Preview الدين العالمي

أزمات الدين الحكومي في البلدان النامية أشد وطأة

يُلقى باللوم على الدول النامية في اقتراضها وإنفاقها غير المسؤول. لكنّ تلك الدول لم تكن تفعل إلّا ما دفعتها إليه مصالح القوى الأجنبية والمالية.

فقد طُلِبَ من الدول النامية منذ الأزمة المالية العالمية في العام 2008 اقتراض مبالغ كبيرة من مؤسّسات التمويل الخاص، وإنْ كان بفائدة باهظة، لترفع رصيدها «من مليارات إلى تريليونات».

ومع تراجع التقدّم نحو التنمية المستدامة في كثير من الأحيان، تقف خدمة الدين الخارجي اليوم حجر عثرة أمام التقدم. فقد خفضت العديد من الحكومات الإنفاق بما يتماشى مع الشروط أو المشورة من الوكالات الاقتصادية الأجنبية القوية.

خرافات الحساب الجاري

لا يزال كثيرون يعتقدون بأن على كل الاقتصادات الوطنية امتلاك فوائض في الميزان التجاري أو فوائض في الحساب الجاري مع غيرها من الاقتصادات، مستشهدين عادة بازدهار ألمانيا واليابان بعد الحرب. ولكن بطبيعة الحال، لا يمكن لجميع البلدان تحقيق فوائض في وقت واحد.

إذا ظلت أرصدة الميزان التجاري والحساب الجاري لبلد ما في عجز لفترة طويلة، فإن القوة الشرائية لعملتها تكون في الغالب تحت ضغط الانخفاض. والحال هكذا في البلدان النامية على الأقل. لكن يختلف الوضع في دول كالولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان.

خلقت اتفاقية بريتون وودز في العام 1944 «امتيازاً هائلاً» للولايات المتّحدة بجعلها الدولار عملة الاحتياطي العالمية. وقد أنقذ هذا الامتياز الولايات المتحدة في آب/أغسطس 1971 من رفضها الوفاء بالتزاماتها بموجب اتفاقية بريتون وودز.

تبيع الولايات المتّحدة سندات الخزانة بالدولار للعالم، لكنها لا تواجه ضغوطاً كالتي يواجهها غيرها لسداد الديون المقوّمة بعملات أخرى. وبالتالي فإن السيولة الدولارية تلبّي الطلب الدولي على الدولار الأميركي. ويكمِّل الإنفاق الحكومي الفيدرالي الإنفاق الخاص، وكلاهما يجد طريقه في النهاية إلى الحسابات المصرفية الخاصة.

وقد دأبت البنوك المركزية للدول الدائنة على شراء سندات الخزانة الأميركية منخفضة المخاطر. والواقع أنّ فوائض الحساب الجاري لتلك الدول تجعلها مصدراً صافياً لرأس المال: تسدّد الالتزامات الخارجية وتسدّد مدفوعات أخرى إلى الخارج من دون تكبّد ديون خارجية.

وعلى النقيض من ذلك، تضطر الدول النامية التي تعاني من عجز مزمن في الحساب الجاري إلى الوقوع في الديون في غالبية الأحيان، وتحمِّل التكاليف الأعلى للحصول على التمويل المقوّم بالعملات الأجنبية. ومن ثم، يُنظر إلى البلدان النامية على أنها «دائنة أصول آمنة» (سندات الخزانة الأمريكية) بعوائدها المنخفضة، ولكنها «مدينة بأصول خطرة» تَعِدُ بعائدات أعلى.

صندوق باندورا رأس المال الأجنبي

ينظر في العادة إلى رأس المال الأجنبي على أنّه ضروري لردم الفجوة في الاستثمارات المحلية غير الكافية. على سبيل المثال، تشجّع أسعار الفائدة الأعلى في البلدان النامية على الاقتراض والاستثمار من الخارج. لكنّ الاعتماد الشديد على التمويل الأجنبي إشكالية أكبر.

إذ إن خدمة الدين الخارجي تستنزف احتياطيات العملة الأجنبية، ليتسبّب ذلك بعد حين في انخفاض قيمة العملة. وقد يتطلّب الوفاء بالالتزامات الخارجية مزيداً من الاقتراض بالعملة الأجنبية – من بين تلك الالتزامات العوائد على الاستثمارات الأجنبية وخدمة الدين الخارجي.

وخفض الدين الخارجي ببيع الأصول المحلّية للأجانب ينزع عن اقتصادات ما بعد الاستعمار الطابع الوطني ويقلّل من الثروة الوطنية. ومن المرجّح أن تزداد الالتزامات الخارجية على المدى المتوسط إلى الطويل، مع إعادة عائدات الاستثمارات الأجنبية، سواء المباشرة أو استثمارات الحافظة، إلى الشركات الأم.

وإذا كانت أسعار الصرف مقوّمة بأقل من قيمتها ولكنها مستقرّة – وهذا أمر نادر الحدوث – فمن شأنها تثبيط الواردات وتشجيع الصادرات إذا كان التحوّل الاقتصادي السريع ممكناً. لكن بعض الواردات لضرورية – الغذاء والدواء مثلاً – ولا يمكن تعويضها بسهولة ببدائل محلية الصنع.

مُهدِّئات اقتصادية كلية؟

يزيد الائتمان المقدّم للأسر والعجز الحكومي القوة الشرائية، ما يزيد من الإنفاق، ولو لفترة مؤقتة. وحين تستجيب القدرات الإنتاجية المحلية لهذا الطلب، ينمو الناتج الاقتصادي الوطني.

وحين انخفض الائتمان الخاص والإنفاق الخاص في أثناء الأزمة المالية العالمية في العام 2008، أحيا العجز الحكومي العديد من الاقتصادات الغنية – لتتجنّب بذلك انكماشاً اقتصادياً أسرع وتسمح للناتج بالتعافي. وهكذا، فإن المزيد من الإنفاق والاستثمار الحكومي والخاص باستخدام الديون والأرباح يحفز النمو.

لقد قلّ تكرار حالات الركود وباتت أخفّ مع زيادة العجز المالي في العقود الأخيرة. وبالتالي، من شأن السياسة المالية المعاكسة للتقلّبات الدورية التقليل من دورات الأعمال وتحقيق الاستقرار في النمو وتشغيل العمالة في الدول الغنيّة.

ومع الدين العام والإنفاق العام، سوف تزدهر الاقتصادات في كثير من الأحيان. فالدين الحكومي ليس مشكلة في البلدان الغنية: على عكس الاقتصادات النامية، يكون دينها الحكومي عادة بالعملة الوطنية، مع خضوع أسعار الفائدة لسيطرة البنك المركزي.

أسعار الفائدة المتقلّبة

خُفِّضَت أسعار الفائدة على الأوراق المالية الحكومية الصادرة عن الاقتصادات المزدهرة بعد العام 2008. واعتُمِدَت على نطاق واسع «السياسات النقدية غير التقليدية» – «التيسير الكمي» بوجه خاص – متحديةً النظرية النقدية التقليدية.

ظلت أسعار الفائدة هذه منخفضة لغاية أوائل العام 2022، حين استجاب بنك الاحتياطي الفيدرالي لشح سوق العمل الأميركي بعدما حافظ ثلاثة رؤساء متعاقبين – أوباما وترامب وبايدن – على التوظيف الكامل بعد الأزمة المالية العالمية العام 2008 والركود الكبير الذي أعقبها.

وعلى مدى عامين، رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي والبنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة، مدركين تمام الإدراك أنّ حكومات البلدان النامية مضطرة إلى زيادة اقتراضها بشروط أكثر إجحافاً.

والحال أنّ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي قد توقف عن رفع أسعار الفائدة، لكنّه يرفض خفضها، أما البنك المركزي الأوروبي فلا يزال مصراً على عدم التوقف. ومن ناحية أخرى، تحافظ البنوك المركزية في البلدان النامية على أسعار الفائدة المرتفعة، خوفاً من المزيد من النزيف إلى الخارج.

لقد بات التقشف المالي في البلدان النامية القريبة من ضائقة الدين الحكومي مطلباً متزايداً. لكن التقشف المالي لا قِبَل له على معالجة الالتزامات الخارجية أو الديون الخارجية أو سواها. وبعبارة أخرى، لا يوجد أي أساس تحليلي للسياسات التقليدية الموصوفة لحكومات البلدان النامية التي تواجه ضغوطاً من الديون الخارجية.

نشر هذا المقال في IPS في 3 نيسان/أبريل 2024. 

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.