Preview vaccine inequality

الأوبئة في الجنوب واللقاحات في الشمال

لا توجد أرقام دقيقة عن المخزون العالمي من اللقاحات، لكن الثابت أن النسبة الأكبر - إن لم يمكن معظمها - مملوك لدول الشمال. ففي حين يتفشّى وباء جدري القرود بشكل رئيس في أفريقيا، تنوجد مخزونات اللقاحات بشكل شبه حصري في البلدان الغنية. 

منذ مطلع العام 2024 وحتى منتصف آب/أغسطس الحالي، تم تسجيل نحو 17,541 إصابة في جدري القرود و517 حالة وفاة في 13 دولة عضو في الاتحاد الأفريقي، بزيادة بنسبة 160% في عدد الإصابات و19% في عدد الوفيات بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2023. وتمثّل جمهورية الكونغو الديمقراطية 96% من جميع الإصابات و97% من جميع الوفيات المبلّغ عنها في العام 2024. وعليه أعلنت منظّمة الصحة العالمية حالة الطوارئ الصحية. 

يقدّر المركز الأفريقي لمكافحة الأمراض والوقاية منها أن هناك حاجة إلى 10 ملايين جرعة على الأقل لمحاولة احتواء الوباء في القارة الأفريقية، لكن الأخيرة لم تكن تملك سوى 215 ألف جرعة في منتصف آب/أغسطس، وهو بالأساس مخزون مكوّن من تبرّع المفوضية الأوروبية، ويشكّل أقل من 3% من الحاجات المُعلنة. بالإضافة إلى ذلك، وعدت فرنسا بتقديم 100 ألف جرعة، وألمانيا العدد نفسه، والولايات المتحدة 50 ألف جرعة، وإسبانيا 500 ألف جرعة. تشكّل هذه التبرّعات جزءاً بسيطاً من المخزونات في البلدان الغنّية. على سبيل المثال، أشارت إسبانيا إلى أن توزيع 500 ألف جرعة يمثّل 20% من مخزونها فقط. في العموم، حتى لو قدِّمت كلّ هذه التبرعات فهي تبقى أقل بكثير من الحاجات المُعلنة، لا سيما أن التحصين يحتاج إلى حقنتين، وبالتالي فإن توفير مليون لقاح لن يحصّن إلا 500 ألف شخص فقط.

لا يوجد سوى شركتين فقط للقاحات مُعترف بهما من منظمة الصحة العالمية، وهي شركة Bavarian Nordic الدنماركية وشركة KM  Biologics اليابانية. لكن الأخيرة تقوم بتسويق منتجاتها في اليابان حصراً، كاستراتيجية تعتمدها الأخيرة للتحوّط من أي هجوم بيولوجي مُحتمل ضدّها. إلى ذلك، تدّعي الشركة الدنماركية أن لديها 500 ألف جرعة في المخزون، وأنها قادرة على زيادة الإنتاج ليصل إلى 10 ملايين بحلول العام 2025. ولكن لتحقيق هذه الغاية، تحتاج الشركة إلى طلبات مؤكّدة. وهنا تكمن المشكلة. في الوقت الحالي، اتصلت دولة واحدة فقط - غير مُحدّدة ولكنها ليست أفريقية - بالمختبر للحصول على بضع مئات الآلاف من الجرعات فقط. أمّا الدول الأفريقية التي تعمل على وضع خطط الاستجابة الصحّية الخاصة بها، لا تملك التمويل الكافي لسدّ حاجاتها. 

ومن المعروف أن سعر اللقاح ضدّ جدري القردة مرتفع ويتراوح بين 100 و150 يورو للجرعة الواحدة وفق الأسعار التي تباع للدول الأوروبية. ما يعني أن الفاتورة سرعان ما قد تصل إلى مليارات الدولارات للطلبات الكبيرة، وهو ما تعجز الكثير من البلدان الأفريقية الفقيرة على تأمينه. 

هل تشهد أفريقيا السيناريو نفسه الذي شهده العالم في خلال فترة تفشّى جائحة كوفيد-19 حين كانت الدول الغنية تسعى جاهدة لتأمين جرعاتها، فيما الجزء الأكبر من البشرية، الذي يعيش في البلدان الفقيرة، يشهد تقدّماً بطيئاً في معدل التلقيح؟ يبدو أن التاريخ قد يعيد نفسه بالفعل، ما يجعل اللقاحات من المُنتجات الجيواستراتيجية تستخدمها الدول لزيادة قوتها أو الحفاظ عليها. 

كما هو الحال في خلال أزمة كوفيد، تطرح مجدداً مسألة براءات الاختراع. والواقع إن أفضل طريقة لضمان الوصول إلى اللقاح للجميع هي السماح بالإنتاج المحلي من الشركات المصنّعة الأفريقية. هذا الخيار تعوقه براءات الاختراع، ولكن يمكن تخطيه من المختبرات نفسها أو من الدول التي لديها إمكانية منح تراخيص للمصنّعين المحلّيين، لا سيما أن لقاح الجدري ليس تكنولوجيا جديدة، وقد تم تطويرها منذ عقود عدّة وثمّة منتجات مماثلة موجودة في الكثير من البلدان مثل المغرب وجنوب أفريقيا والسنغال.

لا بدّ من الاستثمار في الحلول الدائمة والابتعاد من سياسة التبرّعات التي يتم اللجوء إليها أثناء الأزمات. هناك قارة تعاني من الكثير من الأمراض المتوطنة، مثل فيروس نقص المناعة البشرية والإيبولا وحمى الضنك، عدا عن الأوبئة التي تعاود الانتشار فيها مجدّداً بعض سنوات من القضاء عليها، وذلك بسبب الحروب والفقر والنزوح والتغيّر المناخي.