معاينة CNSS Lebanon

دولار واحد فقط لكل مضمون
كيف انهارت تغطية الأدوية في الضمان الاجتماعي اللبناني؟

تراجعت المساهمة المتوسطة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في لبنان لكل وحدة دواء إلى مستوى رمزي بلغ دولاراً واحداً فقط في العام 2023. وبعد أن كان الضمان الاجتماعي ركيزة أساسية في توفير الأدوية للمرضى خارج المستشفى، تعرّض دوره في تغطية الدواء لضربة قاصمة بفعل الانهيار الاقتصادي منذ العام 2019، وتفاقم الوضع سوءاً نتيجة السياسات التقشفية القاسية المعتمدة. 

لا تغطية دوائية للمضمونين في لبنان

تبيّن دراسة أعدّتها اللجنة الفنية في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مدى هذا الانهيار بين عامي 2018 و2023، وتقدّم صورة عن التآكل الهيكلي، وتراجع الوصول إلى الدواء، وانهيار النظام الصحي تحت وطأة الفوضى الاقتصادية. 

ففي العام 2018، بلغت فاتورة الأدوية في الضمان الاجتماعي نحو 336.2 مليار ليرة لبنانية، أي ما يعادل 224.1 مليون دولار أميركي. أما في العام 2023، فقد تقلّص هذا الرقم إلى 42.1 مليار ليرة لبنانية، أي ما يعادل 0.5 مليون دولار فقط، في انخفاض مذهل بنسبة 99.8% بالقيمة الفعلية بالعملة الأجنبية.

نتج هذا التراجع الحاد عن الانهيار الكبير في قيمة الليرة اللبنانية، وهي العملة التي كانت تُودَع بها معظم أموال الضمان، إذ تشكّل المدخرات في سندات الخزينة لدى مصرف لبنان حوالي 80% من أصوله، بينما أكثر من 91% من ودائعه المصرفية بالليرة. ويعكس هذا الانهيار التراجع الحاد في القدرة الشرائية للصندوق، فما كان يُمكّنه سابقاً من تغطية كميات كبيرة من الأدوية لم يعد يترك أي أثر يُذكر في سوق الأدوية.

ومع تراجع القدرة المالية للضمان الاجتماعي، شهد عدد الأدوية التي يغطيها انخفاضاً حاداً. ففي العام 2018، كان الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يغطي 13.2 مليون وحدة دوائية (أي علب، أو زجاجات، أو أي شكل يُباع به الدواء). أما في العام 2023، فقد تراجع هذا الرقم إلى 0.5 مليون وحدة فقط، ما يمثل انخفاضاً بنسبة 96.2%. ولم يترجم هذا الانكماش فقط إلى عدد أقل من الأدوية لكل شخص، بل يعني أيضاً أن فئات كاملة من العلاجات قد تم استثناؤها أو تقنينها.

أما المؤشر الأكثر دلالة فهو المتوسط السنوي لعدد وحدات الدواء التي حصل عليها كل مستفيد، والذي تراجع من 21.8 وحدة في العام 2018 إلى 0.8 وحدة فقط في العام 2023. بمعنى آخر، كان المستفيد يحصل على تغطية لنحو 21 علبة دواء سنوياً في العام 2018، ولم يعد يحصل على تغطية حتى لعلبة واحدة في العام 2023. ويسلّط هذا التراجع بنسبة 96.3% الضوء على الانهيار الحاد في نصيب الفرد من الرعاية الدوائية، وهو لا يعود إلى نقص الأدوية بين عامي 2022 و2023 نتيجة الممارسات الاحتكارية فحسب، بل أيضاً إلى أن رسوم تقديم الوصفات للتعويض تجاوزت قيمة التعويض نفسه.

بالنسبة إلى المستفيدين، ترجم هذا الانهيار إلى وصفات لم تُصرف، وعلاجات أُهملت، وتكاليف مباشرة متزايدة. وتتطابق هذه نتائج استبيان أُجري على مرضى القلب في لبنان، وأظهر تراجعاً كبيراً في التزام المرضى بعلاجاتهم بعد الأزمة.

وعلى الرغم من انخفاض حجم التغطية، ارتفع متوسط مساهمة الضمان لكل وحدة دواء على الورق. في العام 2018، بلغ متوسط مساهمة الضمان 25,418 ل.ل. لكل وحدة (أي 16.9 دولاراً)، وارتفع هذا الرقم في العام 2023 إلى 89,845 ل.ل.، أي بزيادة اسمية تفوق 250%. لكن هذا الارتفاع مضلل؛ إذ إن المساهمة الفعلية بالدولار تراجعت بنسبة 94.1%، من 16.9 دولاراً إلى 1 دولار فقط. ويعكس هذا «الارتفاع» بالليرة انهيار سعر الصرف، لا تحسّن التغطية. إذ إن الدولار الواحد، بعد التضخم، بات يعادل قيمة اسمية أعلى بكثير بالليرة. وفي خلال فترة الأزمة، ارتفع مؤشر أسعار الخدمات الصحية بنحو 43 ضعفاً، في حين ارتفع مؤشر مساهمة الضمان الدوائية 4 مرات فقط.

بالاستناد إلى انخفاض عدد الأدوية المُعوَّض عنها، وانخفاض المبلغ المعوَّض لكل وحدة دواء، فإن المساهمة التي قدّمها الضمان لكل مستفيد انهارت بدورها. ففي العام 2018، كانت مساهمة الصندوق 554,056 ل.ل. (أي 370 دولاراً) لكل مستفيد. أما في العام 2023، فقد تراجعت إلى 74,897 ل.ل.، أي أقل من دولار واحد. وهذا ليس مجرد تقليص في الموازنة، بل انهيار تام في دور الضمان كضامن أساسي للوصول إلى الأدوية الأساسية خارج المستشفى.

أدّى تراجع نطاق التغطية وارتفاع كلفة المساهمة إلى انخفاض في عدد المساهمين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. ففي العام 2018، كان عدد المستفيدين المسجلين في الضمان 606,761 شخصاً، أما في العام 2023، فقد انخفض إلى 562,205 شخص، أي بتراجع نسبته 7.3%. قد يعكس هذا التراجع تحوّلات ديموغرافية نتيجة الهجرة، أو فقدان الأهلية للمساهمة بسبب البطالة أو الانتقال إلى العمل غير النظامي، أو انسحاباً طوعياً من نظام لم يعد يُنظر إليه على أنه قادر على تأمين أبسط الاحتياجات الصحية.

ويُعد تراجع عدد المساهمين في أي نظام تأمين اجتماعي مؤشراً مقلقاً للغاية. تقوم آلية عمل هذه الصناديق على تجميع المخاطر: فكلما زاد عدد المساهمين، انخفضت المخاطر المالية الناتجة عن تغطية نفقات العلاج. وعندما يصل الصندوق إلى حافة الإفلاس، تصبح زيادة عدد المساهمين وتوسيع قاعدة الاشتراك ضرورة ملحّة لبقائه. غير أن ما حصل كان العكس تماماً.

لا يزال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في وضع هشّ في ظل غياب إصلاحات اقتصادية شاملة. ومع ذلك، فقد تمكن من استعادة جزء من قدرته على تغطية الأدوية، حيث باتت التغطية تراوح بين 80% و95% من سعر الدواء منذ نيسان/أبريل 2025.

في حديثه مع "صفر"، شرح الدكتور حسن دياب، المستشار المالي وعضو اللجنة الفنية في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بعض الإجراءات التي ساهمت في تحقيق هذا التعافي الجزئي. 

أولاً، قام الصندوق بمراجعة آلية التعويض عبر ربط نسبة التعويض بسعر الدواء المرادف الأرخص المتوفر في السوق. وقد شجّعت هذه السياسة المستفيدين على اختيار أدوية أرخص لكنها مكافئة علاجياً، ما خفف الضغط المالي عن الصندوق.

ثانياً، أعيد تصنيف الأدوية بحسب أولويتها في التغطية، مع التركيز على الأدوية المنقذة للحياة وعلاجات الأمراض المزمنة. 

ثالثاً، تولّت وزارة الصحة العامة عملية شراء موحّدة لأدوية السرطان نيابة عن جميع الصناديق التأمين العامة، مستخدمة موازنتها الخاصة، ما ساهم عملياً في دعم الأدوية الأغلى ثمناً وتخفيف العبء المالي الكبير عن الضمان وغيره من الصناديق. وفيما يقرّ الدكتور دياب بأن الشراء المباشر للأدوية ليس حلاً مستداماً على المدى الطويل، إلا أنه يراه ضرورياً ومبرّراً في أوقات الأزمات، لا سيما في ظل الاحتكار الشديد الذي يهيمن على سوق الأدوية في لبنان.

وعند سؤاله عمّا إذا كانت حكومة نواف سلام تملك خطة لإصلاح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أجاب الدكتور حسن دياب بأن احتياجات الصندوق معروفة جيداً، إلا أن الخطاب العام يركّز غالباً على قدرة الصندوق على تقديم التغطية، ويتجاهل مسألة كيفية تمويل هذه التغطية، وهي مسألة لا تقل أهمية.

وعلى الرغم من أن الحكومة لا تبدو وكأنها تمتلك خطة واضحة، أشار دياب إلى أن الأزمة فتحت نافذة لإدخال إصلاحات طال انتظارها، تهدف إلى تعزيز الاستدامة المالية للصندوق. غير أن الضمان لا يزال يعمل تحت ضغط هائل تمارسه لوبيات قوية ومنظّمة تمثل مصالح رأس المال وأصحاب العمل.

وختم الدكتور دياب بالقول: «هذه اللوبيات تنتقد كل المقترحات الإصلاحية وتروّج لحلول شعبوية لا تقتصر على كونها غير فعّالة، بل إنها مدمّرة».