معاينة debt

الدَّيْن العالمي خرج عن السيطرة

وصل الدَّيْن العالمي إلى 93% من الناتج المحلي الاجمالي في العام 2024 بحسب تقرير حديث صادر عن صندوق النقد الدولي يرسم لوحة مأساوية عن حال الدَّيْن العالمي. ووفق هذا التقرير، من المتوقع أن يصل الدَّيْن العالمي إلى 100% من الناتج بحلول العام 2030. معنى هذا أنه لو استطاعت كلّ الدول أن تجمع بشكل سحري كلّ دخل سوف يحقّقه سكّان العالم في العام 2030، سواء كانت أرباح أصحاب شركات أو أجور عمّال وموظّفين، عليها أن تستخدم هذه الأموال كلّها من دون سنت ناقص لسدّ ما عليها من ديون.

قبل صدور التقرير بيوم، نقلت رويترزر عن وكالة التصنيف «ستاندر آند بورز»، أنه «من المرجّح أن تتخلّف البلدان عن سداد ديونها بالعملات الأجنبية بشكل أكبر في العقد المقبل بالمقارنة مع ما كانت عليه في العقد الماضي، بسبب ارتفاع الديون وزيادة تكاليف الاقتراض». ويستدل من التقريرين أن الدَّيْن العالمي أصبح فقّاعة قد تنفجر في أي لحظة.  فالدَّيْن يكبر من دون قدرة الدول على ضبطه، لكن الصدمة العنيفة سوف تأتي في حال امتناع الدائنين عن الإقراض مجدّداً مع تعاظم عدم ثقتهم باسترداد أموالهم، وسوف يكون ذلك ضربة حقيقية لقدرة الدول على الإنفاق من أجل المصلحة العامة، وتهديداً لسير عمل مؤسّساتها.

المقلق أكثر، والذي لم يُشرح بشكل كاف، أن الأرقام التي يتوقّعها صندوق النقد هي أرقام وسطية من بين تقديرات عدّة، اعتمدها الصندوق ليتبنّى «سيناريو أساس»، هو مجرّد سيناريو وسطي من بين سيناريوهات أخرى، فعندما يخبرنا البنك الدولي أن الدَّيْن العالمي سوف يصل الى 100% من الناتج المحلي الاجمالي في العام 2030، لا يعني ذلك انه ينفي الاحتمالات الاكثر سوءاً. ففي السيناريو الأسوأ، من المتوقع أن يصل الدَّيْن إلى 115 % من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2026، أي أنه في القريب العاجل  من الممكن أن لا تكفي كل مداخيل سكان الأرض لسدّ الديون المترتبة على الدول. 

بحسب صندوق النقد، قد تكون التوقعات المالية في الكثير من البلدان أسوأ ممّا يعرضها السيناريو الأساس، وذلك لأسباب عدّة، أبرزها ضغوط الإنفاق المتزايدة، فالتوقعات المعتمدة لحجم الدَّيْن المستقبلي حتى الآن لا تأخذ بالاعتبار الإنفاق على التسلّح مثلاً، والذي قد يتصاعد في حال تطوّرت الصراعات العالمية بشكل غير محسوب، وفي الشرق الأوسط خصوصاً وليس حصراً. هذا بالإضافة إلى أشكال أخرى من الإنفاق مُتعلّقة بالسياسات الصناعية أو شيخوخة السكان.

graph 01

إنفاق أكثر

المثير للاهتمام اعتراف صندوق النقد الدولي بأن أحد الأسباب التي قد تجعل الدَّيْن العالمي أكبر من المتوقع، هو الإنفاق المتعلّق بأهداف الأمم المتّحدة للتنمية المستدامة، بما في ذلك الانفاق المتعلّق بالمحافظة على البيئة. على سبيل المثال، من المتوقّع أن يؤدّي تحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول منتصف القرن إلى زيادة الدَّيْن الحكومي بنسبة 10-15 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بالتوقعات المعتمدة. ومثال آخر: تحتاج البلدان النامية ذات الدخل المنخفض إلى القيام باستثمارات كبيرة، ما بين 3% و11% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً، لسدّ فجوات التنمية وتحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. ويعني هذا أن المؤسسات الدولية نفسها التي تخبرنا بضرورة ضبط الدَّيْن تخبرنا أيضاً بضرورة زيادة الإنفاق من دون الاعتراف بأنها تضع الدول في موقف مستحيل إصلاحه، لا يتوقف على ترشيد سياسات الإنفاق المتّبعة، بل يحتاج حلولاً جذرية أكثر من ذلك (كشطب الدَّيْن من الأساس).

تجدر الإشارة إلى أن الصين والايات المتحدة، المحرّكان الأساسيان للزيادة في الدَّيْن العالمي بحسب صندوق النقد الدولي، سوف يشهدان ارتفاعاً في دينهما العام. في هذا السياق، يغدق مرشحا الرئاسة الأميركية، التي سوف تعقد انتخاباتها في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، الوعود بإعفاءات ضريبية جديدة وإنفاق يمكن أن يضيف تريليونات الدولارات إلى العجز الفيدرالي. وتجدر الإشارة إلى أن صندوق النقد الدولي يتوقّع زيادات في الديون الحكومية في اقتصادات كبيرة أخرى كالبرازيل وفرنسا وإيطاليا وجنوب أفريقيا وبريطانيا.

بعيداً من الإنفاق المتزايد، هناك سبب آخر لأن يكون السيناريو الحقيقي أسوأ من «السيناريو الأساس» الذي يعتمده صندوق النقد الدولي. بتعبير الأخير إن توقعات الديون عادة ما تكون «متحيّزة للتفاؤل»، إذ بحسب التجارب السابقة، غالباً ما تكون نسب الدين المحقّقة إلى الناتج المحلي الإجمالي أعلى بنحو 6 نقاط مئوية من ما كان متوقعاً قبل 3 أعوام.

الحاجة إلى تعديل مالي

يدعو صندوق النقد الدولي الدول إلى تعديل ماليتها لحل أزمة تفاقم الدين، أي تقليص الإنفاق ورفع الضرائب، على الرغم من اعترافه بأن «التعديلات المالية تنطوي حتماً على مقايضات صعبة بين التفاوت والناتج» أي أن كل سياسة لتعديل الميزانية سوف تؤدي إما إلى تراجع الناتج بشكل كبير أو تعميق حالة اللامساواة في المجتمع، فإذا كانت الدولة تريد خفض التحويلات فإن ذلك سوف يؤدي «إلى خفض استهلاك الأسر بشكل مباشر»، في المقابل، «فإن انخفاض الاستهلاك الحكومي (على سبيل المثال، في تعويضات موظّفي القطاع العام وفي شراء السلع والخدمات) سوف يكون له تأثير كبير على الناتج، لأنه يقلّل بشكل مباشر من إجمالي الطلب. ولتخفيضات الاستثمار العام تأثير سلبي أكبر على الناتج لأنه يعيق الإنتاج والعرض الكليين». 

لحل هذه الأزمة يعرض صندوق النقد حلاً مرتبكاً سمّاه «حزمة التعديل المفضلة»، التي تخفف من «الآثار السلبية على الإنتاج واللامساواة»، إذ «تجمع بين تدابير الإيرادات والنفقات، وتحمي الاستثمار العام، وتحمي الأسر الضعيفة من خلال التحويلات المستهدفة، والإلغاء التدريجي للإعانات غير المستهدفة»، لكنه في الوقت نفسه يقرّ بأنه لتحقيق استقرار (أو خفض) الديون باحتمالية عالية، على الدول اللجوء إلى تعديل مالي يساوي نحو 20% من إجمالي الإيرادات في البلدان النامية منخفضة الدخل ونحو 13% من إجمالي الإيرادات في الاقتصادات الأخرى على المدى المتوسط، وهو تعديل أكبر من المعايير التاريخية للعديد من البلدان.

العبء الأكبر على الدول النامية

منذ العام 2010 وحتى اليوم، تضاعف الدَّيْن العالمي، لكن دول العالم لم تشعر بثقل الديون بالقدر نفسه، بل كانت ديون الدول النامية ترتفع بوتيرة مضاعفة عن ارتفاعها في الدول المتقدمة، إذ بلغ إجمالي دَّيْن الدول النامية 29 تريليون دولار أميركي في العام 2023، أي ما يعادل 30% من الإجمالي العالمي، وهذه زيادة كبيرة ومضاعَفة عن حصتها في العام 2016، البالغة 16% من الدَّيْن العالمي.

بحسب تقرير الدَّيْن العالمي، الذي أصدره مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في العام 2024: «يختلف عبء هذا الدَّيْن بشكل كبير باختلاف قدرة البلدان على سداده، ويتفاقم بسبب عدم المساواة المتأصل في البنية المالية الدولية: إن أولئك الأقل قدرة على تحمّله ينتهي بهم الأمر إلى السداد أكثر من غيرهم».

graph 02

من يملك دَيْن الدول النامية؟

إن قسماً عظيماً من ديون الدول النامية هي ديون خارجية، أي أنها لصالح الدائنين خارج البلاد من شركات وحكومات ومؤسّسات مالية دولية، فقد بلغ الدَّيْن العام الخارجي للبلدان النامية 3.2 تريليون دولار في العام 2022، وبالنسبة إلى نصف هذه البلدان، بلغ الدَّيْن العام الخارجي على الأقل 28.4% نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، مع العلم أن 61% من إجمالي الدَّيْن العام الخارجي للبلدان النامية في العام 2022 كان للقطاع الخاص، ذلك في مقابل الاستدانة من الحكومات الأخرى أو بنوك التنمية متعددة الأطراف مثلاً. 

فضلاً عن كون الاقتراض من القطاع الخاص يتّسم بالتقلّب والتحوّلات السريعة، خصوصاً أثناء الأزمات، مع انسحاب المستثمرين في «رحلة إلى برّ الأمان»، وفضلاً عن كونه يأتي مع شروط تجارية أكثر تكلفة من التمويل المصادر المتعدّدة الأطراف والثنائية، فهو يتطلّب التفاوض مع مجموعة واسعة من الدائنين ذوي المصالح والأطر القانونية المتباينة، الأمر الذي يجعل عملية إعادة هيكلة الديون أكثر صعوبة.