أغنياء لبنان ومصر والأردن والمغرب
الثروة الصافية ازدادت 60% منذ الجائحة
أدّت عقود من السياسات التقشّفية في البلدان العربية إلى توسّع فجوة اللامساواة ووصولها إلى مستويات متطرّفة، وتحوّلها إلى سمة مائزة للاقتصادات السياسية لهذه البلدان. ولم تؤدِ الانتفاضات الشعبية المُتتالية منذ العام 2011 وتفشّي جائحة كوفيد-19 في العام 2020 إلي عكس هذه السياسات أو حتّى التخفيف من حدّتها، بل بالعكس، لجأت حكومات هذه البلدان، وبتوصية من المؤسّسات الدولية وفي مقدّمها صندوق النقد الدولي، إلى مزيد من التقشّف بحجّة تخفيف عجوزاتها المالية. وفي حين كانت شعوب هذه البلدان - التي نزلت يوماً ما إلى الشوارع للمطالبة بـ«العيش والكرامة والعدالة الاجتماعية» - تدفع ثمن تخفيف العجوزات المالية من خلال تخفيض الإنفاق العام على التعليم والصحّة والنقل والكهرباء والخدمات العامة والبنية التحتية وتمويل الاقتصاد. كانت الفوائد المترتبة على الديون العامة ترتفع باضطراد وتستنزف الموارد العامة المجمّعة من جيوب الناس لإفادة قلّة من الدائنين القابعين على رأس الهرم الطبقي. قبل الجائحة كانت شريحة الـ10% الأغنى تستحوذ على نصف الدخل، فيما الـ50% الأفقر يتقاسمون 11% منه. ومنذ تفشّي الجائحة ارتفعت الثروة الصافية للأغنياء بنحو 60%، وارتفعت ثروة أصحاب المليارات بنحو 22%، فيما تراجعت مداخيل الـ90% من السكّان إلى مستويات قوّضت قدرة العديد منهم على تأمين مسلتزمات العيش بكرامة.
منذ تفشّي الجائحة ارتفعت الثروة الصافية للأغنياء بنحو 60%، وارتفعت ثروة أصحاب المليارات بنحو 22%، فيما تراجعت مداخيل الـ90% من السكّان إلى مستويات قوّضت قدرة العديد منهم على تأمين مسلتزمات العيش بكرامة
اليوم، وبعد مرور ثلاث سنوات ونصف السنة على تفشي الجائحة، تجد دول المنطقة نفسها في أزمة اقتصادية عميقة تعجز السياسات المُعتادة وتمويلات المؤسّسات الدولية المقرونة بوصفات تقشّفية على الخروج منها.
يرصد تقرير بعنوان «الفجوة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: الرخاء للأغنياء والتقشّف للآخرين»، صادر عن منظّمة أوكسفام، السمات الرئيسة لتنامي اللامساواة في 4 بلدان عربية، هي: مصر ولبنان والمغرب والأردن، كنتيجة للسياسات التقشّفية المتبعة فيها. ويصدر هذا التقرير بالتوازي مع انعقاد الاجتماعات السنوية للبنك وصندوق النقد الدوليين، التي تنطلق في 8 تشرين الأول/أكتوبر الحالي، في مدينة مراكش المغربية المنكوبة من زلزال ضربها في مطلع أيلول/سبتمبر الماضي، وللمفارقة عجزت الحكومة المغربية عن التحوّط منه ومن ثمّ تدارك تداعياته بسبب السياسات التقشّفية المتبعة منذ عقود، والتي تحوِّل الموارد من خدمة الشعوب إلى خدمة الديون. وتترافق الاجتماعات السنوية لهاتين المؤسّستين مع تحرّك مناوئ لهما، إذ تنعقد القمة الاجتماعية المضادة، التي سوف تطرح البدائل عن السياسات التقشّفية المفروضة.
التعافي للأغنياء والتقشّف للفقراء
قامت الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بتحميل أعباء الأزمات على كاهل الطبقات الدنيا والوسطى. على سبيل المثال، حوَّلت الحكومة الأردنية نصف مساهمات برنامج تأمين الأمومة لدفع التحويلات النقدية للفئات الضعيفة، بدلاً من فرض الضرائب على الأثرياء لتمويل هذه الاستجابات وغيرها. في مصر، فرضت الحكومة «ضريبة فيروس كورونا» بنسبة 1% على جميع رواتب موظّفي القطاعين العام والخاص، و0.5% على معاشات التقاعد، مع تأخير تنفيذ ضريبة الأرباح على رأس المال. لم يكن الوضع أفضل في تونس، التي اقتطعت حكومتها 150 مليون دينار تونسي من فاتورة أجور القطاع العام، وخصّصتها للاستجابة لوباء كورونا.
عقود من تطبيق وصفات التقشّف أوصل إلى أن تتّخذ الحكومات العربية في وقت الأزمات إجراءات تحمي الأغنياء وتحيّدهم عن التكاليف الباهظة للوباء وباقي الأزمات. فبدلاً من الانفاق على الرعاية الصحّية ودعم الأسر المحتاجة عبر زيادة الضرائب التصاعدية، استفادت شركات القطاع الخاص من تخفيض الضرائب أو تعليقها، وقامت بتسريح الكثير من العمّال على الرغم من تلقّيها دعماً حكومياً. أدّى ذلك إلى ارتفاع معدّلات البطالة في المغرب مثلاً من 14% في العام 2020 إلى 20% في العام 2021.
الأثرياء يزدادون ثراءً
حُيِّد أغنياء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عن تحمّل الآثار السلبية للأزمات المُتلاحقة، وشهد عامَي 2019-2020 طفرة لثرواتهم، حتى في البلدان التي تعاني من أزمة اقتصادية حادّة. في لبنان، وعلى الرغم من الانهيار الاقتصادي والمالي غير المسبوق، ارتفعت ثروة الأفراد التي تبلغ بالحدّ الأدنى 5 ملايين دولار بين كانون الأول/ديسمبر 2020 وكانون الأول/ديسمبر 2022، من 18.7 مليار دولار إلى حدود الـ35 مليار دولار. في مصر، ارتفعت الثروات بأكثر من 50%، من 97.7 مليار دولار في العام 2019 إلى 153.9 مليار دولار في العام 2022، علماً أنّ مصر تُعاني من أزمة مديونية خارجية مُرتفعة، واقتصادها يواجه تحديات عدّة، خصوصاً ما يتعلّق بالتمويل.
في الأردن، نمت ثروات الأغنياء من 19 مليار دولار في العام 2019 إلى 31.5 مليار دولار في العام 2022، وارتفعت ثروات الأغنياء في المغرب من 28.6 مليار دولار في العام 2019 إلى 31.5 مليار دولار في العام 2022.
في لبنان، وعلى الرغم من الانهيار الاقتصادي والمالي غير المسبوق، ارتفعت ثروة الأفراد التي تبلغ بالحدّ الأدنى 5 ملايين دولار بين كانون الأول/ديسمبر 2020 وكانون الأول/ديسمبر 2022، من 18.7 مليار دولار إلى حدود الـ35 مليار دولار
مقارنة تطوّر الثروات المُضخمة مع تطوّر حجم الديون التي تراكمت على عامة الناس، يُظهر وجهاً بارزاً من وجوه اللامساواة في المنطقة. ففي تونس ارتفع الدين العام من 43% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2010 إلى 80% في العام 2021، وفي مصر من 70% إلى 90%، وفي المغرب من 45% إلى 69%. أمّا لبنان، فتُسجّل فيه المستويات الأعلى من الدين التي وصلت إلى 151% في العام 2020. تجاوزت خدمة الدين في بلدان المنطقة الإنفاق على الرعاية الصحية، ثمّ أتت الزيادات المتتالية في أسعار الفائدة عالمياً لتُفاقم مخاطر دول المنطقة المالية.
مستويات عالية ومستمرّة من اللامساواة
تُعدّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أكثر المناطق في العالم تركّزاً للثروة وعدم المساواة في توزيع الثروة. في العام 2020، حصل أغنى 10% في المنطقة على نصف إجمالي الدخل القومي، في حين حصل النصف الأفقر من السكّان على 13% فقط، و37% للطبقة الوسطى التي تشكّل 40% من السكّان، وفق التصنيفات التي تعتمدها البيانات الواردة في تقرير اوكسفام.
تركّز الثروة أصبح أكثر تطرفاً مع السنوات. ففي الفترة الممتدة بين عامي 2010 و2020، امتلكت شريحة الـ10% الأعلى ثروة تعادل 500 ضعف ثروة شريحة الـ50% الأدنى في خلال الفترة نفسها.
كان من المفترض أن تشهد السنوات التي تلت الانتفاضات العربية تحوّلاً اقتصادياً في النماذج المُعتمدة، إلا أنّ الحكومات المتتالية حافظت على سياسات التقشّف، وشجّعتها على ذلك وصفات صندوق النقد الدولي التي كان لها آثار سلبية كبيرة على عدم المساواة الاقتصادية وبين الجنسين.
نمو الدخل الإقصائي
التفاوت في توزيع النمو يكشف عن الخلل في السياسات المُتبعة وغياب أنظمة ضريبية عادلة وفعّالة. فالدخل الضخم الذي يحصل عليه المُنتمون إلى فئة الـ10% الأغنى، لا يخضع للضريبة أو يدفعون نسبة ضئيلة، في مقابل تحميل الجزء الأكبر من الضريبة للفئات الأدنى، وذلك من خلال سياسات التقشّف التي تحرم الأسر غير الثرية من الحصول على الخدمات الاجتماعية، وتهدِّد الوظائف وتدفع بالعمّال والعاملات إلى الاقتصاد غير النظامي وغير المحمي. في النتيجة، حصل النصف الأدنى من السكان على 15% فقط من إجمالي النمو الاقتصادي، في مقابل تقاسم طبقتَي الـ1% والـ 10% نسب تبلغ 17% و46% من النمو.
الفقر والعمالة غير النظامية ونقص الحماية الاجتماعية
انتشار العمالة غير النظامية ومنخفضة الأجر، التي تُمثّل حوالي 60% من إجمالي العمالة في المنطقة، كان له انعكاس أساسي على غياب النموّ المتوازن والعادل. يتم الاعتماد على هذا النوع من العمالة كأداة أساسية في تطبيق التقشّف، عبر طريقتين:
أولاً، استيعاب العمّال الذين أُجبروا على ترك العمل في القطاع العام، نتيجة لسياسات التقشّف التي يدعمها صندوق النقد الدولي، وكانت النساء الأكثر تأثّراً.
ثانياً، اعتمدت حكومات المنطقة على القطاع غير الرسمي لاستيعاب العمّال من دون اعتبار نفسها مسؤولة عن تقديم المعونات الاجتماعية لهم، وقد ساهم ذلك في ارتفاع مستويات الضعف والفقر.
تركّز الثروة أصبح أكثر تطرفاً مع السنوات. ففي الفترة الممتدة بين عامي 2010 و2020، امتلكت شريحة الـ10% الأعلى ثروة تعادل 500 ضعف ثروة شريحة الـ50% الأدنى في خلال الفترة نفسها
تُشير أحدث البيانات، التي تستند إليها أوكسفام، إلى أنّ حوالي ثلث المصريين (2017)، وحوالي 16% من التونسيين (2021) والأردنيين (2018)، يعيشون تحت خطّ الفقر، ويعاني 82% من سكّان لبنان من بعد واحد على الأقل من الأبعاد المتعدّدة لقياس الفقر. في المقابل، تعاني بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أنظمة حماية اجتماعية متخلّفة، فقد تراوحت نسبة السكّان المشمولين ببرامج (واحد على الأقل) من برامج الحماية الاجتماعية (باستثناء الرعاية الصحية)، بين 14% فقط في لبنان، و50% في تونس في العام 2020. وفي مصر لم يتمكّن سوى ما بين 40% إلى 60% من الأشخاص الذين يعيشون في فقر من الوصول إلى تدابير الحماية الاجتماعية.
التعليم الخاص والرعاية الصحّية للأغنياء
اعتماد التقشّف، ومنع فرض ضرائب عادلة، أدّى إلى توقف الاستثمار في أنظمة التعليم العام والصحّة في المنطقة، وجرت خصخصة هذه الخدمات، وبات يحصل عليها القادرون على تحمّل تكلفتها، مما يؤدّي إلى توسّع فجوة اللامساواة. يبلغ مُعدّل تعلّم الأطفال الأكثر فقراً 9.6 سنة في مصر، و9.9 سنة في لبنان، في حين يدرس الأطفال الأكثر ثراءً 11.9 و13.2 سنة في البلدين.
في تونس، حيث يوجد 1415 مدرسة ابتدائية من دون إمدادات مياه، تشير التقديرات إلى زيادة عدد المدارس الابتدائية الخاصة بين عامَي 2000 و2022 أكثر من 1400%، في مقابل 2% فقط للمدارس الحكومية.
عبء التقشّف في الاستثمارات بالصحّة والتعليم تحمّلته الفئات الدنيا والمتوسطة، في لبنان تُنفق الأسر ما يُقارب ثلاثة أرباع ميزانية التعليم. وتشير تقديرات اليونسكو إلى أن الأسر تتكبّد 36% من إجمالي الإنفاق على التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وضع الأنظمة الصحية في المنطقة ليس أفضل حال. على سبيل المثال، 59.3% من الإنفاق على الرعاية الصحية في مصر تدفعه العائلات، 44% في لبنان، و42% في المغرب.
عمالة النساء غير المدفوعة: «دعم» اقتصاد الأغنياء
تعدُّ الفجوة المتضخّمة من اللامساواة في الدخل والثروة الوجه الآخر لنقص الخدمات العامة والرعاية الاجتماعية الشاملة وتردّي نوعيّتها. ويفرز هذا الواقع تأثيرات مباشرة على النساء تحديداً. على سبيل المثال، يؤدّي انتشار التعليم الخاص بسبب تراجع الاستثمار في التعليم العام وبالتالي تردّي جودته إلى تعميق اللامساواة الجندرية لأجيال مقبلة، مع تفضيل الأسر الدفع وتكبّد التكاليف لتعليم أولادها الذكور بدلاً من تعليم الإناث. وهذا ما تعكسه بالفعل أرقام تونس حيث انخفضت نسبة الفتيات في المدارس الخاصّة إلى 30%.
تقضي النساء ما بين 17 و34 ساعة أسبوعياً في الرعاية غير المدفوعة، في مقابل ساعة إلى 5 ساعات للرجال. وترتفع هذه المعدّلات أكثر في بعض البلدان
أكثر من ذلك، تعمل النساء، عادة، بديلاً مجّانياً عن واجب الحكومات في توفير الخدمات العامة، وذلك من خلال العمل الرعائي غير المدفوع الذي يؤدينه. وتسجّل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أحد أعلى مستويات الفجوات الجندرية في المنطقة فيما يتعلّق بتوزع أعباء الرعاية غير المدفوعة، بحيث تقضي النساء ما بين 17 و34 ساعة أسبوعياً في الرعاية غير المدفوعة، في مقابل ساعة إلى 5 ساعات للرجال. وترتفع هذه المعدّلات أكثر في بعض البلدان، وتسجّل المستويات الأعمق في الأردن (1/19)، ومصر (1/12). وتسوء الأوضاع أكثر بالنسبة للنساء المتزوّجات اللواتي لا ينخفض الوقت الذي يخصّصنه للعمل غير المدفوع عند عثورهن على عمل مدفوع. في الواقع، تعمل النساء المتزوّجات في الأردن ومصر بمعدل 65 و66 ساعة أسبوعياً في المجمل.
أيضاً، تعدُّ حصّة النساء العاملات من الدخل في المنطقة من الأقل في العالم، وتصل إلى 12%، فيما نسبة النساء المشاركات في القوى العاملة تقدّر بنحو 20% منذ التسعينيات. علماً أن مشاركة النساء في القوى العاملة تتركّز في وظائف القطاع العام التي تعدّ الهدف الأول لوصفات التقشّف التي يوصي بها صندوق النقد الدولي وتطبّقها البلدان في المنطقة. إذ تصل نسبة النساء في وظائف الرعاية في القطاع العام إلى 67% في مصر، 72% في الأردن و65% في تونس.