Preview فاشية جدري القردة: 41 ألف مصاب في 15 دولة أفريقية

فاشية جدري القردة: 41 ألف مصاب في 15 دولة أفريقية

منذ مطلع العام الحالي، تسبّب متحوِّر جديد «B1» من جدري القرود1  في تفشّي المرض في جمهورية الكونغو الديمقراطية و12 دولة أفريقية أخرى، أمّا الإصابة الأولى خارج أفريقيا فقد رُصِدَت في السويد في الأسبوع الثالث من آب/أغسطس الحالي، كما رُصدَت الإصابة الأولى في آسيا في باكستان من دون أن تُعرَف إلى سلالة ينتمي. 

ترتفع حالياً معدّلات الوفيات بين السكّان الأكثر هشاشة ومن ضمنهم الأطفال والشباب والحوامل، وبحسب يونيسيف، فإن الشباب تحت الـ20 عاماً يمثّلون حالياً 60% من الحالات، فيما يشكّل الأطفال دون الخامسة 21% منهم. وتقدّر «مراكز أفريقيا لمكافحة الأمراض والوقاية منها» أن يبلغ معدّل الوفيات بالمتحوّر الجديد نحو 3.4%، بالمقارنة مع معدّل 10% في السلالات القديمة.

منذ مطلع العام 2024 وحتى منتصف آب/أغسطس الحالي، تم تسجيل نحو 17,541 إصابة في جدري القرود و517 حالة وفاة في 13 دولة عضو في الاتحاد الأفريقي، بزيادة بنسبة 160% في عدد الإصابات و19% في عدد الوفيات بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2023. وتمثّل جمهورية الكونغو الديمقراطية 96% من جميع الإصابات و97% من جميع الوفيات المبلّغ عنها في العام 2024. 

على الرغم من أن حالات الإصابة بجدري القرود ليست مُهدّدة للحياة، إلا أن بعض الأشخاص قد يكونون أكثر عرضة للإصابة بمرض شديد، ومن ضمنهم الأشخاص الذين يعانون من ضعف شديد في جهاز المناعة، والأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن عام واحد، والأشخاص الذين لديهم تاريخ من الإكزيما، والحوامل. وتزداد هذه الخطورة في الدول الأفريقية بسبب الفقر وسوء التغذية وتفشّي الكوليرا والحصبة وغيرها من الأمراض، فضلاًَ عن عدم تلقّي اللقاحات المُنتظمة. مع العلم أن المتحوّر الجديد يختلف عن السلالة الأولى الأصلية للمرض في أنه ينتشر بين البالغين الشباب أيضاً مع انتقاله عبر الاتصال البشري العادي. وهذا ما يعني أنه ينتشر بصورة أسرع من السلالة الأصلية، ويَعبُر الحدود مع الأشخاص المصابين أثناء التنقّل. 

منذ مطلع العام 2024 وحتى منتصف آب/أغسطس الحالي، تم تسجيل نحو 17,541 إصابة في جدري القرود و517 حالة وفاة في 13 دولة عضو في الاتحاد الأفريقي، بزيادة بنسبة 160% في عدد الإصابات و19% في عدد الوفيات بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2023

ما هو جدري القرود؟

جدري القرود هو فيروس حيواني المنشأ، ما يعني أنه يمكن أن ينتشر بين الحيوانات والبشر، وموجود منذ فترة طويلة في غابات الكونغو، ومتوطّن بشكل دائم في أجزاء من وسط أفريقيا وغربها. وتتمثّل أعراضه بالحمى والطفح الجلدي الذي يمرّ بمراحل عدّة وصولاً إلى الجرب قبل الشفاء. وينتقل عن طريق الاتصال بالحيوانات المُصابة عند صيدها أو سلخها أو حتى طهيها، والاتصال الوثيق بالأشخاص المصابين بما في ذلك الاتصال الحميم، كما ينتقل من الحوامل المصابات إلى أجنتهنّ، وبالاتصال المباشر بالمواد الملوثة مثل الملابس والإبر وغيرها. 

اكتُشف فيروس جدري القرود للمرّة الأولى في العام 1958 بعد حصول الكونغو على استقلالها من الاستعمار البلجيكي. في حينها، انتشرت فاشيتان في مستعمرات القرود التي احتفظت بها بلجيكا في الكونغو لإجراء الأبحاث. وعلى الرغم من تسميته «جدري القرود» في الأصل، لا يزال مصدر المرض غير معروف. ويشتبه العلماء في أن القوارض الأفريقية والقرود قد تأوي الفيروس وتصيب البشر به. 

سُجّلت أول حالة بشرية من جدري القرود في العام 1970 في ما يُعرف الآن بجمهورية الكونغو الديمقراطية. ومن حينها يظهر المرض بشكل متقطع في وسط أفريقيا وشرقها (السلالة الأولى الأصلية من الفيروس) وغرب أفريقيا (السلالة الثانية). كما «اعتادت» بلدان أفريقيا الوسطى والغربية تسجيل آلاف الإصابات سنوياً، على الرغم من إعلان منظّمة الصحة العالمية القضاء عليه في العام 1980 بعد الانتهاء من التطعيم ضدّ الفيروس في جميع أنحاء العالم.

فاشيات السنوات الأخيرة

في أيار/مايو من العام 2022، أي بعد 52 عاماً على تسجيل الإصابة البشرية الأولى به، ظهر الفيروس بشكل فجائي على حدّ تعبير منظّمة الصحّة العالمية، وانتشر بسرعة في جميع أنحاء العالم، من أوروبا إلى الأميركيتين فضلاً عن جنوب شرق آسيا، وغرب المحيط الهادئ، وشرق البحر المتوسط. في حينها، أبلغت 110 دولة عن حوالي 87 ألف إصابة و11 وفاة بحسب منظّمة الصحة العالمية، ليتبيّن بعدها أن سبب فاشيات جدري القردة هو السلالة الأولى من الفيروس الذي ظهر في مخيّمات اللاجئين في جمهورية السودان.

تراجع عدد الحالات المُسجّلة في جدري القرود بين عامي 2022 و2021، قبل أن يرتفع مجدّداً في العام 2023، ويستمرّ في هذه الوتيرة منذ مطلع العام الحالي. وفي منتصف آب/أغسطس، أعلن المدير العام لمنظّمة الصحّة العالمية، تيدروس أدحانوم غيبريسوس، عن تفشّي متحوّر جديد من جدري القردة، واعتبر أن ظهوره في الكونغو يمثّل «طارئة صحية عامة تُثير قلقاً دولياً». 

منذ التفشّي الأخير للوباء في العام 2022، تم الإبلاغ عن 40,874 إصابة جديدة و1,512 وفاة في 15 دولة عضو في الاتحاد الأفريقي. ومع ذلك، تبقى الفاشية الحالية أكثر خطورة بسبب الصراع المُسلّح المستمرّ في جمهورية الكونغو الديمقراطية. ففي شمال كيفو الواقعة في الجنوب، تنفي المجموعات المسلّحة المنتمية إلى حركة 23 آذار/مارس وجود حالات من الجدري، عدا أن الصراع المسلّح المستمرّ، والفقر المزمن، والنقص الكبير في اللقاحات، والوصول المحدود إلى التدابير الطبية المضادّة، وانخفاض معدّلات الكشف المبكر، جميعها عوامل تعيق محاولات احتواء الوباء. وهذا ما يُعزز بدوره مخاطر انتشاره وتفاقم تأثيره على جميع المُقيمين في عالم معولم. 

الصراع المسلّح المستمرّ، والفقر المزمن، والنقص الكبير في اللقاحات، والوصول المحدود إلى التدابير الطبية المضادّة، وانخفاض معدّلات الكشف المبكر، جميعها عوامل تعيق محاولات احتواء الوباء

الأوبئة والحروب وضعف الموارد للمواجهة

تقول دراسة بعنوان «تأثير الصراع على الأمراض المعدية»، نُشِرت في نيسان/أبريل 2024، إن الصراعات تؤدّي دوراً مُباشراً وغير مباشر في انتقال الأمراض المُعدية وانتشارها، بسبب نزوح السكّان والعيش في أماكن مكتظة بظروف صحّية سيئة، وتعطّل البنية التحتية الأساسية، وتقويض نظام الرعاية الصحّية، ونقص الغذاء، والوصول المحدود إلى مياه الشرب النظيفة والأدوية والرعاية الصحّية، والتأخير في التشخيص، وانقطاع تغطية اللقاحات. 

ولعل أبرز مثال يتقاطع مع هذه الخلاصات هو ما يشهده قطاع غزّة اليوم من انتشار لأمراض وأوبئة لا يتطلّب احتوائها سوى بضعة أدوية بديهية، وآخرها شلل الأطفال الذي عاود الظهور مجدّداً في قطاع غزّة بعد القضاء عليه في ثمانينات القرن الماضي. وبحسب الدراسة نفسها، يوجد الكثير من الأوبئة التي انتشرت أو زاد انتشارها بفعل العنف والصراعات، إذ تم الإبلاغ عن معدّل أعلى للإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية في المناطق التي مزّقتها الصراعات في ساحل العاج وليبيا وأوكرانيا وأوغندا، كما انتشر الكوليرا في المناطق المتضرّرة من الصراع في مونروفيا في ليبيريا، وكذلك زادت حالات الإصابة بالسل في إثيوبيا وجنوب السودان ونيجيريا في أعقاب الصراعات المسلّحة فيها، وظهر مؤخراً في أوكرانيا وروسيا نتيجة النزوح الناجم عن الحرب الدائرة هناك. 

ينطبق هذا الواقع على كثير من البلدان التي شهدت تصاعداً في الأمراض بسبب الحروب؛ مثلاً في سنوات الحرب في العراق زاد معدّل الإصابة بالأمراض المُعدية بشكل كبير، وشهد العراق 4 حالات تفشي لأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات مثل الحصبة في العام 2009، والنكاف في عامي 2004 و2016، والحصبة الألمانية في العام 2004 والكوليرا في العام 2008.  كذلك الأمر في سوريا والدول المجاورة (الأردن ولبنان)، حيث زادت  حالات تفشّي الأمراض المعدية بشكل كبير بعد اندلاع الصراع في سوريا وما تبعها من تعطيل البنية الأساسية للمياه والخدمات الصحّية والضغط على أنظمة الرعاية الصحّية غير المُجهّزة بطبيعة الحال للتعامل مع موجة من النازحين قسراً.

في سنوات الحرب في العراق زاد معدّل الإصابة بالأمراض المُعدية بشكل كبير، وشهد العراق 4 حالات تفشي لأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات

مع ذلك، لا تعتبر الحروب السبب الوحيد لتفشّي الأوبئة، ولو أنها تعظِّم آثارها وتعيق إمكانات احتوائها وتسرّع تفشِّيها في عالم تزداد فيه حركة البشر بين الحدود بشكل كبير. تتفاقم مخاطر تفشّي الأوبئة نتيجة الفقر المُزمن في الكثير من البلدان المنكوبة والناجم عن عوامل كثيرة منها إرث الاستعمار، وضعف مؤسّسات الدولة، وتعمّق اللامساواة، واستيلاء قلّة قليلة على موارد البلاد وحرمان الغالبية العظمى منها. 

لطالما كانت حالات جدري القرود محصورة في البلدان الأفريقية، وكان انتشارها نادراً، وعادة ما يرتبط بالسفر أو باستيراد الحيوانات من المناطق التي يتوطن فيها جدري القرود. حالياً تعتبر منظّمة الصحة العالمية أن انتشار جدري القرود في جمهورية الكونغو الديمقراطية وعدداً متزايداً من البلدان الأفريقية يشكّل حالة طوارئ صحّية عامة، ولو أنها لا تعتقد بأن يتحوّل إلى جائحة أسوة بكوفيد-19. ويعود ذلك إلى كون سكّان دول الشمال يتمتعون بمزايا صحّية أفضل من سكّان دول الجنوب الفقيرة التي تفتقر إلى الموارد لتأمين اللقاحات حتى. ومع ذلك، يبقى الخطر ماثلاً نظراً لتدهور المناعة الجماعية لسكّان العالم ضدّ فيروسات الجدري، إذ أدّى القضاء على الفيروس في العام 1980 إلى عدم ضرورة اللقاحات ضده. 

هل لبنان في خطر؟ 

تفرض المخاوف التي يثيرها انتشار مرض جدري القردة تهديدات جدّية في لبنان الذي يستقبل على مدار السنة الآلاف من المهاجرين اللبنانيين إلى أفريقيا. وفيما تغيب الإحصائيات الدقيقة عن أعدادهم، تُشير تقديرات الإيكونوميست إلى نحو 205 آلاف لبناني مهاجر في غرب أفريقيا وحدها.

في حديثها لموقع «صفر»، تقول رئيسة مصلحة الطبّ الوقائي في وزارة الصحة العامة عاتكة بري إنّ لبنان لم يُسجّل حتى اللحظة أي إصابة بالفيروس، مُشيرةً الى «عدم الحاجة للاستنفار، لأن غالبية حالات المرض لا تستدعي الدخول الى المُستفشيات خلافاً للواقع الذي خلقه كوفيد-19». وتضيف أن «الحالات التي سُجِّلت سابقاً في لبنان نادراً ما أدخل أحد منها الى المُستشفى»، وأن «أعداد اللبنانيين المهاجرين إلى أفريقيا لطالما كانت كبيرة وتمكّن لبنان في حالات أكثر خطورة كحالة الإيبولا مثلاً من احتواء الوضع الصحّي المستجد».

لكن هذا التفاؤل يقابله واقع قاتم يشهده لبنان مع حرب متواصلة في الجنوب منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وانهيار مؤسّسات الدولة، بما فيها المرافق الصحية العامّة، منذ أواخر العام 2019 بسبب الأزمة الاقتصادية. وما يعزِّز المخاوف من تأثير انتشار هذا المرض، هو أن القطاع الصحّي في لبنان لم يشهد تغيّرات جذرية تحاكي مخاطر العدوان الإسرائيلي أو حتى الأزمة الاقتصادية الجارفة، ولا تزال صحّة الناس وحياتهم مُعلّقة بالقطاع الخاص المهووس بتحقيق الأرباح قبل أي مصلحة عامّة. فكيف إذا أضيف إلى خطر الحرب تفشّي مرض جديد؟

ما يعزِّز المخاوف من تأثير انتشار هذا المرض، هو أن القطاع الصحّي في لبنان لم يشهد تغيّرات جذرية تحاكي مخاطر العدوان الإسرائيلي أو حتى الأزمة الاقتصادية الجارفة، ولا تزال صحّة الناس وحياتهم مُعلّقة بالقطاع الخاص المهووس بتحقيق الأرباح

فرصة ثمينة لشركات الأدوية

حالياً، لا يوجد لقاح مُحدّد يستهدف الفيروس المسبّب للمتحوّر الجديد من جدري القردة. ولكن منظّمة الصحة العالمية تقول إن اللقاحات ضدّ السلالتين السابقتين توفر بعضاً من المناعة. مع ذلك، يعتبر الحصول عليها ترفاً بالنسبة إلى الكثير من المقيمين في البلدان الأفريقية حيث ينتشر، أو في البلدان النامية المعرضة لخطر الانتشار، أو البلدان التي تشهد حروباً.

بحسب صحيفة «إيكونوميست»، إن 3 ملايين جرعة، أو أكثر، قد تكون مُتاحة قريباً للمساهمة في الحدّ من تفشّي الوباء، في حال تبرّعت الولايات المتّحدة وفرنسا واليابان ودول أخرى بجرعاتها بسرعة. ولكن هذا الاحتمال غير مضمون، عدا أن العدد المتوفر ليس كافياً في الأمد البعيد، ولذلك يتم حالياً تكثيف إنتاج اللقاح، الذي يعدّ بدوره فرصة ثمينة لكارتيل الدواء في العالم. 

وبحسب «إيكونوميست» يعتبر لقاح mva-bn من شركة Bavarian Nordic الدنماركية من المرشّحين المحتملين للقضاء على الوباء، لكن هذا اللقاح مكوّن من جرعتين ويكلّف 76 دولاراً للجرعة الواحدة. في 17 آب/أغسطس، تعهّدت الشركة ومراكز أفريقيا لمكافحة الأمراض والوقاية منها، بالعمل على تسليم 10 ملايين جرعة بحلول العام 2025 بالشراكة مع شركات محلّية في أفريقيا. وتعهّدت Gavi، هيئة اللقاحات العالمية، بتأمين 500 مليون دولار لشراء الجرعات، وهو ما يشكّل 65.8% من المبلغ المطلوب لشراء هذه الجرعات. وفي العموم لا يشكّل  تغطية لجميع سكان الدول المعنية الذي يتجاوز عددهم 472 مليون نسمة، وتشكّل الشريحة العمرية التي تقل عن 25 عاماً، وهي الأكثر عرضة للوباء، نحو 60% منهم. 

  • 1أعادت منظمة الصحة العالمية تسمية المرض في العام 2022 من Monkeypox (جدري القرود) إلى Mpox لاتباع الإرشادات الحديثة لتسمية الأمراض. وتوصي هذه الإرشادات بأن تتجنّب أسماء الأمراض الإساءة إلى المجموعات الثقافية أو الاجتماعية أو الوطنية أو الإقليمية أو المهنية أو العرقية وتقليل الآثار السلبية غير الضرورية على التجارة أو السفر أو السياحة أو رفاهية الحيوان. ومع ذلك، لا يزال الفيروس الذي يسبّبه يحمل اسمه التاريخي.