روح التضامن بينهم، وترويج التكتيكات الفعّالة. ويرى بيرنز أنّ التصعيد سمة جوهرية من السمات التي تتميّز بها استراتيجيات النضال الطبقي. ففي مناسبات سابقة شهدت أعمال عنف على يد قوّات الشرطة لفكّ الإضرابات بالقوة، لجأ المناضلون إلى التصعيد عبر حشد التضامن والدعم من شريحة أكبر من أفراد الطبقة العاملة الذين استُقدموا للمواجهة المباشرة مع قوى العنف. وعليه، فإنّ الإضرابات الكبرى التي تكلّلت بالنصر في مينابوليس وفي إضراب عمّال موانئ الساحل الغربي في العام 1934 تعكس أهمّية التصعيد. ففي منطقة خليج سان فرانسيسكو، بدأت الأحداث آنذاك بإضراب عمّال الموانئ على امتداد الخليج. غير أنّ طواقم السفن كانت لهم مطالبهم الخاصة، وما لبث أن تطوّر الإضراب إلى حراك على مستوى قطاع النقل البحري بأسره. وفي مدينة سان فرانسيسكو، طالب سائقو الشاحنات الذين ينقلون البضائع من الموانئ اتحادهم بإعلان الإضراب. وسرعان ما توسّع الإضراب، وما عاد نطاقه يقتصر على مدينة سان فرانسيسكو وحدها، بل شمل مناطق أخرى وأدّى إلى شلّ موانئ ألاميدا وأوكلاند وبيركلي.
تحتاج نقابية النضال الطبقي استراتيجيةً شاملة تتضمّن خططاً لتنظيم القطاعات الاستراتيجية كالتصنيع والنقل، ووسائل لتوسعة رقعة التضامن العمّالي العابر للحدود، وطرحاً أساسياً لمناهضة السيطرة التي تمارسها الرأسمالية على عملية الإنتاج ومكان العمل، و«تكتيكات إضرابية فعّالة لإخضاع رأس المال». ينتقد بيرنز النهج الذي يركّز على المصانع الصغيرة في تنظيم العمّال لأنّ هذا النهج قاصر عن معالجة المشكلة الأكبر، ألا وهي الافتقار إلى القوّة الاقتصادية والحاجة إلى مقارعة النخب الرأسمالية على نطاق واسع. تُشكل المناقشة التي يفرِدُها بيرنز لاستراتيجية النضال الطبقي وتكتيكاته الجزء الأهم من الكتاب.
إنّ الصورة التي يرسمها بيرنز لتكتيكات النضال النقابي الطبقي تتماشى إلى حد كبير مع التيّار السينديكالي (النقابوي) التقليدي، لكنّ الفرق بينهما يبرز إلى الواجهة حين نتطرق إلى المشكلة الهيكلية، كما يمكن تسميتها، ألا وهي السيطرة الهرمية للرؤساء والموظّفين المأجورين على النقابات المشابهة لنموذج الاتحاد الأميركي للعمل ومؤتمر المنظّمات الصناعية.
إشكالية الطبقة البيروقراطية
يقول بيرنز إنّ «النقابيين المناضلين لطالما اعتقدوا» أنّ طبقة الإداريين والموظّفين المأجورين «لديهم مصالح مادية تختلف عن مصالح المنتسبين». ويرى بيرنز أنّ هذه الطبقة البيروقراطية «ليست السبب الوحيد لضعف الطبقة العاملة، ولو أنّها تطرح عقبة كبيرة أمام الإصلاح النقابي». يسعى رؤساء النقابات إلى أن يكونوا قادرين على إبرام الصفقات مع أصحاب العمل، وغالباً ما يسهُل ذلك عندما تكون المطالب ضيّقة. ومسؤولو النقابات بطيبعة الحال ليسوا مضطرين للتعامل مع الانضباط والقمع الشديدين في مكان العمل الرأسمالي.
كيف تصبح الطبقة العاملة طبقة ثورية؟ كيف تبني قدرتها الفعلية على التخلّص من الرأسماليين؟ وإذا كانت هذه السيرورة تتطلّب المشاركة الواسعة وتكتيكات الإضراب الفعّالة وتنامي روح التضامن والشعور بقوة الطبقة، ألن تكون النقابات التي يقودها العمّال الطريقة الأجدى لتحقيق كل ذلك؟
بالإضافة إلى ذلك، تُبدي طبقة البيروقراطيين تردّداً حيال مساندة النضالات الواسعة خشية تعريض نقاباتهم للعنف أو الغرامات المالية الباهظة من جانب الدولة. ومع ذلك، يشدّد بيرنز على ضرورة الإصلاح النقابي من خلال إعادة إحياء تكتيكات النضال الطبقي والإضرابات الفعّالة. وفي ظل القيود القانونية التي تكبّل أيدي العمّال حالياً، فإن تكتيكات مثل الاعتصامات الكبرى أو حملات المقاطعة الثانوية أو احتلالات مكان العمل أو الإجراءات المُخلّة بعقود «الامتناع عن الإضراب»، تصطدم بالأوامر القضائية والغرامات. وتطرح الغرامات الباهظة تهديداً خطيراً على موارد النقابات. ويستشهد بيرنز بعالم الاجتماع البريطاني ريتشارد هايمن المختص بشؤون العمل: «يتحمّل أولئك الذين يشغلون مناصب رسمية في النقابات مسؤولية مباشرة عن أمن منظّماتهم وقدرتها على الصمود، وهذه المسؤولية تدفعهم إلى توخي الحيطة والحذر في العمل السياسي. وعلى وجه الخصوص، نراهم يتحفّظون على الأهداف أو أشكال العمل التي قد تستفز أصحاب العمل أو الدولة بلا داعٍ».
يكتب بيرنز «بالنسبة للنقابات العريقة فإنّ مسألة النضال، في جوهرها، مسألة تتعلّق بحماية الموارد النقابية». حاولت الحركة السينديكالية في مطلع القرن العشرين معالجة هذه الإشكالية بطرقٍ عدّة. ويستشهد بيرنز هنا برالف دارلينغتون في أحد جوانب النهج السينديكالي: «رفض السينديكاليون في كل مكان جمع الأموال للإضرابات الكبرى أو توفير مخصّصات البطالة والمرض والوفاة للمنتسبين وأسرهم... وذلك تفادياً لملء خزائن النقابات بأموال تتحكّم بها بيروقراطياتها المركزية التي قد تنشأ لديها مصالح خاصّة منفصلة عن مصالح العمّال وبالتالي تُعارض الإضرابات"». ومع حلول حقبة الحرب العالمية الأولى، أجمَع السينديكاليون على تصوّرٍ للنقابات يقضي بمنع هيمنة طبقاتها الإدارية المأجورة عليها. وكانت فكرتهم من وراء ذلك شكلاً ذاتي الإدارة من العمل النقابي، أي بإدارة أعضاء النقابة أنفسهم. واستُخدمت تكتيكات عدّة لتجنّب تركيز السلطة في أيدي رؤساء مدفوعي الأجر، كعدد الولايات المسموح لهم بها، وتعيين أمناء غير مأجورين للنقابة، ومنح الجمعيات العمومية للعمّال دوراً أكبر، وتشكيل مجالس من المندوبين غير المأجورين.
يرى بيرنز أنّ ثمّة مقاربات عدّة لمعالجة الإشكالية الهيكلية. وعلى الرغم من تسليمه بأنّ النقابات التي لا تملك موارد مالية هي الأقدر على تطبيق التكتيكات النضالية التي تخرق منظومة قوانين العمل الراهنة، يرفض بيرنز مشروع بناء نقابات جديدة مُدارة ذاتياً بخلاف نموذج الاتحاد الأميركي للعمل ومؤتمر المنظّمات الصناعية، واصفاً إيّاه بالمشروع «الرجعي». ويترك بيرنز هذه الإشكالية سؤالاً مفتوحاً.
يكرِّر بيرنز حجة سطحية مألوفة ضد السنديكالية، وهي كالآتي: لا تستطيع النقابات أن تكون منطلقاً للتحوّل الثوري في المجتمع من خلال «إضراب عام استحواذي» بحيث يتولّى العمّال الإدارة الذاتية الديمقراطية للقطاعات ونشر الاشتراكية في الاقتصاد من أسفل الهرم. لماذا؟ لأنّ «معظم النقابيين لا يبدأون مسيرتهم بتبنّي هذه الآراء الثورية» بحسب بيرنز. ولكنّ الافتراض على ما يبدو يقول بأنّ أي حراك نقابي شعبي وذاتي الإدارة، من قبيل ما يدعو إليه السينديكاليون، ينبغي أن ينتظم أعضاؤه العمّال على قاعدة تبنّي إيديولوجيا ثورية، وليس على قاعدة النضالات الطبقية مع الرأسماليين.
هذا الافتراض يُغفل إمكانية السيرورة التغييرية في الوعي والقوة التنظيمية والتطلّعات مع مرور الوقت فيما يؤسِّس العمّال نقابات يسيطرون عليها ويستمدّون القوة من المكاسب التي يحصدونها. في هذا السياق، يقول المُنظّر السيندكالي إيميل بوجيه إنّ النقابة «مدرسة للإرادة»، وهو كان يقصد النقابية بشكلها الشعبي والخاضع لسيطرة العمّال، ما يتيح بلورة طبيعية للروابط بين شرائح الطبقة العاملة ويغرس فيهم إيماناً بإمكاناتهم كطبقة تتمتع بالقوة التنظيمية ويجمع بين أفرادها التضامن والتكاتف. في النهاية، كيف تصبح الطبقة العاملة طبقة ثورية؟ كيف تبني قدرتها الفعلية على التخلّص من الرأسماليين؟ وإذا كانت هذه السيرورة تتطلّب المشاركة الواسعة وتكتيكات الإضراب الفعّالة وتنامي روح التضامن والشعور بقوة الطبقة، ألن تكون النقابات التي يقودها العمّال الطريقة الأجدى لتحقيق كل ذلك؟
لقد أثبت الاتحاد الوطني للعمل (CNT)، وهو اتحاد نقابي أسباني، إمكانية أن يكون الحراك النقابي قوّة دفع ثورية. نظّمت نقابات الاتحاد «إضراباً واسعاً استحواذياً» في شمال شرق إسبانيا الصناعي في عامي 1936 و1937، ونجحت في الاستحواذ على 80% من اقتصاد كتالونيا و70% من اقتصاد فالنسيا. لقد أُعيد تنظيم قطاعات بأكملها إلى اتحادات صناعية منسّقة بقيادة العمّال، ونذكر منها الرعاية الصحّية والترفيه والكهرباء والسكك الحديدة وصناعة الأثاث والألبان والأجبان وما إلى ذلك. هذه الموجة من الاستحواذ العمّالي لم تكن «عفوية»، فقد سبقتها عقود من النقاشات والمباحثات بين العمّال المنتسبين لنقابات الاتحاد الوطني للعمل بشأن الخطوات الواجب اتخاذها في حال اندلاع ثورة. وقد نشأ إجماع على الاستيلاء المباشر على أمكنة العمل وإقامة إدارة عمّالية ذاتية ديمقراطية تستند إلى الاجتماعات العامة وانتخاب مندوبين للّجان التنسيقية.
الأقلية المناضلة
ما السبيل لإعادة تكوين نقابية النضال الطبقي؟ بحسب بيرنز، فإنّ موجة الإضرابات الضخمة وتأسيس النقابات الجديدة في الثلاثينيات أعقبت سنوات من الاضطرابات والتنظيم المسبق. «في خلال العقود التي سبقت الثلاثينيات، دفعت منظّمات مثل منظمة العمّال الصناعيين في العالم وغيرها ببرنامج يرتكز على للنضال العمّالي والنقابية الصناعية»، والوحدة في وجه الانقسامات العرقية، والإضرابات الفعالة. «لقد وضعوا رؤية لكيفية التصدّي لرأس المال على نطاق واسع». يلمّح بيرنز إلى أنّ غياب رؤية كهذه في الأوساط العمّالية يُعزى جزئياً إلى ضعف اليسار المناهض للرأسمالية.
يبدو الإصلاح النقابي مقاربة راديكالية، غير أنّ هذه المقاربة محافظة حقيقة لأنّها ببساطة تعزو المشكلة إلى القادة السيئين... إنّ انتخاب قادة جُدد لا يعالج المشكلات الهيكلية المرتبطة بالشرخ القائم بين موظّفي النقابات أو مسؤوليها الذين تختلف همومهم اليومية إلى حد كبير عن هموم ومصالح العمّال في الخطوط الأمامية
يرى بيرنز أنّ إمكانية التجدّد مرهونة ببناء طبقة العمّال الناشطين والأكثر رغبةً في التغيير، أي الأقلية المناضلة. كان السينديكاليون أوّل من أطلق هذه التسمية في أوائل القرن العشرين. وقد انتظمت آنذاك مجموعات مختلفة من العمّال الراديكاليين للدفع باتجاه قيادة مكوّنة من أعضاء النقابات وتبنّي نهج النضال الطبقي في نقابات فرنسا وإسبانيا والمكسيك وإيطاليا. وهنا يستشهد بيرنز بتشارلي بوست: «في ظل غياب طبقة عمّالية ذات رؤية واستراتيجية واضحتين للتنظيم والنضال والانتصار، تُرك رؤساء النقابات من دون رادعٍ أو قيد ليسيروا بسياسات تودي بنقاباتهم إلى الهاوية».
يستعرض بيرنز الجدل الذي دار بين ويليام ز. فوستر ومناصري النقابية الجديدة، ففي الفترة ما بين عامي 1909 و1921، أسّس نحو مليون عامل في الولايات المتّحدة الأميركية نقابات صناعية جديدة مستقلة عن الاتحاد الأميركي للعمل. وأجرى ديفيد سابوس مئات المقابلات مع منتسبي هذه النقابات ومسؤوليها في عامَي 1918 و1919. وبحسب ما أفاد به عن النقابات اليسارية، كان الأعضاء والمناضلون متفقين عموماً مع نهج «النقابية الصناعية الثورية» لمنظمة العمّال الصناعيين في العالم. وكان فوستر يكره هذا النهج النقابي الجديد، وتمكّن من حشد الدعم من الشيوعيين لاستراتيجيته الداعية إلى اختراق نقابات الاتحاد الأميركي للعمل من الداخل عن طريق «عُصبات» مكوّنة من أعضاء النقابات تتشكّل من خلال العصبة التعليمية للاتحادات العمّالية. ولكنّ هذه المبادرة باءت بالفشل وخسر فوستر في العام 1928 التأييد لاستراتيجيته داخل الحزب الشيوعي. وبين عامَي 1933 و1934، اجتاحت موجة أخرى من النقابية الجديدة الولايات المتّحدة وشهدت تأسيس 250 ألف عامل نقابات صناعية جديدة خارج كنف الاتحاد الأميركي للعمل.
هل تستطيع الحركات العمّالية المنظمة تغيير النقابات من نموذج الاتحاد الأميركي للعمل ومؤتمر المنظّمات الصناعية إلى نموذج قائم على النضال الطبقي؟ يستشهد بيرنز بما قاله ستيف إيرلي عن الحركات العمّالية في السبعينيات: «إنّ أنجح الحركات العمالية التي شهدتها سبعينيات القرن الماضي هي تلك التي انطلقت من مكان العمل وحاولت توحيد أعضائها في حملات تحسين عقود العمل والصراعات اليومية مع أصحاب العمل، وفي الوقت نفسه سعت إلى السيطرة على هياكل النقابات لتكون الأخيرة عاملاً مساعداً للنضالات العمالية وليس عائقاً أمامها». ويذكر بيرنز الاتحاد الديمقراطي لسائقي الشاحنات مثالاً على ذلك. ومن الممكن هنا إضافة اتحاد عمّال السكك الحديدية كمثال آخر.
يقول بيرنز إنّ «الإصلاح النقابي يبدو مقاربةً راديكالية، غير أنّ هذه المقاربة محافظة حقيقةً لأنّها ببساطة تعزو المشكلة إلى القادة السيئين... إنّ انتخاب قادة جُدد لا يعالج المشكلات الهيكلية المرتبطة بالشرخ القائم بين موظّفي النقابات أو مسؤوليها الذين تختلف همومهم اليومية إلى حد كبير عن هموم ومصالح العمّال في الخطوط الأمامية، وبين الضغط الدائم لتقديم مساومات، وهو ضغط متأصِّل في نظام علاقات العمل البيروقراطي…». ثمة أمثلة لا تُحصى على أشخاص انتُخبوا على خلفية برامجهم الإصلاحية وانتهى بهم الأمر بأن ساروا على خطى أسلافهم من القادة.
يعترف بيرنز بأنّ «إحدى إيجابيات بناء منظّمات جديدة هي أنّ بعض النقابات تخضع لسيطرة وبيروقراطية صارمتين إلى درجة أنّه يصعب تصوّر التغيير فيها». وفي ظلّ اقتصار نسبة العمّال المنتسبين إلى نقابات في القطاع الخاص على 6% فقط، فهذا يفسح مجالاً واسعاً لنشوء تنظيمات عمّالية جديدة. ولعلّ النصر الأخير الذي حقّقه اتحاد عمّال «أمازون» (Amazon) في مدينة نيويورك خير دليل على إمكانية تأسيس نقابات عمّالية جديدة في الشركات الاستراتيجية الكبرى. ونحن كاشتراكيين ليبرتاريين بنزعة سينديكالية، نطمح إلى مزيد من التوعية الجماهيرية في وجه نظام استغلال العمّال الرأسمالي غير الشرعي، وإلى إعادة إحياء تكتيكات النضال الطبقي. وغايتنا الأسمى إنتاج حراك نقابي مكافح وذاتي الإدارة على أوسع نطاق.
نُشِرت هذه المراجعة في Ideas and Actions في 15 آب/أغسطس 2022.