الدولة مصدر الأمراض لا مخيّمات النزوح
قبل أكثر من قرن، وفي منتصف القرن التاسع عشر تحديداً، كان الخوف من الكوليرا الدافع الرئيسي الذي ساهم بشكل كبير في تطوير أنظمة الصرف الصحي في بريطانيا. وقتها، تم تنفيذ بنية تحتية ضخمة أدت إلى تحسين جودة المياه بشكل ملحوظ، وخفّضت تالياً تعرّض سكان لندن للبراز، وهو العامل المرتبط بشكل رئيسي بالإصابة ببكتيريا الكوليرا. ومنذ ذلك الحين، أي قبل أكثر من 150 عاماً، لم يتكرر تفشّي وباء الكوليرا في لندن.
عدد الوفيات الإجمالي الناجم عن الإصابة بالكوليرا وصل إلى 23 حالة، فيما بلغت أعداد الإصابات التراكمية 7,916 إصابة
في السادس من تشرين الأول/أكتوبر من العام 2022، سجّلت وزارة الصحة اللبنانية حالتين تم التأكد من إصابتهما ببكتيريا الكوليرا، وبعدها بأسبوع (13 تشرين الأول/ أكتوبر) تم تأكيد ما مجموعه 18 حالة بما في ذلك حالتي وفاة محتملتين. حينها، عُدّ هذا الحدث الصحي أول فاشية للكوليرا تحصل في لبنان منذ العام 1993! وبحسب أرقام وزارة الصحة لعام 2023، فإن عدد الوفيات الإجمالي الناجم عن الإصابة بالكوليرا وصل إلى 23 حالة، فيما بلغت أعداد الإصابات التراكمية لغاية 29 أيار/مايو من العام نفسه نحو 7,916 إصابة. آنذاك، ركّز المعنيون في وزارة الصحة، وعلى رأسهم الوزير، ومعهم الإعلام المحلّي، على فوضى الخدمات الصحية وغياب البنى التحتية الآمنة في مخيمات اللجوء السوري، خصوصاً في شمال البلاد، مُصوّرين أن مخيمات اللجوء هي مصدر الأوبئة التي تتهدّد لبنان.
بتاريخ الأول من شهر أيار الماضي، أعلنت وزارة الصحة عن تسجيل نحو 40 إصابة بالتهاب الكبد الفيروسي الألفي في بلدة كامد اللوز في البقاع الغربي، مُذكّرةً أن هذا المرض الناجم عن فيروس يتم انتقاله الى الإنسان عبر المياه الملوثة أو المواد الغذائية الملوثة أو الأيدي الملوثة، وتمتد فترة الحضانة من 28 إلى 30 يوماً بعد العدوى وتتضمن العوارض الحمى واليرقان الحاد. وعلى الرغم من أن هذا المرض المعروف أيضاً بـ«الصفيرة» مستوطن في البلاد منذ سنوات باعتراف وزارة الصحة نفسها، إلا أن وزير الصحة اللبناني، فراس الأبيض، سلّط الضوء على «المخيمات» بوصفها مركز انتشار الأوبئة، وحذّر في العاشر من أيار/مايو من تفشّي الأوبئة عقب تسجيل حالات إصابة بداء الصفيرة في مخيمات النازحين في منطقة عرسال بسبب المياه الآسنة وعدم توفر المياه النظيفة محمّلاً المسؤولية إلى تقليص المنح المخصّصة للاجئين من قبل المنظمات الدولية.
وكانت منظمة «اليونيسف» قد قلّصت كمية المياه النظيفة التي تزود بها المخيمات من 20 ليتراً يومياً لكل شخص إلى 12 ليتراً، كما قلّصت عدد مرات سحب المياه المبتذلة، إضافةً إلى تأخر البلديات المسؤولة في إزالة النفايات من المخيمات ما يزيد من تفاقم الأوضاع الصحية والبيئية. فهل تُعد مخيّمات اللجوء في لبنان فعلاً الخطر الأبرز الذي يتهدّد انتشار الأوبئة؟
الحل الأساسي لاحتواء التحديات الصحية يكمن في تأمين بنى تحتية سليمة بالدرجة الأولى
تقول رئيسة مصلحة الطب الوقائي في وزارة الصحة الدكتورة عاتكة بري إن «السبب الرئيسي لعودة الأمراض هو مشاكل البنى التحتية التي تفاقمت على مر سنوات طويلة، فضلاً عن الأوضاع غير الصحية التي يعيشها النازحون في المخيمات ومحيطها، والتراجع في خدمات الصحة من تأمين مياه الشرب واستخدام المياه المنزلية الآمنة، والتخلّص السليم عبر شبكات صرف صحي متينة». وترى برّي أن «المسؤولية تقع على عاتق وزارات عدّة، مُشيرةً إلى تأثير الأزمة الاقتصادية على الخدمات المُقدمة»، لافتةً إلى أن «الحل الأساسي لاحتواء التحديات الصحية يكمن في تأمين بنى تحتية سليمة بالدرجة الأولى، فضلاً عن حملات التثقيف الصحي للمجتمعات المحلية ومخيمات النزوح».
وفق الوزارة، لم تُسجل حالات كوليرا جديدة في لبنان في العام الحالي، «لكن وزارة الصحة تراقب الإسهالات المائية الحادة بشكل دائم لرصد أي حالات جديدة قد تُسجّل». أما عن إصابات التهاب الكبد الوبائي أو الصفيرة ألف، «فهي تعتبر من الأمراض المستوطنة في لبنان حيث تسجل سنوياً حالات عديدة منها». وقد سجلت في هذه السنة حتى تاريخه نحو 1,240 حالة معظمها في الشمال والبقاع.
في دراسة نشرت في شباط/فبراير من العام 2020 على موقع sciencedirect تناولت واقع الكوليرا في منطقة آسيا، يذكر معدّوها أن القضاء على الكوليرا تم اعتباره مشكلة صحية عامة في البلدان ذات الدخل المرتفع التي طبقت نظام الصرف الصحي الذي يفصل النفايات البرازية للمجتمع عن مياه الشرب والإمدادات الغذائية، مُشيرةً إلى أن هذه الأنظمة الباهظة الثمن ذات التصميم الهندسي العالي التي يتم تطويرها منذ أكثر من 150 عاماً «لم تصل إلى المجتمعات ذات الدخل المنخفض والمعرضة لمخاطر عالية في جميع أنحاء آسيا».
هذا الكلام يتوافق وما تقوله منظمّة الصحة العالمية لجهة أن الحل الطويل الأجل لمكافحة الكوليرا يكمن في تحقيق التنمية الاقتصادية، التي تشمل تنفيذ حلول مستدامة لتوفير إمدادات المياه والصرف الصحي، مُشيرةً إلى أن هذا الهدف (الحلول المستدامة) من شأنه المساهمة في تأمين الوقاية من طائفة واسعة من الاعتلالات الأخرى المنقولة بواسطة المياه. من هنا، ما ينطبق على الحلول المطلوبة للوقاية من الكوليرا على الصفيرة وغيرها من الأوبئة التي تتهدّد المجتمعات المحلية.
وفق تقرير التنافسية العالمية لعام 2018، احتل لبنان المرتبة 113 من بين 137 دولة لناحية جاهزية بناه التحتية، فيما الاستثمارات بين عامي 1993 و2017 بلغت نحو 6.5% من مجمل الإنفاق الحكومي فقط، ولم تتعدّ قيمتها 14 مليار دولار من أصل 216 ملياراً أنفقتها الحكومات اللبنانية المتعاقبة في خلال الفترة نفسها. وبحسب ما تُظهر أرقام الموازنة في العام 2024، فإن نحو 95% منها نفقات استهلاكية و5% فقط نفقات على البنى التحتية فقط!
أمام هذه المعطيات، تبدو الحكومات المتعاقبة التي تقاعست عن الاستثمار في البنى التحتية هي المسؤولة الأولى عن تجدّد مخاطر عودة الأوبئة سواء وجدت مخيمات للنزوح أو لا. مثلاً عندما سجلت أول حالة كوليرا في لبنان بعد 30 عاماً من «إنقراض هذا الوباء»، أكد اختبار مياه الصرف الصحي الذي أُجري في عين المريسة في بيروت، ومحطة الغدير في جبل لبنان، ومحطة برج حمود أيضاً في جبل لبنان، وجود ضمات الكوليرا في المصادر الثلاثة، وأظهر أن الكوليرا انتشرت إلى منطقتين أخريتين (بيروت وجبل لبنان) تقعان بعيداً من أماكن الحالات الأولية المؤكدة.
حينها، أشارت منظمة الصحة العالية في لبنان بالتعاون مع وزارة الصحة إلى أنه من جملة إجراءات الإستجابة العديدة التي اتبعت، كان تشكيل خلية أزمة لتنسيق إتاحة المياه النظيفة ومراقبة جودة المياه وتوفير خدمات الصرف الصحي الملائمة. لكن العارفين للواقع الصحي والبيئي يعرفون مدى التأثير والفعالية الجدية لهكذا إجراء في بلاد لا تعمل فيها أكثر من 50% من محطات التكرير.
وبحسب تقرير أعدته وزارة الطاقة والمياه بشأن قطاع الصرف الصحي في العام 2010، فإن لبنان ينتج سنوياً نحو 310 ملايين متر مكعب من مياه الصرف الصحي، نحو 250 مليون متر مكعب منها تأتي من الصرف المنزلي والبقية من النفايات الصناعية السائلة. وتعترف الوزارة بأن أكثر من 70% من مياه الصرف الصحي تُصرف من دون معالجة في البحر ومجاري الأنهار والأودية أو يتم طمرها في الأرض. أما النسبة القليلة المتبقية فيتم معالجتها بطريقة أولية (تفصل عنها المواد الصلبة الكبيرة وتصرف بدورها من دون أن تكون خالية من الملوّثات في مجاري الأنهار وبقية الأوساط البيئية).
هذا الواقع المستمر منذ عقود، يرافقه واقع أشد مرارة لمعالجة النفايات الصلبة في لبنان الذي يشهد تدهوراً منذ العام 2015 وما رافقه من تراكم للنفايات على الطرقات في فصول الشتاء وتسرّبها إلى المياه الجوفية، فضلاً عن عمليات الطمر غير الصحي لآلاف المكبّات العشوائية التي استحدثتها البلديات آنذاك.
أما الأخطر من هذا، فهو المعلومات التي تشير إلى أن أزمة النفايات في لبنان قابلة للاشتعال من جديد مع اقتراب المطامر الثلاثة المعتمدة على بلوغ طاقتها الاستيعابية في خلال الأشهر الستة المُقبلة، الأمر الذي يعيد مخاطر انتشار الأوبئة عموماً ووباء الكوليرا خصوصاً إلى البلاد. والجدير ذكره أن نفايات لبنان توزع حالياً على ثلاثة مطامر: نفايات الضاحية الجنوبية لبيروت والشوف وبعبدا في مطمر الكوستابرافا، نفايات الضاحية الشمالية لبيروت وبيروت في مطمر الجديدة-برج حمود، ونفايات طرابلس واتحاد بلديات الفيحاء في مطمر طرابلس.