
أزمة الجنوب العالمي: طُعم الفائدة وفخّ الديون
بعد الاستعمار، استمرّت الديون في فرض الهيمنة الاستعمارية للقوى الإمبريالية على الجنوب العالمي. فمنذ العام 1980، كان الدين الخارجي لما يُعرف بالدول النامية يتضاعف كلّ عشر سنوات. وبين عامي 1980 و2023، ارتفع هذا الدين أكثر من 19 ضعفاً من 450 مليار دولار إلى 8,837 مليار دولار. واليوم، بمرور 40 عاماً، تجد هذه الدول نفسها في المأزق نفسه.
نظرة تاريخية موجزة
في خلال أزمة الديون في الثمانينيات، لجأت الدول المثقلة بالديون إلى البنك وصندوق النقد الدوليين طلباً للمساعدة، وفي مقابل القروض التي قدّمتها هذه المؤسّسات، فُرضت سياسات تقشّفية على هذه الدول شملت خفض الإنفاق الاجتماعي والخصخصة وفتح اقتصاداتها أمام الأسواق العالمية. كانت مؤسّسات «بريتون وودز» تطالب دول الجنوب بتقليص إنفاقها للخروج من دائرة الديون، وتمثّل الهدف السياسي بالسداد للدائنين من القطاع الخاص ودمج أكبر عدد ممكن من الدول في العولمة الرأسمالية بما يخدم مصالح الطبقات الحاكمة في الشمال وفي الجنوب العالمي على حد سواء. إلا أن وقوع هذه الدول في فخّ الديون التي تضخّمت مع الوقت يعني أن هدف صندوق النقد الدولي المتمثّل في تقليص مديونية دول الجنوب من خلال التقشف قد فشل.
نتج عن ارتفاع المديونية تزايداً في عبء خدمة الدين الخارجي منذ العام 1970. ويعبّر عبء خدمة الدين الخارجي عن المبالغ التي تدفعها الحكومات والشركات والأفراد سنوياً لسداد ديونهم ودفع الفوائد المترتبة عليها للدائنين الأجانب. ففي العام 2023 وحده، دفعت الحكومات والقطاع الخاص في الجنوب العالمي (باستثناء الصين) أكثر من 971 مليار دولار فوائد للدائنين الأجانب. وفي كثير من الحالات، تجاوزت كلفة خدمة الدين العام الميزانيات المخصّصة للتعليم أو الصحّة. على سبيل المثال، في العام 2023، بلغت خدمة الدين العام في كينيا 5 أضعاف ميزانية الصحة. أما في تونس فقد كانت مدفوعات الدين تعادل 4 أضعاف الميزانية الصحية. وحالياً، يبلغ الدين الخارجي في الجنوب العالمي، باستثناء الصين، حوالي 3,833 مليار دولار.
هذا رقم ضخم بكل المقاييس وله تداعيات خطيرة. ومع ذلك، لا يتجاوز إجمالي الدين الخارجي لدول الجنوب 10% من الدين العام الأميركي. بعبارة أخرى، يمثّل الدين الخارجي لنحو 130 دولة عُشر الدين العام للولايات المتحدة فقط، كما يعادل مجمل الدين الوطني لفرنسا. وبالتالي، القول بأن الاقتصاد العالمي سوف ينهار إذا تم إلغاء ديون الجنوب هو قول غير صحيح على الإطلاق.
إلى ذلك، شهدت تركيبة مالكو الديون العامة الخارجية في دول الجنوب تبدلاً بمرور السنين. إذ أصبح الدائنون الخاصون - مثل البنوك وصناديق الاستثمار وشركات التأمين وصناديق التقاعد - أكثر بروزاً، وهم يمتلكون الآن ما يقرب من نصف هذه الديون (48%)، بينما تستحوذ الديون المتعدّدة الأطراف، التي غالباً ما تقدّمها المؤسسات الدولية وتحلّ محل القطاع الخاص عندما تواجه الدول صعوبات في السداد، على 37% من مجمل الدين الخارجي لدول الجنوب، فيما تمثّل القروض المقدّمة من حكومات أجنبية نحو 15% فقط من هذا الدين.
لقد أدّى الاتجاه نحو دور أكبر للدائنين الخاصين إلى تبعات كبيرة، لأن الدائنين الخاصين يرفضون عادةً المشاركة في عمليات تخفيض أو إعادة هيكلة الديون في الجنوب. ففي حالة زامبيا، التي تخلّفت عن سداد ديونها الخارجية في العام 2020، استغرق الأمر 4 سنوات للوصول إلى اتفاق لإعادة هيكلة الديون مع الدائنين الخاصين. وفي النهاية، حصل الدائنون من القطاع الخاص بنتيجة التفاوض على تعويض أكبر من الدائنين العامين مثل الحكومات الأخرى والمؤسسات متعددة الأطراف مثل صندوق النقد الدولي.
بالإضافة إلى رفض المشاركة في عمليات تخفيض أو إعادة هيكلة الديون، وما تلقيه هذه الإجراءات من أعباء إضافية على الدول المديونة، يلجأ الدائنون من القطاع الخاص إلى مراكز الربح الأكبر. فعندما تكون معدلات الفائدة في الشمال منخفضة، يسعى المقرضون الذين يبحثون عن عوائد أعلى إلى إقراض كل من الشركات الخاصة والدول في الجنوب. من ثمّ تعود هذه الأموال إلى الشمال عندما ترتفع معدّلات الفائدة فيها. شكّلت معدلات الفائدة المنخفضة في الشمال والمرتفعة في الجنوب طعماً قاتلاً.
منعطف العام 2022
شهدت الدول في الجنوب العالمي زيادة سريعة في المديونية الخاصة والعامة منذ الثمانينيات. وقد جعلت هذه الزيادة دول الجنوب وشركاتها عرضة لتقلبات تدفقات رأس المال غير المستقرّة والمشروطيات التي يفرضها المقرضون في أوقات الأزمات.
بين عامي 2010 و2022، اعتمدت الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وبنك إنكلترا والبنك المركزي الأوروبي سياسات معدّلات فائدة منخفضة للغاية. ففي تلك الفترة، كانت معدلات الفائدة الحقيقية في الدول الشمالية غالباً قريبة من صفر في المئة. وبما أن معدلات الفائدة كانت أعلى وكان المال يُكافأ بشكل أفضل في الجنوب، استجاب الدائنون الخاصون مثل البنوك وصناديق الاستثمار من خلال إقراض الحكومات والشركات في تلك الدول. وللمرة الأولى في تاريخها، أصدرت عدد من الدول - وأبرزها تلك الموجودة في أفريقيا جنوب الصحراء - سندات حكومية في الأسواق المالية. لكن منذ العام 2020، ساهمت مجموعة من الظواهر في تقليص الإيرادات من العملات الأجنبية التي تتلقاها دول الجنوب.
في النظام الرأسمالي المعولم اليوم، هذه الإيرادات، التي تكون بشكل رئيسي بالدولار، ضرورية لهذه الدول لاستيراد ما لا تنتجه ولسداد ديونها الخارجية. يتم توفير هذه الإيرادات الأجنبية بشكل خاص من خلال الصادرات و تدفق السياح (الذين يبدلون عملتهم الأجنبية بالعملة المحلية). ومع ذلك، أدّى عدد من الصدمات إلى تقييد تدفق العملات الأجنبية إلى دول الجنوب.
ففي العام 2020، شهدت دول الجنوب أول انخفاض في الإيرادات من العملات الأجنبية بسبب أزمة كوفيد-19 التي قلّلت بشكل كبير من السياحة الدولية خلال عامي 2020 و2021، وأوقفت بعض سلاسل الإمداد في التجارة الدولية. وفي العام 2022، جاءت مرحلة جديدة من الأزمات التي زادت من النفقات بالعملات الأجنبية في الدول النامية. لقد تسبب غزو روسيا لأوكرانيا في شباط/فبراير 2022 في مضاربات على أسعار الحبوب والأسمدة الكيميائية، التي تعد أوكرانيا منتجاً رئيسياً لها. وأدت المخاوف من تقليص الإنتاج إلى زيادة الأسعار، قبل أن يتفاقم الوضع بسبب التراجع الفعلي في الإنتاج. على مدى الخمسين عاماً الماضية، تخصّصت معظم دول نصف الكرة الجنوبي في إنتاج بضائع تصديرية معينة، وأصبحت الآن مستورداً صافٍ للحبوب. ونتيجة لذلك، ارتفعت أسعار واردات الحبوب، ما زاد من النفقات على الواردات في الدول الجنوبية، بينما تراجعت إيرادات التصدير والسياحة.
يضاف إلى ذلك، ارتفاع معدلات الفائدة في الشمال. فمنذ العام 2022، اتخذ البنك المركزي الأوروبي والاحتياطي الفيدرالي الأميركي وبنك إنكلترا قرارات بشكل أحادي لرفع الفائدة، ما ساهم بهروب رأس المال الذي كان قد أقرض الجنوب. ومع عودة المقرضين إلى الشمال، اضطرت دول وشركات الجنوب لتقديم معدلات فائدة أعلى لإعادة تمويل ديونها (من خلال الاقتراض لسداد القروض القديمة التي أصبحت مستحقة) أو لتغطية عجزها، وبالتالي دفع المزيد مقابل تحمل الديون. هذا التأثير أدى إلى مستويات أعلى من المديونية وزيادة معدلات الفائدة على دول الجنوب.
إن تراجع الإيرادات من العملات الأجنبية، إلى جانب ارتفاع أسعار الفائدة وتكاليف الواردات، وضع الكثير من الدول في أوضاع اقتصادية بالغة الصعوبة. فقد تعثرت دول عدة في الجنوب العالمي عن سداد ديونها، إذ لم تعد تملك ما يكفي من العملات الأجنبية (وخصوصاً الدولار الأميركي) لمواصلة سداد ديونها أو تأمين وارداتها الأساسية. وقد شملت حالات التخلف عن السداد زامبيا في عام 2020، وغانا وسريلانكا في عام 2022، وإثيوبيا في عام 2023. وهناك دول أخرى قد تلحق بالركب.
تُعتبر احتياطات النقد الأجنبي المقدّرة بعدد أشهر الواردات مؤشّراً مهماً لتقييم وضع الدين الخارجي لأي دولة. وبوجه عام، يجب أن تمتلك الدولة ما بين 3 إلى 6 أشهر من قيمة وارداتها كاحتياطي. على سبيل المثال، تعاني باكستان – التي أصبحت أوضاعها حرجة للغاية بعد الفيضانات الكارثية في صيف 2022 – من وضع صعب للغاية، إذ لا تمتلك سوى 3 أشهر من احتياطي الواردات فقط. وتُعد باكستان من أكثر الدول توقيعاً للاتفاقيات مع صندوق النقد الدولي، حيث أبرمت 25 اتفاقية بين عامي 1958 و2024. كذلك، فإن مصر وتونس تمرّان أيضاً بوضع حرج وهما قريبتان من التخلف عن السداد، إذ لا تمتلكان سوى 4 أشهر من احتياطي الواردات. وتنضم إليهم 8 دول أخرى هي جنوب أفريقيا والأرجنتين وغانا وسريلانكا وفيتنام وزامبيا والمكسيك وأندونيسيا.
في مواجهة الصدمات الثلاث التي حدثت في 2020 و2022، كان بإمكان الدول المتضررة أن تستند إلى مبدأ «التغير الجوهري في الظروف»، وهي حجة قانونية معترف بها دولياً، لتقوم بتعليق سداد ديونها. فانهيار عائدات السياحة، وتراجع الإيرادات من الصادرات، بسبب الحرب والوباء العالمي، إلى جانب الارتفاع المفاجئ في أسعار الفائدة، كلها تمثل تغيرات جذرية وغير متوقعة في الظروف الاقتصادية. وبالتالي، فإن استخدام هذا الأساس القانوني يمكن أن يُتيح للحكومات تعليق سداد الديون مؤقتاً، وقلب ميزان القوى لصالح الدول المدينة، بحيث يبدأ الدائنون بالخوف من عدم استرداد أموالهم. وهو ما يسمح بالتفاوض من جديد على شروط الدين وإجراء تدقيق مواطني للدين العام والمطالبة بإلغاء جزء منه على الأقل.
نُشر المقال الأساسي على حلقتين في CADTM بموجب رخصة المشاع الإبداعي (الحلقة الأولى، الحلقة الثانية)، وتمت ترجمته بتصرّف وأعيد نُشره في موقع «صفر».