معاينة gaza tents

الحروب تغذّي صعود الجراثيم العنيدة في الجنوب العالمي

لطالما تبيّنت الدوائر الصحّية العالمية أن مقاومة مضادات الميكروبات قنبلة موقوتة. فمع قدرتها على قتل ما يصل إلى 10 مليون نسمة كل عام بحلول 2050، تتطلّب مواجهة عنيدة شأنها شأن التهديد الذي تطرحه الأسلحة النووية، كما تقول نيكوليتا دينتيكو، رئيسة برنامج الصحة العالمية في جمعية التنمية الدولية. مع ذلك، لم يتم تناول مقاومة مضادات الميكروبات، على النحو الكافي، على الرغم من اعتراف منظمة الصحة العالمية بهذه المشكلة. وحين تحصل هذه المقاومة، غالباً ما تتركّز المناقشات بصورة ضيّقة على البحث عن مضادات حيوية جديدة وتطويرها، في تجاهل لمجموعة من العوامل الأخرى التي تغذّي انتشار مسبّبات الأمراض المقاومة للأدوية في عالم رأسمالي.

تقول دينتيكو: «بالطبع نحن بحاجة إلى أدوية جديدة، لكننا لا نستطيع النظر إلى هذه المشاكل من منظور البحث والتطوير وحده، فهو أكثر محدودية من أن يكون واقعياً».

تحدث مقاومة مضادات الميكروبات عندما تكتسب الجراثيم مقاومة للأدوية المصمّمة لمكافحتها، وهي عملية وثيقة الارتباط بالأنشطة البشرية مثل إنتاج اللحوم الصناعية والممارسات الزراعية والتخلّص غير السليم من النفايات الصيدلانية والمعادن الثقيلة على سبيل المثال لا الحصر. ولا تزال البلدان ذات الدخل المرتفع تصدّر هذه النفايات من حين لآخر إلى البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، الأمر الذي يغذّي العملية، في حين تتظاهر بأنها تخشى المخاطر التي تطرحها، وهو ما اعترفت به تحليلات سابقة أجرتها جمعية التنمية الدولية ومراكز التفكير والتنفيذ المعنية بمقاومة مضادات الميكروبات.

الصراعات المسلّحة: عامل محفّز لمقاومة مضادات الميكروبات

ليست النفايات الشيء الوحيد الذي يرغب الشمال العالمي في إلقائه على الجنوب العالمي ويغذّي مقاومة مضادات الميكروبات. تعتبر القنابل والأسلحة التي تُستخدم في النزاعات المسلحة من المحفزات المهمّة لهذه العملية. وتوضح دينتيكو أن المعادن الثقيلة مثل الزنك والرصاص والزئبق، والمواد مثل الإثمد، التي تُستخدم عادة في المواد الحربية، تعمل كـ«محفّزات» لمقاومة مضادات الميكروبات. وبمجرد انتشارها في البيئة، فإنها لا تسهّل انتشار الجينات المقاومة فحسب، بل تقويها أيضاً. تقول دينتيكو: «عندما نفجّر دبابة، فإن كل ما يتفجّر وكل شظايا المعدن يلوّث البيئة». وهذه هي المواد المستخدمة نفسها في تصنيع الصواريخ والبنادق والمركبات والفتائل المستخدمة في الإبادة الجماعية المستمرة التي تمارسها إسرائيل في غزة، وهي المواد التي ستترك بلا شك تأثيراً عميقاً وطويل الأمد في الصحة العامة في المنطقة.

لتفجيرات وظروف المعيشة غير الآمنة وتدمير البنية التحتية العامة أصبحت اعتيادية في العراق، وتداخلت هذه العوامل مع تفاقم كارثي لمقاومة مضادات الميكروبات، وهو ما قد يكون نتيجة لبيئة حربية أوسع استمر إعدادها لعقود

يزداد الوضع سوءاً عندما تصبح أنظمة الرعاية الصحية نفسها أهدافاً. وقد ظهر هذا النمط في صراعات سابقة حفّزت البحث في العلاقة بين الحرب ومقاومة مضادات الميكروبات، بما في ذلك الحروب الأخيرة في العراق. خلُص أنطوان أبو فياض وباحثون آخرون في العام 2022 إلى أن «التفجيرات وظروف المعيشة غير الآمنة وتدمير البنية التحتية العامة أصبحت اعتيادية في العراق، وتداخلت هذه العوامل مع تفاقم كارثي لمقاومة مضادات الميكروبات، وهو ما قد يكون نتيجة لبيئة حربية أوسع استمر إعدادها لعقود». ولا يزال نظام الرعاية الصحية في العراق بعيداً من التعافي بعد الدمار الذي لحق به، وهو السيناريو الذي يتكشَف الآن - بطريقة أكثر درامية - في فلسطين.

في غزة، تعمّدت القوات المسلحة الإسرائيلية استهداف المستشفيات والمختبرات ومرافق إعادة التأهيل. وتفاقم تدمير البنية التحتية للرعاية الصحية بسبب الحملة التي شنّتها إسرائيل للقضاء على العاملين الصحيين الفلسطينيين، إذ قتلت أكثر من 1,100 منهم حتى بداية كانون الثاني/يناير 2025. ومن دون المستشفيات أو المختبرات أو العامليين الصحيين، فإن قطاع غزة معرض لخطر أن يصبح أرضاً مثالية لتكاثر مسبّبات الأمراض المقاومة وانتشارها. ومع استمرار وجود الجثث تحت الأنقاض، أصبحت غزة قنبلة ميكروبيولوجية محتملة. وهذا ما يجب الاعتراف بأنّه نتيجة أخرى للإبادة الجماعية، كما تصرّ دينتيكو.

لم يتكشّف التأثير الصحّي للإبادة الجماعية في غزة على النحو الأكمل بعد، لكن الصلات الواضحة بين الإبادة الجماعية وانتشار البكتيريا المقاومة للأدوية في المنطقة أصبحت جليّة بالفعل. ففي أعقاب مسيرة العودة الكبرى في عامي 2018 و2019، لاحظ خبراء الصحة العامة مقاومة واسعة النطاق لمجموعة مختارة من المضادات الحيوية في غزة. ومن المؤكد أن الجهود المبذولة لمعالجة هذه القضية في جميع أنحاء فلسطين، بما في ذلك الخطة الوطنية لمكافحة مقاومة مضادات الميكروبات التي صاغتها وزارة الصحة الفلسطينية، قد تقوّضت بسبب العراقيل التي تواصل إسرائيل وضعها في وجه الإمدادات الطبية والمياه النظيفة.

منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، تدهورت جودة المياه وتوفّر الأدوية في غزة أكثر. توضح دينتيكو: «تحدث الإصابات في سياق ملوث جداً لدرجة أن العدوى تتكرّر بوتيرة أشدّ، ما يفرض إجراء عمليات البتر». ويرجّح أن يكون الكثير من هذه الإصابات الناجمة عن الحروق أو الانفجارات ملوثاً بشدة بالبكتيريا ويتطلب إجراءات ما بعد جراحية مكثفة مثل العلاج الطبيعي أو العزل - وهي موارد غير متاحة تماماً في الوقت الراهن.

في حين تبرز غزة بالفعل باعتبارها المثال الأشد في غرب آسيا فيما يتعلق بتأثير الصراع المسلّح في مقاومة مضادات الميكروبات، واجهت بلدان أخرى في المنطقة تجارب مماثلة. فقد عانت سوريا وأفغانستان، بالإضافة إلى العراق، من صراعات أمكنها أن تسفر عن نتائج مماثلة. في الحقيقة، كان هناك «تكاثف للحرب والصراعات المسلحة في تلك المنطقة» على مر سنين، كما توضح دينتيكو، الأمر الذي جعل المنطقة معرضة بشدة لأن تصبح مركزاً للبكتيريا شديدة المقاومة في المستقبل.

الصحّة حجّة للسلام العالمي

يتجاوز هذا التهديد آسيا، حيث تجلب الصراعات في مناطق أخرى مخاطر مماثلة. على سبيل المثال، قد يؤدّي تدمير السدود والمجمعات الصناعية في أوكرانيا إلى خلق تربة خصبة إضافية للعوامل المسبّبة للأمراض، «لاسيَّما أنّ هذه الأراضي والمناطق لن تكون مأهولة لفترة طويلة». كما تحذّر دينتيكو.

قطاع غزة معرض لخطر أن يصبح أرضاً مثالية لتكاثر مسبّبات الأمراض المقاومة وانتشارها. ومع استمرار وجود الجثث تحت الأنقاض، أصبحت غزة قنبلة ميكروبيولوجية محتملة

يجب أن يكون انتشار مقاومة مضادات الميكروبات نتيجة للحروب المستمرة أشبه بجرس إنذار للعالم. ولكي ندرك مدى إلحاح الموقف، تقترح دينتيكو أن نتخيّل أنّ البكتيريا نفسها تحفّز البشرية على إعادة التفكير في أفعالها. وتضيف، ضمن هذا المنظور: «إنها تستفزنا للتفكير والتصرّف بشكل مختلف، وللتوقف عن تبرير الحرب، لأن ثمّة أصلاً دمار بشري هائل على هذا الكوكب».

تقول دينتيكو: «كفانا حروباً. الحرب التي تشنها البشرية ضد الكوكب أكثر من كافية». وبدلاً من ذلك، تؤكد على أن الأبحاث الحالية والمستقبلية في الصلات بين مقاومة مضادات الميكروبات والحرب يجب أن تُستخدم كحجج قوية لتغيير المسار ودفع العالم نحو السلام.

نُشِر هذا المقال في Peoples Dispatch في 6 كانون الثاني/يناير 2025، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مُسبقة من الجهة الناشرة.